أيها الإخوة والأخوات: إن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الخلق، ولذلك فهو المستحق وحده لأن يعبد، فالذي له الخلق هو الذي له الأمر، ولذلك جمع الله بينهما في قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فكما أن الله هو الخالق المتصرف في الأكوان، المقدر للأقدار، فهو -أيضاً- سبحانه المستحق للعبادة، المشرع لعباده.
ولذلك فإنه لا يحق لأحدٍ أن يقبل ديناً من عند غير الله، وهذه القضية هي قضية أصولية جوهرية في الإسلام، فحق التشريع هو لله وحده، وهو الحاكم والحكم بين عباده، ومن قبل من غير الله ديناً أو شرعاً أو حكماً أو تحليلاً أو تحريماً؛ فقد اتخذ من هذا الذي تلقى عنه إلهاً من دون الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] ويبين سبحانه أن ما عدا الشريعة فهو الهوى، فيقول: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية:18] وهذه القضية الواضحة هي جزء من معنى الإيمان بالله عز وجل وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقد ذكر الله تعالى في كتابه صنفين من الناس:-
الصنف الأول: هو صنف المنافقين، الذين لا يقبلون حكم الله ولا ينقادون له إلا حين يوافق أهواءهم، فيقبلونه ليس لأنه حكم الله، لكن لأنه يوافق الهوى، وقد ذمهم الله عز وجل بقوله: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُون * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور:48-50].
الصنف الثاني: هم المؤمنون المسلمون، المستسلمون لله عز وجل، وهذا الاسم الذي يحملونه، الإسلام: يعني الانقياد والطواعية التامة لحكم الله ورسوله، سواء أوافق الهوى أم خالفه، وقد مدحهم الله عز وجل وأثنى عليهم بقوله: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:51-52].
فالأمر بيّن واضح، المؤمن المسلم منقاد لحكم الله ورسوله، والذي يعترض على حكم الله أو يأباه أو يرفض الانصياع له فهو منافق وليس بمؤمن، ولذلك فإن المؤمن لا يحول بينه وبين امتثال حكم الله ورسوله، إلا أن يعرف هذا الحكم، فإذا عرفه انقاد له برغبة وقبول واستسلام، كما قال الله عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] لا يحول بين المسلم وبين تنفيذ الحكم الإلهي إلا معرفة هذا الحكم، فإذا عرفه استجاب له، سواء أعرف العلة من وراء ذلك أم لم يعرفها، وسواء أوافق هوى الناس أم لم يوافقه، وسواء أوافق هوى النفس أم لم يوافقه، فهذا حكم الله ينقاد له مسلماً بلا حرج.
ولذلك فإن من المهم أن يعرف كل مسلم تحلى بهذه الصفة أن لله عز وجل في كل واقعة حكم، وهذه قاعدة أصولية مهمة، فما من قضية تقع إلا ولله ورسوله فيها حكم، إما تحليل أو تحريم أو كراهة أو استحباب أو إباحة، ولا تخلو قضية أو واقعة من حكم لله ورسوله.
ولذلك فإن المسلم لا ينفك عن امتثال حكم الله ورسوله في كل واقعة تعرض له في حياته، والمسلم يستطيع معرفة حكم الله ورسوله، إما عن طريق البحث في الكتب والنظر في الأدلة والتوصل إلى هذا الحكم، إن كان أهلاً لذلك، أو عن طريق سؤال أهل العلم الذين أمر الله عز وجل من لا يعلم بسؤالهم، فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7].
قال في آخر الحديث: {فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا
ومن الجوانب الإيجابية المشرقة في هذه الصحوة الإسلامية، أنها صحوة تعتمد على البصيرة، وعلى الكتاب والسنة، وكم هو أمر طيب أن تجد كثيراً من الشباب ذكوراً وإناثاً يسألون عن حكم الله في مسألة ما، وما حكم كذا؟ ما حكم كذا؟ فإذا سمعوا ممن يفتيهم الحكم في هذه المسألة تحليلاً أو تحريماً، بادروا بأدب وحسن خلق واحترام وتلطف إلى السؤال عن الدليل الذي اعتمد عليه فيما أفتى به من تحليل أو تحريم، وهذا أمر كان معروفاً بين الصحابة والتابعين، حتى إن علياً رضي الله عنه، يقول -في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره-: {كنت إذا حدثني أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بحديث استحلفته بالله، فإذا حلف لي صدقته} وهذا صحابي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـعلي رضي الله عنه يقول له: احلف لي بالله أنك سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هكذا، فإذا حلف له صدقه، وما زال الصحابة والتابعون يسألون عن حجة من أفتى.
إن من الجوانب المشرقة في الصحوة الإسلامية التي نعيشها اليوم، أن تعتمد على البحث عن الدليل وعن الحجة، التي يعتمد عليها المتكلم في حكم الله ورسوله، وهذا أمر طيب، فقد مر على المسلمين زمان طويل، ضعف فيه انتماؤهم للكتاب والسنة، وغلب عليهم التقليد الأعمى في كثير من الأحيان، بل وتعصبوا لآراء الرجال وأقوالهم، حتى إن أحد المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية يقول: كل نص خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول! فهو يقول: إن كل آية أو حديث خالفت ما ذهب إليه إمامه فإن هذه الآية أو الحديث إما أنها منسوخة وإما أنها مؤولة، فأصبح يقدم كلام إمام على كلام الله ورسوله، بل ويقول أحدهم في كتاب له في التفسير، عند قول الله تبارك وتعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:24] يقول: فلا يجوز الأخذ بما خالف أقوال الأئمة الأربعة وإن كان قول صحابة، وإن كان حديثاً، وإن كان آية قرآنية!
وهذا الكلام يوجد في كتب توجد اليوم بين المسلمين في المكتبات، وقد أبدى كثير من العلماء امتعاضهم من هذا التعصب الممقوت الذي يرفضه الأئمة المتبعون ويأبونه ولا يقرونه، حتى قال أحد أئمة الأندلس وهو المنذر بن سعيد البلوطي يشكو ما وصل إليه قومه من التقليد وترك الدليل، يقول:
عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك |
فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك |
فان عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله: فهو آفك |
فإن قلت: قال الله ضجوا وعولوا وصاحوا وقالوا: أنت قرن مماحك |
وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك |
وأشهب وسحنون من أئمة المالكية.
إن الأئمة -أيها الإخوة- المتبوعين وغيرهم من علماء السلف يرفضون مثل هذا اللون من التعصب الممقوت، ونحمد الله أن قلَّ التعصب أو اختفت هذه الظاهرة في كثير من البلاد الإسلامية، وأصبح كثير من المتفقهين وطلاب العلم يبحثون عن الدليل، فإذا صح الدليل آثروه على أقوال أئمتهم وعلى آراء الرجال.
ولهذا فإنني آثرت أن أتحدث عن بعض القضايا المتعلقة بهذا الأسلوب، والواقع الذي تعيشه الصحوة الإسلامية، وهو أسلوب التفقه في الدين، وكيفية أخذ الحكم من القرآن والسنة، ومثل هذا الموضوع لا تفي فيه محاضرة، بل ولا محاضرات، وهو أمر يطول، لهذا فإنني سوف أقتصر على الحديث عن ثلاث نقاط:-
الأولى: الحديث عن الاختلاف بين العلماء، والموقف الصحيح منه.
والثانية: هي الحديث عن قضية الاجتهاد والتقليد.
والنقطة الثالثة: هي الإشارة إلى بعض المحاذير والأخطاء التي يتخوف من وقوع بعض المتفقهين فيها.
أولاً: طبائع البشر تختلف وتتفاوت تفاوتاً عظيماً، سواء في ذلك العلماء أو غيرهم.
ثانياً: الصحابة رضي الله عنهم، وهم أفضل البشر بعد الأنبياء علماً وعملاً وإخلاصاً وتجرداً، وأقواهم عقولاً، وأعلمهم باللغة، وأسلمهم فطرة، ومع ذلك اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل كثيرة جداً مبثوثة في كتب العلم، ثم إن الأسباب التي أدت إلى اختلاف العلماء في السابق هي موجودة اليوم، بل هي اليوم موجودة بصورة أعظم مما كانت موجودة في الماضي، وما يقوله البعض من أن العلم تيسر، والمطابع أصبحت تدفع بأعداد كبيرة من الكتب إلى آخره، هذا كله غير كافٍ في إثبات إمكانية جمع المسلمين على كلمة واحدة في كل مسألة.
لذلك فإنني أقول: إن من المهم أن نعرف أن الخلاف بين العلماء أمر لابد منه -في الأصل- وعلينا ألا نتعب أنفسنا في التخلص من هذا الخلاف بالكلية، ورفضه نهائياً، أو دعوة الناس إلى أن نجمعهم على قول واحد في جميع المسائل الجزئية والفرعية، لكن الموقف الصحيح الذي يجب أن نتخذه من هذا الخلاف، هو الذي يجب أن نبحث فيه وندرسه بصورة صحيحة حتى يكون الخلاف بين العلماء إيجابياً مثمراً، وليس خلافاً ضاراً بالمسلمين.
ويقول الإمام أيوب السختياني رحمه الله: أجسر الناس على الفتيا أقلهم معرفةً باختلاف العلماء، وأورع الناس عن الفتيا، أكثرهم وأعلمهم باختلاف العلماء، وذلك لأن الإنسان إذا لم يعرف الخلاف يأخذ المسائل -أحياناً- بشيء من البساطة، دون أن يدرك الأقوال الأخرى، والأدلة التي تمسك بها هؤلاء الأقوام، فإذا اطلع على الخلاف أصبح متصوراً للموضوع كاملاً، وقادراً على أن يختار من بين هذه الآراء والأقوال ما يجده أسعد بالدليل وأقرب إلى الكتاب والسنة، فهذه قضية.
القضية الثانية: أنه لا يجوز أن نختار من أقوال العلماء ما يعجبنا أو ما نشتهيه نفسياً دون دليل ودون تعليل، فبعضهم يعرض الأقوال في مسألة من المسائل، ثم يقول: أنا أميل إلى هذا القول، فتقول له: لماذا؟
هل معك حديث أو آية، أو تعليل صحيح، أو قياس؟
فيقول: لا، ولكنني أطمئن لهذا القول، وتطمئن إليه نفسي، واطمئنان النفس ليس من ضمن الأدلة الشرعية.
ثالثاً: يجب عدم التشدد أو التشديد على المخالفين، بل التحلي بالحلم وسعة الصدر، ولذلك كثر عن السلف الثناء على الحلم ومدح أهله وبيان أنه قرين العلم، يقول عطاء -مثلاً-: ما أوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ويقول طاوس: ما حمل العلم بمثل جراب حلم، ويقول الشعبي: زين العلم حلم أهله، وهذه الآثار كلها رواها الدارمي في سننه.
إذاً: فعلينا أن نتحلى بالحلم وسعة الصدر، ومادمنا نعرف أن الخلاف واقع، فليس من الصواب أن نحمل على المخالفين، ونتهمهم -دائماً- بأنهم غير متجردين، أو بأنهم متمسكين بآرائهم، لأنك إذا قلت عن أحد: إنه متمسك برأيه، وقد ناقشته في مسألة فلم يقبل، فإنه هو يقول عنك الكلام نفسه، فيقول: فلان متمسك برأيه وقد ناقشته في مسألة فلم يقبل، وليس قبول كلامك فيه بأولى من قبول كلامه فيك.
رابعاً: ينبغي أن يعلم أنه ما من عالم إلا وله زلة، أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه، وأبى الله أن تكون العصمة إلا لرسله، ومن عدا ذلك فلا يمكن أن يسلم من الخطأ بصفة نهائية، وإذا كان الصحابة قد خطّأ بعضهم بعضاً في مسائل من العلم، فغيرهم من باب الأولى.
وهناك أشياء من العلم يسميها العلماء المسائل الشاذة أو شواذ العلم، وكل عالم أو فقيه أو إمام تجد له مسألة أو مسألتين أو أكثر من ذلك خالف فيها جماهير العلماء، وخالف فيها الدليل الصحيح -أيضاً- لكن عن اجتهاد وحسن نية، وليس إعراضاً عن الحق، فعلى الإنسان أن يعرف هذه الشواذ من العلماء فيجتنبها؛ مهما يكن هذا الإمام أو العالم الذي وقع فيها، إماماً مشهوراً ومتبوعاً ومتفقاً على جلالته، فخطؤه لا ينقص من قدره، وإنما يثبت بشريته فحسب، وكما قيل:-
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
خامساً: يجب عدم التعصب للأشخاص أو الشيوخ، والدخول في معارك في تفضيل فلان على فلان، سواء من الأئمة الذين ماتوا وبقيت آثارهم ومذاهبهم، أو من العلماء الذين من الله على هذه الأمة بوجودهم اليوم، فلا نشتغل بأن فلاناً أفضل من فلان، ومذهبه أحسن من مذهبه وأقواله أصوب، ونثير معاركاً كلامية طويلة في هذا الباب، وأستأنس لهذه القضية بالقصة التي رواها الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال:{كان رجل من اليهود يبيع سلعة في السوق، فأعطي بها ثمناً أقل مما يريد، فكأنه لم يرتضِ هذا الثمن، فقال: لا والذي فضل موسى على العالمين - يعني لا أبيع هذه السلعة- فتصدى له رجل من الأنصار فلطمه، وقال: تقول: والذي فضل موسى على العالمين، ومحمد صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فذهب هذا اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشتكى إليه، وقال: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً، وقال: إن فلاناً الأنصاري قد لطمني في وجهي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأنصاري، وقال له: لم لطمته؟ قال: يا رسول الله إنه قال: والذي فضل موسى على العالمين، وأنت بين أظهرنا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رؤي الغضب في وجهه، وقال: لا تفضلوني، لا تفضلوا بين الأنبياء، فإنني حين يصعق الناس ثم ينفخ في الصور أكون أول من يفيق -أو في أول من يفيق- فأنظر فإذا موسى قابض بقائمة العرش، فلا أدري أأفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور
وهذا الحديث يمكن أن نأخذ منه عدم الدخول في معارك في المفاضلة بين العلماء، خاصةً إذا كان ذلك يوهم تنقص بعضهم وازدرائه أو نسبتهم إلى شيء من الجهل أو الهوى أو ما شابه ذلك، أو يدعو إلى تفرق أو اختلاف.
فهذه أهم القضايا التي يجب أن نضعها في اعتبارنا ونحن ننظر في الخلاف بين العلماء، ولا يجوز -أيها الإخوة- أن تكون هذه القضايا التي وسعت الصحابة والتابعين والمسلمين الأولين ميداناً للخصومة والتنافر والتنافس بين المسلمين.
فما قيمة العالم المتميز بمعرفة الدليل، والحديث الصحيح، والحديث الضعيف إلى آَخره؟
ولنفترض -مثلاً- أن واحداً أو أكثر من هؤلاء الذين قلت: إنهم يجب عليهم أن يجتهدوا وألا يقلدوا أحداً، لنفترض أن منهم من قال: أنا اجتهدت، فوصل اجتهادي إلى نتيجة، وهي وجوب التقليد لي ومن كان على شاكلتي! فما موقفك حينئذ؟ فهو اجتهاد أمرت به فوصل إلى هذه النتيجة بطريقة صحيحة، وهذا يدل على فساد هذا القول.
وهناك طرف آخر مقابل له، يقول: بأن باب الاجتهاد قد أغلق، وأنه لا يجوز للإنسان أن يجتهد في مسألة جزئية ولا غيرها، بل عليه أن يقلد إماماً من الأئمة، وألا يخرج عن قوله أبداً، وهذا القول -أيضاً- قول مرجوح لا دليل عليه، فإن الله عز وجل يسألنا يوم القيامة، فيقول: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] ولا يسألنا ماذا أجبتم فلاناً أو فلاناً؟
بل يسألنا ماذا أجبتم المرسلين؟
والقول الوسط في قضية الاجتهاد والتقليد، يتلخص في النقاط التالية:-
فيقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: سراج أمتي أبو حنيفة، وهذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يأتيك آخر فيقول لك: يجب اتباع الإمام مالك، تقول له: لماذا؟
فيقول لك: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وأحمد وغيرهما: {يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة} وينـزل هذا الحديث على الإمام مالك، ويبني عليه نتيجة غير صحيحة، وهي أنه يجب اتباعه، وقد يأتي ثالث فيقول لك: يجب اتباع الإمام الشافعي، تقول له: لماذا؟
يقول لك: لأن الإمام الشافعي قرشي والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتفق عليه: {الأئمة من قريش} ورابع يقول لك نتبع الإمام أحمد، وخامس وهكذا، فنقول هؤلاء الأئمة كلهم يقتبسون من مشكاة الكتاب والسنة، وأقوالهم على العين والرأس، لأننا نعتقد عقيدة في قلوبنا أنه لا أحد منهم يتعمد مخالفة ما صح لديه من مفهومات الكتاب والسنة.
إذاً: فلو كنت شافعياً، أو مالكياً لم يجز لي عند الله عز وجل أن أترك الحديث الصحيح لقول إمامي، لأن إمامي يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وهو لا يرضى بأن أترك الحديث الصحيح إلى قوله.
رابعاً: فإن هذه القضية التي أشرت إليها وهي قضية اتباع الحق ولو خالف المذهب؛ قضية جوهرية وذلك لأنه شاع عند كثير من الناس، أن التمذهب يعني اقتصار الإنسان على قول إمام المذهب الذي ينتسب إليه، وصار من الصعب على كثير منهم أن يترك قول إمامه للآية أو الحديث الصحيح؛ وهذا خطر عظيم، والإنسان الذي يعرف الحق عياناً ظاهراً ثم يتركه لأنه مخالف لمذهبه يخشى عليه أن يكون ممن قال الله عز وجل فيهم أو في أمثالهم: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] وتفسير هذه الآية الذي لا إشكال فيه، هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من حديث: {أليسوا يحلون لكم الحرام فتطيعوهم، ويحرمون عليكم الحلال فتطيعوهم، قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم}.
وأنا حين أقول ذلك أنتقد نفسي كما أنتقد غيري- إننا نحن الشباب في كثير من الأحيان، نميل إلى مخالفة المألوف والمعروف، ونميل إلى بعض الأقوال ولو لم يكن دليلها قوياً لمعنى قام في نفوسنا، ويعجبني في هذا المقام الكلمة التي ربت بها أمنا عائشة رضي الله عنها أحد الشباب الذين كانوا يتفقهون، وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، فقد كان من التابعين الذين يتلقون العلم عن الصحابة وعن أمهات المؤمنين، فكان يخالف في بعض المسائل، فسأل عائشة رضي الله عنها -كما يقول هو فيما رواه مالك في الموطأ والترمذي، أنه سال عائشة رضي الله عنها- فقال لها: يا أم المؤمنين متى يجب الغسل؟
وهو بهذا يتساءل عن قضية اختلف فيها الصحابة ومن بعدهم، هل يغتسل الرجل بالإنـزال أو يغتسل بمجرد أن يجاوز الختان الختان؟ ولا شك أن القول الصحيح أن الرجل إذا جاوز ختانه ختان المرأة وجب عليه الغسل ولو لم ينـزل، فقالت له عائشة رضي الله عنها تؤدبه: [[يا
ولذلك تجد الواحد منا -أحياناً- وهو لا يزال في بداية الطلب يبحث في مسألة فيقول: المسألة فيها أقوال كذا وكذا، وعندي أن الصواب كذا وكذا، وكلمة عندي من الكلمات التي لا يستعملها إلا العلماء أو الناس الذين لهم قدر.
وكذلك تجد بعض الإخوة إذا ألف كتاباً أو رسالة أو تكلم يكتب في الصفحة الواحدة أو بين كل كلمة وأخرى: قلت، وقلت، وهذه الكلمة -أيضاً- لا ينبغي أن يستعملها إلا العلماء، وهكذا استعمال ضمائر المتكلمين، ونرى، ويظهر لنا، وما أشبه ذلك كل هذه الأشياء، وإن كانت أموراً شكلية، إلا أنها تدل على نوع من الاعتداد الزائد بالرأي وبالشخصية، وأرجو ألا يفهم كلامي هذا خطأ، فأنا لا أدعو إلى الجمود على قول معين -كما قلته صراحة- ولا إلى ترك الحق الظاهر، لأنه مخالف لقول الجمهور -مثلاً- كلا، وإنما أدعو إلى الاعتدال فلا نجمد عند تقليد إمام معين.
كذلك لا تنعكس الأمور فيصبح الواحد منا وهو لم يحفظ الأربعين النووية -مثلاً- أو لم يحفظ من آيات الأحكام إلا القليل، أو لا يعرف في اللغة العربية إلا شيئاً يسيراً، يتصدى للكلام في المسائل العويصة ويفتي فيها، دون نظر في أقوال الأئمة.
ولا غرابة أنه يوجد اليوم بين المسلمين من العلماء من لم يكن للمسلمين عهد بمثله منذ زمن، ولو أردنا أن نضرب أمثلة لذلك -مثلاً- لوجدنا أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله أو فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين أو فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أو غيرهم من العلماء -وهم بحمد الله كثير- هم أئمة أفذاذ، قد نقول: إنه يندر توفر مثل هؤلاء في وقت وزمان واحد، وأن الله قد امتن على هذه الأمة بوجودهم.
لكن ينبغي أن ننتبه إلى أن الإنسان الحي تقبل أقواله وآراؤه وتعيش أكثر من الإنسان الميت، ويجد من وسائل الانتشار والتلاميذ الذين تلقوا عنه وأعجبوا بشخصيته وقوته وجر أته في الحق وفضله، من يغلب هذا عليهم فتصبح أقوال هذا الإمام عنده مقدمة، وهذا أمر قد يكون طبيعياً في بعض الأحيان، لكن على الإنسان ألا ينسى أنه إذا كان يحارب التقليد، فحينئذ عليه ألا يترك أو يحارب تقليد إمام متقدم ليقلد إماماً متأخراً، بل يأخذ الحق ممن جاء به.
بل نقول: يجب طرق القضايا الفقهية والقضايا الفرعية وبحثها والحديث عنها ونشرها بين الناس، ولا يعني الاختلاف فيها بيني وبينك أنني أتخذ منك موقفاً لأنك خالفتني في مسألة أو لأنني خالفتك في مسألة، والناس يقولون كلمه حق: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وعوامل الأخوة والتقارب بين المسلمين أقوى بكثير من عوامل التباعد مع أن الاختلاف بمجرده ليس من عوامل التباعد.
وأقول: يجب أن يفرق بين عمل الإنسان بالشيء لخاصة نفسه، وبين فتياه لغيره، فالإنسان قد يجد نفسه -أحياناً- مضطراً لأن يفتي لنفسه في مسألة من المسائل، ولو لم يكن أهلاً لذلك، لكن أن ينشر هذه الفتيا على الناس، بأي وسيلة من وسائل النشر، فهذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأن الناس أصبحوا يتعبدون الله عز وجل بفتياه، وقد أشار إلى الفرق بين فتيا الإنسان لنفسه خاصة، وبين فتياه للناس عدد من الأئمة، منهم الإمام ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم في الجزء الثاني الصفحة الثمانين.
وقديماً قيل: من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه، وكان يزيد بن هارون رحمه الله يحث الطلاب على حضور مجالس العلم والأخذ عن الشيوخ، ويقول: من غاب خاب، وأكل نصيبه الأصحاب، فبقدر تخلف الإنسان عن حضور مجالس العلم والأخذ من العلماء ينقص تلقيه، واليوم أصبحت الوسائل أكثر تيسيراً، فبإمكان الإنسان أن يحضر حلقات المشايخ والعلماء ودروسهم وغير ذلك.
لكن قد يقول قائل: ربما لا يتيسر لي ذلك وقد يتساءل البعض بالنسبة إلى الأخوات الحريصات على التفقه.
فأقول: إن الأمر قد أصبح ميسوراً أكثر من ذي قبل، وعلى سبيل المثال، نجد أن دروس العلماء والأئمة تسجل في أشرطة، وتنشر بين الناس في كل مكان، فتجد أشرطة للشيخ ابن باز والشيخ ابن جبرين والشيخ ابن عثيمين، والشيخ الألباني وغيرهم من أهل العلم وهذه الأشرطة متخصصة ومتسلسلة، وفى علوم شتي، فيأخذ الإنسان يمسك فناً من الفنون أو علماً من العلوم، ويسمع هذه الأشرطة ويتابع في الكتب التي تشرح، ويسجل كل ما أشكل عليه في ورقة ثم يسأل عنه، سواء بصفة مباشرة أم بواسطة التليفون، أم بغير ذلك، فقد أصبحت الوسائل اليوم ممكنة في الأخذ عن العلماء والاستفادة من علمهم أكثر من أي وقت مضى، وأنصح نفسي وإخواني وأخواتي بالحذر من الاعتماد على النفس في العلم، لأن الإنسان كلما ازداد علمه كلما ازداد علماً بجهله، كما يقول الشاعر:-
وكلما أزددت علماً ازددت علماً بجهلي |
وهذا -والله- حق فكلما ازداد الإنسان اطلاعاً على العلم ومعرفة له كلما ازداد علمه بجهله، لأنه يدرك حينئذ أن العلم بحر، لا يدرك له ساحل، وأن ما حصله منه إنما هو شيء يسير بالقياس إلى ما يجهله، وهذا يجعله يتواضع ويدرك الحاجة الدائمة إلى الأخذ عن العلماء والتلقي عنهم والاستفادة منهم.
أقول: لا، لا ينقل الفتيا إلا من فهمها فهماً جيداً أولاً، ثم من كان لدية القدرة على نقلها بصورة صحيحة، ثم من يوثق بأنه يملك قدراً من العلم يجعله يعرف الفرق بين الأشياء، ويدرك ما يؤثر في الحكم وما لا يؤثر، وما يغير معنى الكلام وما لا يغير.
واليوم -أيضاً- أصبحت وسائل التوثيق موجودة، وبإمكانك أن تكتب هذه الفتيا على ورقة أو أن تسجلها في شريط، حتى تكون موثقة ومطمأناً إليها، فلو أحببت أن تنشرها للناس، فأطلع عليها هذا العالم الذي أفتى بها، وافترض أنك سألت عالماً عن مسألة، فأفتاك فيها بقول وقد يكون أفتاك بملابسات شخصية تعنيك أنت، وقد يكون تسامح في العبارة، فاكتب هذه الفتيا في ورقة واعرضها على الشيخ، وقد حصل أن أحد العلماء المشار إليهم بالبنان، كان يتكلم مع طلابه، وطلابه يسجلون ما يقول ويكتبون بعده، فلما عرضوه عليه، أصلح منه أشياء كثيرة، وعدل وزاد ونقص، وهذا أمر طبيعي ليس بالغريب، لكن يجب أن نفهمه حتى لا ننقل فتيا أحد إلا بعد التثبت منها.
فنقول: إن الله عز وجل قد يسر القرآن للذكر كما أخبر عز وجل، وصحيح أنه لا يجب المبالغة في وضع العقبات والعراقيل أو اشتراط الشروط المعينة في الإنسان الذي يريد أن يأخذ من القرآن والسنة، لكن من المعروف في كل مجال أن كل علم أو فن له أهله، فمثلاً الأطباء لا يرضون أن يتدخل مهندس فيتكلم في قضاياهم، ويعطى وصفات طبية -مثلاً- ويعتبرون هذا نوعاً من الخطأ، يعاقب عليه الفاعل والعكس كذلك.
فما بال القضايا الشرعية هي التي أصبحت يتدخل فيها كل أحد، ونحن لا نمانع أن يتكلم الطبيب أو المهندس أو أي نوعية من الناس في قضايا الدين بعدما يتحقق فيه قدر معين من الشروط، ولابد من الاتفاق على هذه الشروط، أما أن يتكلم الإنسان في هذه الأمور دون أن يكون له فيها خلفية، فهذا يسيء أكثر مما يحسن، ويفسد أكثر مما يصلح.
وأقول في الختام: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
أنا أريد أن أكون من الداعيات إلى الله بما علمت من الحق، وأريد أن أساعد أخواتي المسلمات بمعرفتي فيه، ولما أرى، مما تقع فيه الفتاة الملتزمة، وقد بدأت أتعلم في مدرسة ولكني أشكو إلى الله تعالى قلة حفظي ونسياني كثيراً من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وأيضاً لا أعرف كيف ومن أين أبدأ، وأي الأمور أهم بالنسبة لي، فهلاَّ ساعدتموني، جزاكم الله خيراً.
الجواب: لعل هذا السؤال ينم بلا شك عن حرص شديد على تحصيل العلم, وأعود فأقول: ربما يكون الاستعجال -أحياناً- سبباً في فوات بعض الخير على الإنسان، فعلى الشاب والشابة ألا يكونا عجولين بتحصيل العلم، وأن يحرصا على الأناة وطول النفس، ومع الزمان والدأب والإصرار يحصل المرء على خير كثير، ولو أن الإنسان كلما قرأ أو سمع حفظ لوجدت أن كثيراً ممن يوجدون اليوم بيننا جهابذة يفوقون غيرهم من العلماء السابقين لأنهم قرأوا وسمعوا الكثير، ولأنهم قرأوا ما كتبه أولئك وما كتبه من بعدهم، لكن كل الناس يقرأ فينسى، ثم يقرأ نفس المعلومة مرة ثانية فينساها ثم يقرؤها مرة ثالثة فترسخ في ذهنه، فالتكرار والبدء والإعادة هو سبب مهم جداً في الحفظ والاحتفاظ بالمعلومات.
قضية ثانية وهي: أن الاستمرار في هذا الأمر والتدرب عليه يوسع عقل الإنسان ويقوي ذاكرته، وهذه القضية عرفها سلفنا الصالح، فيقول الزهري مثلاً: إن الإنسان ليطلب العلم، وقلبه كالشِّعب فما يزال يطلب العلم حتى يكون قلبه كالوادي، يعني أن الإنسان من استمراره في طلب العلم تتسع مداركه وتقوى ذاكرته، كما أن هذا الأمر قد عرفه التربويون المعاصرون وتحدثوا عنه، وهو أن الذاكرة تقوى بالتمرن والاستمرار والتدريب.
فعلى الأخت أن تستمر في هذا الطريق، وأن تدرك أنها حتى لو انتهت أيامها وهي في هذا الوضع التي تتحدث عنه، فهي في جهاد، ومن الجميل أن يلقى الإنسان ربه على مثله إذا حسنت النية وحسن القصد، وإننا بالاستمرار والدأب نحصل على شيء كثير، لكن علينا أن نتجنب الاستعجال.
الجواب: هل الله سبحانه وتعالى ينعي على أهل الكتاب الخلاف بسبب العلم؟
كلا، بل بسبب البغي، فهذه الآية دليل على تحريم البغي بين الناس، أما أن العلم جاءهم، فهذا وصف لإقامة الحجة عليهم، فالله عز وجل يقول لم يكن اختلافهم ناتجاً عن وجود الجهل، وإنما كان اختلافهم مع وجود العلم، إذاً فما السبب؟ السبب هو البغي.
إذاً: فالجهل من أسباب الخلاف والبغي من أسباب الخلاف، أما العلم فإنه من أسباب جمع الكلمة، لأن العالم الحقيقي هو من يملك سعة في صدره، وفسحة في قلبه، وإدراك أن هذا الخلاف بين الناس ما دام منطلقاً من الكتاب والسنة، وما دام المخالف متبعاً لدليل فإنه يسعه ذلك، ولا ينبغي أن أتخذ منه موقفاً معادياً.
الجواب: بالنسبة للكتب المعينة على التفقه فكثيرة جداً، أذكر منها: كتاب لـابن عبد البر جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، ويوجد كتاب للخطيب البغدادي رحمه الله اسمه الفقيه والمتفقه، ويوجد مجموعة من الكتب في آداب طالب العلم والمتعلم، مثل: تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم لـابن جماعة، ومثل تعليم المتعلم طرق التعلم للزرنوجي، ومثل الحث على طلب العلم للعسكري، ومثل كتاب منتهى الإرب للشوكاني، وغيرها من الكتب وأنصح الإخوة والأخوات الحريصين على التفقه، أن يقرءوا هذه الكتب ويستخرجوا منها الفوائد المتعلقة بطريقة التعلم ووسيلتها فهي كتب نفيسة.
أما بالنسبة للتلقي عن الشيوخ، فأنصح نفسي وإخواني وأخواتي بأن يعدد الإنسان وينوع مشايخه الذين يتلقى عنهم، حتى يكون عارفاً بخلاف الناس، ويكون لديه قدرة على اختيار الأسلم والأقرب، وحتى يسلم من التعصب لشيخ معين أو لرأي معين، وحتى يكتشف ما قد يقع فيه شيخه من أخطاء.
ولذلك قال أيوب رحمه الله كما في سنن الدارمي: إذا أردت أن تعرف خطأ شيخك فجالس غيره.
وما مدى صحة هذه العبارة؟
الجواب: العبارة في حد ذاتها صحيحة، وكيف نسأل عن صحتها وقد قالها رسول الله صلى عليه وسلم؟
لكن لعل السائل يسأل عن صحة الحديث، فالحديث صحيح، لكن يجب أن نعرف معنى هذه العبارة، ومتى يحتاج إليها الإنسان.
فإن الإنسان في كثير من الأحيان قد يعرف الحق فيتمحل الوسائل لترك الحق إلى الباطل؛ لأن الحق لا تأنس به نفسه والعكس، فقد يعرف الإنسان الباطل والخطأ فيتمحل الوسائل والتأويلات للوقوع في هذا الخطأ؛ لأنه مع أنه أمر يريده يعرف أنه في قرارة قلبه أن هذا الأمر خطأ.
الأمر الثاني: إن الإنسان الذي رزق تقوى واستقامة ونقاء وصفاء في قلبه، بلا شك أن قلبه قابل للحق أكثر من ذلك الإنسان هو الذي مظلم القلب.
الأمر الثالث: أن العلماء ومنهم ابن عبد البر ذكروا أنه قد يوجد حالة محدودة ونادرة وتعتبر استثناء من الأصل قد يلجأ الإنسان فيها لمثل هذا، وذلك متى؟
حين يبحث في المسألة ويجمع الأدلة، ويسأل الناس، ثم يقف مع ذلك كله غير قادر على الترجيح بواسطة الدليل فهذا منتهى قدرته، فحينئذٍ يمكن أن يلجأ إلى ما تطمئن إليه نفسه بعد ذلك.
ولذلك تجد بعض العلماء الكبار المشار إليهم، يقول: والذي تطمئن إليه النفس، لكن اطمئنان نفسه ليس على سبيل التشهي والرغبة، بل لأنه من كثرة ممارسته لبحث النصوص، وكثرة سماعه لها ومعالجته لها، تكون لديه ملكة في ذلك، كما كان يوجد لدى بعض المحدثين ملكة يعرفون بها علل الحديث، ولو لم تكون العلل ظاهرة.
الجواب: لا شك أن الحالة النفسية ذات تأثير كبير في تحصيل الإنسان وطلبه، ولذلك على الإنسان حين يطلب العلم أن يبحث على الوسائل المعينة المريحة لنفسه، كأن يبحث في جو مناسب، وفي جو هادى، وفي وسط قوم يحبهم، فيبحث وهو مرتاح، أما لو بحث وهو منفعل مثلاً، أو هو مشغول القلب في أمر من الأمور أو في وسط قوم يكره مجالستهم أو مثل ذلك، فهذا لا شك يؤثر في تحصيله.
الجواب: الناس يتفاوتون، والله سبحانه وتعالى يقول بالنسبة لرسله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] فالتفاضل موجود بين الرسل عليهم الصلاة والسلام وبين الناس وبين العلماء، لكن لا يجوز أن يكون هذا التفاضل بين العلماء مدعاة للتحزب والتعصب، أو سبباً في معارك تثور بين أتباع هذا الإمام وأتباع هذا الإمام، وكل ينتصر لنفسه، أو أن تكون بقصد تنقص الشخص المفضول ونسبته إلى شيء من الخطأ أو التقصير أو ما أشبه ذلك.
الجواب: يسمون -كما يقول الأخ السائل- بالألبانيين، نسبة إلى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، وهو من الأئمة والعلماء المعاصرين الذين خدموا السنة النبوية خدمة جليلة، ولا يبعد أن يصدق فيه قول بعض أهل العلم: أنه لا يعرف في زماننا هذا أحد خدم سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما خدمها الشيخ حفظه الله وأمد في عمره على عمل صالح وتقبل منا ومنه.
وهؤلاء المنسوبين إلى الشيخ لا أعتقد أنهم يرضون بهذه النسبة أو يوافقون عليها، وإنما قد يسميهم بها غيرهم من الناس لملحظ لحظه، وهو أنهم يعتنون كثيراً بكتب الشيخ وبالأخذ عنه.
وأقول: لا يجوز الانتساب لأي شخص معين حين يكون هذا الانتساب يعين التلقي عنه دون غيره أو التعصب له أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن هذا موجوداً لدى كثير من هؤلاء الشباب والأخوات، لكن من الحق أن أقول: إن الحي دائماً يملك من وسائل الانتشار أكثر من الميت، ولذلك يقول الشاعر:-
والحي قد يغلب ألف ميت |
فمن هو الذي يمكن أن يقول أنه سيوجد على مدى التاريخ إمام كالإمام البخاري أو الإمام أبي حاتم الرازي أو أبي زرعة أو أحمد بن حنبل أو غيرهم من الجهابذة، وقد أصبح كثير منا يسمع حكم الإمام أحمد أو الإمام البيهقي أو الإمام البخاري أو الدارقطني على الحديث مثلاً، فلا يعير هذا الحكم اهتماماً، فإذا سمع من يقول صححه فلان من العلماء المعاصرين اعتبر هذا أمراً نهائياً، وهذا إن وجد فهو يعتبر خطأ، وهؤلاء العلماء أنفسهم لا يرضون مثل ذلك؛ لأنهم من الفضل بحيث لا يقرون أن يقلدهم الناس ويتركوا غيرهم دون معرفة بالدليل، ويقول البعض: لأن هؤلاء المشايخ المعاصرين يذكرون الحديث ويفصلون القول فيه والتخريج، وأقول ارجع قليلاً إلى الوراء وانظر إلى إمام كالحافظ ابن حجر -مثلاً- في خدمته للسنة واستحضاره للأدلة، وجمعه للطرق فإنك تجده فذاً ولا يكاد يكون له نظير، واقرأ في فتح الباري، واقرأ في كتابه نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، واقرأ في غيرها من الكتب فإنك تجد العلم الغزير -أيضاً- فكما يوجد عند العلماء المعاصرين فضائل هي -أيضاً- موجودة وأكثر منها عند المتقدمين.
وأقول: يجب على كل طالب علم أن يوقر أهل العلم ويعظمهم ويثني عليهم ويعرف لهم قدرهم ويدافع عنهم ضد من قد ينال منهم، يستوي في ذلك الشيخ الألباني وغيره من العلماء، لكن لا يعني هذا أن يقصر الإنسان نفسه على التلقي على هذا الشيخ والتشبع بآرائه وشغل الحياة كلها بالدعوة إلى هذه الآراء والنقاش حولها وإقناع الناس بها، خاصة إذا كان هناك أراء فقهية، خولف فيها هذا العالم الجليل من قبل علماء آخرين أجلاء، سواء من العلماء الماضين أو من العلماء المعاصرين، وكل يؤخذ من قوله ويترك.
ولكن أقول بالمناسبة يجب أن نحمي ظهور هؤلاء العلماء، لأننا نجد بعض أهل البدع وبعض المنحرفين وبعض الجهال قد ينالون من هؤلاء العلماء أو يطعنون فيهم أو يسبونهم والعياذ بالله فعلى المسلم أن يذب عن عرض أخيه، فضلاً عما إذا كان عالماً له منـزلته ومكانته، ولحمه مسموم ولا يجوز النيل منه، فعلينا أن نحتسب عند الله حماية ظهور هؤلاء العلماء والدفاع عنهم، ومعرفة قدرهم دون أن يؤدي بنا ذلك إلى أن نرفعهم فوق رتبتهم حيث هم لا يريدون ذلك، وهو -أيضاً- أمر غير مطلوب شرعاً.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر