الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي سلم الحجر عليه، ونبع الماء من أصبعيه، وحن الجذع إليه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! فإن المتصدر لتدريس شخصية ما، وذكر أحوالها ومناقبها، وما آلت إليه، وما قدمته للناس، يجعل النقد أول معاييره حتى يضع الناس على بينة من أمرهم في الصواب والخطأ، والهداية والضلالة، والسداد وعدم التوفيق، لكن الذي يريد أن يتحدث عن سيد الأنبياء وإمام الأتقياء سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فليس عليه إلا أن يطأطئ رأسه، ويخشع قلبه وتسكن جوارحه؛ لأنه يتحدث عن رحمة مهداة، ونعمة مسداة، عن سيد البشر، وخيرة خلق الله وصفوته، عن رسول الهدى، ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، وينبغي أن يعلم في أول الأمر أن السيرة واحدة لا تزيد ولا تنقص، فلا يستطيع أحد أن يزيد شيئاً لم يثبت فيها، ولا يستطيع أحد أن ينقص شيئاً مما ثبت فيها، لكن المسلمين في استسقائهم من سيرته صلى الله عليه وسلم تختلف مواردهم ومناهلهم ومصادرهم، فمن سيرته صلى الله عليه وسلم يستسقي الواعظون، وينهل القادة، ويغترف الساسة، ويتعلم العلماء، ويبحث الفقهاء، ويجد كل امرئ له حظاً من سيرته صلوات الله وسلامه عليه، والأمر كما قيل:
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم
صلوات الله وسلامه عليه، ثم إنني قلبت الأمور في الوجه الذي أريد أن تخرج به هذه المحاضرة على النحو الأتم، والوجه الأكمل، على ما يسعى الإنسان أن ينال به رضوان الله، ثم نفع إخوانه المسلمين، فبدا لي -والإنسان ناقص مهما سعى إلى الكمال- أن عرض السيرة إجمالاً من الميلاد إلى الوفاة، والوقوف بعد ذلك عند الفوائد والعظات والعبر، أقرب طريق إلى فقه سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل، والنحو الأتم.
ونبينا صلى الله عليه وسلم نال الحفاوة كاملة، والاحتفاء التام من ربه جل وعلا، وحفاوة الله بأنبيائه سنة ماضية قال الله جل وعلا في حق نبيه إبراهيم: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47]، وقال جل وعلا في حق موسى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وقد نال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل حفاوة وأتمها من قبل ربه جل وعلا، فلقد مهد الله جل وعلا لذلك من قبل، يقول صلوات الله وسلامه عليه: (إني عند الله لخاتم النيين، وإن آدم لمجندل في طينته).
ثم لما بعث الأنبياء وبعث المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أخذ الله جل وعلا العهد والميثاق أنه إذا بعث رسولنا صلى الله عليه وسلم وهم أحياء يرزقون أن يصدقوه ويؤمنوا به: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].
ثم كانت دعوة أبيه إبراهيم عندما وقف عند البيت: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، ثم كانت بشارة عيسى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين رأت أن نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام)، وقال صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وحسنه: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، خلق الله الخلق فجعلني في خير فرقة، ثم قسمهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً). صلوات الله وسلامه عليه.
هذا كله قبل ولادته صلوات الله وسلامه عليه، فلما أراد الله جل وعلا له أن يولد في العام الذي ولد فيه صلوات الله وسلامه عليه كان في ذلك العام إرهاصات وأحداث عظام تدل على أن شيئاً ما سيقع، وأن حدثاً عظيماً سيكون، فكانت ولادته صلى الله عليه وسلم في نفس العام الذي غزى فيه أبرهة بيت الله العتيق، وعاد من ذلك الغزو خاسراً خائباً كما هو معروف لكل أحد.
عاش صلى الله عليه وسلم بعيداً عن أسرته ثم عاد إلى مكة فكفله جده عبد المطلب ، ثم ما لبث أن توفي ذلك الجد، ثم كفله عمه أبو طالب ، ولم يكن دور أبي طالب أكثر من راع معيشي له صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن لدى أبي طالب حظ من علم، أو أثرة من كتاب، يسقي من خلالها رسولنا صلى الله عليه وسلم، حتى تكونت شخصيته فنشأ بعيداً عما فيه قومه.
وكذلك العاقل إذا رأى مجتمعات الفساد، وأودية الضلال، ومنتجعات الغواية، نأى بنفسه عنها، ولو عاش وحيداً، قال الله جل وعلا: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:49].
فالبعد عن أهل الغواية والفساد والشرور والآثام أول طرائق الفلاح والنجاح، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بعيداً عن محافل الخير، فقد شهد حلف الفضول، وشهد غير ذلك من مآثر قومه في الجاهلية، ثم بدأت إرهاصات البعثة تدريجياً شيئاً فشيئاً من غير أن يعلم صلوات الله وسلامه عليه، فلم يحدث نفسه ذات يوم أنه سيكون نبياً؛ لأنه لا علم له بذلك أصلاً، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يرى رؤيا، وكان لا يرى رؤيا إلا وتأتي مثل فلق الصبح حاضرة ناصعة كما رآها في منامه، حتى دنت البعثة فكان يمشي في طرقات مكة فتسلم عليه الحجارة: السلام عليك يا نبي الله! فيلتفت يميناً وشمالاً فلا يرى شخصاً ولا خيالاً، فيسكت ويبقى على حاله.
ثم قال له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5].
إن كثيراً من الناس قد يأتي إليك محمولاً بالهموم مثقلاً بالخطايا فليس من الصواب أن تسرد عليه همومك أنت وترده خائباً، لكن ينبغي أن تنسى همومك في جانب همه إذا أردت له النفع والفائدة، ثم أخذته بيده إلى ورقة بن نوفل ابن عمها وكان رجلاً له حظ من علم وأثرة من كتاب، فقال له: ذلك الناموس الذي كان يأتي موسى، فاشتاق صلى الله عليه وسلم إلى الوحي؛ لأنه سمع القرآن لكن الوحي انقطع ولم يأت حتى يذهب الرعب، ويبقى الشوق إلى كلام الله جل وعلا، كيفية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تلك اللحظات، قال أكثر أهل العلم: إنها بقيت ستة أشهر وهي مرحلة فتور الوحي، أصاب النبي صلى الله عليه وسلم فيها من الحزن ما الله به عليم، حتى نقل الحافظ في الفتح عن الزهري : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما يصعد إلى شواهق الجبال يريد أن يتردى منها مما أصابه من حزن ومن شك في النفس عن الحادثة الأولى، لكن بعض المحدثين من العلماء يقولون: إن هذه الرواية على هيئة بلاغ وهي لا تصح وتنافي عصمة الأنبياء والله تعالى أعلم.
ثم نزل الوحي وتتابع وحمي بأعظم من ذلك، قال الله جل وعلا في آية يبين فيها علو قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه، فأقسم الله بمخلوقاته إرضاء له صلوات الله وسلامه عليه: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3].
هذا الإشعار الإلهي الذي جاء على هيئة آية قرآنية فيه من الإثبات للمكانة العظمى لرسولنا صلى الله عليه وسلم مكانة لا يرقى إليها أحد من الخلق كائناً من كان، إلا أنها في نفس الوقت لا تعطيه صلى الله عليه وسلم أي حظ من الألوهية أو الربوبية فالألوهية والربوبية، كمالها وتمامها لله جل وعلا وحده لا شريك له فيها أبداً.
نقف عند هذا الحدث: فهناك -يا أخي- أعراف وتقاليد تتغير من مجتمع إلى آخر والعاقل من يستزيد من تلك التقاليد والأعراف ولا يصادمها، فـابن مسعود كان يعلم أن الأعراف الجاهلية لا تسمح للضعفاء ولا عديمي الظهر من أن يكون لهم حظ في الناس، فكان يعلم أنه لا يمكنه أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو ميت فأبقى على نفسه ولم يأت ليرفع سلى الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو من الإيمان والتقوى بمكان لا يعلمها إلا الله، وكانت الأعراف الجاهلية تنص على حفظ المرأة وعدم التعرض لها ولو بدأت بالأذى، فكان موقفاً لـفاطمة أنها تقدمت بين صفوف الرجال وحملت سلى الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم دون أن يصيبها أذى، فالعاقل من الدعاة والحكيم من أهل الاستقامة من يتعامل مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية بما يتوافق معها، وهذه التقاليد والأعراف لا تبقى في كل زمان على هيئة واحدة وإنما تتغير الأعراف والتقاليد من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، والشاهد والمقصود: أن يوظفها الإنسان لصالح الدعوة، ولصالح هداية الناس إلى طريق الله المستقيم.
ومع ذلك كله -ولله الحكمة البالغة- لم يرزق أبو طالب الإيمان بالله جل وعلا فمات على الكفر؛ ولذلك حكمة لا يعلمها إلا الله جل وعلا، وبعد أن انتهى الحصار أو قبل أن ينتهي لا يخلو صراع بين الحق والباطل بنشوء أقوام كما يسمى في عرف السياسيين اليوم: دول عدم الانحياز، كانت في عصرنا هذا على هيئة دول لكنها في العصر السابق على هيئة أفراد فينشأ في المجتمع قوم حياديون ليسوا مع قريش وليسوا بمؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم، هؤلاء القوم تشاوروا فيما بينهم وعرفوا بطلان ما دعا إليه رؤساء قريش وزعماؤهم فتعاونوا على نقض المعاهدة.
وهنا ينبغي للعاقل من الدعاة وغيرهم عندما يرى أهل المروءات الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان أن يستفيد منهم في عالم الصحوة وعالم الدعوة، ويبذل طاقاتهم وقدراتهم في سبيل الدعوة إلى الله جل وعلا، ولا يصادمهم حتى لا تخسر الدعوة سنداً وقوة لها، فهؤلاء القوم لم يكونوا من أهل الإيمان، لكن كانت في قلوبهم رحمة، وفي أنفسهم شهامة، ومن خصالهم المروءة وظفوها لنقض المعاهدة، وتم لهم ما أرادوا، ونقضت الصحيفة وخرج بنو هاشم من الحصار، وبعد خروجهم من الشعب من شعب بني هاشم مات أبو طالب وماتت خديجة في عام واحد، وقيل: بين موتهما ثلاثة أيام، فبدا له صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان، فخرج إلى الطائف وكانت أقرب الأماكن إلى مكة، خرج إلى الطائف فبدأ بسادات ثقيف يدعوهم إلى دين الله جل وعلا، فلم يكونوا بأحسن حظاً من كفار قريش فسخروا منه وأمروا صبيانهم أن يرجموه فرموه بالحجارة حتى أدميت عقباه صلى الله عليه وسلم.
ثم نزل صلى الله عليه وسلم وحيداً ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة فإذا انقطعت أسباب الأرض لجأ صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فورد عنه أنه صلى الله عليه وسلم بث إلى الله شكواه، ورفع إلى الله نجواه، وهو يعلم أنه نبي مرسل، لكن البلاء فيمن يستمع إليه، فناجى ربه قائلاً: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت أرحمن الراحمين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي سخط فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت منه الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)، فتحت لهذه الدعوات أبواب السماء فما كاد صلى الله عليه وسلم ينزل من الطائف من وادي نخلة حتى بعث الله إليه نفراً من الجن يؤمنون به حتى تطمئن نفسه ويسكن قلبه ويعلم أن العاقبة له: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف:29]، فاطمأنت نفسه شيئاً فشيئاً صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعث إلى الملأ من قريش يخبرهم برغبته في دخول مكة، ويريد أن يدخل في حلف أحدهم فرده ثلاثة منهم، ثم قبل المطعم بن عدي أن يدخل في جواره فدخل صلى الله عليه وسلم رغم أنه مشرك استبقاء للمسلمين حتى لا يتعرضوا للأذى ثم بعد رحلة الطائف من الله عليه برحلة الإسراء والمعراج، فجاءه جبرائيل وهو نائم في الحجر فشق صدره وغسل قلبه بماء في طست من ذهب، ثم أفرغ في قلبه الطاهر إناء ملئ إيماناً وحكمة، ثم قدم له البراق، ثم أسري به صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس حيث المسجد الأقصى، وربط دابته في مربط هناك، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، فلما صد أهل الأرض أبوابهم أمامه فتح الله له أبواب السماء فاستقبله هناك سادات الأنبياء بدءاً بآدم ثم يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، ثم بيوسف بن يعقوب عليه السلام، ثم إدريس، ثم هارون، ثم موسى، ثم أبوه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ثم وصل صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، ورأى جبرائيل كرة أخرى على هيئته التي خلقها الله تعالى عليها.
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما رأوك بها التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم
ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم
مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم
يمرغ في حراء أديم خد دواماً بالغداة وبالعشي
لعلي أن أنال بحر وجه تراباً مسه قدم النبي
مكث صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام وقريش تبعث الطلب والرصد فيه فوقفوا على مقربة من الغار وأبو بكر يقول: (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر أسفل قدميه لرأانا فيقول: يا
بالأمس خرج من مكة شريداً طريداً في ظلمة من الليل، ثم ما لبث أن نصره الله فدخل المدينة كأعظم ما يدخلها الملوك والأنصار من حوله، كلما مر على ملأ قالوا له: هلم إلى العدد والعدة، هلم إلى العز والمنعة، يا رسول الله! وهو يقول: (خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة)، حتى بركت الناقة في موطن مسجده اليوم صلوات الله وسلامه عليه، على مقربة من بيت أبي أيوب ، فعمد أبو أيوب إلى متاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخله بيته، فقال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع رحله)، ثم بنى مسجده، وبدأ يضع النواة الأولى لدولة الإسلام صلوات الله وسلامه عليه.
مكث صلى الله عليه وسلم في العريش ينادي ربه حتى سقط رداؤه عن منكبه صلوات الله وسلامه عليه، وأبو بكر يأتيه من الخلف فيضمه فيقول: بعض مناشدتك ربك يا رسول الله! فأنزل الله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، فكان النصر له صلوات الله وسلامه عليه، فلما أقر الله عينه بالنصر ووضع القتلى في قليب بدر نظر إليهم عليه الصلاة والسلام وأخذ يقول: يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! يناديهم بأسمائهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فتعجب أصحابه قالوا: يا رسول الله! تكلم قوماً قد رموا قال: يا
وقد قال بعض الصالحين لولده ينصحه: يا بني! إن الله لن يسألك لما لم تلعن فرعون؟ مع أن فرعون ملعون في كتاب الله، لكن المؤمن العاقل مثل هذه الأمور لا يلقي لها بالاً، ولا يشغل بها نفساً فالجنة والنار بيد رب العالمين، وبيد أرحم الراحمين، ولن يسألنا الله من هم أهل الجنة؟ ومن أهل النار؟ لكننا لأنفسنا نسأل الله الجنة ونستجير بالله جل وعلا من النار.
وفي مسند البزار : (أن لا إله إلا الله كلمة كريمة على الله، من قالها في الدنيا صادقاً دخل الجنة، ومن قالها في الدنيا كاذباً حقنة دمه وحسابه على الله جل وعلا) فالعاقل لا يشغل نفسه بما لا يعنيه، لكنه في حوادث الدهر يحكم فيهم ما أمر الله به ورسوله، أما الحوادث الأخروية فلسنا مسئولون عنها؛ لأن علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
في غزوة أحد أراد الله جل وعلا أن يربي المسلمين على أن القادة العظماء والزعماء الأفذاذ لا يربون الناس على التعلق بذواتهم وعلى حبهم والمبالغة في الغلو فيهم ولكنهم يربون الناس على التعلق بالله جل وعلا فلما أصاب المسلمين ما أصابهم يوم أحد قال الله جل وعلا معاتباً أهل الإيمان: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144-145].
فالعاقل لا يربي الناس على التعلق به، وإنما يربيهم على التعلق بإله الكون وحده، فلا إله إلا الله تعني: أن الكمال المطلق، والحب المطلق، والتوحيد المطلق، والتكبير المطلق، لا يكون إلا لله جل وعلا وحده، فإذا كان سيد الخلق وجوده رحمة، وعدمه لا يضر المسلمين شيئاً إذا اعتصموا بما جاء، كان غيره أولى وأجدر أن تطبق عليه هذه القاعدة، فكان صلى الله عليه وسلم حية مبادئه، والدين الذي جاء به، أما هو صلى الله عليه وسلم فيجري عليه حتى قلم القضاء: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:30-31].
فهذا أعظم ما خرج المسلمون منه يوم أحد من تربية إلهية لهم، ثم كانت غزوة الأحزاب فجمعت قريش وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته فاستشار الناس؛ فأشار عليه سلمان الفارسي أن يحفر الخندق، والخندق وسيلة حربية مجوسية أخذها سلمان من أهل فارس لم يكن للعرب عهد بها ولا علم آنذاك، وهنا نأتي لما عرف في عصرنا بصراع الحضارات، ينبغي أن يفرق أهل التقوى ما بين التقارب الديني وما بين التقارب الحضاري، الدين -يا أخي- صنع إلهي لا يملك أحد أن يزيد فيه وينقص، والحضارة صنع إنساني قابلة للزيادة والنقصان، قابلة للأخذ والعطاء، قابلة للتلاقح بين الأمم إذا تقاربت وتناكحت.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مشورة سلمان وعمل بالخندق لما رأى فيه مصلحة يقوم به فلاح أمته، ولم يقل صلى الله عليه وسلم حينها: (من تشبه بقوم فهو منهم)، وهو محمول على من تشبه بهم في أمور الدين، أما الصناعات الإنسانية فليست ملكاً لأحد، ولقد كانت العرب لا تأتي المرأة وهي مرضع خوفاً على أن يؤثر الإسلام على الرضيع فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارس والروم تصنع ذلك ولا يضر أبناءها شيئاً لم ينه أمته عنه كما روى مسلم في الصحيح من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، فالحضارات حق مفتوح وأمر مشاع يجوز للأمة أن تأخذ منه إذا رأت أن في ذلك مصلحة، والحكمة ضالة المسلم أنى وجدها أخذها، أما الدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، ما عندنا من الدين يمنعنا أن نأخذ ولو قطرة من سقاء من أي دين أو ملة على وجه الأرض؛ لأن الله يقول: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، ثم توالت الأمور حتى كانت السنة السادسة فعزم صلى الله عليه وسلم على التوجه إلى مكة معتمراً وأخذ معه رهطاً من أصحابه معهم السيوف في قرابها، فلما دنوا من البيت العتيق منعتهم قريش من أن يدخلوه فجرى ما جرى من التفاوض، تريد قريش أن تطمئن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت لقتال، فكان أن بعث صلى الله عليه وسلم عثمان ؛ لأنه كان يومئذ عزيزاً منيعاً في بني أمية، وكان أكثرهم مشركاً حينذاك، ثم أشيع أن عثمان قد قتل فبايع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم نبينا صلى الله عليه وسلم على الموت تحت ظل شجرة سمرة، فالذين بايعوه ألفاً وأربعمائة رجل إلا الجد بن قيس ، وقد كان رجلاً منافقاً لم يحضر البيعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء: (أنتم خير أهل الأرض)، وقال لهم: (لا يدخل النار رجل بايع تحت الشجرة)، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بسط يمينه وقال: (هذه عن
بعد هذه البيعة وبعد مداولات أقر الصلح بين المسلمين وكفار قريش، والصلح ظاهره: أن فيه إجحافاً بحق المؤمنين وباطنه الرحمة، إذ وضعت الحرب وألقت أوزارها، وخلدت الناس، وأخذ ذوي العقول يفكرون في الطرائق المثلى للوصول إلى الإيمان.
إن هناك أناساً يرزقهم الله جل وعلا عقلاً فيمنعه من الاستفادة منه: حجب التقليد التي يضعونها أمامهم، أبو جهل كان يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم على الحق ورأى من الآيات ما يشهد له بذلك، لكن الحسد والتقليد الأعمى منعه، وكان سبباً في حرمانه من دخوله الإيمان.
أما سراقة بن مالك فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ورأى الآية لما غارت قوائم فرسه آمن أن النبي حق وعرف الآية، ونبذ التقليد وراء ظهره، خلال هذه الفترة بعد الصلح رجع عقلاء الناس إلى أنفسهم وأخذوا يناقشونها ويحاسبونها فدخل كثير من الناس أفواجاً في دين الله، فانقلب ذلك العدد من ألف وأربعمائة رجل إلى عشرة آلاف يوم الفتح كما سيأتي، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفي العام الذي بعده كانت عمرة القضاء، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه غزا خيبر، ثم لما كان العام الثاني كانت من ضمن شروط صلح الحديبية: أن من شاء أن يدخل في حلف محمد دخل، ومن شاء أن يدخل في حلف قريش دخل، فدخلت بنو بكر في حلف قريش، ودخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، فأعانت قريشاً بكراً على خزاعة، فقدم عمرو بن سالم الخزاعي
إلى المدينة يستنفر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام: (نصرت ياوالزعماء من الناس والذين تربوا على القيادة من الصعب أن تسلبهم حقهم بالكلية فإن ذلك يحدث تغيراً في أنفسهم، ونحن ما بعثنا لنخاصم الناس في دنياهم، وإنما بعثنا كدعاة وكعلماء لكي ننقذ الناس من الضلالة، فاترك للناس دنياهم يتركوا لك دينهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار
وكان قد غر كثيراً من المسلمين ما هم فيه من كثرة العدد، ثم ثبت الله نبيه وآل الأمر إليه صلى الله عليه وسلم، وعندما رجع صلى الله عليه وسلم من الطائف بدا له أن يقسم الغنائم فأعطى أربعة من رؤساء الناس يومئذ ممن أسلموا حديثاً ألف بعير لكل واحد، وقسم كثيراً من الغنائم على عدد بلغ ستين عند جمهرة المؤرخين، ولم يعط الأنصار شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، فحز ذلك في أنفسهم فتغيرت بعض قلوبهم، فقال حدثاء الأسنان منهم: يغفر الله لرسول الله يعطي قومه، وإن سيوفنا لتقطر من دماً، فبلغ ذلك القول رسولنا صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام من العلم والقدوة بمكان عظيم لا يرقى إليه أحد، والقادة العظماء لا يتركون الحزازات في النفوس، فكل إنسان مشاعر وأحاسيس وآراء لو أننا ثبتناها لانقلبوا علينا، لكن لا يمكن أن ينجح أمير في بلدته ولا زعيم في بلدته ولا أب في بيته ولا معلم في فصله ولا مرب في حلقته إذا كان لا يستمع إلى مشاعر وأحاسيس من هم تحته.
فالله جل وعلا كلم موسى واستمع إليه وهو مخلوق من مخلوقاته: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص:33-34]، والله يعلم كل ذلك من قبل أن يخلق موسى، ومع ذلك استمع إليه وهو الله جل وعلا ولله المثل الأعلى، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار في قبة ثم قال لهم في معالجة تربية يقصر عنها بيان البلغاء قال: (ما مقولة بلغتني عنكم؟ ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله، ألم تكونوا عالة فأغناكم الله، ألم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا: بلى يا رسول الله! لله ورسوله المنة والفضل، فقال: ألا تجيبوني؟ قالوا: بما نجيب يا رسول الله؟! فتولى الإجابة عنهم قال: إنكم لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك، ومخذولاً فنصرناك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار أوجدتم في أنفسكم علي في لعاعة من الدنيا أسلمتها إلى قوم حديثي عهد بإسلام، وأوكلتكم إلى ما جعل الله في قلوبكم من الإسلام، يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فبكى القوم رضي الله عنهم وأرضاهم وقالوا: رضينا بالله رباً، وبرسول الله قسماً وحظاً، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، وانقلبوا راجعين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم).
إن حاجتنا ملحة بأن نستمع إلى الغير، وإن من أعظم الأخطاء في التربية والدعوة: أن يجعل الإنسان من نفسه سلطاناً على الغير يفكر بدلاً منه، ويشعر بدلاً منه، ويرى ما حوله بدلاً منه، ذلك أسلوب فرعوني نقمه القرآن: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، وقد قيل:
زمان الفرد يا فرعون ولى ودالت دولة المتجبرينا!
وأصبحت الرعاة بكل أرض على حكم الرعية نازلينا
وفي عصرنا هذا: نشأ ما يسمى: بتقارب الأديان، وبحوار الأديان، فأما حوار الأديان فلا حرج فيه شرعاً إذا أراد المحاور المسلم أن يثبت صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله جل وعلا لا رب غيره، ولا شريك معه، أما تقارب الأديان فأمر مرفوض؛ لأنه لا يمكن أن تلتقي الأديان في شيء واحد فإن ذلك يعني: تنازلاً عقدياً والمسلمون أمرهم الله أن يقولوا: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:1-3]. فالمسلم على ملة حنيفية بيضاء، لا ينبغي له أن يحيد عنها مثقال ذرة، وليس هناك مصلحة ترقى على مصلحة التوحيد، ولا مفسدة أعظم من مفسدة الشرك، وما يسمى: بتقارب الأديان يفضي إلى ترك التوحيد وإلى القرب من الشرك، وقد قال الله جل وعلا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
فبذلك أرسل، وإلى ذلك دعا، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه عاد إلى فراشه واشتدت عليه وطأة الحمى، ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي فمه سواك، ثم استاك صلوات الله وسلامه عليه ثم لا زال يردد: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى ثلاثاً ثم فاضت روحه)، وانتقل إلى رحمة خالقه ومولاه، خير من أرسل، وأجل من بعث، صلوات الله وسلامه عليه، بعد أن أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
ولا ينبغي لمن يقف مع السيرة ويرصد مسيرتها أن يغفل عن شيء مهم وهو: أنه صلى الله عليه وسلم كان له من جميل الصفات والنعوت ما جعل الناس يحبونه، واجتمعوا عليه صلوات الله وسلامه عليه، وكان في كل حينه منقطعاً إلى ربه دائم الصمت، عليه من السمت والوقار ما عليه: (حتى إنه صلى الله عليه وسلم تفقدته
أيها المؤمنون! هذه قطوف من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، من الله علينا وعليكم وأبحرنا خلالها خلال ساعة كاملة، وإننا مهما قلنا لمقصرون، ومهما تحدثنا لن نبلغ الصواب كله، ولن نبلغ الكمال كله، لكن إن كان من وصية أختم بها: فإن الله جل وعلا شرفنا بأن جعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي عصرنا هذا من أسباب الفجور وأسباب البغض عن الله ما لا يخفى على أحد، والبعد عن أسباب الفجور سلامة منه.
إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على سلمى وواديها
ويحتاج هذا الأمر كله إلى صبر على هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فليوطن أحدنا نفسه على الصبر، وليوطنها على اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن هذه الفتن التي تتتابع شررها، ويتفاقم خطرها، إنما هي بلاء وفتنة يصرف الله جل وعلا بها من يشاء عن طريقه، ويهدي الله جل وعلا بها من يشاء، فمن أخلص لله النية، وصلح قلبه، واستقامت سريرته، وفق للثواب، وهدي إلى سبيل الرشاد، هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر