أما بعد:
الحديث في هذه الليلة عن الاستقامة وعواملها وآثارها وجزائها، فالله تعالى يقول عن هذه الاستقامة ومظاهرها: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:112-117].
أيها الإخوة! هذه الاستقامة وهذه مظاهرها الخمسة: (وَلا تَطْغَوْا) ، (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) ، (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )، (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ).
أما الاستقامة فمعناها في اللغة: الاعتدال وعدم الانحراف يميناً أو شمالاً، والمستقيم معناه: الذي هو غير منحرف، وغير ملتو وهو الذي يمثل الخط المستقيم، أي: الطريق المعتدلة، وهذه الطريق ينصح الله تعالى كل واحد من المسلمين أن يلتزم بها في الوصايا العشر التي تجدونها في آخر سورة الأنعام، فآخر هذه الوصايا العشر وهي العاشرة قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
فالاستقامة: هي اتباع صراط الله المستقيم، وعدم الانحراف يميناً أو شمالاً.
وعندما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) خط خطاً طويلاً معتدلاً، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً، فقال عن المعتدل: (هذا صراط الله، وعليه داع يدعو إليه، والداعي هو القرآن، وعن يمينه وشماله سبل، وهي التي يقول الله عز وجل عنها: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وعلى كل سبيل منها ستر مرخاة، وعليها شيطان يدعو إليها) وأظن أنه لا يخفى عليكم هؤلاء الشياطين، لقد بدءوا يبرزون اليوم حتى في ثياب المسلمين من المنافقين والمتمسلمين.
ولكن على الصراط داع كلما هم أحد أن يزيح ستاراً نادى هذا المنادي: ويحك يا عبد الله! لا تزح، فإنك إن تلجه لا تخرج منه إلى يوم القيامة، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في رسم هذه الطريقة بصورة ترى بالعين المجردة.
هذا هو صراط الله، وهذه هي السبل، وذاك هو الاستقامة، وما يقع عن يمينه وشماله من الطرق المنحرفة هي الانحراف، ولذلك تجدون هذه الانحرافات كثيرة جداً، وتتعدد، ولربما يخطئ الإنسان واحداً منها فيصيبه سبيل آخر.
وتأكدوا أن طريق الجنة واحد، وأن طرق النار كثيرة، ولذلك قال: (صِرَاطِي)، وقال: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
ويوضح هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة).
إذا:ً الصراط واحد، وطريق الجنة واحد واضح، والطرق المنحرفة كثيرة جداً، وربما تتعدد في مفاهيمها وأساليبها، وفي دعاياتها ودعاتها، وفي أشكال دعاتها وألسنتهم، لكنها تتحد في الحقيقة في نهايتها، فهي تصب كلها في نار جهنم، قال صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
إذاً: يا أخي! فتش هل أنت على الصراط المستقيم؟! هل أنت مستقيم على دين الله؟! كيف تستقيم؟ الزم جماعة وطريق المسلمين، ابحث عن السبيل التي يتسم بها المجتمع الإسلامي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين يقول عنهم عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة)، هذا هو الصراط.
ولذلك فإن المسلم يسأل الله تعالى أن يهديه إلى الصراط، وإذا هداه للصراط المستقيم سأله أن يثبته؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فيدعو دائماً في الصلاة وفي غير الصلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهذا الصراط المستقيم هو طريق الاستقامة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فهو طريق واضح.
ولا تظنوا -أيها الإخوة- أن هذه الطريق غامضة، فهي ميسرة واضحة إلا على من ختم الله على بصيرته، نسأل الله العافية والسلامة، فهم الذين يتخبطون في دياجير الظلام قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].
أما المؤمنون فهم يرون هذا الصراط بأعينهم المجردة، ويدركونه بقلوبهم؛ ولذلك نقول دائماً: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، هذه هي الاستقامة التي نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه دائماً وأبداً.
وهذه الاستقامة هي الثبات على المنهج الصحيح، وعدم التأرجح والشكوك، فالمحجة بيضاء واضحة، تركنا عليها محمد صلى الله عليه وسلم، وحذرنا أن نميل عنها يميناً وشمالاً، ومن مال فلا يلومنّ إلا نفسه.
والاستقامة تتعرض في كثير من الأحيان للفتن، لا سيما في عصرنا هذا حينما ينشط دعاة الباطل، ويضعف دعاة الحق، فيلتبس الأمر، فيرتبك بعض المسلمين ويصير في أمرهم اختلاط مع وضوح السبيل، لكن لوجود مغريات، ووجود أمور ربما تكون سبباً في انحراف طائفة من المسلمين، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه تأتي في آخر الزمان فتن كقطع الليل المظلم، دعاة باطل .. مغريات .. أهواء .. شهوات .. إلى غير ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وهذا التقلب يوجد في كثير من الأحيان مع وضوح السبيل، ولا سيما في آخر أيام الدنيا عندما ينشط دعاة الباطل وينام دعاة الحق؛ ولذلك ربما تشاهدون اتجاهات تتعدد في بعض الأحيان، ولربما نفاجأ أن طائفة من الشباب ربما ينحرفون ويتأثرون بالدعاية المضللة، وربما يرتد كثير من المسلمين عن الإسلام؛ لأن الاستقامة غير موجودة عند هؤلاء، بل في دولة إسلامية واحدة يتنصر اثنا عشر مليوناً من المسلمين، لضعف دعاة الحق، ونشاط دعاة الباطل، وبخل المسلمون بأموالهم، ونشاط دعاة الباطل في بذل أموالهم، فكل ذلك من عوامل الانحراف.
أما الأصل فإن هذا الدين فطرة قال تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، فطرة طبع عليها الإنسان يوم كان في ظهر أبيه الأول آدم، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]، وبالرغم من هذا العهد والميثاق الذي يقول الله عز وجل عنه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]، يقول الله تعالى: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [الأعراف:102] نسوا هذا العهد، فكان ذلك سبباً في انحراف طائفة من المسلمين الذين غفلوا عن العهد، وربما ولدوا على الفطرة، لكن اجتالتهم شياطين الإنس والجن.
حينما تتوفر هذه العوامل الثلاثة تكون عاملاً مهماً من عوامل الاستقامة، زوجة صالحة (فاظفر بذات الدين) بيت نظيف طاهر بعيد عن المحرمات والمغريات، وعن الشهوات والشبهات، ليس فيه تشكيك ولا محرمات منتشرة تختلط بدماء الأطفال، فينشأ أحدهم على هذه النشأة مع بيئة صالحة طاهرة، يؤمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر، وهذه تعتبر عاملاً من عوامل الاستقامة، لكن لما تنحرف البيئة أو ينحرف البيت فإنه يؤثر ذلك على الفطرة، فالفطرة بذرة صالحة تحتاج إلى تربة صالحة، وهي الزوجة، وتحتاج إلى ماء نقي، وهي البيئة التي تسقي هذه البذرة، لتكون شجرة صالحة، ولكن إذا فسدت إحدى هذه العناصر الثلاثة: إما البذرة أو التربة أو البيئة التي تسقي هذه البذرة يوماً بعد يوم، ربما تتأثر هذه الفطرة فيحصل الانحراف.
من أسباب الانحراف عن الاستقامة أيضاً: نشاط دعاة الباطل، ونوم دعاة الحق:
لأن الشجرة التي لا تسقى إلا بعد فترة طويلة من الزمن، أو تسقى ماء مالحاً أجاجاً تموت، بالرغم من أصالتها وصحة بذرتها وتربتها، لا بد أن يكون هناك ماء، ولا بد أن يكون هذا الماء صالحاً لسقي هذه الشجرة؛ ولذلك فإن الدعوة إلى الله تعتبر من أهم العوامل التي تستقيم بها الأمم قال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].
إذا وجد إيمان ووجد ذكرى تستقيم الأمور؛ ولذلك فإننا نطالب دعاة الحق أن ينشطوا لا سيما في هذه الظروف التي ارتبكت فيها كثير من الأمور في العالم الإسلامي، واختلط فيها الحابل بالنابل، وأصبح الأمر خطيراً من هذا الجانب.
فلا بد أن تكون التربية صالحة سواء كانت من البيت، أو من المدرسة، أو من المكتبة التي تخاف الله سبحانه وتعالى، فلا تنشر إلا ما يقوي عقول الشباب، وينمي أفئدتهم، ويحفظ توازنهم، فإذا فسدت المكتبة، وصارت تنشر ما هب ودب من الكتب والمجلات والصحف التي تغري وتفسد، فإن ذلك يكون عاملاً من عوامل الانحراف.
وكذلك المدرسة والمنهج، وكذلك الإعلام الذي يعيش معه الناس بحيث لا ينشر إلا الأمور التي تربي العقل على طاعة الله سبحانه وتعالى، وتحول بين هؤلاء الناس وبين الفتن والصور الفاتنة، والقصص الغرامية الماجنة، كل ذلك يعتبر عاملاً من العوامل المهمة في هذه الاستقامة.
فالجليس الصالح يؤثر على جليسه كبائع المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه على الأقل رائحة طيبة، بخلاف الجليس الفاسق، فإنه كما قال الله عز وجل: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا [الزخرف:36] سواء كان من شياطين الجن أو من شياطين الإنس فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [الزخرف:36-37] في الدنيا فيصرفه عن الاستقامة، ويحرفه عن المنهج الصحيح: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا [الزخرف:37-38] الذي تأثر بالجليس الفاسد (قَالَ) أي: لجليس السوء يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:38]، يقول الله تعالى: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39].
فهل بعد ذلك يفرط الشباب بالجلساء أم يسيئون اختيار الجلساء والأصدقاء والأصفياء، أم هل يفرط الآباء بأبنائهم فلا يحسنون الاختيار لجلساء أبنائهم ولأصدقاء أبنائهم؟
إذا كان الثاني فإنه خطر على هذه البذرة الطيبة، وخطر على الاستقامة، ولذلك فإن على المؤمن أن يهتم بهذا الجانب.
الإيمان إما أن يكون جاء عن طريق الوراثة والبيئة، وإما أن يكون جاء عن طريق التفكير في عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وفي آياته الآفاقية والنفسية والكونية، فإذا كان الأول أصبح هذا الإيمان معرضاً للفتنة وربما ينهار في أي لحظة؛ ولذلك أخبر الله تعالى بأن من الناس من يعبد الله على حرف، فهو مستقيم ما دامت الأمور هادئة ومطمئنة، يؤذن .. يذهب إلى المسجد .. يأتي رمضان فيصوم .. يأتي الحج فيحج .. لكن هناك ضريبة لهذا الدين، وهناك فتنة وابتلاء فلا يتحمل؛ ولذلك يعتبر هذا النوع من البشر إنما أخذ الإيمان عن طريق الوراثة، حيث وجد أباه يصلي فصار يصلي، وجد أمه تصوم فهو يصوم، لكن لا يتصور معنى هذه العبادة، ولا يعرف من يعبد ولا من يستحق هذه العبادة، يقول الله تعالى عن هؤلاء: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11]، يعني: طرف بين الإيمان والكفر، ممكن أن يسقط في أي ساعة فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [الحج:11] بقي على الإيمان إذا كان المسلمون بخير لا توجد فتن ولا ابتلاء، ولا يوجد أذىً ولا مصائب ولا في فتن، لكن عندما تأتي الفتن يبتلى في دينه قال تعالى: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11]وإذا انقلب على وجهه خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11]هذا النوع من الإيمان الذي لا يكون عن تمحيص وروية وتفكير.
لكن تعال يا أخي إلى الإيمان الذي يحصل بعد البحث والقراءة، والنظر في ملوك السماوات والأرض، وتدبر آيات الله عز وجل في هذا الكون، فهذا الإيمان لا يتأثر بأي عاصفة من هذه العواصف، إيمان كالجبال كما أخبر الله عز وجل عنه: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46] فلو زالت هذه الجبال من مواقعها لا يزول هذا الإيمان من قلب هذا الإنسان؛ لأنه جاء عن طريق الروية والتفكير، وهذا الإيمان ليس كإيمان القوم الذين يقول الله عز وجل عنهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] لكنه إيمان كإيمان القوم الذين يقول الله عز وجل عنهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22] في أيام الشدة تذكروا وعد الله عز وجل، ربما في أيام الرخاء غفلوا عن هذا الأمر، لكن لما جاءت الشدة ورأوا الأحزاب وتشكلت كل قوى البشر ضدهم، ووقفت جميع قوى الكفر أمام وجوههم زادهم هذا الفعل إيماناً، قالوا: نحن ننتظر هذا اليوم، الآن زاد يقيننا بهذا الدين، والآن زادت ثقتنا بهذا الإيمان، الآن يقوى إيماننا: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22].
الفتن زادت هؤلاء إيماناً، وزادت أولئك تراجعاً ونكوصاً إلى الوراء قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) من أجل الله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي: أذى الناس (كَعَذَابِ اللَّهِ) يعني: يوم القيامة.
فهذا هو الفرق بين الإيمان الذي يحصل بعد بحث وتفكير وبين الإيمان الذي يحصل بتقليد ووراثة؛ ولذلك نجد في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام العبرة العظيمة: كان إبراهيم لا يشك في الله سبحانه وتعالى، حتى في أيام طفولته وشبابه قبل أن يكون نبياً، حتى وهو يعيش في بيئة فاسدة تعبد الأصنام، وأول من يحاربه أبوه، ينظر في هذا الكون فينظر إلى الكوكب ويقول: هذا ربي، فلما أفل الكوكب قال لا أحب الآفلين، ونظر إلى القمر فقال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين!
نظر إلى الشمس فقال: هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، هنا جاءت قوة الإيمان، والبراءة من الكافرين والمشركين حتى الأب ويقول: إني بريء من المشركين، يقول: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:79-80] لكن هذه المحاجة جاءت بعد إدراك عميق لعظمة الخالق سبحانه وتعالى: قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ [الأنعام:80].
ثم يبتلى هذا الإيمان وهذه الاستقامة فلا تتأثر، يلقى في النار فلا يبالي، ويؤمر بذبح ولده فلا يبالي، ويؤمر بأن يبقى ولده وزوجه في مكة بواد غير ذي زرع فلا يبالي، كل ذلك استجابة لأمر الله عز وجل؛ لأن الإيمان قد قوي في هذه النفس، واستقر في هذا القلب، فهذه هي الاستقامة.
فالله تعالى يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فبمقدار ما يكون الإنسان أعلم بالله يكون أتقى لله غالباً، وإلا فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والله تعالى يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بالله أعرف كان منه أخوف) ولذلك فإن الخشية وهي أعظم أنواع الخوف تكون بالعلم غالباً، سواء كان علماً شرعياً وهذا أولى، أو كان في علم الفلك، فينظر في هذه المخلوقات العظيمة فيخرج بنتيجة، أو في علم الطب فينظر إلى خلايا هذا الجسم، وإلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى حيث يقول: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، فيرى الخالق سبحانه وتعالى من خلال هذه الصنعة، أو في أي علم من هذه العلوم تسبب خشية الله.
فكم من إنسان اغتر بعمله، واغتر بنفسه فكانت نهايته البوار والدمار، حيث انقلب على وجهه.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يسأل الله الثبات، ويقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ويقول لمن أوصاه: (قل آمنت بالله ثم استقم)، والله تعالى يقول قبل ذلك: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ما قال: أسلموا، ولكن قال: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
فهناك فرق بين الحياة على الإسلام وبين الموت على الإسلام، فلربما يعيش الإنسان في هذه الحياة طول حياته على الإسلام والملة لكن الله عز وجل أراد له سوء الخاتمة فيرتد نسأل الله العافية والسلامة، فتكون عاقبته الردة، فتكون نهايته النار، كما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
وكذلك أوصى إبراهيم ويعقوب: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) لأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله عز وجل.
على كل أيها الإخوة! لا بد من سؤال الله عز وجل الثبات والاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقلب أفئدة الكافرين ويقلب أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ولربما يأخذ الغرور أحداً من المسلمين بعمله فيعاقبه الله عز وجل بالردة والانحراف نعوذ بالله!
ولذلك المسلم دائماً وأبداً يسأل الله الثبات، ودائماً وأبداً يشعر بالتقصير في جنب الله سبحانه وتعالى، وهذا يعتبر من أكبر عوامل الاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى.
أما الاستقامة فجزاؤها عند الله عز وجل عظيم في الدنيا، وهو حياة سعيدة يشعر فيها المؤمن بالراحة والطمأنينة، ومتعة البقاء والخلود في الحياة الآخرة، فهذه الحياة وهذه اللذة لا يدركها إلا المؤمنون كما قال ابن القيم رحمة الله عليه: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. ويقصد بجنة الدنيا لذة الإيمان التي يقول الله عز وجل عنها: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
ولا تظنوا أيها الإخوة أن الحياة الطيبة هي حياة القصور، وحياة الترف،وحياة النعيم، قد يشترك فيها المسلم والكافر بل ربما يشترك في هذا المتاع الظاهر الإنسان والبهيمة، إنما هي لذة الإيمان التي يقول عنها إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة الإيمان لجالدونا عليها بالسيوف.
ويقول عنها الفضيل بن عياض رحمة الله عليه:
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
هذه العزة وهذه اللذة وهذه المتعة لا يشعر بها إلا أولياء الله، ويفقدها أعداء الله، ويضيقون ذرعاً بكل حدث من أحداث الحياة الدنيا، ويتخلصون من هذه الدنيا بالانتحار، ولذلك يوجد مواقع في بلاد الغرب مخصصة للانتحار، وفي اليوم الواحد ينتحر عدد من الناس، لماذا؟ لأن لذة الإيمان غير موجودة، وجد متاع ولم يوجد إيمان، والمتاع بطبيعته إذا ألفه الإنسان يصبح شيئاً طبيعياً، وما السعادة في الدنيا سوى شبح يرجى، فإن صار جسماً مله البشر.
القاعدة أن لذة الإيمان تتجدد في كل يوم؛ ولذلك الذين فقدوا لذة الإيمان -لأنهم فقدوا الاستقامة على دين الله- يعيشون بلا تفكير .. بلا هدف .. بلا قصد، يقول أحدهم: لا أدري من أين جئت! ولا أدري أين أذهب! شك في المجيء وفي الذهاب، فلأي سبب من الأسباب، ولأي حدث من الأحداث ولو كان صغيراً يتخلص من هذه الحياة بالانتحار؛ لأنه غير مؤمن قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3] هذا المتاع الحسن لا يكون إلا للمؤمنين، ويفقده غير المؤمنين، وهنا يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
إذاً: هذه الاستقامة جزاؤها في الدنيا حياة سعيدة طيبة لذيذة، يتمتع فيها الإنسان بمتاع الحياة الدنيا، وتكون له خالصة يوم القيامة، فإذا أصابته مصيبة في الدنيا احتسبها عند الله، فخفت عليه المصيبة، إذا شعر بقصر الأجل شعر بالخلود الباقي في الآخرة بالجنة، فنفس هذا عنه، ووسع له ضيق الحياة الدنيا.
ماذا يكون موقف هذا الإنسان وهو يودع المتاع والنعيم والقصور والأولاد، ويقبل على حفرة مظلمة لا يدري ماذا يجد فيها؟! هذه ساعة مخيفة، وهي أشد ساعة تمر بالإنسان طول حياته.
تصوروا أنه في هذا الموقف الرهيب يأتي دور الاستقامة وجزاء الاستقامة أيضاً، ينزل الله عز وجل على هذا الإنسان في هذه الساعة الرهيبة الشديدة المخيفة المزعجة ملائكة تطمئنه: اطمئن .. أمامك الجنة .. ما وراءك من الأهل والذرية والمال نحن نخلفك فيه .. لا تخاف على أولادك .. سنعوضك في الدار الآخرة ما هو أفضل من ذلك، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] أي: ثبتوا على دين الله تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] أي: في ساعة الموت، تقول لهم: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، لا تخافوا مما أمامكم، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم من الحياة الدنيا، فالأولاد نحن نخلفكم عليهم .. نحن نرعاهم .. نحن نعوضكم عن الممتلكات العظيمة التي خلفتموها وراءكم بما هو أفضل منها، سنكون معكم حتى تدخلوا الجنة، لا نفارقكم حتى في القبر وعند الحساب والميزان، حتى على الصراط لا تخافوا ولا تحزنوا، لو لم يكن للاستقامة جزاء إلا هذا لكان هذا ألذ جزاء.
أما الساعة الرهيبة المخيفة المزعجة الموحشة! فتتنزل الملائكة وتقول لهؤلاء المستقيمين على دين الله: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فصلت:30-31] كنا معكم في الحياة الدنيا نحرسكم قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] أي: بأمر من الله، وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31] أيضاً سنكون معكم لا تنزعجوا، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:31-32].
إذاً: هذه الاستقامة تؤنس الإنسان في ساعة الموت، لكن الصنف الآخر -نعوذ بالله- هم الذين يقول الله فيهم إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ [النساء:97]، والْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [الأنفال:50] من الأمام ومن الخلف.
إذاً: هذه الاستقامة يحتاج المسلم دائماً وأبداً إليها، فهو دائماً يسأل الله الثبات عليها، ويحاول دائماً أن يبتعد عن مواطن الفتن التي ربما تغريه أو تصرفه عن منهج الاستقامة، فتكون الخسارة العظيمة في الدنيا والآخرة.
هناك نوع خاص من العبادة هو الاستقامة، ولذلك يقول الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112] أي: لا تستقم كما يحلو لك، كثير من الذين يبتدعون في دين الله إذا أعجبتهم عبادة أدخلوها في الدين، وقالوا: هذه بدعة حسنة، هل يكون هناك في دين الله بدعة حسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)؟
أين البدعة الحسنة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة)؟
(كل) من ألفاظ العموم، فليس في الإسلام بدعة حسنة أبداً.
ويستدل بعضهم بقول عمر رضي الله عنه لما أعاد صلاة التراويح (نعمت البدعة) فظنوا أن هذه بدعة حسنة، وعمر ما أتى ببدعة جديدة، وإنما أحيا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة التراويح التي تركها الرسول صلى الله عليه وسلم فقط خشية أن تكتب على الأمة؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر تشريعاً لهذه الأمة.
أما ما يفعله الناس اليوم من العبادات التي لا أصل لها في دين الله، فهي تتعدى الكفر بالله سبحانه وتعالى.
أنا متأكد أنه لو بعث الرسول صلى الله عليه وسلم اليوم في العالم لقطع رءوس هؤلاء القوم الذين يبتدعون في دين الله، ويحدثون عبادات ما شرعها الله، ويطوفون بالأضرحة والقبور ويسألونها الحاجات، ولقاتلهم قبل أن يقاتل الشيوعيين الذين يقولون: لا إله والحياة مادة؛ لأن هؤلاء الذين يعبدون الله على غير بصيرة ينافسون الله عز وجل في سلطانه، ويريدون أن يكونوا مشرعين هم أنفسهم، ويضلون الناس من حيث لا يشعر الناس، ولذلك إذا ألقي أهل النار في النار يقولون لدعاة الضلال: إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات:28] أي: ما جئتمونا عن طريق الزنا والسرقة وشرب الخمر، وإنما جئتمونا عن طريق الطاعة، قلتم لنا: هذه بدعة حسنة .. هذا دين الله .. هذا شرع الله .. فاتبعناكم.
ولذلك كان هذا أخطر ما يدخل الناس النار، وهو أعظم عند الله من المعاصي الكبائر، وإن كان أصحابها يعتبرون من العباد النساك، ولربما وجد من العلماء من يشجعون على بناء الأضرحة والقبور، والذهاب إليها وسؤالها، وهؤلاء الصالحون ترجى شفاعتهم كما كان المشركون الأولون يقولون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
أيها الإخوة! إنه في هذا العصر الذي استيقظت فيه العقلية البشرية، وتطورت فيه عقلية الإنسان، وظن بعض الناس أن الخرافات سوف تنتهي؛ تقول الإحصائيات: إنه يوجد في العالم الإسلامي عشرون ألف ضريح يعبد من دون الله، ويحج لها الناس من بلاد بعيدة، ولو جئت إلى بعض المواقع يقول لك: لا تطف إلا شوطاً واحداً، الكعبة سبعة أشواط، لكن هنا شوط واحد لأن الزحام شديد، لا يسمح لأي واحد، إلا بشوط واحد إلا إذا استعمل الحيلة مثل أن يخرج ويرجع ليأتي بشوط آخر.
أين هذا الإكمال عند هؤلاء مع هذا الواقع؟
نقول: نعم، الله تعالى أكمل هذا الدين، لكن هؤلاء ما فهموا معنى إكمال هذا الدين، فوضعوا أنفسهم مشرعين كما يشرع الله سبحانه وتعالى، فيأتون بعبادات، ويصرفون الناس عن المنهج الصحيح، ولعل هؤلاء هم السبب في وجود هذه الأشياء من شياطين الإنس الذين جاءوا فاجتالوا بني آدم عن الفطرة.
أكثر ما وصلت إليه الوثنية في آخر يوم من أيامها يوم فتحت مكة، أن كان لها ستون وثلاثمائة وثن تعبد من دون الله، والآن يقولون: بلغت عشرين ألف ضريح وهذه الإحصائية قبل عشر سنوات.
إذاً: يقول الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]، ليس معناه: استقم كما يحلو لك أو كما يبدو لك، ليس هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة، فإن كل بدعة ضلالة، ولذلك يجب أن يحقق الإنسان معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فلا يعبد إلا الله، ويحقق شهادة أن محمداً رسول الله، فلا يعبد الله إلا بما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن انحرف يميناً أو شمالاً عن هاتين الشهادتين فهو الكفر والشرك بالله عز وجل.
فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110] يعني: صواباً كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] أي: يحقق معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
إذاً: أيها الإخوة! يقول الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) أي: أنت مضبوط بمنهج مرسوم لك، لا تعبد الله كما يحلو لك، ولا تستقم كما يحلو لك من الاستقامة، فأنت مضبوط ومربوط بمنهج، ولا تسمى الاستقامة استقامة إلا إذا كانت على هذا المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله.
أحذر إخواننا الذين يأتوننا من خارج هذه البلاد أن يميلوا إلى هذا النوع من البشر الذين أحدثوا في دين الله، أو يذهبوا إلى الأضرحة والقبور ويسألونها الحاجات من دون الله، فإنه لا يقضي الحاجة إلا الله سبحانه وتعالى.
وأدعوهم إلى أن يأخذوا على أيدي هؤلاء الناس إلى المنهج الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]، ولو جعلنا هذا الدين مطاطاً كلما أعجبتنا عبادة أدخلناها في دين الله لما وقف هذا الدين عند حد، ولما تحقق قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
وبمقدار ما يدخل من البدع في دين الله تخرج السنن حتى لا تبقى سنة، ويكون الأمر كله بدعة.
لأن الاستقامة معناها أن يكون الأمر مستقيماً بين طرفي نقيض، ومن فضول القول أن نتحدث عما يسمى بالتطرف في أيامنا الحاضرة، أنا والله حينما أتحدث عن تطرف لا أجد مجالاً للحديث، لكن ربما نومئ إليه إيماءً.
فمعنى التطرف المبالغة في الدين، هذه قد توجد نادراً لكن لا كما يصورها الناس في أيامنا الحاضرة، ففي أيامنا الحاضرة كلما رأى الناس شخصاً يتمسك بهذا الدين، ويخرج عن الأوضاع المألوفة التي ألفها الناس مدة طويلة في أيام الركود التي مضت بنا، يسمون ما يحدث بالتطرف، والحقيقة أن هذا ليس تطرفاً، هذا هو الدين، لكن لما نسي الناس وغفلوا عن هذا الأمر مدة من الزمن ظنوا أن من اتجه هذا الاتجاه يعتبر متطرفاً، وإلا في الحقيقة هذا هو الدين.
ولربما يطعنون في المتدينين فيسمونهم المتطرفين أو الأصوليين أو ما أشبه ذلك، وهؤلاء هم المتدينون الذين ساروا على المنهج الصحيح، لكن ربما أن الناس جهلوا جانباً من جوانب هذا الدين أو تناسوه أو نسوه مدة طويلة من الزمن، وهي مدة الركود التي مرت بنا، فظنوا أن ما حدث تطرفاً، لكن لا يمنع أن يكون هناك تشدد في الدين، وهذا التشدد يقابل من الجانب الآخر التساهل؛ ولذلك يقول الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ) أي: فإن دين الإسلام وسط بين طرفي نقيض، فلا هو بالطرف الشديد من جهة اليمين، ولا بالطرف الشديد من جهة اليسار ولكنه وسط؛ ولذلك يحذر الله سبحانه وتعالى المسلمين أن يزيدوا في هذا الدين، كما يحذرهم أن ينقصوا من هذا الدين، ولكن النقص في هذا الدين أسهل من الزيادة؛ لأن النقص في هذا الدين يعتبر معصية، والزيادة في هذا الدين تعتبر تشريعاً، فهذا الزائد في الدين يعتبر نفسه مشرعاً يضع نفسه في درجة الخالق سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [المائدة:87] فقدم تحريم الطيبات على الاعتداء الذي هو الجرأة على المحرمات، فالأول أشد، والثاني أيضاً شديد.
ولذلك نجد أن دين الإسلام دين وسط بين طرفين، فمثلاً: حينما تقدس الصوفية الروح وتهمل الجسد، نجد بجانبها من الطرف الآخر الشيوعية الملحدة التي تهمل الروح وتقدس الجسد.
والإسلام يعطي لكل من الجسد والروح حقه، فلا يسمح للإنسان أن يرهق هذا الجسد حتى ولو في طاعة الله تعالى، ولا يسمح له أن يتساهل في أوامر الله، فلا هو بالصوفية الموغلة التي تهتم بالروح دون الجسد، ولا هو بالشيوعية الملحدة المادية التي تهمل الروح وتقدس الجسد.
والإسلام لا يذيب الفرد في سبيل الجماعة، ولا الجماعة في سبيل الفرد، فيعتبر للجماعة حقاً، وللفرد حقاً، فالإسلام في الأنظمة الاقتصادية لا هو بالرأسمالية في معناها العصري والاصطلاحي التي تأخذ المال من أي طريق وبأي حال ولا تعتبر في المال حقاً، ولا هو بالاشتراكية الخبيثة الملحدة التي تأخذ أموال الناس وتبتزها، ولكنه وسط، فهو يثبت الملكية الفردية للإنسان، ويضع لها قيوداً سواء كان في مصادرها أو مواردها.
وهكذا تجد أن الإسلام وسط بين طرفي نقيض، فهو مستقيم بين طريقين منحرفين؛ ولذلك يقول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] وبالرغم من أن (وسط) معناه: عدول وثقات، وهي كذلك تعطينا المعنى الآخر، فهو وسط بين طرفي نقيض.
إذاً: هذا هو معنى قوله تعالى: (كَمَا أُمِرْتَ) فلا يظنن أحد أن باب الاستقامة مفتوح للزيادة، ولذلك نجد أن الله تعالى يحرم عبادات حتى لا يزيد الإنسان في العبادات، فمثلا:ً نأتي في أمر الصلاة، فلو أن واحداً زاد صلاة سادسة، قلنا: أنت كفرت بالله عز وجل، ولو جعل الصلوات أربعاً قلنا أيضاً: كفرت بالله تعالى.
ومثله في الصيام: حرم الرسول صلى الله عليه وسلم صيام يوم الشك، وجاء في الحديث: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) ويوم الشك هو آخر يوم من شعبان.
لماذا حرم الرسول صلى الله عليه وسلم صوم يوم الشك؟ حتى لا يدخل الناس في العبادات زيادة ليست منها، وحرم صوم يوم عيد الفطر حتى لا يزاد في هذه العبادة من آخرها.
وأمر صلى الله عليه وسلم بتأخير السحور حتى لا نأخذ من الليل زيادة للنهار، وأمر بتعجيل الفطر حتى لا نأخذ من الجانب الآخر من الليل زيادة.
الطغيان وهو أول عامل من عوامل عدم الاستقامة، لأن الطغيان مجاوزة الحد، وقلت لكم إن الزيادة في العبادة تعتبر طغياناً؛ ولذلك جاء ثلاثة نفر ذات يوم إلى بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عمله في السر، فأخبرتهم إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم بعمله في السر، فتقالوا هذا العمل، وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد وقال الثاني: أما أنا فأصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء.
فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما فعله هؤلاء؛ فخاف أن يكون ذلك حدثاً في دين الله، وخاف أن يحدث الناس تشريعاً لم يشرعه الله عز وجل، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فغضب غضباً لم يغضب مثله أبداً، وصعد المنبر وقال: (أما بعد: فإني أتقاكم لله، وإني لأصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فالطغيان حتى في العبادة لا يجوز؛ ولذلك فإن الطغيان بكل أنواعه خطير جداً، طغيان المادة يفسد الأمم، والتكبر في الأرض يفسد أصحابه؛ ولذلك أخبر الله تعالى بأنه أخذ الأمم حينما طغوا في البلاد قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:6-14].
يقول الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) أي: فلينتبه كل من طغى، وهذه الآية تعطينا معنىً جديداً خالداً إلى يوم القيامة أن كل من طغى، وتجاوز الحد، وركب محارم الله، وتعدى على خلق الله، واستذل من أعزه الله، وحاول أن يذل المؤمنين، وحاول أن يظهر مظهر الكبرياء والخيلاء والعظمة التي لا تكون إلا لله، فإن الله عز وجل له بالمرصاد.
ولذلك نقرأ في أخبار الأمم السابقة في القرآن: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا [العنكبوت:40].
ثم نقرأ بعد ذلك قصة الطاغية الجبار العنيد الذي كان يستذل الأمم ويقول لهم: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] ويزيد في طغيانه وتكبره على الله عز وجل فيقول: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [القصص:38]؛ لأنه يؤمن في قرارة نفسه بأن الله تعالى موجود، وأن الله هو الرب الحقيقي قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] هذا الطغيان! (طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) فأخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر.
وإذا لم يأخذ الإنسان عظة وعبرة من الأمم السابقة فعليه أن ينظر في أمم طغت في أيامنا الحاضرة، أو في عصرنا الحديث أو قبل سنين، فماذا فعل الله تعالى بالمسلمين في الأندلس؟
أصبحوا خبراً بعد عين.
ماذا فعل الله تعالى بلبنان؟ ماذا حدث في أمم عشناها نحن؟ بمقدار ما ركبوا من محارم الله، وبمقدار ما اشتدوا على خلق الله، عاقبهم الله سبحانه وتعالى في الدنيا قبل الآخرة، وليس هناك ذنب أعظم وأحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا قبل الآخرة من الظلم في الأرض، فإن الظلم يعجل الله عز وجل عقوبته في الدنيا قبل الآخرة.
فالذين يظلمون الشعوب ويتعدون على محارمهم، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، هؤلاء قد يعاجلهم الله عز وجل بعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، وكم سقطت من أمة، وكم درج في هذا التاريخ الطويل عبر هذه الحياة الطويلة من الأمم فصار خبراً بعد عين!
أيها الإخوة! قال تعالى: وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112] يعني: يدرك أموراً لا يدركها الناس.
والركون إلى الكافرين هو الميل بحيث تتخذ الكافر ركناً تعتمد عليه بدل أن تعتمد على المسلمين بعد الله سبحانه وتعالى.
والمسلم لا يركن إلى أعدائه ولا يميل، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لامه الله عز وجل لما فكر أن يميل شيئاً قليلاً، وأن يركن شيئاً قليلاً إلى الكافرين، يقول الله عز وجل: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:74-75].
والرسول صلى الله عليه وسلم وهو يفكر أن يركن قليلاً لمصلحة الإسلام وللدعوة؛ لعله أن يكسب القوم ليستقيموا على دين الله، ومع ذلك يقول الله تعالى: لو فعلت ذلك يا محمد وأنت خير البرية (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) فركون المسلمين إلى الكافرين واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين أمر عظيم، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1].
مودة الكافرين أمر عظيم عند الله ولو كانوا أقرب الناس منا، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [المجادلة:22].
أيها الإخوة! إن الميل إلى الكافرين سواء كان بمحبة أو اعتماد عليهم من دون الله عز وجل، أو موادة، أو ابتسامة في وجوه الكافرين حرام، حتى السلام يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام) ولا نفسح لهم المجال في بلاد المسلمين بحيث يرفعون رءوسهم والمسلمون يخفضون رءوسهم، قال صلى الله عليه وسلم (وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه).
وليس معنى ذلك أن نؤذي الكافرين المعاهدين، بل علينا ألا نتركهم يرفعون رءوسهم في بلاد المسلمين بحيث يخفض المسلمون رءوسهم أمام هؤلاء الكافرين.
قال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ أي: تصيبكم، وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود:113].
الصلاة أفضل العبادات، ليس هناك عبادة شرعت فوق السماء إلا الصلاة، وسائر تشريعات الإسلام كلها نزل بها الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم إلى الأرض، إلا الصلاة لما أراد الله تعالى أن يفرضها صعد بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوق السماء؛ ولذلك فإن تركها ردة، ولا يحافظ عليها إلا مؤمن، ولا يتخلف عنها في المسجد غالباً إلا منافق معلوم النفاق، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين -لأنه لا يستطيع المشي- حتى يقام في الصف).
ولذلك فإن الصلاة أعظم شريعة، ولا يرتد المسلم بترك عبادة من العبادات إلا الصلاة.
قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ) صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر، (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) المغرب والعشاء (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) يعني: هذه الصلوات تكفر الذنوب التي تفعل فيما بينها إذا كانت من الصغائر، أما إذا كانت من الكبائر فإنها تحتاج إلى توبة خاصة.
ولذلك فإن سبب نزول هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ، أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني قبلت امرأة، فقال له: اجلس، فجلس الرجل، وأنزل الله تعالى هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] قال: يا رسول الله! ألي خاصة أم لجميع الأمة، قال: بل لجميع أمتي) فالصغائر تكفرها الصلوات الخمس.
لذلك فالصلاة أمرها عظيم، وقد شبهها الرسول صلى الله عليه وسلم بنهر غمر جار في باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ لا يبقى من درنه شيء
الصلاة تطهر المجتمع من الفساد، قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
كم من الناس من هو في خير لكن طال عليه الأمد فقسا قلبه نسأل الله العافية والسلامة، ولذلك فإن المسلم مطالب بالصبر بكل أنواعه: صبر على طاعة الله، وصبر عن معاصي الله، وصبر على أقدار الله.
وهذه الثلاثة الأنواع من الصبر كلها يحتاج إليها المؤمن في حياته، فيصبر نفسه على طاعة الله، لما يوجد في طاعة الله من المشقة.
ويصبر عن معصية الله؛ لما في معصية الله من الشهوة.
ويصبر على أقدار الله المؤلمة؛ لما في أقدار الله عز وجل من الأذى والتعب، الذي قد لا يستطيع الإنسان أن يتحمله.
وطريق الجنة -كما نعرف- محفوف بالمكاره، كما أن طريق النار محفوف بالشهوات، قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وفي الحديث: (إن الله عز وجل حينما خلق الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب جبريل إلى الجنة، فوجدها جنات تجري من تحتها الأنهار، رجع فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر الله عز وجل بها فحفت بالمكاره) فصلاة الفجر تأمر المسلم بأن يقوم في ساعة لذة النوم التي ينام عنها كثير من المسلمين اليوم، والتهجد والصيام فيه مشقة، وكذلك غيره من العبادات، الجهاد في سبيل الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك فيه شيء من المشقة.
(ثم خلق الله عز وجل النار فقال لجبريل: اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فلما جاءها يأكل بعضها البعض -نسأل الله العافية والسلامة- رجع وقال: وعزتك وجلالك لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر الله عز وجل بها فحفت بالشهوات) المحرمات اللذيذة، النوم عن الصلوات المكتوبة .. البخل بالزكاة .. التمتع بالمال فيما حرم الله .. الزنا وما فيه من لذة ومتعة .. السرقة .. إلى غير ذلك من الشهوات التي تميل إليها فطرة كثير من الناس.
(فلما رآها قد حفت بالشهوات رجع وقال: وعزتك وجلالك خشيت ألا ينجو منها أحد)، نسأل الله العافية والسلامة.
فالله تعالى هنا يقول: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:115] والإحسان معناه: إتقان العمل، ومراقبة الله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر لربما تعجز عنه النفوس الصغار التي لا تشتاق إلى الجنة وإلى لقاء الله عز وجل، لكن النفوس الكبار التي تعشق هذا النعيم لا تبالي في طريق الجنة بأي مكروه من هذه المكاره.
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، إلا إن سلعة الله الجنة).
أهم عوامل الاستقامة النهي عن الفساد في الأرض، وأهم عناصر بقاء الاستقامة في الأرض أن ينهى عن الفساد في الأرض، ومن الذي ينهى عن الفساد في الأرض؟
الأمة الإسلامية كلها، قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] الفساد إذا حل في الأرض تفسد حياة الدنيا كلها، وربما ينزل الله عز وجل عقوبة تكتسح هذا العالم، كما أهلك عاداً وثمود وأصحاب الأيكة .. إلى غير ذلك من الأمم.
ووجود الفساد في الأرض سراً ربما يكون أمره سهلاً، لكن انتشار الفساد في الأرض، وانكشاف الفساد في الأرض علناً في وضح النهار ينظر إليه المسلمون بأعينهم، ويسمعونه بآذانهم، ويعيشونه حياة طويلة من الزمن، ولا يرفعون بذلك رأساً أمر خطير جداً، فالله سبحانه وتعالى يغار على محارمه كما يغار أي شخص منا على محارم نفسه، بل إن الله تعالى لا يشبهه في غيرته أحد من خلقه، والله تعالى له محارم، ومحارم الله: ما حذر الله وما نهى عنه سبحانه وتعالى، فإذا فعل أصحاب المنكر المنكر في وضح النهار، وسكت العلماء وسكت العامة، وكل تخلى عن هذه المسئولية، حلت المصيبة بالأمة الإسلامية ولذلك مثل الرسول صلى الله عليه وسلم الحياة كلها بسفينة واحدة يسكن فيها الصالحون والفسقة والطغاة والكفار والمؤمنون، وكل أنواع البشر.
لكن هذه السفينة إما أن تبقى يحافظ عليها الجميع فتسلم هذه السفينة، وإما أن يعبث بها الجرذان وضعاف الإيمان، وشذاذ البشر، فلا بد حينئذ أن يكون في السفينة من يحافظون عليها من الغرق، فإن تركوا أوباش البشر يلعبون بالسفينة ويخرقونها ولو كان للمصلحة حسب ما يعتقدون، ليستقوا الماء من عندهم حتى لا يضطروا إلى أن يؤذوا من فوقهم بحسن نية، أو بسوء نية؛ غرقت السفينة وفيها الصالحون والفاسدون.
ولذلك نصيحتي أيها الإخوة أن نحافظ على هذه السفينة، وأن نناصح المسئولين ونقول لهم: اتقوا الله، وعلى المسئولين أن يقبلوا كلمة (اتقوا الله)؛ لأن الوعيد جاء من عند الله لمن لم يقبل كلمة: اتق الله.
وعلينا ألا نغفل عن قولنا لهم: اتقوا الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعلينا أن نحافظ على أنفسنا حتى لا تخرق السفينة داخل بيوتنا، وعلينا أن نحافظ على السفينة حتى لا تخرق في أسواقنا، فتغرق هذه الحياة كلها فيحدث أمر لا يطاق؛ ولذلك فإن الله عز وجل يقول: (فَلَوْلا) أي: فهلا (كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: علمتم أن من قبلكم من القرون كان فيهم من لا ينهى عن الفساد في الأرض، فهل ستكونون مثلهم يا أمة الإسلام لا تنهون عن الفساد في الأرض؟! وهذ استفهام إنكاري مشدد من عند الله عز وجل.
فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116] أي نجاة لا تكون إلا للذين ينهون عن الفساد في الأرض، فانهوا يا إخوتي في الله عن الفساد في الأرض.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت أقدام الجميع على الاستقامة على دين الله، وأن يحفظنا وإياكم بالإسلام قائمين وقاعدين ونائمين، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يهدي ولاة أمر هذا البلد، وأن يجعلهم من الذين قال الله عز وجل فيهم: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].
كما أسأله أن يهدي ولاة أمر المسلمين والمسلمين كافة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر