إسلام ويب

كيف نربي أنفسنا ؟للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله تعالى الإنسان قابلاً للخير والشر، وخلقه مفطوراً على الفطرة السليمة المستقيمة، وجعل الله تعالى وسائل الخير أكبر من وسائل الشر، من إرسال الرسل وإنزال الكتب وغيرها، فلا بد على الإنسان أن يسعى إلى تزكية نفسه وتهذيبها بكل ما يستطيع، فكيف يزكي الإنسان نفسه؟ هذا ما تكلم عنه الشيخ حفظه الله، فقد ذكر أموراً يزكي بها الإنسان نفسه، منها: النية الصالحة، وطلب العلم النافع، والعمل بالعلم. ثم تكلم الشيخ سليمان العطيس وذكر أهمية التزكية، ثم ذكر خطر الشيطان الرجيم، وبين السبل التي يسلكها الشيطان ضد الإنسان المسلم بشيء من التفصيل.

    1.   

    خلق الله الإنسان قابلاً للخير والشر

    قال الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله:

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71], يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18-19].

    أيها الإخوة، إن كثيراً من الناس -وخاصة في هذه الأزمنة- يتذمرون من كثرة الوسائل والأسباب والعوامل التي تدفع الناس إلى الشر والفساد والرذيلة والانحلال, ويقولون: إن هذا الزمان هو زمن الفتن والانحرافات, ويعللون جميع ما يرون من مظاهر الشر بهذا التعليل, ولو سألت أحداً منهم، فقلت له: ما هي عوامل الشر التي طرأت في هذا العصر؟ لبدأ يعدد عليك مما يعرف, أو يسمع من هذه الوسائل, وينسى هؤلاء القوم -في مجال تبرير ما يرون من الفساد- ينسون أن الله تبارك وتعالى، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، خلقه قابلاً للخير والشر, قال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3] وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10], وقال تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] وقال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:1-10].

    والله سبحانه الذي خلق الإنسان بهذه الطبيعة، لم يخلقه ملكاً مجبولاً على فعل الخير, ولا شيطاناً وجهته فعل الشر، إنما خلقه إنساناً قابلاً للهداية وقابلاً للضلال, لم يترك هذا الإنسان سدى, يبحث عن الحق بنفسه, بل أوجد من الوسائل ما يعين هذا الإنسان ويرشده ويبين له الطريق.

    الإنسان مخلوق على الفطرة السليمة

    فأولاً: خلق هذا الإنسان على الفطرة السليمة المستقيمة, كما في حديث أبي هريرة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مولود يولد إلا على الفطرة, حتى يبين عنه لسانه, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه} إذاً: الإنسان خلق أولاً على الفطرة, وعلى الخير , ثم إن الله عز وجل جعل لهذا الإنسان من الآيات والدلائل، ما يرشده إلى الله تبارك وتعالى, وإلى الحق؛ الآيات في النفس والآيات في الكون وفي كل شيء، قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:21-23].

    وهذه الآيات المبثوثة في النفس الإنسانية وفي الكون, لا يتأملها إنسان إلا آمن بالله عز وجل، حتى إن المشرك أو الكافر الذي لم يبلغه دين سماوي ولم يعلم ببعثة الرسل، إذا تأمل في هذه الآيات آمن بوجود خالق مبدع حكيم سبحانه, فضلاً عن المسلم الذي علم ببعثة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام, ومع أن الإنسان خلق على الفطرة, وبث الله حوله من الآيات ما يدل عليه, ومع هذا وذاك فإن الله عز وجل بعث الرسل مبشرين ومنذرين, ليقيموا الحجة على الناس, ومع هؤلاء الرسل من الوسائل التي تساعد الإنسان على الهداية الشيء الكثير.

    معهم أنهم يدعوننا إلى الله الذي خلقنا ورزقنا, وهو الذي نرجع إليه في نهاية أمرنا, ومعهم أنهم يذكروننا بوجود الموت الذي لابد أن يلاقينا طال الزمن أم قصر, وأنهم يخبروننا بالجنة والنار، وما يتبعهما من جزاء وحساب وعقاب وثواب وغير ذلك, وهذه الأشياء هي وسائل قوية جداً في دعوة الإنسان إلى الخير, أقوى بكثير من وسائل الشر المبثوثة بين الناس اليوم, لو عمل الناس على تفهم هذه الأشياء ونشرها وإلقاء أسماعهم لها.

    وسائل الخير أكثر من الشر

    إن وسائل الخير أكثر بكثير من وسائل الشر, وإن كان الله عز وجل ابتلى هذا الإنسان بخلق إبليس وجنوده وأتباعهم من شياطين الإنس, الذين ينشرون الشر والرذيلة، ويدعون إلى الفساد والانحلال.

    1.   

    تزكية الإنسان لنفسه

    ولذلك فإن الإنسان بحكم هذه الطبيعة القابلة للخير والشر, بحاجة إلى أن يبدأ بتزكية نفسه أولاً, بحاجة إلى أن يعلم أن الرسل كلهم -من أولهم إلى آخرهم- من لدن نوح عليه الصلاة السلام، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنهم ما بعثوا إلا لدعوة الناس لتزكية النفوس قال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ [البقرة:151], رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129].

    إذاً الرسل بعثوا للتزكية ,بعثوا لتقوية عوامل الخير في نفسك أيها الإنسان, { روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما بعث كان الناس يقولون عنه: "كاهن ساحر مجنون" فقدم رجل من العرب يقال له: ضماد، من قبيلة يقال لها: قبيلة أزد شنوءة, ودخل هذا الرجل مكة، فسمع الناس يقولون: محمد ساحر شاعر مجنون, وكان يتطبب ويستعمل الرقية، فيرقي من به جنون أو سحر أو غير ذلك, فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، إني سمعت ما يقول الناس فيك, وإنني رجل أرقي, فهل لك؟ -أي: يعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرقيه, يقول لعل الله أن يشفيه على يدي- فلما فرغ من كلامه، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله"... وقرأ خطبة الحاجة التي تفتح بها الخطب والكلمات والمناسبات وهي التي قرأتها في بداية هذه الكلمة، ولكنني أظن أننا لكثرة ما نسمعها صرنا نعتقد أنها شيئاً روتينياً لا ينتبه إليه, إنما ينتظر ما يأتي بعد, مع أنها من أفضل الذكر وأعظمه.

    قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم على ضماد خطبة الحاجة، وخطبة الحاجة هي: {إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا... إلى آخر الخطبة, فلما سمعها هذا الرجل، تأثر منها أشد التأثر, وقال: والله لقد سمعت الشعراء والسحرة والكهان فما سمعت مثل هذا الكلام, ولقد بلغنا قاموس البحر أو ناعوس البحر, ابسط يدك أبايعك فبسط الرسول صلى الله عليه وسلم يده فبايعه على الإسلام, وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك -أي: وتبايعني عن قومك أن تدعوهم إلى الإسلام فيسلموا- قال: وعلى قومي، وبايعه عن قومه وذهب إلى قومه فأسلموا, قال ابن عباس رضي الله عنه: فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابوا هؤلاء القوم، فقال قائد السرية: إن هؤلاء قوم ضماد، وإنهم قد أسلموا، فهل أصبتم منهم شيئاً؟ قال رجل: أنا أصبت منهم مطهراً -أي إناءً يتطهر به- قال: ردوه، فردوه إليهم }.

    1.   

    وسائل تزكية النفس

    هذه الكلمة التي تفتتح بها المحاضرات والكلمات, هي أيضاً يجب أن نقف عندها قليلاً، وبالذات عند قوله صلى الله عليه وسلم: { ونعوذ بالله من شرور أنفسنا} ففي النفس شر, وقابلية للشر, وقابلية للوسواس والكيد, ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم}.

    فشرور النفس هذه هي التي تقصد بالتزكية، أن يعمل الإنسان على دفع هذه الشرور ودرئها وإبعادها ما استطاع، عن طريق الوسائل الشرعية، من عبادة وطلب علم وغير ذلك.

    الحرص على إضمار النية الصالحة

    وأول وأعظم وسيلة لتزكية النفس، وإبعاد هذه الشرور عنها, هي: أن يكون الإنسان حريصاً على إضمار النية الصالحة.

    فالنية كما يقول بعض العلماء مثل الإكسير, والإكسير هو: مادة عند بعض الطبيعيين، يزعمون ويدعون أنهم إذا وضعوا هذه المادة على مادة أخرى، فإنها تحولها إلى ذهب, فلو وضعوها على حجر أو غيره, فإنها تحول هذا الحجر إلى ذهب.

    أقول: إن النية هي في الحقيقة هذا الإكسير، الذي يوضع على الأشياء العادية، فيحولها إلى عبادات يؤجر عليها الإنسان, ويؤخذ من العبادات والأعمال الصالحة، فيحولها إلى أعمال مردودة يعاقب عليها الإنسان, عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { الخيل لثلاث } يتكلم صلى الله عليه وسلم عن الخيل، وربط الخيل، ومن تكون الخيل له أجراً، ومن تكون له وزراً، فيبين أن مدار ذلك كله على النية: {الخيل لثلاث: الخيل لرجل أجره, ولرجل ستره, وعلى رجل وزره} فهي نوع من الدواب، بالنسبة لهذا وبالنسبة لهذا, الخيل هي الخيل لا تختلف، لكن هذا يربطها فيؤجر، وهذا يربطها فيأثم, ويربطها الثالث فلا يؤجر ولا يأثم.

    {فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، ربطها من أجل الجهاد في سبيل الله -فأطال لها في مرج أو روضة- أي: أطال حبلها في مرج أو روضة, فلو أنها قطعت طيلها -أي: قطعت هذا الحبل الذي ربطت فيه- فاستنت شرفاً أو شرفين -أي: قطعت هذا الحبل، فعادت وتجاوزت شرفاً أو شرفين من الأرض -ثم جاءت إلى نهر فشربت منه، كانت خطواتها له حسنات، وكانت أرواثها وأبوالها له حسنات، وكان ما شربت من هذا الماء له حسنات} هو لم يرد أن تشرب, ولم يرد أن تنطلق من هذا الحبل, ولكنها فعلت ذلك بغير إرادته، ومع ذلك فكل ما ترتب على هذا الفعل وهو ربط الخيل في سبيل الله، عده الرسول صلى الله عليه وسلم عملاً يؤجر عليه صاحبه، كما ذكر في هذا الحديث.

    حتى الأعمال التي لم يردها، ويمكن أن نقيس على ذلك فنقول: إن الإنسان لو خرج للصلاة، خرج من بيته لا ينهزه ولا يدفعه إلى الخروج إلا الصلاة, هنا كانت نيته صالحة وفي سبيل الله عز وجل, فلو كتب الله على يده في مسعاه هذا عملاً لم يرده, فإن من رحمة الله عز وجل أن يثيبه الله على هذا العمل، فلو خرج إنسان يريد شراً، إما سرقة أو إساءة أو معاكسة لامرأة أو غير ذلك, فرأى هذا الإنسان فأقلع عن عمله, فإننا نطمع أن يكون الله عز وجل يثيب هذا الإنسان، حتى في هذه الأعمال التي لم يقصدها, بل ربما لم يدر ولم يشعر بها, لأن أصل العمل ومنطلقه كانت نية الخروج إلى الصلاة، فأصل النية صالحة. هذا هو النوع الأول الذي ربط الخيل في سبيل الله عز وجل.

    والنوع الثاني هو: الذي ربطها مناوأة لأهل الإسلام, ومحادة لله ورسوله فهذا الفرس عليه وزره.

    وأما الثالث -الذي ليس له أجر ولا وزر- فرجل ربطها تغنياً وتعففاً، إما للتجارة وإما لغير ذلك من الأغراض العادية، التي لا تدخل في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله, ولا تدخل في مناوأة الإسلام وحرب أهل الدين, فهذا ليست الخيل له أجر ولا وزر، وإنما هي له ستره.

    فأنتم ترون أن العمل الواحد يثاب عليه شخص ويعاقب عليه آخر، ويكون بالنسبة للثالث لا خير ولا شر، لا ثواب ولا عقاب, وأعمال العبادات والشعائر من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها, يجري فيها هذا الأمر أو قريباً منه, فقد توعد الله تعالى المصلين في كتابه الكريم، والصلاة عبادة في أصلها، فلماذا توعدهم؟ توعدهم لأنه وصفهم بقوله: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:5-7] هذا المصلي، الذي قام بهذه العبادة من أجل الناس رياء وسمعة, يتمنى يوم القيامة أنه لم يصل, لأن الصلاة لم تزده من الله إلا بعداً ولم تزده في جهنم إلا سفلاً وتوغلاً.

    ولذلك توعد الله تبارك وتعالى المنافقين بأنهم في الدرك الأسفل من النار, تحت الكفار، مع أن المنافقين كانوا يصلون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصومون معه في الظاهر، بل كانوا يجاهدون, بل منهم من يقتل في المعركة, ويظهر للناس الذين حوله أنه قتل شهيداً في سبيل الله, وهو لا يزداد بهذه الأعمال من الله إلا بعداً, ولا يزداد في جهنم ودرجاتها إلا سفلاً وانحطاطاً والعياذ بالله، مع أن أصل العمل عبادة، لكن افتقد الشرط الأساس وهو النية، الذي هو (إكسير) يحول الأعمال العادية إلى عبادات يؤجر عليها صاحبها.

    وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفقهون هذا المعنى فقد بعث الرسول عليه الصلاة والسلام أبا موسى الأشعري رضي الله عنه إلى اليمن، معلماً وقاضياً، ثم بعث صلى الله عليه وسلم في إثره معاذ بن جبل, فلما جاء معاذ رضي الله عنه، سلّم على أبي موسى، فوجد رجلاً مربوطاً عنده, وقبل أن ينـزل عن راحلته قال: ما هذا؟ قال: هذا يهودي راجع دينه القديم, أسلم ثم ارتد إلى اليهودية والعياذ بالله، قال معاذ: لا أنـزل عن راحلتي حتى يقتل، حكم الله ورسوله قال أبو موسى: نعم انـزل، قال: لا أنـزل حتى يقتل كأن أبا موسى قال له: إننا سنقتله فانـزل وإننا لم نأتِ به إلا لنقتله، قال: لا أنـزل عن راحلتي حتى يقتل فقتلوه ثم نـزل معاذ رضي الله عنه, فتحدث مع أبي موسى رضي الله عنه، ما تفعل في صلاتك؟ ما تفعل في بيتك؟ فذكر معاذ رضي الله عنه وأرضاه من عبادته وقيامه في الليل شيئاً، ثم قال: [[وإني لأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي]] وهذا الحديث فيالصحيح، أي: أنه يحتسب وهو نائم، من الأجر مثل ما يحتسب وهو يقظ يصلي, لأنه وهو نائم يشعر أنه في عبادة.

    ومعاذ من كبار فقهاء الصحابة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {معاذ إمام العلماء برتوة} والرتوة هي: مسافة من الأرض، وهذا فقهه وعلمه رضي الله عنه, أنه يحتسب في نومته كما يحتسب في قومته من العبادة, وهذا جزء من معنى قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].

    فالنوم أخو الموت, فالإنسان وهو نائم يتقلب في فراشه، ويؤجر إذا كان نومه بنية صالحة؛ نام ليتقوى على عبادة الله, نام وهو يذكر الله, ونام على جنبه الأيمن متطهراً مستقبل القبلة, كلما تعار من الليل قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير", ثم إن استيقظ قام وتوضأ وصلى ركعتين، وعاد إلى فراشه وهكذا يتقلب في نومه، والملك يكتب له حسنات, وفضل الله أوسع وأعظم.

    هذه صورة من صور أثر النية في العمل، وكثير من الناس تجد عندهم صلاح النية والقصد، فتجد أنهم يبلغون بهذا العمل الطيب، الذي هو من أعمال القلب, يبلغون به ما لم يبلغ الآخرون المكثرون من العبادة والصيام والصلاة والذكر والدعاء وغير ذلك, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

    إذاً الأمر الأول والمهم في موضوع تزكية النفس وصلاحها، هو: إصلاح النية، وأن يكون الإنسان في كل ما يأخذ وما يدع, لا ينظر إلا إلى هم واحد وإلى أمر واحد, وهو أن يكون هذا الأمر في مرضاة الله تبارك وتعالى.

    طلب العلم النافع

    الوسيلة الثانية هي: طلب العلم النافع.

    وقد ظن كثير من الناس اليوم، بل ومنذ أزمنة طويلة، أن طلب العلم يعني معرفة الإنسان بالأحكام والفروع, وأن هذا مباح وهذا مستحب, وهذا مكروه وهذا محرم وما أشبه ذلك, أو أن الإنسان يقرأ القرآن أو يقرأ الحديث, وهذا ليس هو العلم فقط, هذا جزء من العلم, والعلم أوسع من هذا كله.

    كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوما جالساً في أصحابه، كما في حديث أبي الدرداء، الذي رواه الترمذي وقال حسن غريب، ورواه الدارمي عن عدد من الصحابة، في رواية أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع رأسه مرة إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم حتى لا يقدر منه على شيء. وكان هناك رجل من الأنصار، اسمه زياد بن لبيب، فقال: كيف يا رسول الله وقد قرأنا القرآن وعلمنا السنة، فوالله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم -بلهجة المستغرب بما سمع- قال له: "ثكلتك أمك يا زياد" -أي: فقدتك وهذه كلمة لا يراد بها حقيقة معناها, إنما تجرى على الألسنة- "ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة" -أي: كيف تقول هذا الكلام، وأنت تحسب من الفقهاء؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـزياد: "هذه التوراة والإنجيل في أيدي اليهود والنصارى، فما أغنت عنهم} أي: لم تغنِ عنهم شيئاً، وهي موجودة في أيديهم قال جبير أحد رواة الحديث: [[فانطلقت إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فقلت له: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ قال ما يقول: فذكر له الحديث, فقال: صدق أبو الدرداء, لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الأرض -انظروا ما هو أول علم يرفع من الأرض؟- إنه علم الخشوع]]. فهل نحسب نحن هذا من العلم؟ لا نحسبه من العلم, إنما يحسبه الناس اليوم من العبادات, فيقال: فلان عابد إذا كان مصلياً خاشعاً قانتاً, والآخر عالم، إذا كان عالماً بالأحكام التفصيلية, ولو لم يكن عابداً, ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفهمون العلم هذا, ولا كانت في القرآن والسنة هكذا مفاهيم العلم.

    بل كان مفهوم العلم عندهم أنه العلم الموصل إلى الله, أن تعرف شيئاً يقربك إلى الله, وأن تعلم مسألة فتعمل بها؛ لتدخل الجنة وتنجو من النار, هذا هو العلم عندهم.

    ولذلك الله تبارك وتعالى تعبدنا في كل ركعة من صلاتنا نفلاً أو فرضاً, أن نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] ولكن هذه -أيضاً- من الأشياء التي كررناها, حتى صرنا نقولها دون أن نعي معناها, ما هو صراط الذين أنعم الله عليهم؟ إنه المخالف لصراط المغضوب عليهم، والمخالف لصراط الضالين.

    الذي يتعلق بموضوعنا الآن، أن الله عز وجل حذرنا من طريقة اليهود, ومن كان على شاكلتهم, ممن يعلمون ولكنهم لا يعملون.

    فمن كان من هذه الأمة المحمدية، عارفاً بالحق ثم لم يعمل به؛ ففيه شبه كبير من اليهود, وهم المغضوب عليهم, لا أقول: هم المغضوب عليهم، كل من ضل واتبع الهوى وهو يعلم؛ غضب الله عليه, ومن هؤلاء اليهود، والسلف حينما عرفوا المغضوب عليهم بأنهم اليهود، قصدوا المثال ولم يقصدوا حصر المغضوب عليهم في اليهود, وإنما بقصد التمثيل فقط: من أمثلة المغضوب عليهم اليهود, وكل من عرف الحق فأعرض عنه فهو مغضوب عليه, إلا من رحم الله وتاب وأقلع عن هذا الأمر.

    وقد يقول قائل: نحن لا نعلم فأقول: نحن نعلم أشياء كثيرة، لم نستفد منها حق الاستفادة, نحن نعلم أننا سنموت ثم ننسى ذلك, ونعلم أن هناك بعثاً وحشراً، وجزاءً وحساباً، وجنةً وناراً وخلوداً, ومع ذلك ننسى كل هذه الأشياء، حينما يبرز لنا طمع من طمع الدنيا, أو حينما تتحرك في النفس شهوة من الشهوات, ونغفل عن هذه الأشياء كلها, وننشغل بما نحن بصدده, فهذا من العلم الذي يكون حجة على صاحبه.

    فلنعلم أننا مطالبون بأن نعمل، وما شرف العلم إلا بشرف العمل الذي يقود ويدعو إليه هذا العلم.

    خلاصة ما سبق

    إذاً تزكية النفس تكون بأمور ثلاثة:

    أولاً: النية الصالحة الصادقة.

    ثانياً: العلم الصحيح، الموافق لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    ثالثاً: العمل الموافق لهذا العلم.

    أسأل الله عز وجل -في ختام هذه الكلمة- أن يوفقني وإياكم إلى العلم النافع والعمل الصالح وأترك الفرصة للشيخ سليمان جزاه الله خيراً.

    1.   

    كل إنسان يسعى لأن يزكي نفسه

    قال الشيخ سليمان حفظه الله.

    أحمد الله، وأصلي وأسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه, ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.

    أيها الإخوة في الله: دائماً يسعى الإنسان بجهده إلى إصلاح نفسه وتزكيتها, ودائماً يتساءل: لماذا لا أستفيد كثيرا ًمن علمي؟ ولا أستفيد كثيراً من أعمالي التي أعملها وأكدح فيها ليلاً ونهاراً؟ ومقصودي في ذلك أولاً وآخراً هو رضا الله سبحانه وتعالى؟ والقدوم على الله على أحسن حال, وهذه أمنية وحال يتمناها كل إنسان, يتمنى أن يغادر هذه الدنيا, ويخرج منها بعمل صالح مقبول عند الله سبحانه وتعالى، يوافي به هذا الصندوق وهذا المكان الذي سينـزل فيه ألا وهو القبر.

    وقد قدم أخي فضيلة الشيخ سلمان بعض الجوانب، التي كل مسلم بحاجة إلى معرفتها وإلى تفهمها, وتطبيقها، عملاً وقولاً، حسب وفق شريعة الله سبحانه وتعالى.

    قد يسأل كل واحد منا متى تكون النية خالصة لوجه الله الكريم؟ ومتى يكون العلم نافعاً؟ ومتى يكون العمل صالحاً؟ هل كل إنسان يمارس هذه الأشياء الثلاثة، يتساوى فيها إنسان وإنسان أم أن الحالة تختلف من إنسان لآخر؟ الجواب: لاشك أن الإنسان إذا كان يريد نية خالصة يعمل بها الأعمال, تكون مقبولة عند الله سبحانه وتعالى, ويتقدم بهذا العلم الذي عمله، سواء أكان في المدرسة أم كان عند شيخ أم في أي مكان, متى يكون العلم نافعاً؟ والعمل الصالح الذي كل إنسان في هذه الحياة الدنيا -إلا من حجب عن رحمة الله سبحانه وتعالى- كل إنسان ينشد هذا العمل الصالح؛ ليواجه به ربه سبحانه وتعالى.

    أهمية تزكية النفس وتطهيرها

    الحديث عن تزكية النفس, وعن تطهير النفس, وإجلاء النفس من المعاصي والخبائث الدغل الذي حل فيها وموطن العلم والعمل وجميع الأمور، موطنها هو هذا اللب وهذا القلب, الذي تتكون فيه جميع الأعمال، التي تنطلق من هذا الملك وهذا القلب.

    هل يعمل الإنسان العمل أو يطلب العلم وقلبه غير نظيف؟ الجواب: كلا. هل يفعل الإنسان ويتعب نفسه ويعمل أعمالاً صالحة، ويقضي ليلاً ونهاراً في طلب العلم، والقلب أسود؟ لا يجتمع هذا.

    بل لابد أن ينظف الإنسان قلبه من الأشياء التي حلت فيه, ولابد أن يزكي نفسه من الأشياء التي حلت فيها, إن الله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] فأصبح أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم للصدقة من هؤلاء, أصبح فيها تطهير وتزكية.

    المقصود بالتطهير والتزكية

    ما معنى التطهير والتزكية؟ التطهير والتزكية كما يقول ابن القيم رحمه الله: إن أفضل الأعمال وأرفعها هو مقام الصدقة؛ وذلك لأن الصدقة فيها أسرار، تختلف بين الناس من حال إلى حال، فالله سبحانه وتعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منهم صدقة ليطهرهم ويزكيهم بها, ولينظف قلوبهم من الأشياء التي اختلطت بها فأفسدتها.

    والله سبحانه وتعالى يرشد عباده المؤمنين إلى وسيلة من الوسائل، التي بها تزكو نفوسهم، وتزكو قلوبهم, فيقول سبحانه وتعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30] والله سبحانه وتعالى يقول أيضاً: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] إذا جاء إنسان وطرق عليك الباب, وكان لك شغل, وأرجعت هذا الإنسان، فهل الخير في رجوع هذا الإنسان، أو الخير في غضب هذا الإنسان؟ فالله سبحانه وتعالى قال: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] فالذي يرجع ويعيد هذه الخطوات التي مشاها، لاشك أن هذا العمل هو أزكى له, والرجل الآخر، الذي إذا قيل له: ارجع، أصبح عنده ردة فعل وتغير وجهه, لا يكون هذا الرجوع هو زكاة له، لماذا؟ لأن قلب هذا يختلف عن قلب هذا.

    إذاً، فلنبحث عن قلوبنا، ونطهرها من الأخلاط التي حلت فيها, حتى تكون قابلة للخير.

    والحديث الذي ألم به فضيلة الشيخ، وهذه المعاني الجليلة التي ذكرها, تدعو كل واحد منا أن يتساءل: ما هي الوسائل التي أنظف قلبي بها وأزكي قلبي بها؟ والشيطان دائماً ينصب الشراك للإنسان, والشيطان دائماً هو الذي يجاهد الإنسان, ويحاول أن يطمس هذا القلب ويلوثه, ليصبح أسوداً، هذا هو حرص الشيطان، وهو دائماً في معركة مع الإنسان ليخرب هذا القلب ويصده، ويجعله مغلفاً، ويجعله مصفحاً، بل ويجعله منكوساً, كما هو قلب الكافر والمنافق والعياذ بالله.

    والشيطان دائماً يحرص على أن يصد هذا الإنسان عن الخير، فيشوه هذا القلب ويجعله أسوداً, ويجعل المعاصي تتراكم على هذا القلب ذنباً بعد ذنب, حتى يصبح الران وهو الغلاف الذي على القلب فيصبح القلب مغلفاً لا يقبل الخير، وإنما يقع فيه الشر قال تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:14-15].

    والأمر المهم في التزكية هو أن ينتبه الإنسان دائماً إلى العداء الذي يبثه أصحاب العداء, ولا تظنوا أن هذا الأمر بسيط, لا والله. إن الذي يريد الخير لنفسه، ويريد أن يسلك صراطاً مستقيماً, وأن تكون نيته حسنة وعلمه نافعاً وعمله صالحاً, لا يستمر على الحال التي هو عليها.

    نحن بحاجة إلى أن ننظف قلوبنا عما حل فيها، يدعو الإنسان دائماً ربه سبحانه وتعالى ويصلي، لكن يشاهد أنه يدخل في هذه الصلاة، ويخرج من الباب، والصلاة لا تغير فيه شيئاً, لماذا؟ لأن قلبه غير متحرك وغير نظيف. يدعو الإنسان وربما أنه يستبطئ الإجابة، ويقول: دعوت دعوت فلم يستجب لي، وربما -والعياذ بالله- أن الإنسان ييأس من الدعاء ولا يدعو الله سبحانه وتعالى, لماذا؟ فتش عن قلبك يا أخي، تجد قلبك غير نظيف.

    1.   

    السبل التي يسلكها الشيطان لإضلال الإنسان

    الشيطان دائماً يعطي الإنسان الضوء الأحمر, ويريد إضلاله، وأن يصد هذا القلب، إن الشيطان ليغضب غضباً شديداً عندما يشاهد الإنسان يفعل أفعال الخير, ويحاول أن يطهر قلبه مما حل فيه, فيغضب وتشتد ناره إذا رأى الإنسان ولج هذه العبادة أو عمل العمل الصالح.

    يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: {قد أفلح من هُدي إلى الإسلام، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما أتاه}.

    إخراج الإنسان من الإسلام

    أول عقبة يسلكها الشيطان، وأول ساحة حرب يسلكها الشيطان مع الإنسان، هي: أن يخرجه من دائرة الإسلام, التي نحن -ولله الحمد- الآن يحسدنا أعداؤنا عليها.

    هذه الدائرة التي نحن في وسطها ولله الحمد -دائرة الإسلام ودائرة الإيمان- هي والله لا تفرح الشيطان، بل تغضبه, ونحن في جهاد معه, والشيطان إذا رأى الإنسان كافراً بالله سبحانه وتعالى استراح من متابعه، وإذا كان الإنسان كافراً خلى الشيطان بين الإنسان وبين أتباعه وجنوده, وقال: دعوكم من هذا الإنسان فقد استرحنا منه, لماذا؟ لأنه أصبح كافراً في هذه الحياة الدنيا, ويوم القيامة سيكون حطباً لنار جهنم, فليس للشيطان غرض في هذا الإنسان, ولكن إذا عصم الله سبحانه وتعالى الإنسان بالهداية إلى دين الإسلام, التي رتب عليها الفوز والفلاح، وهذه نعمة -والله يا إخواني- ما يحسدنا عليها إلا صنف واحد, وهو الكافر الذي لم يهتدِ إلى هذا الإسلام, ولم يهده الله سبحانه وتعالى إلى هذا الإيمان.

    البدع التي يعملها الإنسان

    ثم بعد ذلك إذا رأى الشيطان الإنسان مؤمناً بالله ولم يكفر، هل يتركه في المعركة؟ لا, بل يسلك معه معركة غير هذه المعركة, وهي معركة البدع التي يعملها الإنسان.

    والبدع التي يعملها الإنسان للشيطان غرض ونصيب منها، سواء كانت بدعاً في الأقوال, أم بدعاً في الأعمال, والعالم الإسلامي اليوم مصاب بهذا الداء، وهو داء البدع، سواء ما يتعلق بتغيير حكم الله سبحانه وتعالى, أو ما يتعلق بالاعتقاد وهذا من الأقوال, أو ما يتعلق بالرسوم والعبادات والمظاهر التي يتعبد الإنسان بها ربه سبحانه وتعالى, وتسمى هذه بدعة الأفعال.

    أيها الأحبة: الشيطان يفرح ويستبشر إذا رأى الإنسان يعمل البدعة, بل يزداد فرحه إذا رأى الإنسان يعمل ويدعو لهذه البدعة, كما يحصل لأناس جعلوا أنفسهم في هذا المضمار، يقول ابن القيم رحمه الله: إن بدع الأعمال وبدع الأقوال حصل بينهما عرس، فلم يفاجأ العريسان -أي: بدعة الأفعال وبدعة الأقوال- إلا وولد الزنى بينهما، فرجعت الخليقة المسلمة تجأر إلى الله سبحانه وتعالى بالبعد عن ولد الزنى المولود. أتدرون ما هو ولد الزنى؟ الذي تولد من بدعة الأقوال وبدعة الأعمال؟ ولد الزنا هي هذه الأعمال التي يستحسنها الإنسان, ويجعلها صالحة وهي غير صالحة، لماذا؟ لأنها كانت تخالف الأعمال الصالحة, وتخالف النهج الذي شرعه الله سبحانه وتعالى.

    المعاصي والكبائر التي يعملها الإنسان

    ثم إذا نجى الله سبحانه وتعالى الإنسان، وعصمه باتباع السنة من البدعة, هل يترك الشيطان الإنسان في المعركة، أم يسلك معه معركة ثالثة؟ ينتقل الشيطان من هذه المعركة الثانية إلى المعركة الثالثة، وهي معركة المعاصي والكبائر التي يعملها الإنسان, ومن منا يا إخواني اليوم لم يعمل المعاصي والكبائر؟

    المعاصي والكبائر هي التي تلوث القلب، والتي تفسده, وهي التي تحبط الأعمال, والتي تزيد في ظلمة القلب, ويصبح القلب بعيداً عن الخير قريباً من الشر, وكل معصية يعصيها الإنسان مثل هذه (اللمبة) الكبيرة المكونة من أربعين (لمبة) هذه اللمبة الكبيرة هي مثل القلب, كل لمبة تُطفأ يزيد الظلام، إلى أن تنطفئ هذه اللمبة الكبيرة فيصبح هذا الضوء أسود. فكذلك القلب كل معصية وكل كبيرة يعملها الإنسان تنكت نكتة سوداء، وتجعل بعدها نكتة سوداء, حتى يصبح القلب أسود من أثر هذه المعاصي والكبائر.

    والشيطان له غرض من الإنسان بإدخال هذه المعاصي وهذه الكبائر.

    ومن ضمن هذه المعاصي التي يعملها الإنسان، والتي ابتلى بها كثير من المسلمين -هداهم الله- والمعاصي والكبائر كثيرة، وليس هذا المجال مجال طرح لهذه الأشياء.

    إنما من المعاصي التي تهاون بها المسلمون اليوم، هي التهاون بالصلاة, فالتهاون بالصلاة كبيرة من كبائر الذنوب, والشيطان له أربع حالات مع الإنسان في التهاون بالصلاة وترك الصلاة:

    الحالة الأولى: أن يصلي الإنسان في بيته -كما يحصل لبعض الناس- فيصلي الإنسان في بيته، وبذلك يخرج عن الأوامر التي أمر الله سبحانه وتعالى عباده أنهم يصلون في جماعة المسجد, والذي يصلي في بيته قد خرج عن الأوامر, ولكن هل يطلق على الإنسان الذي يصلي في بيته أنه كافر؟ الجواب: نقول: لا, لا يطلق عليه أنه كافر, ولكن يطلق عليه أنه مرتكب لهذه الكبيرة من كبائر الذنوب.

    الحالة الثانية: أن يصلي الإنسان أحياناً ويتركها أحياناً، سواء كان تهاوناً وكسلاً, أم كان جحوداً.

    فالإنسان إذا تركها أحياناً وفعلها أحياناً -كما يحصل لبعض الناس- فإن هذه كبيرة أعظم من الكبيرة الأولى, ولكن الإنسان لا يوصف بالكفر ما لم يتركها بالكلية.

    الحالة الثالثة: إذا ترك الإنسان الصلاة ولم يصلها, فهل هذا الإنسان يحكم عليه بالكفر أم لا؟ هو لا شك أنه أشد من المرحلتين السابقتين, ولكن لماذا يحكم على هذا الإنسان بأنه كافر؟ هل لأنه ترك الصلاة؟ نقول: يحكم عليه بأنه كافر؛ لأن أصل الإيمان الذي في قلبه مفقود، فإذا فقد أصل الإيمان حل بدله الكفر, ولذلك إذا ترك الإنسان الصلاة يحكم عليه بالكفر.

    الحالة الرابعة: أن يترك الإنسان الصلاة، ويقول لا أصلي أبداً, وأعجب من هذه الحال أن يدعى الإنسان إلى الصلاة، بل تعصب عينا الإنسان، ويرفع السيف فوق رأسه، ويقال له: تصلي وإلا قتلناك! فيقول: لا أصلي أبداً! فهل هذا الإنسان يحكم عليه بأنه ارتكب معصية، كما في الحالة الأولى, أو أنه كافر بالله سبحانه وتعالى؟ لا شك أنه أشد هذه المراحل، وأنه يكون كافراً بالله سبحانه وتعالى, وهذا من عمل الشيطان ومن وسوسته.

    ثم هل الإنسان إذا عمل هذا الشيء يتركه الشيطان؟ لا. بل يزيد الشيطان من إغوائه، ولكن إذا تاب واستغفر الله سبحانه وتعالى من هذا تاب الله عليه.

    صغائر الذنوب

    هذه أربع ساحات في الحرب، ثم هل يتركه الشيطان؟ لا بل ينتقل معه إلى ساحة خامسة, ألا وهي الصغائر التي يعملها الإنسان ولا يبالي بها، وهذه الصغائر التي يعملها الإنسان هي ما لم تصل إلى حد الكبيرة, وقد مثل لها العلماء: أن الصغيرة هي مثل النظرة التي ينظر بها الإنسان إلى محرم, أو الخطوة التي يخطو بها, أو البطشة التي يبطش بيده, أو بأذنه التي يستمع بها إلى محرم, قال العلماء: إن هذه صغيرة، ولكن إذا توغل الإنسان وباشر المعصية واستمر فيها، تحولت الصغيرة إلى كبيرة, وكما يقال: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.

    وبعض العلماء قال: إن الإنسان ربما يتهاون بهذا العمل؛ فتكون الصغيرة أقبح من الكبيرة، ولا شك أن الصغيرة هي أقل درجة من الكبيرة, ولكن متى تكون الصغيرة أقبح من الكبيرة؟ قال العلماء: إذا استجاب الإنسان لنداء الشيطان، وتساهل بالمعصية ولذلك يقول بعض العلماء -وهذا مثل أصبح راجحاً عندهم-: "إن الإنسان ليعمل الحسنة يدخل بها النار, ويعمل السيئة يدخل بها الجنة"، فهل هذا الكلام صحيح أو غير صحيح؟ يعني هل الإنسان إذا عمل حسنة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى يدخل بها الجنة أو يدخل بها النار؟ قال العلماء: إن هذا المعنى صحيح حيث إن الإنسان دائماً يعمل المعصية ويأخذه التهاون بهذه المعصية, فتصبح المعاصي عنده حقيرة كما جاء في الأثر الذي فيه تشبيه حالة الكافر أو المنافق إذا عمل المعصية كأنه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار، فلا يبالي الكافر بالمعصية, فالمسلم إذا تهاون بالمعصية سواء كانت صغيرة أم كبيرة, فإن هذا الأمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.

    وربما أن الإنسان يكون طوال عمره مواظباً على الأعمال الصالحة، ولكن يعمل سيئة واحدة, قال العلماء: يدخل بها الجنة. فكيف أن هذا المؤمن الذي يعمل عملاً صالحاً ويعصي هذه المعصية يدخل بها الجنة؟ إن المعصية لا يدخل بها الجنة, بل تقرب من النار, لكن هذا المؤمن لما عمل هذه المعصية، أصبحت بين حاجبيه وبين عينيه, وأصبح يرى هذه المعصية -ولو كانت صغيرة- أصبح يراها ويتصورها كأنها جبل عظيم، يكاد أن يسقط على رأسه. فما تزال هذه المعصية بين عينيه، فدائماً يلح ويستغفر الله سبحانه وتعالى، فيعفو الله سبحانه وتعالى عن هذا الإنسان.

    فيجب على الإنسان ألا يتساهل في المعصية أياً كانت، ولا يفتح المجال لنفسه بالتساهل في المعاصي, فما أهلكنا وأبعدنا وما أمرض قلوبنا، بل أماتها التساهل بالمعاصي, وهذا الجانب جانب عظيم لابد أن ينتبه له كل إنسان منا.

    كثرة المباحات

    إن الشيطان إذا سول لك هذه المعاصي، وجعلك تتساهل في هذه الصغائر، ومع ذلك لا يتركك في المعركة لوحدك ولا ييأس، بل يسلك معك معركة سادسة، هذه المعركة هي: الإيغال في المباحات، التي ابتلي بها المسلمون اليوم، المباحات التي توغل فيها الإنسان فصدته عن كثير من الأمور المشروعة التي تطلب من الإنسان, يتصور الإنسان أنه إذا عمل مباحاً أنه طائع لله سبحانه وتعالى, وهذه حقيقة، ولكن الشيطان له حظ ونصيب من هذه المباحات, وذلك بأن يسول الشيطان للإنسان بأن يكثر من هذه المباحات، ويصده عن الأمور المشروعة الأخرى, بذلك يتساهل الإنسان ويصعد من درجة المباحات إلى درجة المكروهات, ثم ينتقل من درجة المكروهات إلى درجة المحرمات, ثم بعد ذلك يقع في الكبائر, يقع في المعركة الخامسة التي سنها له شيطانه، وبذلك يقع في الحرج ما لم يتب ويستغفر الله سبحانه وتعالى.

    تسليط الجنود والأعداء

    أما المعركة السابعة -وما أدراك ما المعركة السابعة!- التي لم يسلم منها أحد من المخلوقين أبداً، حتى الأنبياء والصالحون لم يسلموا من معركة الشيطان هذه، ألا وهي معركة تسليط الجنود والأعداء ذرية إبليس الذي إذا جلس على عرشه في البحر أرسل جنوده, فتسلط على عباد الله وعلى أوليائه, ومن ضمنهم الأنبياء والصالحون, فالأنبياء والصالحون لا يسلمون من تسلط جنود الشيطان, وإغوائه.

    ولكن الأنبياء والصالحين، لهم معهم جهاد وعراك فيما بينهم, فالذي يعمل الأعمال الصالحة، ويرى أن شيطانه يصده عن الأعمال الصالحة, لِيَعْلمْ أن له أسوة بالأنبياء, فالأنبياء لم يسلموا من هذا، بل جاهدهم الشيطان وذريته حتى يصدهم عن هذا العمل, ولكنهم وقفوا ورفعوا سيوفهم تجاه الشيطان وذريته, فأبطلوا كيده.

    يقول: الله سبحانه وتعالى في معرض التمدح للذين يخرجون يجاهدون في سبيل الله: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً [النساء:100] المراغمة من أين تكون؟ المراغمة تكون من الشيطان الذي أرغمه بهذا العمل, ودائماً الله سبحانه وتعالى يذكر أن الأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان ويجاهد فيها الشيطان, أنها تغيظ الشيطان والكفار.

    الكفار تابعون للشيطان، وهم من أعوان الشيطان, فهذه ساحات ومعركة، ربما أني لم أوفها حقها من الكلام، ولكنكم تصورتم ما أقوله وما أنشده في هذا، وأقول: إن الشيطان دائماً يجاهد الإنسان، ودائما يريد أن يضله.

    فعلى الإنسان أنه يجاهد عدوه (شيطانه) في هذا، وأختم هذه الكلمة التي أرجو من الله سبحانه وتعالى أن ينفعني وإخواني بها كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأن يجعلنا هداة مهتدين, وأن يجنبنا كيد الشيطان وضلاله, إنه سميع مجيب.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    صلاح النية يؤثر في صلاح العمل

    أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ : سليمان حفظه الله

    السؤال: هل صلاح النية يؤثر في صلاح العمل؟

    الجواب: أيها الأحبة، اعلموا أن صلاح النية يؤثر في صلاح العمل، وصلاح العمل يؤثر في صلاح النية, وقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار}. هذه بعضها أعمال ظاهرة, أو يترتب عليها أعمال ظاهرة, فالمحبة يترتب عليها إلفة وزيارة ومؤاخاة ومصاحبة ومساعدة وغير ذلك.

    كما أن حب الاستمرار على الخير والصلاح والإسلام، وكراهية العودة إلى الكفر يترتب عليها محافظة على شرائع الدين وأوامره ونواهيه.

    كما أن محبة الله ورسوله يترتب عليهما تكاليف كثيرة جداً.

    من وسائل التزكية

    أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله:

    السؤال: ما هي وسائل التزكيـة؟

    الجواب: إن من وسائل التزكية: مجاهدة النفس في الداخل, وحرص الإنسان على استحضار النية في كل عمل يعمله بقدر الإمكان.

    ومن الوسائل: حرص الإنسان على الاستتار بالأعمال التي يمكن الاستتار بها، فيحرص على أن تكون أعماله خفية عن أعين الناس, وألا يحرص على إظهارها.

    ومن الوسائل: الإكثار من الأعمال الظاهرة، كالصلاة والصيام والصدقة وغيرها, لأن هذه الأعمال الظاهرة -كما ذكرت- لها تعلق وتأثير في القلب.

    ومن الوسائل المفيدة والمهمة: كثرة الدعاء فإن الإنسان إذا دعا؛ انكسر قلبه لله تبارك وتعالى, ولذلك من أعظم أحوال العابدين حال الدعاء, لأن الإنسان قد يصلي وهو يشعر أحياناً والعياذ بالله، أو يغويه الشيطان فيجعله يشعر بأنه يدلي على الله بهذه العبادة, بأنه قد أتى إلى الصلاة، في حين أن غيره من الناس لا يأتي, لكن بطبيعة الحال إذا كان يدعو يشعر بالانكسار, ويشعر بالفقر والحاجة والضعف, وأنه يدعو الملك القوي القادر, الذي بيده مقاليد كل شيء.

    فمن أرقى وأعظم أحوال العابدين حال الدعاء, والدعاء قد جرب في شفاء كثير من أمراض القلوب, ويبقى بعد هذا وذاك، أن الإنسان يجب أن يعلم أنه لن يصل إلى حال يرضى عليها من النية حتى يلقى ربه, حتى يموت, وهو يجاهد الشيطان في هذا المجال, ويوم يلقي المؤمن السلاح، ويرى أنه قد انتهى وجاهد الشيطان -كما تفضل الشيخ- فإنه حينئذ يكون قد حكم على نفسه بالهزيمة في هذه المعركة.

    ولعلكم سمعتم جميعاً قصة الإمام أحمد رحمه الله، وهو المجاهد الذي سطر صفحات من الصبر في سبيل الله عز وجل, ومن التقوى والورع, والعبادة, إذا قرأتم سيرة هذا الإمام، تذكرتم سير أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

    وأحيلكم فيما يتعلق بترجمته على ما كتبه الإمام الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام, ونقله الشيخ أحمد شاكر في مقدمته لـمسند الإمام أحمد, فقد ذكر ترجمة وقصصاً وأخباراً عجيبة لهذا الإمام.

    الشاهد: أنه في مرض موته أغمي عليه، فكان يقول: بعدُ بعدُ... فلما صحا من إغمائه, قيل له: يا إمام، إننا سمعناك تقول: بعدُ بعدُ، قال: إن الشيطان قد عرض لي يقول لي: فُتَّني يا أحيمد، نجوت يا أحيمد نجوت يا أحيمد, الشيطان في المرحلة الأخيرة -مثلما تفضل الشيخ- في تصوير المراحل، يريد أن يظفر من الإمام أحمد -على الأقل- في لحظة بسيطة من لحظات الإعجاب بالنفس, شعوره بأنه قد فات الشيطان ونجا، لكن الإمام أحمد لقوة إيمانه ومجاهدته للشيطان في طول حياته, نجاه الله في هذا الموقف فكان يقول: بعدُ بعدُ، أي: لا، ما نجوت ما دامت الروح في الجسد, وهذا مصداق قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنـزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت:30-31] قال بعض المفسرين: تتنـزل عليهم الملائكة حال الاحتضار، ألاَّ تخافوا مما أمامكم, ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم, وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.

    والحمد لله رب ا لعالمين.

    أنواع تزكية النفس

    أجاب على هذا السؤال الشيخ : سليمان حفظه الله.

    السؤال: ذكرت أنه لابد من تزكية النفس، فماذا نقول في قوله تعالى "ولا تزكوا أنفسكم"؟

    الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم: ذكر العلماء رحمهم الله أن التزكية على نوعين:

    النوع الأول: التزكية بالعمل، وهو المطلوب للإنسان، أن يزكي نفسه بالعمل الصالح.

    النوع الثاني: التزكية بالإخبار، وهذا هو المنهي عنه في قوله سبحانه وتعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32] وقوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النساء:49] إن الإنسان عندما يطلق العنان لنفسه في ناحية العمل الصالح, فيكبر هذا العمل الصالح في عينه, ويكبر هذا العمل الذي يقدمه, ثم بعد ذلك إذا جاء أي أمر من الأمور، من ناحية المدح, بذل نفسه في هذا، وقال: أنا وأنا وأنا, فهذا هو التزكية المنهي عنها.

    أما التزكية المطلوبة، وهي من ناحية العمل، فالإنسان لابد أن يزكي نفسه ويطهرها, ومعنى التزكية: الطهارة والنماء والزيادة قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] وقال سبحانه وتعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] أي: أطهر لقلوبكم, فالإنسان عندما يسعى في هذا المجال ويصلح ويزكو قلبه, ويكون محلاً للتوسل, وللذكاء, وللفراسة, التي ذكرها العلماء.

    قلوب الناس تختلف، بعض العلماء يصبح قلبه يدرك الأمور من بعد, كما حصل لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن يكن في أمتي محدثون فـعمر} بمعنى: أن عمر فيه حداثة قوية, وفيه معرفة لبعض الأمور التي لم تقع وهي في علم الله سبحانه وتعالى, ولكنه يدرك ذلك, ولذلك يقول: وافقت ربي في ثلاث... وذكر هذه الثلاث التي وافق الله سبحانه وتعالى بها، فيتحدث بها عمر، بناء على قوة الحدث الذي عنده.

    هنا نسأل من أين أتاه هذا الحدث؟ ومن أين أتاه التخمين الذي يدرك الإنسان في هذا الأمر؟ يدركه من طهارة القلب, ولذلك في سورة الحجر، الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة قوم لوط قال في آخر القصة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] والمتوسمون -كما قال العلماء- هم النظار, وقال بعضهم: هم المتفرسون, وقال بعضهم: هم المعتبرون, والاعتبار والنظر وهذه الأشياء وما في معانيها لا تأتي من القلب الذي يزكَّي، بل تأتي من القلب النظيف, فمعنى تزكية النفس هو: طهارتها من ناحية العمل, لا من ناحية الإخبار, ففرق بين الأمرين، ومن أراد الاستزادة عليه أن يرجع إلى كتاب ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان، في الجزء الأول، في الباب السابع حول هذا الموضوع.

    أفضل العلوم

    أجاب على هذا السؤال الشيخ سلمان بن فهد العودة.

    السؤال: فضيلة الشيخ: ما هي أفضل العلوم التي يحتاجها الإنسان؟

    الجواب: إن أفضل العلوم هي ما يحتاجه الإنسان كل بحسبه, فطالب العلم غير المتمكن في الطلب غير طالب العلم المبتدئ, وغير العامي, وكل إنسان من هؤلاء يحتاج إلى نوع من العلم هو الذي يقوده إلى العمل, ففيما يتعلق بالعامي -مثلاً- يجب عليه أن يتعلم العلوم التي يحتاجها في عباداته, يتعلم الصلاة, كيف يصلي كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يصلي, ليس كما عهد الناس يصلون, بل كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يصلي, وماذا يقرأ من الأدعية والأذكار, وما معنى كل ذكر أو دعاء منها.

    وإنني أذكر مجلساً من المجالس, كان فيه عدد من إخواننا الصالحين, ولكن ممن لم يوفقوا في طلب العلم, فتساءلنا عن معنى الأدعية والأذكار التي يقولها الإمام, أنت تردد في صلاتك في الصلاة الواحدة مرات كثيرة, تردد أدعية ربما لو سئلت؛ لوجدت أنك لم تفقه معناها, فما معنى ترديد؟ يضرب بعض العلماء مثلاً لمن يردد الشيء دون أن يفقهه برجل ذهب إلى طبيب, فشكا إليه صداعاً في رأسه, فقال له الطبيب: إن علاجك هو كذا وكذا وذكر له نوعاً من العلاج, كالإسبرين مثلاً, فهذا الرجل بدلاً من أن يذهب ويشتري هذا العلاج ويتناوله, بدأ يردد هذه الكلمة، فيقول: إسبرين إسبرين، وظن أنه بذلك سيشفى قد تضحكون من هذا المثال، ولكن واقعنا في كثير من الأحيان هو هذا المثال, ومع ذلك لا نضحك من واقعنا.

    فكثير من المسلمين لو سألته عن معنى (السبحان) لما عرف معنى السبحان: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم, لوجدته لا يعرف. ولو سألته عن معنى التحيات لله, ما معنى التحيات, ما هي التحيات لله؟ لما عرف, ولو سألته وهو يقول: أهل الثناء والمجد, بعدما يرفع رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد أهل الثناء والمجد, أحق ما قال عبد, وكلنا لك عبد, اللهم لا مانع لما أعطيت, ولا معطي لما منعت, ولا ينفع ذا الجد منك الجد, لو سألته عنها, قال لك: والله لا أدري هذا إن كان علم بأنها مسنونة ومشروعة وكان يقرءوها, فضلاً عن أن يفقه معاني الآيات القرآنية التي يقرءوها.

    فأقول: تعلم الصلاة وأحكام الصلاة وما يتعلق بها فرض عين على كل مسلم، ويجب أن يبدأ بها ثم إن كان عنده أمر آخر كالزكاة, فيجب عليه أيضاً أن يتعلم ما يتعلق به من أحكام, وكذلك إذا جاء الصيام، يتعلم أحكام الصيام, ثم الحج إلى آخر ما يتعلق به من أمور الدين.

    وقبل هذا كله، من الطبيعي أنه مسلم ومعناه: أنه لابد أن يعرف عقيدته, أن يعرف معنى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر, وأن يعرف الأمور المهمة فيما يتعلق بأمور الإسلام, وأعتقد أن المجال لا يتسع لذكر أكثر من ذلك, وهذا كمثال كما ذكرت للعامي.

    أما طالب العلم، فبإمكانه أن يستزيد من العلوم في كل مجال, ويعرف الأصول والفروع، والأدلة وصحة الأدلة، والمراجع في ذلك كثيرة معلومة.

    مجاهدة الشيطان

    أجاب على هذا السؤال الشيخ سليمان حفظه الله

    السؤال: فضيلة الشيخ سليمان قد يكون الشخص في نيته قاصداً كل خير, لكن يرد عليه طرق من طرائق الشيطان فيصرف نيته في تلك الحالة, هل يعمل على مدار نيته والقصد منها أم يترك العمل في نفس الوقت، وإذا أعادها وسوس له وجعله ينشغل عن قصده فما هو السبيل؟

    الجواب: أرشد هذا السائل إلى ما حدثنا به الصادق المصدوق، فدائماً يحدث هذا الشيء, والشيطان -كما أشير في الحديث السابق- له المعارك الكثيرة, التي يريد أن يصرف الإنسان عن أي عمل يعمله وقد أخبر صلى الله عليه وسلم، عن حالة أناس استقرت النية في قلوبهم, وأصبحوا وهم جالسون في مجالسهم، يبلغون في جلوسهم مثل الذين يعملون ويكدحون ويسيرون, وقد أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث طويل: {إن قوماً بـالمدينة، ما سرتم مسيرة ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر} وهؤلاء فيمن حبسهم العذر لا شك أن هذا العذر عذر شرعي، يعذرون فيه, والله سبحانه وتعالى عالم لو أنهم انطلقوا من هذا العذر أو انفكوا من هذا العذر لصاروا وعملوا مثل ما عمل إخوانهم.

    ولكن إذا كان الإنسان يعمل العمل, ويتجه بهذا العمل لله سبحانه وتعالى، ويسير ثلثي الطريق في هذا العمل, ثم في بقية الطريق يأتي الشيطان ويصده ويخالفه في هذا العمل, لا شك أن الإنسان من أول وهلة عليه أنه يجاهد ويراغم ويكيد عدوه، ولا يستسلم لعدوه من أول مرة, وينهزم في أول معركة مع عدوه, بل عليه أن يجاهد العدو, فهو بجهاده لهذا العدو الذي يريد أن يحبط هذا العمل هو مأجور من هذه الناحية، مأجور لمجاهدته لهذا العدو, فإن أكمل عمله، وتغلَّب على هذا العدو, فالحمد لله هذا خير على خير, وإن لم يكمل عمله ولكنه جاهد العدو وبذل جهده في مجاهدة العدو فالله سبحانه وتعالى يؤتيه ويجازيه على قدر هذا النصيب الذي بذله.

    والقلب هو الملك، والأعمال هي التي تكون صورة طبيعية لما في القلب، فمدار الأعمال كلها على ما في القلب، والإنسان لا يتساهل أبداً في الأعمال الصالحة التي يعملها, ولا يقول: أخشى أن يصلني في هذا العمل خطر من الشيطان, أو مكيدة من الشيطان، يجب على الإنسان ألا يستسلم للعدو, فلو أن الإنسان أراد أن يتصدق بصدقة، فأدخل يده في جيبه وأراد أن يخرج الدراهم, بدا له في هذا الأمر أنه لا يتصدق على هذا الرجل, يقول له الشيطان: هذا الرجل غني، هذا الرجل فيه كذا وكذا, هذا الرجل لا يستحق، إلى آخر هذه الأشياء, فيترك الصدقة، هذا الإنسان استسلم لعدوه من أول معركة, لكن الإنسان إذا جاء الشيطان، وسول له بهذا الأمر، ثم جاهد الشيطان وأخرج هذه الدراهم, فهو يؤتى أجراً على هذه الصدقة, وعلى هذه المجاهدة المطلوبة, لذلك، والله سبحانه وتعالى يوفقني وإياكم في أن نرغم أنف الشيطان في هذا العمل، ونستمر في عملنا, ولا يتغلب علينا.

    كيد الشيطان لأبينا آدم وأمنا حواء معروف، والله سبحانه وتعالى قد شرع التوبة بعد هذا الكيد, وشرع أن الإنسان يجاهد عدوه بعد هذا الكيد, وأعطانا الصورة والطريق، وما بقي علينا إلا أن نعمل وألاَّ نستسلم لعدونا, فهو والله لا يريد الخير لنا.

    إلا أن الشيطان أحياناً يكون مثل الكلب -أعزكم الله- علاجه في هجرانه، وعدم الالتفات إليه، ولذلك فإن الإنسان إذا وسوس إليه الشيطان، فهجر هذه الوساوس واستمر في عمله, فإن الشيطان حينئذٍ يرجع مدحوراً ولا يعيد المحاولة, لكن إذا لاحظ أن الإنسان بعدما وضع الشيطان عنده هذا الشك في النية، ضعف حماسه للعمل أو ترك العمل؛ فإن الشيطان سيكرر المحاولة معه.

    فأنصح الأخ السائل وغيره من الناس، أنه -كما أشار الشيخ- إذا أقدم على عمل وأصل النية عنده لله, فجاء الشيطان يحاول أن يشككه في هذه النية, ألاَّ يلتفت للشيطان أصلاً, وألاَّ يستقر في قلبه أصلاً إلا نية العمل الصالح, لا نية الرياء أو السمعة أو غير ذلك.

    فإن الشيطان يكون رابحاً في الحالين, وإن استقرت نية الشر والرياء, فهذه مصيبة، وإن ترك الإنسان العمل الصالح, فهذا ما كان الشيطان يتمناه ويطلبه.

    أستودعكم الله سبحانه وتعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765787651