الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فهذه رسالة (أصول السنة) لإمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى: [أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدع؛ وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات في الدين].
هذه رسالة للإمام أحمد في أصول السنة، والأصل: هو ما يبنى عليه غيره، أو ما يتفرع عنه غيره كأساس الحيطان وأصول الشجر، والمعنى: أن السنة لها أصول تتفرع عنها، فأصل الأصول هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم، فإذا حقق الناس هذه الأصول وتمسكوا بالكتاب والسنة وتمسكوا بما كان عليه الصحابة فإنهم بذلك سيكملون ما يتفرع عن هذه الأصول.
قوله: (السنة) يعني: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي التي تفسر القرآن، وذلك لأن الله أمره بالبيان فقال: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44].
والسنة المأمور باتباعها هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته التي نقلت عنه، فهي شرح لمعاني القرآن وإيضاح له، فيقتصر عليها ولا يلحق بها غيرها مما لا يساويها، وهذا معنى قوله: (لا يقاس عليها) ولكن إذا اتضح الحكم عُمم في كل ما يدخل فيه، وإذا اقتصر الإنسان على السنة واكتفى بها ففيها الكفاية، ومن زاد عليها أو أضاف إليها شيئاً فهو مبتدع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكل بدعة ضلالة) يعني: أن المبتدع ضال وتائه ومخطئ، والسني المتمسك بالسنة هو المصيب، وهو الذي على هدىً ونور من الله.
أولاً: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لمَ؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق والإيمان بها، ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله، فقد كفي ذلك وأحكم له، فعليه الإيمان به والتسليم، مثل حديث الصادق المصدوق، ومثل ما كان مثله في القدر، ومثل أحاديث الرؤيا كلها، وإن نبت عن الأسماع واستوحش منها المستمع، وإنما عليه الإيمان بها، وألا يرد منها حرفاً واحداً، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات، وألا يخاصم أحداً ولا يناظره، ولا يتعلم الجدال، فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه ومنهي عنه، لا يكون صاحبه وإن أصاب بكلامه السنة من أهل السنة حتى يدع الجدال ويؤمن بالآثار].
الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، وهو: أن يؤمن العبد بأن الله علم ما سوف يكون وكتب ذلك في اللوح المحفوظ. ويؤمن بأنه لا يكون في الوجود شيء إلا بعد إرادة الله، ولا يكون إلا ما يريد. ويؤمن بأن الله خالق كل شيء، وأنه ليس من شيء موجود من المخلوقات ومن الأفعال ومن الأحكام إلا والله خالقه، وعندئذ يؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
وكما في حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)، أي: يكتب ذلك وهو في بطن أمه، ولما سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (ألا ندع العمل ونتكل على كتابنا؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
فنحن مأمورون بأن نعمل والله هو الذي ييسر الإنسان ويعينه لما خلقه له، فمن خلقه شقياً خذله حتى يعمل عمل أهل الشقاوة، ومن خلقه سعيداً يسر الله له أسباب السعادة.
وأما الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة فهذا -أيضاً- ثابت، وقد جاءت به الأحاديث، وأنكر ذلك الإباضية وغيرهم من المعتزلة، ولا يُعتد بإنكارهم.
وكذلك -أيضاً- يتجنب الجدل الذي هو الخصومات والمنازعات التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل على المؤمن أن يستسلم لما يعرفه، ولا يرد شيئاً إذا ثبت ولم يعرفه، ولا يسأل عن الأشياء الغيبية، فلا يقول: لماذا خلق الله كذا؟ ولماذا أمر الله بكذا؟ بل يقول: سمعنا وأطعنا، دون أن يسأل عن الكيفية في أسماء الله وصفاته، ولا عن العلل بأفعال الله وأحكامه، فما عرف منها قبله، وما لم يعرفه استسلم له.
من المسائل التي تكلم فيها الأولون والآخرون أيضاً: القرآن، فأهل السنة يعتقدون أنه كلام الله أنزله الله على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم، وتكلم الله به حقيقة وكتبه أو أمر بكتابته في اللوح المحفوظ، وكذلك أمر بكتابته في الصحف وفي المصاحف، فهو لا يخرج عن كونه كلام الله، وأنكر ذلك المعتزلة وكذا الإباضية الذين في عمان وغيرهم أنكروا ذلك، وقالوا: إنه مخلوق، وجعلوه كسائر المخلوقات، ورد عليهم أهل السنة وبينوا أن الله تعالى متكلم، ويتكلم إذا شاء، وأن كلامه قديم النوع متجدد الآحاد، وأن من جملة كلامه هذا القرآن، وردوا على من قال: إنه مخلوق، وكذلك ردوا على من توقفوا وقالوا: لا ندري أمخلوق أو غير مخلوق؟ بل يجب الجزم بأنه كلام الله.
وقال أهل السنة في القرآن أيضاً: منه بدأ، وإليه يعود، فلا يجوز أن يُجعل شيء منه مخلوقاً، لا لفظه ولا معناه، بل هو كله كلام الله، تكلم به حقيقة. ويثبتون صفة الكلام -أن الله تعالى متكلم كما يشاء- ويتوقفون عن كيفية كلامه، أو التدخل في الأشياء الغيبية التي لا تبلغها الأفهام، فيقولون: نكل علم ذلك إلى الله تعالى.
كذلك أيضاً من أصول السنة: الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، ويرونه في الجنة كما يشاء، والأحاديث في ذلك صحيحة ثابتة، ولا عبرة بمن أنكر الرؤية ورد أحاديثها مع ثبوتها.
وكيفيتها لا نعلمها، إلا أننا نتحقق أن المؤمنين يرون ربهم عياناً مجاهرة بأبصارهم، وأن هذه الرؤيا هي أعظم نعيم الجنة، وفسرت بأنها هي الزيادة في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وفسر بها المزيد في قوله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، والأدلة عليها واضحة ومعروفة في كتب أهل السنة.
مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه مسألة خلافية، فأثبت ذلك ابن عباس كما في هذه الأحاديث، وأنكرت ذلك عائشة ، وأنكرت على من يقول: إنه رأى ربه. وقد ورد في ذلك أحاديث فيها عدم الرؤية، كما في حديث أبي ذر في صحيح مسلم قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه)، وفي رواية: (رأيت نوراً).
فهذا دليل على أنه إنما رأى نوراً، وقد أخبر بأن الله تعالى حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، ولكن الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه رؤية قلبية لا رؤية بصرية، وبذلك فسرت الرواية عن ابن عباس ، والدليل على هذا أن الله قد منع ذلك موسى، كما قال تعالى عنه: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] طلب موسى أن ينظر إلى ربه، فقال الله: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ... [الأعراف:143] الآية.
فرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه إنما هي مكاشفات قلبية لا رؤية بصرية، وذلك لضعف الإنسان في هذه الدنيا عن أن يثبت لعظمة الله وجلاله، أما في الآخرة فإن الله يمد أهل الجنة بقوة يتمكنون من رؤيته، ويثبتون أمام رؤيته؛ وليس خلقتهم في الجنة كخلقتهم في الدنيا.
من أصول أهل السنة الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بما أخبر الله به في اليوم الآخر، ومن ذلك أنه أخبر بالميزان، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا [الأنبياء:47].
قيل: إن العبد نفسه يوزن، والدليل قوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]، وفي الحديث: (يؤتى بالرجل السمين الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة).
وقيل: إن الأعمال تجسد وتوزن، والله قادر على أن يجعلها أجساداً ولو كانت أعراضاً، فتجعل الصلاة جسداً وتوزن، وكذلك الذكر، وكذلك الصوم وما أشبه ذلك، وتوزن -أيضاً- السيئات، فتجعل هذه في كفة وهذه في كفة.
وقيل: إن الذي يوزن هو الصحف التي تكتب فيها الأعمال، والسجلات التي سجلت فيها الأعمال من سيئات وحسنات.
وبكل حال يجب أن يؤمن العباد بذلك كما قال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأعراف:8-9].
فهذه أدلة واضحة على ثبوت الميزان، ولا عبرة بمن أنكره كالفلاسفة ونحوهم الذين قالوا: إنما يحتاج إلى الميزان البقالون والباعة ونحوهم، ونحن نقول لهم: إن هذا من إظهار العدل من الله تعالى.
من جملة ما يدخل في الإيمان بالآخرة وبالبعث بعد الموت، وبالجمع في يوم القيامة أن الله يكلم العباد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) أي: مترجم ينقل الكلام من لغة إلى لغة، بل يكلمه بكلام يفهمه ويعرفه ويتحققه، وهذا واضح في أنه تعالى يكلم عباده كما يشاء.
وهذا من جملة الإيمان باليوم الآخر، وقد ردت في الحوض أحاديث كثيرة قد تبلغ الثلاثين أو الأربعين حديثاً أخبر فيها صلى الله عليه وسلم بأن له حوضاً يوم القيامة؛ ترد عليه أمته، وأن هناك من يُذاد عنه، لأنه لم يكن متمسكاً بالسنة عاملاً بها؛ مع كونهم من أمته، عليهم علامة الأمة في كونهم غراً محجلين.
وهذا الحوض ورد أن طوله مسيرة شهر وعرضه مسيرة شهر، وفي بعض الروايات أنه: ما بين عدن إلى أبين، عدن بأرض حضرموت وأبين بأرض الشام، يعني: طوله وعرضه سواء وآنيته عدد نجوم السماء، ويصب فيه ميزابان من الجنة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، يرده المؤمنون، ويذاد عنه المنافقون والكافرون، وورود تحديده بأنه ما بين عدن إلى أبين يدل على أنه شهر بالمسيرة المعتادة التي كانوا يعرفونها.
وهذا أيضاً مما يدخل في الإيمان باليوم الآخر، فكل ما بعد الموت من حين تخرج الروح من الجسد فهو من اليوم الآخر يقال: من مات فقد قامت قيامته، أي: قد دخل فيما يكون بعد الموت.
ومما يكون بعد الموت الإيمان بعذاب القبر وبنعيمه، نؤمن بذلك كما وردت به الأحاديث الصحيحة، وكما ذكر ذلك واستنبطه العلماء من القرآن من بعض الآيات والأدلة، وأنه يأتيه ملكان، وردت تسميتهما (منكر ونكير) في بعض الروايات، وأنهما يسألانه: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ وأنه يفسح له في قبره إذا كان من المؤمنين، ويضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، فيصير القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. ويعم ذلك كل ميت، سواء قُبر أو لم يُقبر، فحتى ولو أكلته السباع أو أحرق وأذريت جثته في الرياح أو في البر والبحر، فإن الله قادر على أن يوصل إليه ما يستحقه من عذاب أو نعيم، والأحكام بعد الموت وفي البرزخ على الأرواح؛ لأن الأرواح باقية بعد مفارقتها للأجساد، ولكن لابد أن يصل شيء من الألم أو النعيم إلى الأجساد ولو كانت فانية.
وعلى كل حال يجب على الإنسان المؤمن أن يؤمن بما يكون بعد الموت مما ورد في هذه الأحاديث، ويحمله الإيمان على أن يستعد لذلك، وأن يعمل العمل الذي يكون سبباً في نجاته من تلك الأهوال.
وهذا أيضاً من الإيمان باليوم الآخر، ومن فضائل وميزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ما ورد عنه من أنه هو الشفيع المشفع في المحشر، وقد وردت أدلة كثيرة على أنه يشفع لأمته، ويشفع للخلق كلهم، فيشفع الشفاعة الأولى لمجيء الله تعالى لفصل القضاء، حتى يفصل بين عباده عندما يطول الموقف، وهذا بعدما يطلبون الشفاعة من أولي العزم: من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وعند ذلك إذا اعتذروا يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا لها).
كذلك -أيضاً- يشفع لهم أن يدخلوا الجنة، ويكون هو أول من يستفتح باب الجنة، وكذلك يشفع لقوم أن ترفع درجاتهم ومنازلهم من أهل الجنة.
وأما الشفاعة التي يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة فهي شفاعته لأهل الكبائر من أهل التوحيد أن يخرجوا من النار، فبعدما احترقوا وصاروا فحماً يخرجون من النار بعد مدة الله أعلم بمقدارها، ثم يلقون في نهر في الجنة يقال له: نهر الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم بعد ذلك يتنعمون بما يتنعم به أهل الجنة، وذلك لأنهم من أهل التوحيد ومن أهل العقيدة.
هذا من الإيمان بالغيب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الأمور المستقبلة الغيبية فلابد أن نؤمن ونصدق بها، وذلك لثبوتها بالسنة من طرق متواترة في أحاديث صحيحة، فمن الإيمان بالغيب الإيمان بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور المستقبلة الغيبية.
ووصف الدجال بأوصاف تبين أنه إنسان، وأنه أعور العين اليمني، وأنه فتنة يفتتن بها خلق كثير، ويثبت الله أهل الحق فلا يفتتنون به، ويعلمون أنه كذاب، ولذلك سمي دجالاً يعني: كثير الكذب وعظيم الدجل.
والأحاديث التي في نزول عيسى متواترة أيضاً، وأنه يقتل الدجال باب لد في الشام، وأن عيسى يقيم في المسلمين فيما بعد، فيكسر الصليب الذي للنصارى، ويقتل الخنزير الذي يأكلونه، ويضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف، وينتشر الإسلام كما يشاء الله؛ وذلك في الوقت المستقبل الله أعلم متى يكون ذلك.
مسألة الإيمان من المسائل التي تكلم فيها أهل السنة مع المرجئة وغيرهم. فقال أهل السنة: إن الإيمان قول وعمل، وإنه تدخل فيه العقائد، وتدخل فيه الأقوال والأعمال، فهو قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، فالأقوال -الأذكار ونحوها- تكون من الإيمان، والعقائد وأذكار القلب تكون من الإيمان، والأعمال البدنية داخلة في مسمى الإيمان، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) فكلمة: (لا إله إلا الله) من الإيمان، وهي قول باللسان، وإماطة الأذى من الطريق من الإيمان، وهي عمل بالبدن، والحياء من الإيمان، وهو عمل قلبي، وكذلك بقية شعب الإيمان.
كذلك أيضاً نقول: إن من الإيمان جميع الأعمال التي هي قربة، والإيمان يزيد بها وينقص بالمعاصي، فالإيمان عند أهل السنة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد أخبر الله بأنه يزيد في قوله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، وقوله جل وعلا: فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124]، وقوله سبحانه: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:173] ونحو ذلك، وكل شيء قبل الزيادة فهو قابل للنقصان، فالإنسان إذا ذكر الله وحمده وشكره زاد إيمانه وإذا تكلم بسوء أو سباب أو شتم أو معصية نقص إيمانه، وهكذا.
ومن الأعمال التي هي من جملة الإيمان: الصلاة؛ فإنها من الإيمان كما قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، يعني: صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن تحول القبلة ما كان الله ليضيع ذلك، فسماها إيماناً؛ لأنها من ثمرة الإيمان، وهذه الصلاة لا شك في أهميتها وعظم شأنها؛ ولأجل ذلك أكد الله ذكرها في القرآن، وأكثر من ذكرها، وورد أيضاً في السنة الاهتمام بها، بل وفي بعض الأحاديث أن تركها كفر، يعني: الإصرار على تركها يعتبر كفراً، وأن تاركها يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإذا أصر على تركها حتى يقتل قتل مرتداً، يعامل معاملة المرتد؛ وذلك لأنها أعظم شعائر الدين ولا شك أن ما كان بهذه العظمة لا يجوز التهاون به.
ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بعث فيهم، كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة ورآه فهو من أصحابه، له الصحبة على قدر ما صحبه، وكانت سابقته معه وسمع منه ونظر إليه نظر، فأدناهم صحبة أفضل من القرن الذي لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال كان هؤلاء الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وسمعوا منه أفضل -لصحبتهم- من التابعين ولو عملوا كل أعمال الخير].
فلما عرفوا أن الواقع يخالف ما ذهبوا إليه اعتقدوا أن أبا بكر وعمر وعثمان كلهم اغتصبوا ما ليس لهم من هذه الولاية والخلافة، وخطئوا الصحابة الذين بايعوهم، واعتقدوا أن علياً مظلوم؛ حيث أخذ منه الأمر وهو أولى به، فهو أولى بالإمامة وأولى بالخلافة، ولم يقفوا عند هذا الحد بل اعتقدوا كفر هؤلاء الصحابة واعتقدوا أنهم ارتدوا، وطبقوا عليهم الحديث الذي فيه: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، وأخذوا يجمعون ويلفقون الأكاذيب عليهم؛ فاحتاج أهل السنة إلى أن يردوا هذه الأكاذيب، فاعتنوا بالأحاديث التي في فضائل الصحابة، وبينوا أن ترتيب الصحابة في الخلافة هو كما وقع، وأن أحقهم بالخلافة هو أبو بكر الذي سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على ذلك دون أي اختلاف، وبايعه الصحابة كلهم؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم رضي به خليفة له في حياته في الصلاة لما مرض، فقال: (مروا
والأحاديث التي في فضله رضي الله عنه كثيرة ذكر أكثرها الإمام أحمد في كتابه الذي سماه (فضائل الصحابة)، وكذلك الأحاديث التي في فضل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
وقد تواتر عن علي رضي الله عنه أنه كان يخطب ويقول: (أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر )، وهذا مشهور عنه من طرق متعددة، ولكن الرافضة قوم بهت؛ فلا يقبلون من كلامه ما يخالف معتقدهم، مع أنهم يعتقدون فيه الولاية والصدق، ولكن لما خالف ذلك معتقدهم ردوا هذا الدليل الواضح الذي هو من كلامه رضي الله عنه.
وعند موته عهد بالخلافة إلى عمر ، فقبل ذلك الصحابة وبايعوه، واتفقت الصحابة رضي الله عنهم على بيعة عمر ، وكونه هو الخليفة الثاني، وهو أول من سمي بأمير المؤمنين، وبقي في الخلافة عشر سنين، إلى أن قتله أبو لؤلؤة المجوسي وأصيب المسلمون بقتله، بل كأنه لم تحصل لهم مصيبة مثلها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
واستمر رضي الله عنه في الخلافة هذه المدة، وهو متقن لهذه الولاية، وعادل بين الأمة، وسائر فيهم أتم سيرة وأحسنها.
ثم بعده بويع عثمان ، وصار هو الخليفة بعده، ولم يزل كذلك إلى أن قتله الثوار الذين ثاروا عليه، ولما قتل لم يكن هناك أولى من علي رضي الله عنه، فتمت له البيعة، إلا أن أهل الشام توقفوا عن البيعة حتى يمكنهم من قتلة عثمان ، وانفصلوا، وإنما حصل الانفصال بين أهل الشام وبين أهل العراق، وتمت الخلافة لـعلي في العراق وفي الحجاز وفي اليمن وفي خراسان، وانفصلت الشام ثم مصر، وصار في الولاية على الشام ومصر معاوية إلى أن قتل علي رضي الله عنه، ولما قتل تولى بعده ابنه الحسن نصف سنة، ثم إنه تنازل عن الخلافة وسلمها لـمعاوية .
وكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به واستمر على إيمانه إلى أن مات وهو على ذلك فله فضل الصحبة؛ وكذلك من صحب النبي صلى الله عليه وسلم وشهد له بالرسالة وبايعه أو رآه فهو من أصحابه وله هذه الميزة وهذه الفضيلة، وهذه الفضيلة لا يدركها غيرهم.
وأما كذبهم على عمر بأنه تخلف عن جيش أسامة فيقولون: أبو بكر هو الذي منعه؛ وذلك لأنه اعتبره وزيراً لا يستغني عنه، وأرسل جيش أسامة فذهبوا إلى ما ذهبوا إليه، ورجعوا سالمين غانمين.
وكذلك أيضاً طعنهم في الصحابة بأنهم تولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، ويستدلون بقوله تعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25].
فنقول: الله تعالى عذرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم عذرهم، وذلك لما أن نفحهم المشركون بكثرة النبل انهزموا، ثم لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا إليه، ولم يرد أن علياً من الذين ثبتوا معه، ولاشك أنه ثبت معه العباس والحارث بن عبد المطلب ، وأما أن الذين انهزموا كلهم ضُلال من الكفار والمنافقين فهذا بلا شك كذب على الصحابة رضي الله عنهم.
ويطعنون في الصحابة بأنهم تركوا النبي صلى الله عليه وسلم قائماً يوم الجمعة، ويستدلون بقوله تعالى: انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11].
ونقول: هذا أيضاً ليس بطعن، فإنا نتحقق أنهم رجعوا، وليس عندنا يقين أن علياً كان من الذين بقوا حتى يمدحوه، فقد يكون داخلاً في هؤلاء الذين خرجوا، ونتحقق أنهم خرجوا ثم رجعوا وأكملوا الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، وذكرهم الله بقوله: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ [الجمعة:11].
وبكل حال فتلفيقاتهم وأكاذيبهم كل ذلك مما يموهون به على الناس، وهم في الحقيقة أبعد عن أن يكونوا أهل حق وصواب.
والغزو ماضٍ مع الإمام إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك، وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماضٍ ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم.
ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة، من دفعها إليهم أجزأت عنه براً كان أو فاجراً.
وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاه جائزة باقية تامة ركعتين، من أعادهما فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة ليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة -من كانوا- برهم وفاجرهم، فالسنة بأن يصلي معهم ركعتين، وتدين بأنها تامة لا يكن في صدرك من ذلك شيء].
في هذا رد على الخوارج الذين يخرجون على الأئمة، ورد أيضاً على المعتزلة الذين يبيحون الخروج على الأئمة، ويجعلون ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأئمة هم الذين تتم لهم الولاية؛ ويستولون على الأمة الإسلامية سواء كان ذلك الوالي عهد إليه من قبله أو أخذها بالقوة وتولى عليهم بالغلبة، كل هذا بلا شك إذا تمت له الولاية وجبت الطاعة والسمع له، وحرم الخروج عليه؛ وذلك لأن الخروج على الأئمة يسبب فتناً وضرراً على المسلمين، وكم حصل بسببه من القتل؟! وكم حصل بسببه من السجن وإضرار المسلمين وإضرار علماء المسلمين؟!
فلأجل ذلك قالوا: يجب السمع والطاعة لولاة الأمور، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بالسمع والطاعة -يعني: لولاة الأمور- وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف كأن رأسه زبيبة)، أمر بأن يسمع له ويطاع إلا أنهم لا يطاعون في معصية، لقوله: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، ولكن لا يجوز أن يخرج عليهم بالسيف، ولا أن تنزع الطاعة من أيديهم.
أما الأعمال التي تعمل معهم فإن الإمام غالباً هو الذي يتولى الغزو، ويتولى الحج، كما يقول العلماء: الحج والجهاد ماضيان مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً؛ فإن هذا من خير أعمالهم.
فإذا تولى على الجيش الذي يغزو والٍ وكان فيه شيء من الفسق كشرب الخمر أو سماع الغناء أو نحو ذلك، لم يكن ذلك مسبباً لنزع اليد من طاعته، وكذلك لو أقام الحج أحد الولاة والأمراء المعروفين بشيء من الفسق فإن ذلك أيضاً من حسناتهم ولا يجوز نزع الطاعة ولا الخروج عليهم.
وكذلك أيضاً هم الذين يقسمون الأموال؛ لأن قسمة الفيء وقسمة الغنائم وقسمة الأموال تكون إليهم، يضعونها كما أمر الله، ويفرقونها على مستحقيها وتقبل منهم، وكذلك أيضاً دفع الصدقات والزكوات إليهم وما أشبهها، ومن دفعها إليهم فإنه تبرأ ذمته ولا يلزمه أنه يخرجها مرة أخرى.
وبكل حال فالأئمة وولاة الأمور الذين لهم الولاية العامة تجب طاعتهم ما لم يأمروا بمعصية، ويحرم الخروج عليهم ونبذ طاعتهم، لما يترتب على ذلك من المفاسد والفتن.
وكذلك أيضاً تصح الصلاة خلفهم، وكان الولاة هم الذين يصلون الجمع والأعياد، والوالي هو الذي يتولى صلاة الجمعة والعيد، ولو كان فيه شيء من الفسق أو من المعاصي.
وذهب بعض المبتدعة: إلى أنه لا تجوز الصلاة خلفهم، حتى ولو كان الإمام أميراً أو والياً، وصاروا يعيدون، فيصلي أحدهم خلفه ثم يعيد الصلاة، وهذا من التشدد والتنطع،و قد كان الصحابة يصلون خلف الأئمة والأمراء الذين عليهم، وفيهم شيء من الفسق كـالحجاج وابن زياد ونحوهما، ولا يعيدون الصلاة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر