إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [64]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الأمور التي شرعها الله للخلاص من المرأة المتهمة في عرضها اللعان، وهو فرقة ناتجة عن تلاعن الزوجين، ويترتب عليها أحكام بينها العلماء.

    1.   

    شرح حديث الملاعنة

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [باب اللعان.

    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن فلان ابن فلان قال: (يا رسول الله! أريت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فأنزل الله تعالى هؤلاء الآيات في سورة النور: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6] فتلاهن عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها.

    ثم دعاها ووعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما ثم قال: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثلاثاً -وفي لفظ: لا سبيل لك عليها قال: يا رسول الله! ما لي، قال: لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها).

    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رجلاً رمى امرأته وانتفى من ولدها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا كما قال الله تعالى، ثم قضى بالولد للمرأة، وفرق بين المتلاعنين)].

    سبب نزول آيات اللعان

    هذه الأحاديث من الأحاديث التي تشرح وتبين ما ورد في كتاب الله تعالى من آيات اللعان، ذكر العلماء أنه لما نزلت آيات القذف وحد القاذف وهي قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5]، استثقلها بعض الصحابة وقالوا: إذا رأى أحدنا رجلاً مع امرأته يفجر بها كيف يذهب ويأتي بأربعة شهداء؟ أي أنه لا يتمكن من المجيئ بأربعة شهداء حتى يقضي الفاجر حاجته ويذهب، فعند ذلك تحرجوا ووقعوا في مشكلة، فبين الله تعالى حكم ما إذا قذف الرجل امرأته في هذه الآيات، وبقيت الآيات التي فيها حد القذف خاصة لمن قذف أجنبياً أو أجنبية، فمن قذف رجلاً بفعل فاحشة لا يقبل منه إلا بأربعة شهداء، أو قذف امرأة محصنة فلا يقبل منه إلا بأربعة شهداء، قال الله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء:15]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4]، وقال تعالى: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13].

    أما إذا قذف الرجل امرأته فإنه قد لا يستطيع أن يحضر أربعة شهداء، ففي هذه الحال ماذا يفعل؟ يقول هذا السائل الذي عبر عنه الراوي بقوله: فلان، وقد سمي في بعض الروايات بأنه عويمر العجلاني من بني عجلان من الأنصار، ووقعت مثل هذه القصة لرجل آخر وهو هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم في قوله وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118].

    هذان الاثنان وقع أن كلاً منهما قذف امرأته وتلاعن معها عند النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت هذه الآيات، ويمكن أن قصة هلال وقصة عويمر وقعتا في وقت قريب في شهر أو في شهرين، فأنزل الله هذه الآيات في بيان حكم مثل هذه القصة.

    دعا النبي صلى الله عليه وسلم عويمراً فقرأ عليه هذه الآيات وذكره ووعظه إذا كان كاذباً أن يعترف؛ وذلك لأنه إذا اعترف بأنه كاذب فحده ثمانون جلدة، وإذا أنكر وهو كاذب عليها فعقوبته في الآخرة أشد؛ ولأجل ذلك قال له: إن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فعذاب الدنيا منقطع، وعذاب الآخرة أشد وأبقى، ولكنه أصر على أن يستمر على قذفه لها، وأنه رآها تزني.

    فعند ذلك أمره أن يلتعن ويقول: أشهد بالله على امرأتي هذه أنها زنت، أشهد بالله على زوجتي هذه أنها زنت، أشهد بالله على هذه المرأة أنها زنت، أربع مرات ثم يقول بعد ذلك في المرة الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فشهد أربع شهادات أنه صادق، وقال: لقد صدقت عليها فيما قلت، ولعن نفسه في المرة الخامسة إن كان قد كذب عليها.

    ولما تم لعانه دعا المرأة واستثبتها ووعظها وذكرها وأخبرها بأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الأولى؛ رجاء أن تعترف إن كانت قد فجرت، ولكنها أصرت على الإنكار وتشددت وقالت: قد كذب عليّ، فعند ذلك استحلفها فشهدت أربع مرات، وقالت: أشهد بالله على زوجي هذا أنه من الكاذبين فيما قذفني به، أربع مرات ثم قالت في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فلما شهدت على نفسها أربع مرات، وفي الخامسة دعت على نفسها بالغضب؛ عند ذلك ذكرهما بالتوبة فقال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟).

    النبي صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لقال: أنتِ كاذبة، وأنت صادق، أو أنتِ صادقة وأنت كاذب، ولكن الله الذي يعلم فلذلك قال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟)، فلما استمر كل منهما على ما يبرر موقفه وأنكر ما يقوله الثاني، عند ذلك فرق بينهما فرقة مؤبدة، فأخذ العلماء من ذلك أن الملاعنة تحرم على الملاعن عقوبة لهما حرمة مؤبدة، حتى لو كذب نفسه بعد ذلك لم يرجع إليها، وكذلك لو كذبت نفسها وسقط عنها الحد أو كانت غير محصنة وجلدت وأقيم عليها الحد لم يتمكن من مراجعتها، لا بعقد ولا بمراجعة ولا بغير ذلك، بل الفرقة بينهما فرقة دائمة لا رجوع بعدها؛ ولأجل ذلك قال: لا سبيل لك عليها، أي: ليس لك سلطان ولا قدرة أن تستعيدها.

    وفي بعض الروايات أنه طلقها، وقال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، أي: إن كنت رضيتها فأنا كاذب عليها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الطلاق لا يحتاج إليه؛ لأن الفرقة حصلت قبله، بمجرد تمام التلاعن حصلت الفرقة، ولما طلب ماله الذي دفعه كمهر قطع رجاءه من هذا المال وقال: (إن كنت كاذباً عليها فهو أبعد لك منها، وإن كنت صادقاً فهو بما استحللت من فرجها) أي: أنك قد نكحتها مدة، فهذا المال الذي قد دفعته إليها مقابل استمتاعك بها هذه المدة.

    الفوائد المستفادة من حديث الملاعنة

    أخذ العلماء من هذه الواقعة ومن هذه الآيات أحكاماً ومنها: أن هذه الفاحشة لا يصبر عليها ولا يقرها في أهله إلا الديوث الذي يقر الخنا في أهله، فهذان اثنان من الصحابة هلال وعويمر ، كل منها صبر على فراق زوجته وادعى أنها زانية ولاعنها ولم يقرها أن تبقى معه وهو يعلم أنها قد فجرت، ولو مرة واحدة، وذلك دليل على حماستهم وغيرتهم على نسائهم، لا يرضى أحدهم أن يشاركه في امرأته شخص أجنبي يفسد عليه فراشه، ويدخل عليه من الأولاد ما ليس له، ولا يرضى أن امرأته تخونه فتدخل في بيته من لا يرضاه، وتجلس على فراشه غيره، وتمكن من نفسها غير زوجها، فإن ذلك حرام، وفعلها يعتبر خيانة لزوجها، وإقرار الزوج على ذلك يعتبر دياثة وإقراراً للإثم والحرام، ولم يكن الصحابة يقرون شيئاً من ذلك.

    وهكذا أيضاً كل غيور، وكل من عنده حماسة وغيرة على محارمه لا يقر الخنا في أهله، بل متى رأى من امرأته شيئاً من الخيانة أدبها ولو بالإشارة أو نحو ذلك، وإذا لم يستطع أن يقيمها لم يمسكها، بل صبر على فراقها ولو كان معها أولاده، يصبر على فراقها ولو قد خسر عليها مالاً كبيراً، وكذلك يحرص على أن تبرأ ساحته، حتى لا يقال: إنه ظلمها، وإنه كذب عليها؛ فلأجل ذلك يحضر الغيور الذي يغار على محارمه عند القاضي، ويحضر امرأته، ويحضر معه من يشهد عليها ويعرف أنها فلانة امرأة هذا الرجل، فعند ذلك يأمره القاضي بهذا الأمر الذي هو التلاعن.

    والقرائن غالباً تكون في جانب الرجل، فهو أولى أن يكون صادقاً؛ وذلك لأنه في الغالب لا يصبر على فراق امرأته، ولا على فراق أولاده، ولا على ذهاب ماله الذي دفعه إلا وقد رأى شيئاً يسوءه، ورأى ما لا صبر له عليه من هذه الخيانة الشنيعة البشعة، فعند ذلك يقدم على قذفها ورميها؛ حتى تبرأ ساحته، وحتى يظهر عيبها وشناعتها، ويظهر خيانتها، ويعرف الناس أنها متهمة فلا يقبلها من هو ذو غيرة، وذو أنفة على نفسه؛ فإذا افتضحت هذه المرأة بأنها قد لاعنت وطلقت، وأن زوجها ليس بمتهم، وأن التهمة أقرب إليها؛ كان ذلك أقرب إلى ألا تفعل شيئاً يسوءها ولا يسوء زوجها.

    وفي هذه الأزمنة كثير من الرجال يأتون إلينا ويشتكون ما يرونه من نسائهم أو يسمعون أو يطلعون على أسرار أو على خفايا أو على قرائن أو نحو ذلك، ولعلكم قد سمعتم أكثر مما سمعنا، فنشير عليه بأن يفارقها سراً إذا تحقق أنها قد اتخذت أخداناً، وأنها قد خانته في نفسها وفي فراشه، فنشير عليه أن يفارقها وألا يكشف سترها وسرها، ولكن يخبرها فيما بينه وبينها حتى يكون ذلك عذراً له عندها، فيخبرها بأنه قد اطلع على كذا وكذا، وكثير من الرجال يطلعون على شيء كثير، وفي الأخص في الزمن الأخير بسبب وجود المكالمات الهاتفية، فيسجل عليها مكالمات بينها وبين بعض أخدانها، ويجد أنها قد خرجت معهم، أو أنها قد أدخلتهم في غيبته، وهذه الأشرطة تشهد بكلامها معهم، وبما قد يحصل من ترقيق الكلام، وما أشبه ذلك مما يدل على بشاعة ما حصل منها أو تهمتها في ذلك، أو قد يجد أنها أدخلت في اليوم الفلاني شخصاً أو خرج من عندها من هو متهم، أو نحو ذلك، ولكن ليس عنده يقين، ما رأى بعيني رأسه فعلها للفاحشة ولكن رأى هذه المقدمات، ولا يستطيع أن يقذفها بمجرد هذه المقدمات، ففي هذه الحال يخبرها سراً، ويفارقها ولا يمسكها وهي على هذه الحالة حتى يسلم عرضه، وحتى يسلم نسبه، ولا يدخل في نسبه ولا في أولاده من ليس من أهله، وبذلك يستر نفسه ويستر امرأته، ولا يعرض نفسه للحلف أو للعن أو للشهادات أو ما أشبه ذلك.

    أما إذا رأى بعينه وسمع بأذنه، رأى الفاحشة بأن وجد عليها رجلاً أجنبياً، فنقول له في هذه الحال: يحقق هذا الباب الذي هو اللعان، فيرميها، ويحضر معها عند الحاكم كما فعل هذان الصحابيان هلال وعويمر ، ويأمره القاضي بأن يشهد هذه الشهادات، ثم بعد ذلك يكون ذلك فضيحة لها وتشهيراً لها حتى يتوب أمثالها من النساء اللاتي فيهن ميل إلى المخادنة وخيانة أزواجهن، ويعرفن أن هذه الفضيحة كما أتت عليها قد تأتي على إحداهن أو على جميعهن، فيقل بذلك الشر وينتشر الخير.

    1.   

    شرح حديث: (.. وهذا عسى أن يكون نزعه عرق)

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، هل لك إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: فهل يكون فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقاً، قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق).

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد : يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص ، عهد إليّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه! وقال عبد بن زمعة : هذا أخي يا رسول الله! ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهاً بيناً بـعتبة ، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة ، فلم تره سودة قط).

    وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض)، وفي لفظ: (كان مجزز قائفاً)].

    الحديث الأول فيه بعض القذف، وهل يكون هذا قذفاً أم لا؟

    هذا رجل ولد له غلام، ورأى لونه وبشرته مخالفة لبشرة أبويه وأجداده وإخوته، فشك في نسبته وفي صحة أنه منه، فأراد أن يعرّض بامرأته أنها زنت، وأن هذا الولد ليس مني، كيف يكون مني وهو أسود الجلد مع أن أبويه ليسا كذلك؟!

    فبيّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا السواد ليس دليلاً على أنه من غيرك، وضرب له المثل بالإبل: إذا كان لك إبل، فالإبل عادة يكون أولادها مثلها، فإن كان الأبوان حمراً كان الأولاد كذلك، وإن كانوا سوداً أو بيضاً أو صفراً أو نحو ذلك كان الأولاد كذلك، إلا إذا اجتذبه عرق ولو بعيد، فأخبره بأن له إبلاً وأن ألوانها حمر، وكانوا يغالون في حمر النعم، أي: الحمر من الإبل، فسأله: (هل فيها أورق؟ يعني: أسود- فقال: إن فيها لورقاً) يعني: لمجموعة ورق، أي: سود، قال: من أين جاءت هذه الورق؟ قال: لعله نزعه عرق، فقال: وهذا الولد الأسود يمكن أنه قد نزعه عرق، فلعل أحد أجداده ولو كان بعيداً أو جداته فيه شيء من السواد أو السمرة أو نحوها، فلا تستغرب أن يكون ولدك بهذه الصفة.

    ومعلوم أن الأب ينسب إليه أولاده، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ينسب الأولاد إلى من ولدوا له كما سيأتي، ففي هذا الحديث أن الولد ينسب إلى أبيه، وأنه لا يجوز له أن يتبرأ من ولده الذي ولد من زوجته التي هي فراشه يستمتع بها، ويطؤها حلالاً، وحملت ووضعت وهي تحته فراشاً له، فلا يجوز أن ينفيه، سيما إذا عرفها بالعفة وبالنزاهة وبالبعد عن أن تمكن من نفسها غيره، أو البعد عن أن تتهم بفاحشة؛ لأن ذلك الرجل زكى زوجته، وشهد لها أنها بعيدة عن الشبهات، وبعيدة عن أن تتهم بتهمة سيئة.

    ولما كان هو زوجها وكانت هي امرأته وليست متهمة، فإنه ينسب إليه أولادها مهما كانت ألوانهم، ولو كان هو أبيض وهم سود أو هو أحمر وهم بيض أو غير ذلك؛ فأولادها تبع لزوجها، ينسبون إلى زوجها، هذا هو القول الصحيح، ولا عبرة في مغايرة اللون، فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان وغيّر ألوان الناس كما في قول الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22] فجعل اختلاف الألسن واختلاف الألوان من آيات الله؛ ليكون ذلك عبرة، فهؤلاء كلهم بنو آدم، وجعل الله منهم الأسود والأحمر والأبيض، وجعل الله منهم القصير والطويل، وجعل الله منهم كامل الخلق وناقص الخلق، والمشلول والمعيب ونحوهم، وكلهم خلق الله تعالى، ومع ذلك فاوت بينهم إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22].

    1.   

    شرح حديث: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)

    قصة عبد بن زمعة هي: أن زمعة الذي هو أبو سودة أم المؤمنين وهو من أكابر قريش، كانت له أمة مملوكة، وتسمى وليدة؛ لأنه استولدها فكان يطؤها فولدت له أولاداً فسميت وليدته، يعني: أم أولاده، مع كونها مملوكة له.

    وكان الإماء في الجاهلية لا يتورعن من الزنا، ثم إن عتبة بن أبي وقاص وهو أخو سعد زنى بها، ولما زنى بها كان يمكن أنها حملت من ذلك الزنا، ويمكن أنها حملت من سيدها الذي هو زمعة ، ولكن عتبة اعتقد أن الحمل الذي علقت به منه، فولدت غلاماً فكان شبيهاً بـعتبة شبهاً ظاهراً، فلما حضره الموت قال لأخيه سعد : إذا فتحتم مكة فاقبض إليك ابن وليدة زمعة فإنه مني، إنه ولد لي؛ لأني جامعت تلك الأمة في الجاهلية وحملت به، فهو ولدي، وهو مني ومخلوق من مائي، فخذه فإنه ابن أخيك. ولما فتحت مكة، ذهب سعد إلى أولاد زمعة ، وطلب منهم أن يسلموا إليه ذلك الغلام، وقال: إنه ابن أخي فقالوا: بل هو أخونا وابن أمة أبينا، فلا نسلمه لك، فهو من أولاد زمعة ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    فاحتج سعد بحجتين:

    الحجة الأولى: أن أخاه قد عهد إليها أنه وطئ وزنى بتلك الوليدة، وأنها حملت منه.

    الحجة الثانية: أن الولد شبيه بـعتبة في الخلقة الظاهرة وفي الصورة وفي الهيئة، فحينئذٍ يكون أولى به.

    وأما عبد فاحتج بالحجة الشرعية، وهو أن أمة زمعة كانت حلالاً له، وكانت أم أولاده، وكانت فراشاً له يطؤها وطأً حلالاً، وليس أحد يستنكر أنها أمته التي أبيح له وطؤها لكونها مملوكته، وأن الولد ولد منها وهي فراش له، بمعنى أنها كالفراش يفترشها لكونها حلالاً له، فهذا الولد ولد على فراش زمعة ، هذه حجته.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إلى الشبه الظاهر في ذلك الغلام، بل حكم بالظاهر، وقال: الولد لك يا عبد ، هو أخوك وينسب إلى أبيك؛ لأنه ولد على فراشه، وحكم بهذا الحكم وقرر هذه القاعدة: الولد للفراش وللعاهر الحجر.

    الولد سواء كان ذكراً أو أنثى ينسب إلى صاحب الفراش الذي هو الزوج أو السيد الذي يستمتع بأمته، فالولد ينسب إليه، وأخذوا من هذا أن الزاني لا ينسب إليه الولد مهما كان، ولو اعترف بأن الولد منه، ولو اعترفت الزانية بأنه فجر بها وبأنها حملت منه، وبأنه ليس له شريك في هذا الولد، فنقول: لا ينسب إليه الولد، ولا يستحقه؛ وذلك لأن نكاحه نكاح حرام، فلا ينسب إليه مهما كانت الحالة، ولو كان شبيهاً به، ولو اعترف الأبوان بأنه منه، فلا ينسب إليه بل ينسب إلى أمه، فإذا ولد بينهما ولد من زنا يقال: ابن فلانة، هذا هو النسب الصحيح، ولا يجوز له والحال هذه أن يتزوجها وهي حامل حتى ولو كان الحمل منه.

    حكم زواج الزاني بمن زنى بها وهي حامل منه

    مشهور الآن أن بعض الناس يخدع فتاة، ثم يواقعها مرة أو مراراً، فإذا حملت وتبين أنها حامل وخشي فضيحتها ذهب وخطبها ووافقت عليه، وبعد ذلك يعقد عليها وهي حامل من الزنا، ويدخل بها ويقول: أريد أن أسترها، فإذا وضعت حملها فلا حاجة لي فيها فسوف أطلقها، فنقول: هذا لا يجوز؛ وذلك لأن لا يجمع بين ماء حلال وماء حرام، ولو كان الماءان له، فلا يجوز له ولا يجوز لها هذا النكاح، بل متى حملت منه أو من غيره من زنا فإنه لا يقربها أحد حتى تضع حملها.

    والمرأة المزوجة لو غاب زوجها مثلاً فوطئت بشبهة أو زنت وحملت من الزنا أو من وطء الشبهة حرمت على زوجها، ولم يجز له أن يجامعها حتى تضع ذلك الحمل، وإذا لم تحمل فعليه أن يتجنبها حتى يعلم براءة رحمها، وأنها لم تعلق من ذلك الزنا أو ذلك الوطء بشبهة، فلا يجامعها حتى تحيض حيضة يعلم به براءة رحمها من الحمل.

    فإذا زنى إنسان بامرأة فلا يجوز له أن ينكحها ولو كان قصده أن يسترها، بل لا حرمة لها ولا حرمة له، وإذا ثبت زناها واعترفت أقيم عليها الحد الذي هو العقوبة الشرعية، فإن كانت ثيباً أقيم عليها الرجم إلا إذا ادعت أنها مكرهة، وإن كانت بكراً أقيم عليها الجلد والتغريب، وهو الحد الشرعي الذي ثبت بالسنة، وأما هو فإذا اعترف بأن هذا الحمل منه، وأنه وطئها؛ فإن كان اغتصبها فلا عقوبة عليها لكونها مغصوبة مكرهة، وإن كان باختيارها فإن العقوبة عليهما معاً، وعقوبته هو كعقوبتها: إن كان قد تزوج زواجاً صحيحاً، ودخل بزوجته -وهو المحصن- فحده أن يرجم بالحجارة حتى يموت، وإن كان بكراً لم يسبق أن تزوج، فحده أن يجلد ويغرب كما يأتينا إن شاء الله في الحدود.

    فأما أن يقول: سوف أتزوجها حتى أسترها أو حتى لا تفتضح؛ فلا يجوز، بل تترك حتى تفتضح وحتى يفتضح هو أيضاً، وإقامة الحدود والعقوبات الشرعية سبب لقلة المنكرات، وسبب لقلة الفواحش، وترك ذلك سبب لفشوها، فإذا رخص لهم في هذا كثر الزنا، وكثر الفحش، وصار كل من زنى وواقع امرأة حرص على أن يتزوجها ثم يطلقها، وطلاقه لها قد يكون الحامل له عدم ثقته بها، يقول: إذا زنت وهي غير متزوجة فيمكن أن تزني وهي متزوجة، فلا آمنها فراشاً لي.

    وبكل حال فهذه القصة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) تبين أن المرأة إذا ولدت مولوداً نسب إلى زوجها الذي هو زوجها وتحل له، ولا ينسب إلى الزاني، ولا حق للزاني فيه ولا كرامة.

    1.   

    شرح حديث مجزز المدلجي القائف

    دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة وهو مسرور تبرق أسارير وجهه أي: يظهر عليه الفرح، فبشرها وقال لها: (ألم تري أن مجززاً المدلجي رأى آنفاً أسامة بن زيد وزيداً وقد غطيها رءوسهما وبدت أقدامها فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض).

    فضل زيد بن حارثة

    كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب زيداً ، ويقال لـزيد بن حارثة : حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه كان قد اعتقه، وقد ملكته خديجة في الجاهلية، ثم وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، ولما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم صدقه، وكان هو أول من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من الموالي، فصار محبوباً عنده صلى الله عليه وسلم، وزوجه بابنة خالته التي هي زينب بنت جحش ، ولما أراد أن يطلقها قال له: (أمسك عليك زوجك واتق الله)، ثم إن الله تعالى قدر أنه يطلقها حتى ينكحها النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37] فالله تعالى هو الذي زوجه زينب أي: عقد له عليها وهو ربها، وكانت تفتخر فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.

    والحكمة في تزويجه قوله تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37]، حيث كان زيد يدعى زيد ابن محمد، فأنزل الله فيه وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4]، وقال تعالى في تحريم زوجة الابن: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23] حتى لا يدخل فيها المتبنى الذي ليس هو ابناً، وإنما يسمى مولى.

    والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم كان يحبه، وقد تزوج أولاً بـأم أيمن ، وكانت أيضاً مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سوداء، وزيد لونه أبيض أو أحمر، فولدت له أسامة ، وكان لون أسامة أسود، فطعن الناس في نسبه وقالوا: كيف يكون الأب أبيض، والولد أسود؟ يمكن أنه ليس منه، يمكن أنه من زنا، فطعنوا في نسبه، ومعروف أنه ينسب إلى أبيه الذي هو صاحب الفراش، ومعروف أن زيداً رضي الله عنه من السابقين الأولين، وأنه لا يمكن أن يتبنى من ليس ابناً له، ومعروف أيضاً أن أم أيمن التي هي أم أسامة من السابقات، ومن المؤمنات، ومن العفيفات، فهي بعيدة عن فعل الفاحشة، ولكن كان لونها أسود فصادف أن الولد صار لونه كلونها، وهو أسامة ، وقد رزق أيضاً محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يسمى الحب ابن الحب، كان يحبه ويحب أباه، وقال لما أمره على الجيش الذي أراد أن يبعثه إلى الشام وطعنوا في إمارته: (إنه لمن أحب الناس إليّ -يعني: زيداً - وإن هذا -يعني: ولده- لمن أحب الناس إليّ بعده).

    فلما كان يحبهما كان حريصاً على إبطال الشبهة التي يطعن بها فيهما، وفي نسب أسامة ، وأنه ليس ابناً لأبيه، فجاء هذا القائف، وبنو مدلج يعرفون بالقيافة، والقيافة هي معرفة الشبه، بحيث إن أحدهم يعرف الإنسان ويعرف ولده ولو لم يكن بينهما تماثل في الألوان، فنظر إليهما مجزز وقد غطيا وجوههما، وغطيا رءوسهما في لحاف، وبدت أقدامهما، هذا أقدامه حمر وهذا أقدامه سود، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، يعني: أن هذا ولد هذا أو جده أو نحوه، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا؛ ليكون مبطلاً لقول من طعن في نسب أسامة ، حيث إن هذا القائف معروف بالصدق والذكاء وبالقيافة، ومعرفة الشبه، هو وأسرته وقبيلته، وهم في منزلة بني مرة في هذا الزمان الذين يعرفون الشبه ويعرفون الأثر، وكذلك كثير من القبائل الآن معهم قوة في الذكاء ومعرفة الشبه، بحيث يعرفون أن هذا ولد لهذا، ويعرفون أن هذا الأثر لأخوة أو نحو ذلك.

    اعتبار قول القائف

    الحاصل أن في هذا دليل على اعتباراً قول القافة الذين يعرفون الشبه، وأنه إذا شهد واحد منهم مجرب الإصابة بأن هذا النسب صحيح قبل قوله.

    وأخذوا من ذلك لو أن اثنين وطئا امرأة في طهر واحد، أحدهما زوجها، والآخر وطئها خطأً يعتقدها امرأته أو نحو ذلك، وعلقت بولد، واعترانا الشك هل هذا الولد لهذا أو لهذا؟ لمن يكون الولد؟ أو مثلاً كانا شريكين في أمة يملكانها، واعتقد كل منهما أنه يجوز له وطؤها، فوطئها هذا، ووطئها هذا، وعلقت بحمل، ولا ندري هل هو لهذا أو لهذا، كيف نفعل؟ وكذلك اللقيط، إذا وجدنا لقيطاً ساقطاً، ثم جاء اثنان وكل منهما يدعيه، هذا يقول: هو ولدي، وهذا يقول: هو ولدي، طرحته أمه عجزاً أو نحو ذلك، فكيف نفعل؟ نعرضه على القافة العارفين بالشبه، فإذا قالوا: إنه ابن هذا؛ ألحق به وثبت نسبه بذلك.

    والشرع حريص على اتصال الأنساب؛ حتى لا يبقى مسلم بين المسلمين مجهول النسب؛ فإذا تحقق أو قارب أنه من فلان نسب إليه.

    بعض العلماء يقول: لابد من اثنين من أهل القيافة يشهدان بأنه ابن فلان أو يقران بذلك، وبعضهم يكتفي بواحد لما في هذه القصة، وهو أن أسامة نسب إلى أبيه بدون شك، ولكن قد عرفنا أن أسامة ولد على فراش زيد ، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، فـأسامة ولد على فراش زيد من زوجته التي هي حل له، فهو أنه ينسب إليه، وصدق ذلك كلام مجزز المدلجي : إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فثبت النسب، وبطل قول من يطعن في نسبه بأنه ليس ابناً له، وأما إذا لم يكن هناك فراش، ولم تكن المرأة خاصة بأحد الرجلين أو نحو ذلك فيقول بعض العلماء ولعله القول الأرجح: لابد من قائفين معروفين بالإصابة، فيتفقان على أنه ابن هذا، فإذا اختلفا رجع إلى غيرهما، فإذا تنازع اثنان في ولد، كل منهما يقول: إنه ابني؛ لأنه وطء أمه لشبهة، عرض على القافة، فإذا عرض على اثنين، فأحدهما قال: هو ابن هذا، والثاني قال: بل هو ابن هذا، أتينا بقائفين آخرين حتى يتفقوا أو يخير بأن ينتسب إلى أيهما شاء إذا لم يعرف بيقين أنه ابن لأحدهما بسبب اختلاف القافة، فالقافة بشر ليسوا يعلمون الغيب، وإنما يحكمون بما يظهر لهم، وليس الظاهر جلياً لكل أحد، فقد يختلفان فيقول هذا قولاً، ويخالفه آخر أو آخرون، وعلى كل حال فالشريعة حريصة على صلة الأنساب، وعلى تقليل الأفعال التي يكون فيها ضياع للأنساب.

    1.   

    شرح أحاديث العزل

    قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (ذكر العزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولم يفعل ذلك أحدكم؟ -ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم- فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها) .

    وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل، قال سفيان: لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن).

    وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا حرم الله عليه الجنة، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه) كذا عند مسلم وللبخاري نحوه، وحار بمعنى رجع].

    سئل صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: (ولم يفعل أحدكم ذلك؟ ولم يقل : فلا يفعل ذلك أحدكم، فإنه ما من نفس مخلوقة إلا الله خالقها) ، وكذلك الحديث الثاني قول جابر : (كنا نعزل والقرآن ينزل، قال سفيان: لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن).

    هذان الحديثان يتعلقان بالعزل، وقد ورد فيه هذان الحديثان اللذان يفهم منهما إباحة العزل، والعزل يتعلق بالجماع، وذلك أن الإنسان قد يحتاج إلى الجماع ولكن لا يحب أن تحمل زوجته؛ لسبب: إما لمرض فيها، وإما لضعفها عن أن تربي أولادها، وإما لكونها مملوكة له ولا يحب أن تلد منه، بل يريد بيعها، أو لقلة ماله ولا يستطيع أن يعول الأولاد ونحوهم، أو لأن أولاده يخرجون ضعافاً مهزولين، أو نحو ذلك من المقاصد، فيحتاج إلى منع الحمل بأسباب تمنعه.

    معنى العزل وحكمه

    من أسباب منع الحمل العزل: وهو الإنزال خارج الفرج، إذا أحس بالإنزال نزع وأنزل في غير الرحم حتى لا ينعقد الولد، وهذا العزل قد يحصل به مقصد الرجل وهو فتور أو قضاء وطره وشهوته، ولكن المرأة قد تتضرر؛ وذلك لأن لها حقاً ولها شهوة، فإذا نزع قبل أن تقضي وطرها تألمت وتضررت؛ لذلك ورد حديث -وإن كان في إسناده مقال- أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل، فقال: (ذلك الوأد الخفي) فسماه وأداً، يعني: قاتلاً للأولاد، ولكنه قاتل خفي، وهو أن العرب كانوا يقتلون الإناث ويسمون ذلك وأداً كما في قوله: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات) .

    فهكذا ورد أن العزل يسمى الوأد الخفي، ولكن هذه الأحاديث أصح من ذلك الحديث، فـجابر يقول: (كنا نعزل والقرآن ينزل)، وأكثر ما كانوا يعزلون عن الإماء حتى لا تحبل الأمة فلا يتمكن من بيعها، ومع ذلك لم ينههم القرآن أي: لم ينزل في القرآن نهي عن استعمال العزل، وسواء كان القصد منه عدم إضرار المرأة، أو القصد منه عدم الحمل أو منع الحمل أو نحو ذلك، فهذا سبب من أسباب منع الحمل، يعني: الإنزال في غير الرحم، وظاهر الحديث أنه جائز، والدليل من الحديث الأول قوله: (ولم يفعل أحدكم ذلك؟ ولم يقل: لا يفعله)، كأنه يقول: لماذا يفعله؟ (ما من نفس مخلوقة إلا الله خالقها).

    وفي بعض الروايات: أن رجلاً جاء وقال: (يا رسول الله! إن لي أمة، وإني لا أريد أن تحمل وإني أعزل عنها، فقال: ما عليك ألا تفعل -يعني: جائز لك أن تفعل وألا تفعل- فإنه إذا أراد الله أن يخلقه لم تستطع أن ترده)، وفي رواية: (لو وضعت هذا المني على صخرة وقد قدر الله أن يخلق منه ولداً لخلقه).

    وكثيراً ما يتحفظ الإنسان فينزع وينزل في خارج الرحم، ولكن قد يسبقه ولو قطرة يسيرة ينعقد منها الولد، فيحصل الحمل وإن لم يقصده، وإن لم يرده، وقد جاء في الرواية إن ذلك الرجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن الأمة التي حدثتك عنها قد حملت، فقال: قد أخبرتك أنك لا تقدر أن ترد ما قدر الله) ، إذا قدر الله خلق ولد من هذا الوطء فإنك لا تستطيع أن ترده، ولكن بكل حال هناك أسباب يحصل بسببها منع الحمل، ويحصل بسببها الحمل، وقد ذكر العلماء والأطباء أسباباً كثيرة تعين على الحمل، فإذا أراد أن تحمل زوجته من ذلك الوطء، فهناك صفات وأسباب تكون سبباً غالباً في عدم الحمل من ذلك الوطء وإن لم تكن مطردة.

    حكم الحبوب التي تمنع الحمل

    يكثر السؤال في هذه الأزمنة عن فعل الأسباب التي تمنع الحمل، حيث إن كثيراً من المتزوجين وهم شباب يحاولون عدم الإنجاب، فيأتون بأسباب تمنع أن يولد لأحدهم، وفي زعمه أنه لا يريد الأولاد في ذلك السن المبكر، ويريد أن يبقى مع زوجته وحيداً حتى يتفرغ أو تتفرغ هي لتنشئة الأولاد، أو حتى يجمع مالاً، أو حتى تتفرغ أو تنهي مثلاً دراستها وعملها، أو ما أشبه ذلك، فيعملون حيلاً لمنع الإنجاب، فمنها: استعمال هذه الحبوب التي تمنع انعقاد الحمل، فتبتلع المرأة هذه الحبوب فتبقى عدة سنوات لا يحصل منها أولاد.

    وقد ذكر الأطباء أن هذه الحبوب مضرة، ولا شك أن لها ضرراً على المرأة، على الرحم وعلى أثر العادة؛ لأنها تغير عادتها، فالعادة الشهرية التي هي الحيض المستمر أو المعتاد تتغير بهذه الحبوب، زيادة على أن احتباس هذا الدم يؤثر عليها مرضاً، وقد ذكر الأطباء أن المرأة لا تستعمل الحبوب إلا بعد أن تعرضه على طبيب مختص فيشير عليها، إما بأن تستعمل أو لا تستعمل، ومع ذلك فإنها منتشرة وفاشية كثيراً، وبيعها في الصيدليات قد يكون أكثر من بيع كثير من الحبوب التي تستعمل للصحة أو للعلاج.

    فنقول: لا شك أن هذه مصيبة، كيف أنك تضيق بالأولاد، فالواجب أن ترضى بما قدر الله، وأن تفرح إذا رزقك الله ولداً، لا تضيق بالأولاد ذرعاً فإن الله تعالى هو الذي خلقهم، وهو الذي يتكفل برزقهم، يقول الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151] وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31] ، فهو الذي يتكفل برزقهم، وكم رأينا وكم رأيتم من إنسان كان فقيراً لما كان وحده، ولما تزوج ورزق أولاداً وسع الله عليه، ورزق بسبب أولاده، ولما انفصل عنه أولاده وبقي وحده عاد إلى فقره وحاجته، فوجود الأولاد سبب للرزق، فلا يضيق أحدنا بكثرة الأولاد مهما كثروا، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتزوج الودود الولود في قوله: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) ، فهو يحب أن تكثر أمته، وأن يكثر أولادهم الذين هم على سنته، متبعون لشريعته؛ حتى يباهي بهم الأمم، وإن كان الله تعالى قد قدر من سيخلقه، وعلم عدد الخلق الذين قدر وجودهم، ولكنه جعل لذلك أسباباً وجودية أو أسباباً سلبية.

    فننصح هؤلاء الذين لا يريدون الإنجاب، ويملون وجود الأولاد، حتى ولو كانوا في شبابهم، حتى ولو كثر الأولاد لديهم، فلا يضيقون بذلك، فإن رزقهم على الله تعالى، كما في قوله تعالى: وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60].

    الحالات التي يجوز منع الحمل فيها

    رخص العلماء في منع الحمل في ثلاث حالات:

    الحالة الأولى: الزوجة قد تكون مريضة يشق عليها الحمل والوضع والحضانة والتربية، أو كانت مثلاً نحيفة ضعيفة لا تتحمل ذلك، ومتى حملت أضر بها ولقيت أوجاعاً ونحو ذلك، فلها والحال هذه أن تتعاطى ما يمنع الحمل.

    الحالة الثانية: إذا كان أولادها ضعافاً، يعني: يخرجون وهم نحاف ضعاف عجاف مرضى، ويتتابعون وهم على هذا، ويكون في ذلك لمشقة عليها أن تحضنهم وأن تربيهم وأن تعالجهم وهم على هذه الحالة، فيؤدي ذلك إلى تضررهم مع كثرتهم؛ فلذلك قد يباح في هذه الحال علاجها بما يقطع أو بما يقلل الحمل.

    الحالة الثالثة: لو قدر مثلاً أن الأبوين في بلاد كفر، وأنهم متى ولد بينهم أولاد تربوا على ما تربى عليه أهل تلك البلاد، درسوا دراسة الكفار، وخرجوا مع الكفار، فصار أولادهم زيادة في الكفرة، ففي هذه الحالة قد يقال: بجواز المعالجة التي تقلل الحمل أو تمنعه، وما ذاك إلا مخافة أن يرى أولاده يعتنقون الكفر ولا يستطيع أن يردهم.

    وإذا عرفنا ذلك فنقول: كثير من الناس الآن يشتكون من كثرة الأولاد بحيث إن المرأة تلد في كل سنة ولداً إذا لم تتعالج بهذه العلاجات، ولم تتعاط الأسباب التي تمنع من الحمل، وهذا لم يكن معهوداً في الأزمنة المتقدمة قبل ثلاثين أو أربعين سنة. ما كانوا على هذه الحال، ولعل السبب في ذلك أن المرأة قديماً كانت ترضع ولدها من ثدييها فكلما ولد لها ولد ألقمته ثدييها وحنت عليه وأشفقت عليه ودرت عليه، واعتقدت أن لبنها دواء وشفاء وأثر من آثار المحبة، ولا تحمل عادة ما دامت ترضع ولدها من صدرها، حيث إن الدم الذي هو دم الطمث الذي يكون غذاءً للحمل يقلبه الله لبناً، فإذا كانت ترضع فإنها في العادة لا يأتيها دم الحيض، فتبقى سنتين ما دام فيها لبن لا ترى الحيض، أين ذلك الحيض؟

    ينقلب لبناً يمتصه الطفل من الثديين ويتوقف الحيض، وكانت هذا عادة كثير من النساء، فتبقى سنتين وهي ترضع الولد، ولو كان زوجها يجامعها كل ليلة فإنها لا تحمل، بل المني ينقلب أيضا لبناً، والحيض ينقلب لبناً، وكل ذلك يكون غذاءً لرضيعها، لكن بعض النساء قد تكون بنيتها قوية، وغذاؤها كثيراً، ودمها قوياً، فيؤثر أنه يصير فيها لبن ويصير أيضاً معها حيض، فينعقد الحمل ولو كانت ترضع، وأما التي لا ترضع ولدها، بل حينما تلده ترضعه من الألبان الصناعية، ويتوقف منها اللبن وتنشف، ويأتيها الحيض بعدما تخرج من الأربعين مباشرة، فالغالب أنه ينعقد حملها مباشرة بعد أول وطء، وهذا هو الواقع الآن كثيراً؛ ولذا يشتكون من كثرة الأولاد.

    فنقول للزوج: لماذا لا تلزمها أن ترضع ولدها حتى يتوقف الحمل مدة سنتين أو سنة أو نحو ذلك، هذا في الأمر الأغلب؟ فهذا سبب.

    السبب الثاني: يقولون: لو جامعها بعد الطهر بيوم أو يومين لا تحمل، أما بعد الطهر بثلاثة أيام أو بأربعة إلى نصف الطهر أو ثلثيه فإنها تكون قد أنزلت البويضة التي يخلق منها الحمل، فإذا جامعها في هذه الفترة انعقد الحمل بإذن الله، أما إذا جامعها في آخر الطهر أي: قبل الحيضة الثانية بعشرة أيام أو أسبوع ونحوه فإن ذلك الجماع لا ينعقد معه الحمل؛ وذلك لأنه قد انعقد أو قد اجتمع الدم الذي هو دم الطمث فلا ينعقد بذلك حمل إلا إذا قدر الله تعالى الحمل، فهذا سبب من أسباب توقف الحمل.

    حكم استخدام اللولب لمنع الحمل

    من الأسباب الجديدة لمنع الحمل ما يسمى باللولب الذي تركبه المرأة في رحمها، لكن فيه مضار، وكثير من النساء يحصل بسببه مشقة عليها؛ وذلك لأنه يزيد في مدة الحيض، فبدل ما كان حيضها ستة أيام يكون عشرة؛ لأنه يقلل خروج الدم، ويكون أول الدم ووسطه وآخره على حد سواء بسبب هذا اللولب، زيادة على أنه يستلزم تكشفها أمام غيرها عند معالجتها وما أشبه ذلك.

    وهناك أسباب أخرى قد تكون معروفة عند المتخصصين ولكنا ننصح الإنسان ألا يمل مما خلق الله منه، فالله تعالى شرع للإنسان هذه الشهوة التي تدفعه إلى الوطء، وجعل أيضاً في المرأة دافعاً نحو الرجل حتى يحصل من هذه الشهوة اندفاع من الرجل والمرأة، كل منهما يطلب الاتصال بالآخر؛ ليكون ذلك سبباً في هذا التوالد، وفي وجود هذا النوع الإنساني الذي قدر الله أنه يعمر هذه الأرض، ويكون مكلفاً عليها، ولو أن الناس عزفوا عن ذلك وتركوا النكاح لانقطع هذا النوع الإنساني، والله تعالى قد قدر أنه يبقى.

    الله تعالى شرع هذا النكاح الحلال، وأمر الإنسان أن يبذل السبب لوجود الأولاد، وله في الأولاد مصلحة حيث إنهم ينفعونه في الدنيا، وينفعونه أيضاً بعد موته كما في قوله تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74] ، هذا دعاء حكاه الله تعالى عن عباده المؤمنين، مما يدل على أن الأولاد قرة أعين لآبائهم.

    وكذلك يستفيد منهم بعد موته إذا كانوا صالحين، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فعلى الإنسان أن يحرص على أن يرزقه الله أولاداً صالحين ذكوراً وإناثاً يكونون له قرة أعين، وينفعه الله بهم في دنياه، ويزودونه بأدعية نافعة في آخرته، وألا يمل من وجودهم، وأن يثق أن ربه هو الذي خلقهم وأوجدهم، وهو الذي تكفل برزقه وبرزقهم نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31] ، وأن يعتقد أن الله تعالى قد يسهل له الرزق بواسطتهم أو بسببهم، فإذا فعل ذلك رزقه الله من حيث لا يحتسب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765798968