أما بعــد..
رقم الدرس: هو الخامس والعشرون، وينعقد في ليلة الاثنين الحادي عشر من ربيع الثاني لعام 1411هـ وهو بعنوان: (فقه إنكار المنكر).
إذاً سبب وسر خيريتكم هو أنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، وسبب فشل وضلال غيركم، أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ويقول الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] فهذه صفة المجتمع المسلم أيها الأحبة.
أما المجتمعات الكافرة اليوم فنحن نراها وقد أصبحت في الوقت الذي تتغنى بما يسمى حرية الفرد، فإنها أصبحت تحارب جميع صور الفضيلة التي يريد الفرد أن يمارسها، في بلاد الغرب -فمثلاً- الحرية متاحة لأهل العري والعهر والفساد والرذيلة، لا أقول: متاحة بل مفروضة، ولكن حين تفكر فتاة مسلمة بأن تلبس الحجاب على رأسها ورقبتها ونحرها وهي ذاهبة إلى المدرسة تقوم الدنيا حينئذٍ، ولا تقعد.
كما حصل في فرنسا، منذ زمن ليس بالبعيد منذ نحو سنة، حين ذهبت ثلاث فتيات من المغرب إلى مدرستهن في فرنسا وقد لبسن الحجاب على الرأس فرفض مدير المدرسة إدخالهن حتى يخلعن الحجاب، وتطورت القضية حتى دُرست أعلى المستويات الرسمية وتدخلت فيها دول خارجية للوساطة عند والد هؤلاء الفتيات، لتغيير قناعتهن بالحجاب.
سبحان الله! ما الذي جرى؟! هل دخلت جيوش إسلامية تلك البلاد الكافرة، حتى يحصل هذا الهلع والفزع والرعب، كلا، إنما هن ثلاث من "الجنس اللطيف"! أردن ممارسة حريتهن في ممارسة الالتزام بالحجاب الشرعي، فهذه دعاوى العلمانية البراقة ودعاوى الحرية! إنما هي مجرد لافتات يضحكون بها على الناس.
وأما إذا كان الإسلام، هو الخصم فإنهم يظهرون ضراوتهم وعداوتهم جلية بدون مواربة، ولما حصلت هذه الحادثة بدأت الصحف الفرنسية كلها تكتب عن هذا الموضوع، وعندي قصاصات منها كثيرة، تكتب عن هذه القضية، هذه الظاهرة، خطورة الإسلام على فرنسا، تاريخ الحجاب، كيفية نـزع الحجاب في مصر، ودخلت فيها قضية الخميني والثورة الإيرانية وإلى غير ذلك، وحاولت أن تهول قضية كون ثلاث بنات أردن أن يدخلن المدرسة بحجاب على الرأس.
فالذي عندهم هو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف بل محاربة المعروف علناً، وقد رأيت في بعض البلاد التي هاجر إليها كثير من المسلمين هناك وأقاموا فيها وتزوجوا من أهلها أنك والعياذ بالله تجد أن المسلم الذي زوجته نصرانية من أهل تلك البلاد.
البنت التي ولدت له من هذه المرأة تمارس حريتها الكاملة على رغم أنف والدها، فتخرج متى شاءت وتدخل متى شاءت، وتأتي بعشيقها لتجلس معه في بيتها، في غرفة خاصة، والويل للأب إن أراد أن يتدخل فإنه ليس على البنت إلا أن تدير قرص الهاتف لتنادي الشرطة، فيأتوا ويأخذوا الأب إلى المخفر، ويجروا معه تحقيقاً طويلاً، لماذا تتدخل في حرية هذه البنت؟! يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
ففي الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو بديل عما يسمونه هناك بالحرية الفردية؛ لأن الحرية الفردية في بلاد الغرب إنما هي قشر خادع -كما بينت لكم-.
فالإسلام ضمن الحقوق الكلية للإنسان، فلا يجوز أن يجلس مسلم جائع ونحن نأكل ملئ بطوننا، ولو حصل هذا لكان واجباً عليه أن يأخذ منا بالقوة إذا لم نتبرع، يأخذ ما يسد رمقه، ونكون نحن آثمون، وكذلك الحال في أي حاجة من الحاجات الضرورية التي يحتاجها الفرد المسلم، مثله سواء بسواء، قضية المحافظة على الأخلاق والمحافظة على عقيدته، والمحافظة على دينه هي -أيضاً- جزء كذلك من هذا الواجب، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحقيق هذا الأمر أنك إذا وجدت على أخيك المسلم نقصاً في دينه أو عقيدته أو خلقه تقوم بتكميل هذا النقص.
ومثلها تماماً جراثيم الأخلاق والأفكار تنتشر في الهواء مثلما تنتشر الجراثيم القاتلة للجسم -فمثلاً- إتاحة الفرصة لأهل الرذيلة أن يمارسوا رذيلتهم والفساد من خلال الصور، ومن خلال الأغنية، ومن خلال المجلة، ومن خلال بيت الدعارة -مثلاً- هذا يلوث البيئة العامة، ويجعل الإنسان الذي يريد الصلاح -أحياناً- قد لا يستطيع أن يكون كما يحب؛ لأن العقبات أمامه كثيرة فقد تلوثت البيئة العامة.
وكذلك نشر الشبهات التي تشكك الناس في دينهم من خلال الكتاب والمجلة والجريدة والشريط والمحاضرة والقصيدة والأمسية هي الأخرى -أيضاً- تلوث البيئة العامة، بحيث تجد أن الإنسان يبدأ يسمع شبهة هنا وشبهة هنا، وشبهة هنا، وليس صحيحاً أبداً أن الناس كلهم محصنون ضد الشهوات والشبهات، سبحان الله! الإنسان خلق كما قال الله عز وجل: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28] حتى الإنسان التقي النقي الطاهر العَلَم قد يسمع شبهة، فتظل تدور في عقله أياماً، حتى يطردها بإذن الله عز وجل، وقد يرى بعينه شهوة -امرأة حسناء- أو حتى صورة في مجلة تقع عينه عليها عن عمد- أو عن غير عمد فيجلس قلبه أياماً مريضاً لهذه النظرة.
فليس صحيحاً أن يقال: اسمح للفساد، وأن الناس عندهم حصانة ضد الفساد، من أين أتتهم هذه الحصانة، ونحن نعلم أن الإنسان نفسه أمارة بالسوء، وجُبِلَ على الشهوات، فضلاً عن تسليط الشيطان على ابن آدم؟!
ولذلك فإن إظهار المنكرات سواء كانت منكرات أخلاقية أم فكرية في المجتمع، سبب في تعرض المجتمع كله لهزات لا يعلم مداها إلا الله، ولهذا كان يقال: المنكر إذا خفي لم يضر إلا صاحبه، أما إذا أعلن فإنه يضر الخاصة والعامة، بمعنى أننا نسأل: هذا فلان من الناس الذي عنده منكر، تجد أنه إذا أراد أن يمارس المنكر يخرج إلى باب الشارع فيقفله بالمفتاح ثم يدخل إلى الباب الآخر فيقفله، وهكذا باب بعد باب بعد باب، ثم ينظر في النوافذ من هنا ومن هنا، ثم يجلس على منكره، هذا العمل يدل على ماذا؟
يدل على أن صاحب المنكر هذا يحس بأنه في وسط بيئة صالحة، وأنه يقوم بعمل ضد المجتمع، تماماً مثل ذلك الإنسان الذي يقوم بعمل تخريبي ضد مجتمع.
لو أن إنساناً -مثلاً- أراد أن يقوم بعمل تخريبي يخل بأمن المجتمع، هل كان يقوم بهذا العمل على قارعة الطريق؟ كلا، كان سيقوم به في سراديب مظلمة، فهو من الذين يعملون في الظلام؛ لأنه يدرك أن المنكر الذي يقوم به هو في الواقع عمل ضد أمن المجتمع، وأنه عمل تخريبي ضد أمن المجتمع، فيتستر به.
لكن ما بالك إذا كان الذي يعمل المنكر يعمله في الهواء الطلق، في الشارع، في المدرسة، في الحديقة، بل -أحياناً- على مرأى ومسمع من ملايين الناس الذين يتابعونه عبر جهاز معين، دعاه إلى هذا أنه يحس أنه يقوم بعمل عادي، وأن المجتمع يوافقه على هذا العمل الذي يريد أن يقوم به، لا ينكر عليه ولا يعارضه، فتجرأ على مواجهة الناس بهذا الأمر.
إذاً، إذا أعلنت المنكرات معنى ذلك أن المجتمع يعاني من قضية خطيرة جداً، في أصل وجود هذا المجتمع، وأصل القناعات الموجودة، بيئة المجتمعات العامة تلوثت بجرثومة الفساد، وكم هو مؤسف ومحزن ويجرح القلب، أن تتصور هؤلاء الأطفال من بنين وبنات في أعمار الزهور -عشر سنوات، اثنتا عشرة سنة، أربع عشرة سنة- إنهم يولدون في بيئة خاصة أو عامة فيستنشقون جراثيم الفساد، في كثير من البلدان تجد الصبي الصغير يتلقن ذلك ويتربى عليه.
كما قال نوح عليه السلام: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:26-27].
من يوم أن يولد الصبي الصغير وهو يرضع الرذيلة مع لبن الأم ويستنشق الفساد في الهواء، فتأتي إليه وهو ابن سبع أو ثمان سنين، فإذا سألته عن ثقافته وجدت ثقافته عبارة عن أغانٍ ومعلومات تافهه، وأمور رخيصة، إذا سألته عن دينه تجد أنه لا يستطيع أن يقرأ لك آية من القرآن الكريم.
أقول: هذا في كثير من البلاد الإسلامية، تجد أنه قد لا يستطيع أن يقرأ لك آية من القرآن الكريم ولا يقيم سورة، وتجد أن تصوراته تصورات منحرفة، فلو رأى في الشارع -مثلاً- امرأة محجبة لأصبح يركض إلى والده يحتمي به؛ لأنه يحس أنه رأى شيئاً موحشاً مخيفاً لأن بصره لم يعتد على رؤية الحجاب، فأصبح ينفر ويخاف منه تماماً، كما يفعل الطفل في بلاد الغرب إذا رأى مثل هذا المظهر الغريب، فإنه ينفر منه ويشمئز؛ لأنه أمر غير مألوف ولا معهود.
فإذا كانت هناك أمة من الأمم لا يوجد فيها الذين ينهون عن السوء، لا ينجو منها أحد، ولذلك قال الله عز وجل: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ [هود:116].
فإذا وجد في الأمة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر نجا إذا نـزل العذاب، فإن حقق -فعلاً- المعروف وأزال المنكر نجا ونجت الأمة، فإذا فُقِد هذا الصنف حق العذاب على الأمة بأكملها ولم ينج منها أحد.
ولذلك روى البخاري ومسلم في صحيحهيما أن النبي صلى الله عليه وسلم نام ثم استيقظ فزعاً، وهو يقول: {لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد أقترب، لقد فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وأشار بإصبعيه السبابة والإبهام، فقالت له
والغريب أن هذا المعنى الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم نقل عن جماعة كبيرة من الصحابة مما يدل على عناية الرسول صلى الله عليه وسلم واهتمامه به، فنقل عن أم سلمة وأم حبيبة وعائشة وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة، كلهم نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، أنكم تهلكون إذا كثر فيكم الخبث وإن وجد فيكم صالحون قليل.
هذا جزء من العذاب الذي توعد الله تبارك وتعالى به الأمة، حين تتخلى عن مهمتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك قال الإمام مالك في موطئه باب: ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة، ثم نقل عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وأرضاه، أنه قال: [[كان يقال: إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة]] يعني: إذا وجدت فئة خاصة من المترفين والأغنياء والكبار الذين يصرون على المنكرات سراً فإن الله عز وجل لا يعذب المجتمع كله بعملهم، لكن هكذا يقول عمر بن عبد العزيز: [[لكن إذا عملوا المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم]].
إذاً: يا إخوة، هناك قضية كثيراً ما تخفى على كثير من الناس، تأتي إلى إنسان وتقول له: سبحان الله! المجتمع فشت فيه المنكرات، وحصل كيت، وكيت، يقول لك: لا داعي للتشاؤم، المنكرات هذه موجودة منذ زمن قديم، وفي عهد الصحابة كذا وفي عهد بني أمية كذا، وفي عهد بني العباس كذا.
فأقول: ينبغي أن ننتبه إلى فرق جوهري في المنكرات، فرق بين منكر يُعْمل خفية في بيت أو مكان معزول، وبين منكر يُعمل على الملأ، فرق بين منكر شخصي ومنكر جماعي، فرق بين منكر مُحَارب وبين منكر مدعوم، فيجب أن لا نغتر بوجود أصول لبعض النكرات في أزمنة ماضية.
هذا مع أنه حتى لو كانت المنكرات موجودة منذ زمن قديم، فإن هذا لا يبرر ولا يسوغ السكوت عليها، وإلا لكان المعنى: أننا يوماً بعد يوم نـزداد من المنكرات نسكت عما مضى، وتأتينا منكرات جديدة، فيأتي الجيل الذي بعدنا فيسكت عن المنكرات التي حدثت في زماننا؛ لأنها موروثة وهكذا، وهذا معناه أن الأمة تصير في النهاية إلى التخلي عن الدين كله بهذه الطريقة.
أبو بكر يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب}. إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه.
الظلم أنواع: قد يكون الظلم بالمال نهب أموال الناس أو أخذ أموال الناس بالباطل، أو الغش أو الخديعة أو السرقة أو اللصوصية على أي مستوى كانت فهذا ظلم، لكن ليس هذا فقط هو الظلم، حتى الظالم لنفسه الذي يرتكب المعصية -مثلاً- هذا ظالم، ظالم لنفسه، وظالم لغيره -أيضاً- والظلم معنىً عام واسع يدخل فيه حتى الشرك: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] فالناس إذا رأوا الظالم العاصي الفاسق، فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله تعالى بعقاب.
ومن أكثر الأحاديث هزاً لقلوب المؤمنين، وتخويفاً لهم، ما رواه حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً من عنده}.
إذاً يوشك ويقرب أن تصاب الأمة بالعذاب إذا لم تأمر بالمعروف ولم تنته عن المنكر، فصمام الأمان بالنسبة للأمة هو أن يكون فيها أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، وذلك أن المجتمع كله لحمة واحدة، تيار واحد مترابط، وأي انحراف أو منكر يقع في الأمة هو تماماً مثل أولئك القوم الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كما في الحديث المتفق عليه، عن النعمان بن بشير -استهموا على سفينة، ركبوا في البحر، فكان بعضهم في أعلى السفينة وبعضهم في أسفلها، فواحد من الذين في أسفل السفينة قال: أنا كلما احتجت الماء أصعد وأؤذي هؤلاء الذين فوقي عندما أغرف الماء، ليس لهذا داع، أخرق من أسفل السفينة خرقاً حتى يأتينا منه الماء ولا تؤذي من فوقنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً}.
أي: هو يقول: هذا شأني، وهذا أمر يخصني، وهذا نصيبي من السفينة، أصنع فيه ما أشاء، أخرقه أو أكسره، أصنع فيه ما أشاء، فإن قالوا: فعلاً هذه حريتك الشخصية، معناه أنهم أقروه على خرق سفينة المجتمع، لكن إذا أخذوا على يديه، وقالوا: لا هذه ليست حرية شخصية، السفينة ملك عام ويجب أن لا تقوم فيها بأي عمل يضر بنا جميعاً فإنهم يكونون سبباً في نجاته هو ونجاتهم هم أو نجاة المجتمع، فهكذا المجتمع هو عبارة عن:
سفينة في لج بحر ما له من ساحل أبداً ولا ضحضاح |
المجتمع هو السفينة، وأصحاب الفساد سواء أكان فساداً فكرياً أم خلقياً عاماً أم خاصاً، كبيراً أم صغيراً كلهم عبارة عن مجموعة معهم معاول ومسامير، كل واحد يخرق في طرف من السفينة، والناهون عن المنكر عبارة عن القوم العقلاء الصالحين الذين يبذلون جهودهم في منع كسر هذه السفينة، أو أخذ لوح منها؛ ونتيجة هلاك السفينة وغرقها، أو نجاتها؛ مبنية على نجاح أحد الطرفين فيما يريد وفيما يحاول.
وهكذا الحال في موضوع المنكر، يقولون: كيف يحدث ترك النهي عن المنكر مثل هذه الآثار في المجتمع، ومن أجل تقريب الموضوع أذكر لكم بعض الأمثلة التي تؤكد ذلك.
هذا الشاب -مثلاً- الذي أصبحت حياته كلها عبارة عن أغنية أو صورة فاسدة أو مجلة أو فيلم أو مكالمة هاتفية لغرض سيئ، أو البحث عن الشهوة أو السفر في الحرام، المهم أصبحت حياته كلها -باختصار شديد- مكونة من شهوة.
هذا الشاب هل يستطيع أن يحصل على العلم النافع؟ وهل عنده جدية في تحصيل العلوم الدنيوية؟ وهل عنده استعداد أن يدافع عن نفسه فضلاً عن غيره؟ هل عنده استعداد أن يحمل السلاح؟ كلا وألف كلا، ولذلك عندما يذهب كثير من الشباب من بلاد شتى سواء بلاد كافرة -كما كان الحال في اليابان لما أرادت أن تأخذ التقنية الغربية فإنها بعثت شباباً- أو من بلاد مسلمة، فتجد الشاب المتدين جاد، وهذا الشاب الملتحي المستقيم تجده جاداً حتى في دراسته، في تحصيل العلم؛ لأنه ليس عنده وقت للأمور التافهة.
لكن هذا الشاب الذي غرق في الشهوة، ليس عنده قوة تدفعه إلى أن يحضر الدرس أو المحاضرة أو يستمع أو ينصت أو يجري تجربة أو يحصل على أي علم، وبذلك تتأخر الأمة وتنهار.
حتى إنه يقال: إن اليابان لما بعثت شبابها يتعلمون في بلاد الغرب، بعثت معهم من يراقبهم بدقة، وكانوا مجموعة، فلما رجعوا أخبروا بأن هؤلاء الشباب كلهم قد وقعوا في الفساد، وأن حياتهم تتراوح بين المواخير وبيوت الدعارة والبغاء والفساد وغير ذلك، قالوا: إنهم أعدموهم عن آخرهم حتى يكونوا عِبر لغيرهم، ثم بعثوا بعثة أخرى، وأرسلوا من يراقبهم، فكان يقدم تقارير متواصلة عن جدية هؤلاء الشباب، ومحافظتهم على كل شيء، حتى على التقاليد الوثنية التي تلقوها في بلادهم -في اليابان- حتى الكفرة الوثنيين عبدة الأوثان -عبدة بوذا أو غيره- يدركون أنه إذا كان الإنسان غارقاً في الشهوة؛ فإنه لا يجد وقتاً للأمور الجادة، ولا يحدث الغرق في الشهوات إلا إذا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذلك قال الله عز وجل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] ثم قال في الآية التي بعدها: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105].
في عدد من البلاد المجاورة تجد أن أهم أسباب تفرقهم: أنهم لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، فترتب على ذلك شيوع الفساد، اليوم يعلن -مثلاً- عن حفل راقص في مكان كذا، وغداً يعلن عن حفل غنائي في مكان كذا، وبعده يعلنون عن عرض مسرحيٍ في مكان كذا، وهكذا أصبحت المنكرات في بلادهم منتشرة.
فالغيورون الصالحون لم يرضوا بهذا، فصارت الأمة فرقاً بعد ذلك، لم يجدوا مجالاً للتغيير والإنكار بالأسلوب الصحيح، فلجئوا إلى أساليب أخرى، أحدثت تفرقاً آخر في الأمة، حتى تمزق المجتمع شيعاً وأحزاباً بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المجتمع إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بد أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويعتبر هذا الإنسان الذي جاء يقاوم المنكر ويقضي عليه إنساناً أصولياً متطرفاً ومتسرعاً، هذا إنسان يريد أن يقضي على المكاسب الحضارية والمكاسب الوطنية للأمة، وبالتالي أنقلب الحق باطلاً والباطل حقاً.
وهذا - في الحقيقة- أخطر من الحرب العسكرية، أرأيت الآن كم دولة إسلامية سلخت من المسلمين عن طريق الحرب العسكرية؟ قد تقول لي فلسطين، صحيح أخذها اليهود بالقوة، وأفغانستان أخذها الشيوعيون بالقوة قبل ذلك، وبلاد الأندلس أخذها النصارى بالقوة، وهكذا يبقى العدد محدوداً، لكن لو تساءلنا كم من البلاد الآن التي حكمها الإسلام يوماً من الأيام، وتجد في أهلها إسلاماً كثيراً، ومع ذلك تجدها بلاداً علمانية لا دينية.
وإذا كنت قبل قليل ذكرت لكم ما حصل في فرنسا في قصة هؤلاء البنات الثلاث، فإن المأساة هذه تتكرر في بلاد ارتفع عليها علم الإسلام يوماً من الأيام، وأصبحت تمنع الحجاب في جامعاتها وتحاربه وتحارب من يلبسه، وتعتبر هذا رمزاً للرجوع -كما يعبرون- إلى عصر الحريم، عصر القرون الوسطى، قرون التخلف، هكذا يعبرون، وهكذا يزعمون.
إذاً من أعظم الأشياء أن الأمة وقعت في أيدي المنافقين، يحاولون أن يمسخوها عن الإسلام مسخاً نهائياً ويلبسوها ثوباً آخر غير ثوب الإسلام، ويُدَيِّنوها بدين آخر غير دين الإسلام، والدين لا بد منه، إما الإسلام وإما غيره، فإذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا تركه الصالحون معنى ذلك: ارتفع المنافقون، وكما قال الله عز وجل عنهم: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التوبة:67].
كل مجتمع -وهذه قضية يحب أن تكون بديهية- كل مجتمع فيه قوتان: قوة المؤمنين وقوة المنافقين، المؤمنون والمؤمنات ذكوراً وإناثاً يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والمنافقون والمنافقات ذكوراً وإناثاً يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، والمسألة صراع، والمجتمع يكون للذي تغلب من هاتين الفئتين.
ولذلك كانت قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المسلمين قضية مصيرية، لو أن واحداً أنكر -مثلاً-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أنكر مشروعيته أصلاً- يكون بذلك مرتداً عن الإسلام، هذا من حيث التشريع أو المبدأ النظري.
لكن من حيث المبدأ العملي كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو أعظم مؤسسة وأعظم جهاز وأعظم عمل في حياة المسلمين، لماذا كان كذلك؟ لأنه من حق كل مسلم أن ينتسب إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل مسلم من حقه ليس من حقه فقط بل من واجبه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يأمر نفسه وغيره ويأمر في بيته ويأمر في السوق، وفي المسجد، وفي الشارع، وفي المتجر، وفي المدرسة، وفي المؤسسة، ويأمر الكبير والصغير والقريب والبعيد والمعروف والمجهول والذكر والأنثى، هكذا كان، ومع ذلك كله؛ لأن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند كل مسلم قضية دين، وليست قضية وظيفة، بل كانت أكبر من ذلك، لكن مع ذلك عني المسلمون بنظام ما يسمى بالحسبة، وهو من أقدم الأنظمة الإسلامية، وأعظمها.
نظام الحسبة الذي كان فيه أناس مختصون، مهمتهم ووظيفتهم الرئيسية، هي: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ماذا تتصور وظيفة رجال الحسبة التي بدأت بشكل واضح في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، كانت وظيفة رجال الحسبة مراقبة المجتمع العام في كل شيء -كما أسلفت في بداية الحديث- مثلاً: وجدوا رجلاً يغش في البيع والشراء هذا يمنع، وجدوا شخصاً له دين عند آخر ورفض أن يعطيه يقوم رجال الحسبة بتحقيق هذا المطلب، وجدوا بيتاً يوشك أن يسقط، ويؤذي الناس، يقومون هم بمعالجة هذه القضية، وجدوا شارعاً ضيقاً يقومون هم بمعالجة هذه القضية، وتوسعة الشارع، إذا وجد من يؤذي الناس في أسواقهم يقومون بمنعه من ذلك.
إذاً كانت مهمتهم فضلاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة السلوك والأخلاق العامة، لكنني أريد أن أقول: إن مهمة رجال الحسبة في الإسلام كانت مهمة شمولية، أصبحت اليوم تسند إلى جهات كثيرة جداً، وربما تعجز عنها أو لا تقوم إلا بشيء يسير منها.
فكان رجل الحسبة هو آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر يصلح فيما بين الناس، يمنع الإيذاء أو الاعتداء على نظام المرور، يقوم بدور رجال البلدية في مراقبة المباني والأسواق وغيرها، يقوم بدور الغرفة التجارية وغيرها، ويقوم بمراقبة البيع والشراء والبضائع وأعمال الناس وما سواها.
وكانت الحسبة في الإسلام نظاماً عاماً شمولياً يهتم بمراقبة المجتمع في كل شيء، وعلى رأس ذلك مراقبة السلوك الأخلاقي، فإذا وجد إنسان يعصي أو يعتدي أو يشرب الخمر أو يؤذي المسلمين في أنفسهم أو في نسائهم أو في أموالهم كان هذا النظام يقوم بمنعه من ذلك، وما ذلك إلا لأنهم يدركون أن هذا قوام المجتمع المسلم، هذه هي النقطة الأولى التي أحببت أن أشير إليها، وهي قضية أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع المسلم.
إذاً من حيث الواقع العملي، أول ما يحدث هو التغيير بالقلب، ثم التغيير باللسان، ثم التغيير باليد، لكن المطلوب هو أن تغير بيدك إذا استطعت، فإذا عجزت فالجأ إلى التغيير باللسان، فإذا عجزت يكفي هنا أن تغير بقلبك، أن يعلم الله عز وجل أنك كاره لهذا المنكر، وهذا فرض عين على جميع الناس في جميع الظروف والأحوال، ولا يعذر أحد بتركه؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، ولا يمكن لأحد أن يمنع قلبك من أن يبغض المنكر: {فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان}.
وفي حديث ابن مسعود أيضاً في صحيح مسلم: {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} أي: الذي يرى المنكر فيسر به، فهذا ليس عنده إيمان بالكلية، والعياذ بالله، فهذا ليس عنده إيمان بالكلية الذي يرى المنكر، فلا يمتعض ولا يغضب فضلاً عمن يفرح أو يسر بهذا المنكر.
وهاهنا في موضوع مراتب المنكر يراعى أن الإسلام جاء بالتدرج في موضوع إنكار المنكر، فإذا أمكن أنك تكتفي بالتلميح فهو يغني عن التصريح، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} لماذا؟ لأن هذه الكلمة كانت تكفي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحتاج أن يقول يا فلان ويافلان، وإلا إذا احتاج فهل كان يتركها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا يتركها، إذا كفى التلميح لا داعي للتصريح، وإذا لم يكف التلميح يصرح، ولذلك قد يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم -أحياناً- بأسماء.
مثلاً مرة من المرات جاءوا وقالوا: {يا رسول الله فلان منع الزكاة -
أيضاً مرة من المرات كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فلما انصرف من صلاته، قال: {يا فلان ألا تحسن صلاتك، ألا ينظر أحدكم كيف يصلي، إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي}.
إذاً هذا وارد جداً وهذا كثير، وهو باب طويل، فالإنسان إذا كفى التلميح لا داعي للتصريح، إذا كفى أنك تقول: بعض الناس يفعلون كذا وكذا ثم ينتهي المنكر، هذا أحسن شيء وأجمل شيء، لكن إن لم يكف وكل واحد يظن أنك لا تقصده بل تقصد شخصاً آخر، فليس هناك مانع أن تقول: يا فلان، بينك وبينه فهذا حسن، وإذا ما استطعت إلا بإعلانها فليس هناك مانع أيضاً، فإن رأيت إنساناً مجاهراً بالفساد، يكتب الكتب والمؤلفات الطويلة العريضة، له مئات الكتب في هدم الإسلام والقضاء عليه، وحرب المتدينين، وتشويه التاريخ الإسلامي، والسخرية بالمؤمنين، والتشكيك في عقائد المسلمين، ثم تقول: لا تتحدث عن فلان، لا تتكلم في فلان، وتحتج عليَّ بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} هذا غير صحيح، من أعلن المنكر نعلن له الإنكار، ومن أسر أسررنا له الإنكار، فلا نأتِ لواحد قد أستتر بالمعصية ونفضحه أمام الملأ.
المهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له مراتب، وكلما أمكنت مرتبة فهو أولى، فإن أمكن التلميح تكتفي به، وإن احتجت إلى التصريح فبالتصريح، وإن لم يكف باللسان تنتقل إلى اليد وهكذا.
الأول: أن تكون مباحة فلا تأت بوسيلة محرمة من أجل النهي عن المنكر؛ لأن النجاسة لا تغسل بنجاسة مثلها، وكذلك لا تأتِ بوسيلة لا تؤدي إلى المقصود؛ لأن المقصود هو إزالة المنكر، فإذا كانت الوسيلة غير نافعة فإنه لا داعي لاستخدامها حينئذٍ.
مثلاً: الوسائل كثيرة، وأود أن أنبه على أن قضية الوسائل لا تنحصر، والعرب يقولون: الحاجة أم الاختراع، ويوجد مثل عامي يقول: العطشان يكسر الحوض، أي: المهم عندنا هو أن تكون ذا قلب يحترق، ويسعى في زوال المنكرات، لا يبرد قلبك لا تستسغ المنكر لا ترض به، فإذا وُجِدت عندك هذه الحرارة في قلبك، فثق ثقة تامة أن القلب سيرسل تعليمات للعقل للتفكير كيف يغير، وبعد ذلك قد يتفتق ذهنك عن ألف وسيلة في إزالة المنكرات.
ومن الأمور التي ينبغي أن تراعى في هذه الكلمة أن لا تكون هذه الكلمة ضربة في الوجه، -مثلاً- افترض أنك تريد أن تنكر أحد المنكرات الظاهرة، ومثالها اليوم أنك لا تكاد تجد مجتمعاً إلا وفيه من يشرب الدخان، أو يسبل في ثوبه، أو يحلق لحيته أو يرتكب بعض المعاصي -مثلاً- فهل معنى ذلك أني إذا أتيحت لي فرصة الكلمة، أحمد الله وأثني عليه، وأقول: الناس اليوم يحلقون لحاهم، وحلق اللحى ورد فيه كذا وورد فيه كذا، بهذا الأسلوب.
قد يخرج الناس بانطباع لا يخدم قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة، وقد لا يستجيبون لك.
ولكن لو أنك بدأت بقضية أكبر من هذه -مثلاً- قضية التشبه بالمشركين ولماذا نهى الإسلام عن التشبه بالكفار وتذكر أدلة وأمثلة وكلام المؤرخين وكلام الناس المعاصرين، بحيث تتدرج بعد ذلك، وتضرب الأمثلة لبعض التشبه الذي وقع، وتأتي بقضية حلق اللحية كمثال على التشبه بالمشركين -مثلاً- فضلاً عن أنه ورد فيها نصوص خاصة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أعفوا اللحى} إلى غير ذلك، وتنطلق من هذا المنطلق، فإنك بعد ذلك تجد أن الحاضرين وإن كانوا حليقي اللحى، إلا أنهم تقبلوا كلامك، ودخل في قلوبهم ونفوسهم واستساغوه.
وقد ذكرت لبعض الزملاء أنه حصلت لي قصة يوماً من الأيام في إحدى المدارس: زرت إحدى المناطق في هذه المملكة، فرأيت أن المدرسة التي زرتها يوجد فيها عدد كبير من المنكرات.
فآليت على نفسي أنني لا بد أن أقول لهم شيئاً عنها، فلما تحدثت ذكرت كلاماً عاماً عن الشباب ومشكلات الشباب، وأوضاع الشباب وما يجري لهم، وخطط الأعداء والغربيين للقضاء على الشباب حتى ارتاح الحاضرون جميعاً، وأحسوا بأن هذا كلام جيد، وهم يحتاجون إلى مثله، وربما لم يسمعوه في بلادهم، باعتبار أنها بلاد نائية إلى غير ذلك.
بعد هذا تكلمت عن الاعتزاز بالإسلام، وأن المسلم عزيز، وأنه هو الأعلى، الأعلى في دينه، الأعلى في عقيدته، الأعلى في سلوكه، وفي منهجه، وفي تاريخه وهكذا..
وذكرت أن المسلم العالي لا يقلد الكافر النازل، كما أن الكبير لا يقلد الصغير، والمدرس لا يقلد الطالب، وإنما الذي يحصل هو العكس، أن الصغير يقلد الكبير، والطالب يقلد المدرس، والمغلوب يقلد الغالب، ثم ذكرت هذه القاعدة، ثم انتقلت إلى التشبه بالمشركين، وما ورد فيها من النصوص، ثم ذكرت كل المنكرات التي رأيتها، وأدخلتها في باب التشبه.
فخرج معي أحد الأساتذة، وكان يحدثني ويقول: جزاك الله خيراً أنت في الواقع أنكرت علينا، ولم نجد في أنفسنا من هذا الإنكار شيئاً، لكن فلاناً من الناس، وذكر شخصاً على رغم صغر سنه وعدم خبرته إلا أنه يقوم على المنبر ويتكلم بكلمات مبتذلة عن بعض هذه الأمور.
حتى أنه ذكر لي: أنه يوماً من الأيام خصص خطبة للكلام عن حلق اللحية، وكان من ضمن ما قال: إن الذي يحلق لحيته مخنث، فهم بطبيعة الحال فهموا كلمة مخنث على غير وجهها؛ لأن الخطيب يقصد بمخنث أي: أنه إنسان يتشبه بالنساء، وفيه ليونة وفيه ترف وفيه تفسخ لا أكثر، هذا هو معناها اللغوي، لكن العرف الاجتماعي يفهمون من هذه الكلمة، أنه يقصد بها أنهم أصحاب فساد خلقي أو فواحش أو ما أشبه ذلك، فعظم هذا الأمر عليهم، وكان سبباً في عدم قبولهم لهذا الأمر، الذي أنكره عليهم.
إذاً الكلمة سلاح، لكن ينبغي أن يحرص ويحسن الإنسان كيف يتسلل إلى قلوب الناس في إنكار المنكر الذي يراه عليهم.
وقد تقول: حتى المال ليس عندي مال، فلا بأس، لكن ساهم في نشر الكتاب عن طريق أنه إذا وزع الكتاب بالمجان تأخذ هذه الكتب، وتوزعها في المدارس والمساجد والمؤسسات وغيرها، وكل إنسان له موقع فإنه يؤدي دوره ويقوم به بحسب قدراته وإمكانياته.
وأيضاً قضية النشرة الصغيرة أو ما يسمونه اليوم بالمطويات -أربع ورقات أو خمس ورقات- وهي تعالج موضوعاً معيناً، وهذه من السهل أن يقرأها الإنسان وهو واقف أو يمشي، وتعالج أحد هذه المنكرات، فمن الممكن أن تشارك فيها أيضاً.
أي: افترض أنك قرأت في إحدى الجرائد أو رأيت في إحدى الجرائد منكراً، لا يكفي أنك تقول: أتكلم في المجلس، لأن المجلس فيه عشرة، لكن الذين قرءوا الجريدة مائة ألف -كما ذكرت- فما هو الذي يمنع أن تكتب، إذا كنت على مستوى أن تكتب مقالة، وتبعث بها إلى الجريدة، وتكون مناسبة للنشر بقدر المستطاع، وتراعي فيها قواعد النشر، من أجل أن يستفيد منها أكبر قدر ممكن من الناس؟ فهذه من الوسائل.
المهم فبعد ذلك اعتذر لي، وقال لي: هذا الإعلان أولاً: خطأ نـزل منا بطريق الخطأ -بغض النظر عن كلامه هو صحيح أو غير صحيح- وبعد ذلك أعلنا في الجريدة في اليوم التالي نقضاً لهذا الإعلان، لكن ربما لم يتسن لك الاطلاع عليه، ثم قال: إن الناس اتصلوا بنا -هو يقول لي- من كل مكان، حتى كبار العلماء والمشايخ اتصلوا بنا، وقد بلغناهم بهذا الأمر، ونحن نشكركم… إلخ.
ومعنى ذلك أنك حين تتصل أنت وأنا والثاني والثالث والعاشر استطعنا أن نفهم الناس ماذا نريد، وماذا يريد المجتمع؟! وهذه الوسيلة مؤثرة جداً في الوقت الذي لا تكلف فيه شيئاً، فلابد أن تكون إيجابياً، لا تقول ليس هناك فائدة، بل جرب الاتصال الهاتفي، وهو لا يكلفك أكثر من خمس دقائق، والمبلغ الذي تدفعه مقابل المكالمة الهاتفية في سبيل الله عز وجل، فجرب أنك تتصل بصاحب المنكر أو بعالم أو بمسئول يستطيع أن يغير، وتتكلم معه حيال منكر معين، وستجد أن غيرك اتصل فيه، وبالتالي ساهمت مساهمة فعالة في إزالة هذا المنكر أو في تقليله، وهذه وسيلة أو طريقة.
وهذه المجلة التي تتاجر بأعراض المسلمين ما هو الذي ضمن لها الاستمرار والدوام؟! وأنها أصبحت تتطور وتخرج في ورق صقيل وعدد كبير من الأوراق، وتنشر في كل مكان، إنها أموال المسلمين!! وهكذا كل مؤسسات الفساد والانحراف والرذيلة، لو أن المسلمين قاطعوها لانتهت من نفسها ووئدت في مهدها، لكن أنا الذي أجرتها، وأنت الذي توظفت فيها وعملت فيها، والثالث تعامل معها، والرابع دعمها، والخامس، والسادس… وهكذا؛ حتى صار المجتمع من حيث يشعر أو لا يشعر ينفخ روح القوة والحيوية في مثل هذه المؤسسات، ثم تجد أنهم يمتعضون منها، ويستاءون منها، ونقول كما يقول المثل العربي: يداك أوكتا وفوك نفخ، أي: أنت المسئول ونحن المسئولون عن مثل هذه الأشياء.
ولو أننا أخذنا على عواتقنا مقاطعة كل وسائل الهدم والفساد والانحراف لتغير المجتمع، أحد الشباب يقول: هناك طريقة، فأنت لا تكاد تدخل بقالة إلا وتجد فيها الدخان يباع، وهذه المجلات من كافة الأنواع والأصناف ومجلات الأزياء إلى غير ذلك، أنت تأتي وتشتري، وتقول له: يا أخي لماذا أنت تبيع هذه الأمور المحرمة؟ قال لك: والله يا أخي الزبائن لو لم أبعها فلن يأتوا إليَّ، تقول: وأنا لست من الزبائن، المتدينون ألا يشترون لبيوتهم ألا يدخلون البقالات؟! بلى، ما الذي يمنع أنني بعد أن أجمع بضائعي كلها بأربعمائة ريال أو خمسمائة ريال، أقول: سبحان الله! أنت تبيع الدخان وهذه مجلات سيئة هذا لا يصلح.
إذاً دع بضاعتك عندك، أنا لا يمكن أن اشتري من مكان عنده هذه الأشياء، ما الذي يحصل؟! يحصل أنه غداً إذا جاءه إنسان، وقال: أين الدخان؟ قال: الزبائن رفضوا إن يشتروا مني وعندي دخان، أو سأله عن المجلات الخليعة قال: الزبائن رفضوا.
إن المجتمع والحمد لله فيه خير كثير والطيبون أينما كانوا كثير، فينبغي أن يثبتوا وجودهم من خلال البعد، ومقاطعة الوسائل والأماكن التي يكون فيها معصية إلا بشرط زوال هذه المعصية، وبالمقابل الإقبال على المجالات الخيرية التي فيها نفع وفيها طاعة.
في بغداد كان هناك بيت يسمع منه صوت الغناء والمزامير واللهو، بيت لواحد من المترفين الأغنياء، طرقوا عليه الباب لم يستجب لهم، مرة ثانية وثالثة لكن الرجل مصر، وكان هناك قارئ في بغداد حسن الصوت ومؤثر بكَّاء- إذا قرأ بكى وأبكى من حوله، فلما أعيتهم الحيلة جاء هذا القارئ يوماً من الأيام، وقت ازدحام الناس في الشوارع، وجلس على عتبة الباب الذي يصدر منه صوت الغناء، والغناء مسموع -أي: في تلك اللحظة- ثم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وسمى وبدأ يقرأ القرآن الكريم بصوت جهوري فاجتمع الناس لما سمعوا صوت فلان- وامتلأ الشارع وعلا النحيب والأصوات والبكاء؛ حتى سمع صاحب البيت وهو في داخل منـزله سمع أن الوضع غير طبيعي، وأن هناك بكاء وأصواتاً، فنظر وإذا بالوضع هكذا فنـزل وأخرج الطبول وآلات اللهو والفساد التي عنده وأعطاها لهذا الشيخ ليقوم بتكسيرها بيده.
فهذه طريقة لا تحتاج إلى شيء، وليس فيها مأخذ على فاعلها، وهي طريقة حكيمة ومناسبة، وقد فعل مثل هذا بعض الدعاة في العصر الحاضر، حيث كان هناك حفل يراد أن يقام في مكان ما، غناء ولهو وطرب، وهذا الداعية عجز عن تغييره، فلما عجز أخبر الصالحين بأنه سوف يقيم محاضرة أو درساً في مكان مجاور، قريب منه جداً، وبدأ يتكلم بكلام قوي ومؤثر، وقد أعد له إعداداً جيداً، فانسحب الناس من مكان الحفل، وأتوا إلى المحاضرة، وأوقف الحفل بطريقة هادئة مفيدة دون أن يحدث فيها أي شيء يمكن أن يعاتب عليه.
المصلحة الأولى: التيقن من أن هذا الإنكار نفعه أكثر من ضرره؛ لأنه أنا وأنت قد لا نستطيع أن نقدر بالضبط لأن نظرتنا قصيرة، لكن غيرنا يمكن أن يكون أبعد نظراً منا.
المصلحة الثانية: أن الذي ينكر باليد قد يتعرض لضرر في نفسه أو ماله أو بدنه أو أهله أو وظيفته أو ما أشبه ذلك، فهو يحتاج وقوف أهل العلم معه فإذا كان يصدر منهم وعنهم فحينئذ يضمن هذا.
المصلحة الثالثة: أن هذا يعطي دعماً لأهل العلم -كما سبق أن نوهت به أكثر من مرة- فمن أهم وسائل إنكار المنكر وجود العالم الذي يكون الناس ملتفين حوله سائرين وراءه، فيكتسب بذلك نوعاً من المنعة والقوة تمكنه من إنكار المنكرات، فإذا كنت أنا وأنت وفلان وفلان لا نقوم بهذه الأعمال إلا بعد أن نرجع إلى العالم أكسبنا العالم قوة وأصبح الآخرون يدركون أن هذا العالم يملك أن يغير أشياء كثيرة، لكنه يؤثر أن يغيرها بطريقة سلمية، يكون هذا أفضل له ولهم، فهذا مما يجعل كلمة العالم مسموعة وصوته مؤثراً، فبذلك نكسب أموراً كثيرة إذا ربطنا هذه القضية بالعلماء، ونسلم مما وقع في كثير من البلاد من أن يكون الإنكار باليد سبباً في حدوث أمور ومشاكل كثيرة لا يعرف لها أول ولا آخر.
هذه قضية في غاية الأهمية، جمهور الأمة إذا رأوا المنكرات غضبوا وفار الدم في عروقهم، وامتعضوا من هذه المنكرات، فإذا وجد الجمهور المجال الطبيعي للإنكار أنكر، والمجال الطبيعي ما هو؟ المجال الطبيعي يتلخص في نظري في أحد قناتين أو طريقين:
إما القناة الأولى وهي: الجهات والمؤسسات الرسمية التي تقوم بإنكار المنكر.
وأما القناة الثانية: إذا لم توجد الأولى هي: أن نسير خلف العلماء الذي يتحملون مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإذا أغلقت هاتان القناتان، ولم يجد الناس وسيلة للتغيير رسمية لا عن طريق العلماء ولا عن غيرهم، حينئذٍ يحدث الأمر الذي ذكرت لكم قبل قليل، وهي أن الناس يلجئون حينئذ إلى اجتهادهم، وهم معذورون؛ لأن الإنسان ليس مطالباً بأن يكف يده ويغلق عليه بيته ويترك المجتمع لهذه المنكرات تعبث به، فحينئذ تحدث اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ، والإنسان يجتهد بحسب ما يستطيع.
من آداب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى |
من الحكمة أن تستخدم اللين في موضعه، لكن من الحكمة أن تستخدم الشدة في موضعها أيضاً، وأذكر لكم قصة الشاب الإسرائيلي وهي قصة في الصحيحين: لما كان بين الساحر والراهب، والقصة طويلة، لكن الشاهد منها، أنه في آخر القصة، قال الغلام للملك بعد أن عجز عن قتله: هل تريد أن تعرف كيف تقتلني؟ قال: نعم، قال: اصلبني إلى جذع شجرة ثم اجمع الناس كلهم، وقل: بسم الله رب الغلام ثم اقتلني، أرسل إلي سهماً فيقتلني، ففعل الملك، فلما فعل ذلك، قال الناس كلهم بصوت واحد: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام.
هذا العمل الذي قام به الغلام ترتب عليه موت -قتل- أي: آخر ما يخطر في بالك لكنه بلا شك في جميع المقاييس من الحكمة؛ لأنه ترتب عليه موت واحد وحياة ألوف مؤلفة من الناس، أحياهم الله تعالى بالإيمان بعد أن كانوا أمواتاً بالكفر.
فالحكمة، تعني وضع الشيء في موضعه، إذا استدعى أمر أن تستخدم القوة والشدة استخدمها، تستخدم اللين استخدمه، تستخدم الكلمة استخدمها، الرسالة، الشريط، الكتاب كل شيء تضعه في موضعه، وقد لا يستطيع الإنسان أن يقدر الحكمة في بعض القضايا، فإن استطاع أن يستنير بغيره ويستشير فهذا جيد، ولذلك يقال الناس أنواع:
واحد كامل: -ليس المقصود كمال كلي؛ لأن الكمال لله، ولكن كمال نسبي- فهذا هو الذي له عقل ويستشير، هذا رجل.
وآخر نصف رجل: وهو الذي له عقل، لكنه لا يستشير.
والثالث لاشيء: وهو الذي لا عقل له ولا يستشير، فهذا يعتبر لاشيء.
فاعمل أنت على أن تكون رجلاً، أن تستشير مع عقلك، وتكون أضفت إلى عقلك عقل غيرك، فإن لم يكن فعلى الأقل كن نصف رجل واستخدم عقلك بشكل جيد وإياك إياك أن تكون لا شيء فتخسر، وتكون سبباً في خسران غيرك.
فعود نفسك على أن تكون واسع البال، واسع القلب بطيء الانفعال، واجه الكلمة بالابتسامة، واجهها برد حسن واجهها بنكتة أحياناً وطرفة، فوِّت الفرصة على هذا الإنسان؛ لأنه يجن جنونه إذا رأى أنه في ذروة الانفعال والغضب وأنت أعصابك كما يقال: في الثلاجة، لم تتحرك ولا انفعلت، إنما قابلت كلامه الغليظ بابتسامة أو بنظرة أو بكلمة حلوة أو بنكتة قلتها له، فإن هذا أعظم ما تستطيع أن تغلبه به.
وكذلك العدل تحتاج إليه فربما يحصل من جراء إنكار المنكر -أحياناً- موضوعات تطول مثل قضية مخاصمة أو رفع إلى القضاء أو ما أشبه ذلك، فهنا أكون عادلاً وأقول الكلام الذي لي، والكلام الذي علي، وأراقب الله عز وجل في ذلك.
فلو علمت أن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر يترتب عليه مفسدة حينئذ يكون ممنوعاً عليك، ولهذا يقال: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خرج مع بعض تلاميذه من دمشق، كما ذكر هذا الإمام ابن القيم، فلما خرجوا مروا ببعض التتر وكانوا يشربون الخمور خارج دمشق أيام غزوهم لبلاد الإسلام، فهمَّ بعض تلاميذ شيخ الإسلام بالإنكار عليهم وذهبوا إليهم، فقال شيخ الإسلام: دعوهم، اتركوهم وما هم فيه، قالوا: رحمك الله نتركهم على هذا المنكر، قال: نعم، إن هؤلاء القوم لو صحوا من سكرهم لدخلوا دمشق، وهتكوا أعراض النساء، ونهبوا الأموال وقتلوا الرجال، فما هم فيه الآن، وإن كان منكراً إلا أنه أخف من المنكر الذي يمكن أن يحصل لو تركوا شرب الخمر.
إذاً القضية قضية العمل على تحصيل المصلحة الأعظم ودفع المفسدة الأكبر، ولذلك العقل والشرع -أيضاً- هو تحصيل خير الخيرين ودفع شر الشرين، وإلا لا يكاد يوجد في الدنيا مصالح محضة (100%) ولا مفاسد محضة (100%) إلا أن المسألة مسألة موازنة أيهما أعظم، فإذا كانت المصلحة أعظم حصِّلها، وإذا كانت المفسدة أعظم ادفعها، ولذلك لا بد أن توازن بين المنكر الصغير وبين المنكر الكبير، فتبدأ بالأكبر قبل الأصغر، وكذلك إذا ترتب على المنكر منكر أكبر منه فدعه.
قضية الإسرار والإعلان في موضوع المصلحة، هل تنكر سراً أم تنكر علناً؟ كلاهما وارد في الشرع، فقد يكون من المصلحة أن تنكر علانية وقد يكون من المصلحة أن تنكر سراً، -مثلاً- بعض الصحابة والتابعين كانوا ينكرون علانية، ومثل ذلك طارق بن شهاب رضي الله عنه، يذكر كما في صحيح مسلم أن مروان بن الحكم لما كان أميراً على المدينة أخرج المنبر في يوم العيد، وطفق يخطب قبل الصلاة، فقام إليه رجل، وقال: يا مروان خالفت السنة، قالها بصوت جهوري سمعه الناس: أخرجت المنبر في يوم العيد، ولم يكن يخرج، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، قال له مروان: قد ترك ما هنالك.
ومرة أخرى أبو سعيد الخدري نفسه، لما قام مروان ولعلها كانت قبل ذلك، جاء مروان ليخطب، فقام ليغير عملياً وقف في وجه الأمير مروان بن الحكم وأمسك بثوبه وتله - أي: جره- وقال: إلى أين؟ فجره مروان وذهب، وصعد المنبر فلما انتهى، أنكر عليه أبو سعيد، فقال: قد ترك ما هنالك، فذكر أبو سعيد أن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقته.
وكذلك الصحابة فيما بينهم -مثلاً- عمر رضي الله عنه، كم وكم أُنكر عليه، وهو على المنبر، ولعل من أصح القصص في ذلك، ما رواه الشيخان: أن أبي بن كعب قال لـعمر مرة من المرات لما حصل خصومة بين عمر وأحد الصحابة، قال أبي بن كعب لـعمر: يا ابن الخطاب لا تكونن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وعثمان بن عفان لما نهى عن المتعة في الحج -يعني جمع العمرة والحج- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان حاجاً معه: لبيك اللهم لبيك، لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج، قالوا لماذا؟ قال: أردت أن أبين أن ما يأمرنا به عثمان غير صحيح، ومخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك معاوية كان أميراً رضي الله عنه، وكان يستلم الأركان كلها في البيت ولا يكتفي باستلام الركن اليماني أو الحجر الأسود، يستلم الأركان الأربعة كلها في الكعبة، فأنكر عليه ابن عباس رضي الله عنه فقال له معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً، لماذا نهجر الأركان هذه؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستلم إلا الركنين اليماني والأسود.
ومثل ذلك كثير: عائذ بن عمرو دخل يوماً من الأيام على عبيد الله بن زياد، وقال له: يا ولدي- هذا الأمير كان أمير العراق- يا ولدي إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن شر الرعاء الحطمة} يعني: الإنسان القاسي الغليظ، فاحذر أن تكون منهم، قال له: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وهل كان لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نخالة، إنما كانت النخالة فيمن جاء بعدهم، أي: مثلك، فكانوا ينكرونها علانية لأنهم رأوا المصلحة في ذلك.
وقد يرى الإنسان المصلحة في الإسرار كما إذا كان المنكر شخصياً، أو رأى أن هذا الإنسان قد تأخذه العزة بالإثم، أو قد يترتب على ذلك مفسدة أكبر من المصلحة فحينئذ يسر، إذاً المصلحة والمفسدة من القضايا التي تجري في موضوع الإسرار والإعلان بالمنكر، يعني: بإنكار المنكر.
لكن الشاب بصفة خاصة ينبغي أن يقوم بها، تقوم بها في المنـزل، دورك في المنـزل، دورك مع زملائك في العمل، دورك في الفصل إن كنت طالباً وهكذا، أن يقوم الشاب بدوره خير قيام وأن يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الهم والوظيفة التي نذر حياته من أجلها، ولا أتردد طرفة عين، أننا لو ملكنا جمعاً مثل هذا الجمع في هذا البلد -مثلاً- أو في هذه المنطقة، وكل واحد منهم همه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لاختفت كثير من المنكرات، وظهرت كثير من السنن التي هجرت وتركت، فهذا دور ينبغي القيام به.
على الأقل اجعل من نفسك واسطة لإيصال ما يقع من المنكر إلى العلماء وتبليغهم به مع تزويدهم بالوثائق الكافية، أي: فلا يكفي أن تقول في مكان كذا منكر؛ لأن هذا قد لا يكون، قد تكون ظننت الأمر على غير ما هو عليه، لكن عليك أن تأتي بالأدلة الكافية على صدق ما تقول، وتجعل العالم يرى المنكر كما لو كان رآه بعينه فعلاً، حتى يستطيع أن يتكلم بقوة وجرأة، هذا من واجبنا، وقد سبق أن ذكرت نماذج في ذلك.
مثلاً: المراسلة أن تكتب الرسالة للعلماء أو الدعاة أو طلبة العلم لتزودهم ببعض ما ترى، أو تسمع من مقالات، أو كتابات أو قصائد أو منكرات أو أشياء مخالفة للشرع، حتى يستطيعوا أن يقاوموها بقدر ما يمكن، فتكون أنت على أقل تقدير رافداً يواصل العلماء بما يقع في الأمة؛ لأن العالم قد يكون مشغولاً بدرسه ومجلس علمه وارتباطاته الكثيرة عن معرفة مثل هذه التفاصيل الدقيقة، فكن أنت عين العالم على المجتمع، وأذن العالم التي تنصت لما يقال في المجتمع، ثم إذا واصلته حينئذ فقد قمت بدورك وبقي دوره.
إذاً أين أنا وأنت والثاني والثالث؟ لماذا لم نقم بهذا الدور؟! لو أن هذا الجهاز مدعوم بعدد كبير من الشباب المتدين الواعي المدرك، لكان هذا الجهاز مهما كانت العقبات أمامه، ومهما وجد في المجتمع من يمتعض أو يستاء من هذا الجهاز، أو يحاربه لكان هذا أكبر وأقوى من أن يقف أحد في وجهه، لكن عندما حصلت الأمور السابقة، مثل الإعراض عن هذا الجهاز، وكون كثير من الصالحين والشباب الجامعي لا يرغب أن يتوظف فيه، حصلت السلبيات اللاحقة لذلك، فعلينا أن ندرك أننا نحن مسؤولون أيضاً عن هذا التقصير الذي حصل، ويجب أن نتداركه بقدر المستطاع.
هناك أسباب كثيرة منها:
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد |
عليه الصلاة والسلام، والله عز وجل عاتب بني إسرائيل، وقال: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:79] حتى فاعل المنكر يجب أن ينكر، وهذه مسألة طويلة وقد بسطتها في مواضع كثيرة فلا أرى داعي للوقوف عندها.
أولها: أنك قاومت المنكر من نفسك؛ لأنك أنت نفسك مهدد بأن المنكر يصل إليك، وممكن أن تقع فيه، فإذا أنكرته تكون سلمت منه بإذن الله تعالى.
ثانيها: كسبت الأجر في القيام بهذه الفريضة والشعيرة التي هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثالثها: قد تقلل من المنكر، تقلل منه.
رابعها: قد تزيله.
خامسها: على أقل تقدير قد تمنع حدوث غيره؛ لأنه إذا كان هناك من يريد أن يفعل منكراً أكبر من الواقع الآن، ووجد أنك حتى المنكر الموجود الآن لم تهضمه ولم تقبله، وأنك ترفضه وتنكره، فيقول: إذاً كيف أريد أفرض عليه منكرأ أكبر، فعلى أقل تقدير تمنع من حصول المنكر الذي يمكن أن يقع.
وفضلاً عن هذا وذاك فإن أقل ما نجنيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألا تستقر المنكرات حتى تصبح كأنها معروفاً؛ لأنه إذا لم يوجد من يأمر وينهى، فإنه يهرم عليها الكبير، وينشأ عليها الصغير، وتصبح حقاً ومعروفاً، إذا تركت قيل: ترك الحق وترك المعروف وتركت السنة، لكن إذا وجد أولوا بقية ينهون عن الفساد، يكفي أنهم يقولون للناس بملء أفواههم: يا ناس هذه منكر وهذا لا يجوز، وقد يأتي يوم من الأيام من يستطيع أن يزيله أو يغيره بأي وسيلة.
يبتلى المؤمن على قدر إيمانه، فالأذى عربون حسن على أنك إن شاء الله مؤمن، وأنك بدأت تتحلى بصفات المؤمنين، وواجه الأذى بالصبر والحلم كما أسلفت.
يرى الجبناء أن العجز عقل وتلك سجية الطبع اللئيم |
فالجبان يخاف من كل شيء ويَفْرق من ظله، ولهذا كل شيء لا ينكره، يقول: أخشى أن يكون إنكاري سبباً في إحداث فتنة.
الجواب: هذه من الأمور التي تختلف فيها وجهة النظر، فإن كنت قَيِّماً على هذا الإنسان أو مهيمناً عليه، فإن لك أن تأخذها وتحرقها، أما إن كنت بعيداً عنه وليس لك صفة رسمية تستطيع من خلالها أن تأخذ هذه المجلات أو الأشرطة وتتلفها، فلا أرى أن تفعل ذلك لما قد يترتب عليه من المفاسد الأخرى.
السؤال يقول: الذي فهمت أن الأفضل أن يقاطع الإنسان المسلم المحلات الغذائية التي تبيع الأشياء المحرمة والذهاب إلى غيرها فما رأيكم؟
الجواب: لا أقول أنه واجب لكن هذا هو الأفضل، حتى ندعو الناس إلى ترك هذه المنكرات، ونثبت أن زبائنهم الآخرين الطيبين يجب أن يراعى ما يريدون.
الجواب: إذا كنت اغتبت هذا الإنسان فإن عليك أن تبلغه أنك قد وقعت بهذا منه، وتطلب منه المسامحة إذا كنت تعلم أن هذا لا يؤثر في نفسه، أما إن كنت تعتقد أن هذا قد يؤثر في نفسه ويجعله يجد في قلبه عليك، فعليك أن تكثر له من الدعاء والاستغفار في ظهر الغيب، وتمدحه في المجالس التي اغتبته فيها، وبالمناسبة فإن كل أحد تكلم فيَّ أو نال مني فإنني أجعله في حل من ذلك وأسأل الله عز وجل أن يتجاوز عني وعنه بمنه وكرمه.
الجواب: هذا ليس بصحيح، إنما الذي أعرفه أنه منذ فترة تعرض لحادث في البحر، حادث عجيب، لكن الله سلمه منه وولده بمنه وكرمه ونجاه من الغرق بأعجوبة من الله عز وجل، حيث جلس في البحر طيلة الليل يمسك بطوق النجاة مع أنه لا يجيد السباحة حتى طلعت الشمس، وكان معه آخر -أيضاً- حين غرق بهم المركب، ونجوا بحمد الله تعالى، هذا الذي أعلمه.
الجواب: كُره المنكر وبغضه وكراهيته والامتعاض منه، ويدخل في ذلك مغادرة المكان الذي يقع فيه المنكر.
الجواب: لا بد أن يراعي كبر سنه فيتدرج في نهيه عن المنكر إن استطعت أن تبلغ غيرك ممن يكون موثوقاً عنده فهو أفضل، وإن استطعت أن تقرأ عليه كتاباً وتقول هذا كلام فلان ممن يعلم فهو أجود -أيضاً- إن لم تستطع هذا تنكر عليه لكن بأسلوب حسن، فإذا بلغته ورأيت أنه لج في خصومته وعناده وأظهر لك أنه أعلم منك، وأعرف منك، وأنه جلس عند الشيخ الفلاني وما أشبه ذلك، فحينئذ ليس بيدك شيء.
هذا ما تيسر وبقية الأسئلة إن شاء الله تحفظ إلى مناسبتها، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذه المجلس مكتوباً لنا في سجل أعمالنا يوم نلقاه، إنه على كل شيء قدير.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتوفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر