أخرجه مسلم في (صحيحه)، وهو أول حديث في كتاب الإيمان الذي هو أول كتب صحيحه.
وجاء في إسناده أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدث به عن أبيه استدلالاً به على الإيمان بالقدر، وذلك عندما سأله يحيى بن يعمر و حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أناس وُجدوا في العراق ينكرون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف. فقال للسائل: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم حدث بالحديث عن أبيه.
وحديث جبريل الذي رواه عمر من أفراد مسلم ، وقد اتفق الشيخان على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد جاء في القرآن آيات كثيرة، وجاءت في السنة أحاديث عديدة تدل على إثبات القدر، فأما القرآن فقد قال الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].
وأما السنة فقد عقد الإمامان البخاري و مسلم في صحيحيهما كتاباً للقدر اشتمل على أحاديث عديدة في إثبات القدر، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)].
وهذا الحديث عظيم، ومعناه أن قوة القوي وضعف الضعيف مقدران، وأن كل ذلك بقضاء الله وقدره، وكلاهما فيه خير مع تفاوتهما.
وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس) أي: حتى نشاط النشيط وكسل الكسول. فكل ذلك مقدر، فلا تقع حركة ولا سكون في الوجود إلا وهي بقضاء الله وقدره، وبمشيئة الله وإرادته، وخلقه وإيجاده.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب، ولا يتكل على القدر ويقول: إذا كتب الله لي شيئاً فإنه سيأتيني، ولو لم أفعل الأسباب. فلابد من فعل الأسباب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك) أي: أن نأخذ بالأسباب.
ولكن مع الأخذ بالأسباب لا يعول الإنسان عليها بحيث إنه يجعلها كل شيء، ولا يكون هناك شيء وراء الأسباب، بل هناك شيء وراء الأسباب، وهو توفيق مسبِّب الأسباب، وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال بعد ذلك: (واستعن بالله) أي: ليس الأمر أن يفعل الإنسان السبب فيحصل كل شيء، وهذا هو حال الناس الماديين الذين ليس لهم صلة بالله عز وجل، فالحياة عندهم أسباب ومسببات ولا شأن لله عز وجل.
والذي يعتقده المسلم أنه لابد من الاثنين؛ لا بد من أن يفعل الإنسان السبب، ولابد أن يستعين بالله عز وجل على حصول المسبب.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فعل الأسباب لا يتنافى مع التوكل، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالتوكل على الله عز وجل ليس بترك الأسباب، والرسول صلى الله عليه وسلم -وهو سيد المتوكلين- كان يلبس اللأمة والمغفر في الحرب، وهما من أسباب الوقاية، وهو مع ذلك متوكل على الله عز وجل.
فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل هو أمر مطلوب، فالإنسان عندما يريد الولد فإنه يتزوج، وليس هناك طريق للنسل إلا الزواج أو ملك اليمين، ولا يأتي الولد عفواً، ولو أن إنساناً قال: إذا قدِّر الله لي أن يأتني الولد تزوجت وإلّا فلا، أو يصير لي ملك يمين وإلّا فلا فإن هذا يعتبر سفهاً؛ لأن الولد لا يحصل إلا بهذا الطريق.
فلابد من الأخذ بالأسباب، ولكن مع كون الإنسان يتزوج ويأخذ بالأسباب عليه أن يعلم أن الزواج ليس هو كل شيء في تحقيق الولد، بل إن شاء الله عز وجل ووفق في حصول الولد حصل ذلك، وإن شاء أن لا يحصل لم يحصل وإن أخذ بالأسباب، فلابد من الأمرين جميعاً، ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إليهما في قوله: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله).
فالإنسان لا يعول على الأسباب ويقول: هي كل شيء. وكذلك لا يتركها ويقول: سأجلس في بيتي ولن أبحث عن الرزق، وإذا قدر الله لي شيئاً فإنه سيأتي إليَّ وإن لم أفعل الأسباب.
وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الطير تغدو خماصاً ولا تجلس في أوكارها وتنتظر أن يأتيها الرزق بدون فعل السبب، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً) أي أنها في الصباح تروح خاوية البطون (وتروح بطاناً) أي: وتأتي في الرواح مليئة البطون. فقد فعلت الأسباب، وفعل الأسباب لا ينافي التوكل، ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الأمرين: فعل السبب، وبيان الشيء الذي لابد منه لتحصيل المقصود، وهو توفيق الله سبحانه، فالإنسان مع فعله السبب يلجأ إلى الله عز وجل ويسأله أن ينفع بالأسباب، وأن يوفقه لتحصيل ما يريد، وأن يسهل له ذلك، فقال: (واستعن بالله ولا تعجز)، ثم قال: (فإن أصابك شيء) أي: بعد فعل الأسباب (فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، فلو أن إنساناً -مثلاً- دخل في مشروع من المشاريع وفعل الأسباب ولكنه فشل في هذا المشروع فليس له أن يقول: لو أنني لم أفعل هذا المشروع وفعلت مشروعاً آخر لحصل كذا وكذا. فهذا كلام باطل، فالله عز وجل أعلم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فلا يدري الإنسان لو فعل مشروعاً آخر أنه سيوفق فيه؛ لأن ذلك غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان).
فالإنسان إذا قال: لو فعلت كذا لكان كذا فإن ذلك من عمل الشيطان ووسوسته للإنسان ليظله وليغويه، وليبعده عن التعويل على الله عز وجل في جميع شئونه.
العجز والكيس ضدان، فنشاط النشيط وكسل الكسول وعجزه كل ذلك بقدر، قال النووي في شرح الحديث: ومعناه أن العاجز قد قُدِّر عجزه، والكَيّس قد قُدِّر كَيسه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خُلق له. ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحسنى [الليل:5-6] إلى قوله لِلْعُسْرَى [الليل:10]).
رواه البخاري ومسلم من حديث علي رضي الله عنه.
وهذا الحديث يدل على أن أعمال العباد الصالحة مقدرة، وأنها تؤدي إلى حصول السعادة، وأن أعمالهم السيئة مقدرة، وأنها تؤدي إلى الشقاوة، وقد قدّر الله سبحانه وتعالى الأسباب والمسببات، وكل شيء لا يخرج عن قضائه].
لقد قدّر الله الأسباب وهي الأعمال، والمسببات وهي النهايات، فإذا عمل الإنسان عملاً صالحاً فهذا العمل سبب من الأسباب، وهو مقدّر، والغاية هي دخول الجنة، وهي -أيضاً- مقدرة، وكذلك العكس، فعمل السيئات مقدر، وهو يوصل إلى النار، وذلك مقدر، فالسعادة والشقاوة مقدّرتان، والأسباب التي توصل إليهما مقدرة أيضاً.
جاء في بعض الروايات: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) أي أن ما أصابك وحصل لك لا يمكن أنه يتخلف، وأن ما أخطأك لا يمكن أنه يقع، وهذا هو معنى (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)، فجملة (ما شاء الله كان) بمعنى (ما أصابك لم يكن ليخطئك)، وجملة (وما لم يشأ لم يكن) بمعنى (وما أخطأك لم يكن ليصيبك) وهاتان الجملتان -أعني: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن- عليهما تنبني عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر.
وهذا الحديث شرحه الحافظ ابن رجب في كتابه: (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم)، وهو الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية.
أخرجه مسلم في (صحيحه)، وهو أول حديث في كتاب الإيمان الذي هو أول كتب صحيحه.
وجاء في إسناده أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدث به عن أبيه استدلالاً به على الإيمان بالقدر، وذلك عندما سأله يحيى بن يعمر و حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أناس وُجدوا في العراق ينكرون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف. فقال للسائل: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم حدث بالحديث عن أبيه.
وحديث جبريل الذي رواه عمر من أفراد مسلم ، وقد اتفق الشيخان على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد جاء في القرآن آيات كثيرة، وجاءت في السنة أحاديث عديدة تدل على إثبات القدر، فأما القرآن فقد قال الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].
وأما السنة فقد عقد الإمامان البخاري و مسلم في صحيحيهما كتاباً للقدر اشتمل على أحاديث عديدة في إثبات القدر، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)].
وهذا الحديث عظيم، ومعناه أن قوة القوي وضعف الضعيف مقدران، وأن كل ذلك بقضاء الله وقدره، وكلاهما فيه خير مع تفاوتهما.
وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس) أي: حتى نشاط النشيط وكسل الكسول. فكل ذلك مقدر، فلا تقع حركة ولا سكون في الوجود إلا وهي بقضاء الله وقدره، وبمشيئة الله وإرادته، وخلقه وإيجاده.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب، ولا يتكل على القدر ويقول: إذا كتب الله لي شيئاً فإنه سيأتيني، ولو لم أفعل الأسباب. فلابد من فعل الأسباب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك) أي: أن نأخذ بالأسباب.
ولكن مع الأخذ بالأسباب لا يعول الإنسان عليها بحيث إنه يجعلها كل شيء، ولا يكون هناك شيء وراء الأسباب، بل هناك شيء وراء الأسباب، وهو توفيق مسبِّب الأسباب، وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال بعد ذلك: (واستعن بالله) أي: ليس الأمر أن يفعل الإنسان السبب فيحصل كل شيء، وهذا هو حال الناس الماديين الذين ليس لهم صلة بالله عز وجل، فالحياة عندهم أسباب ومسببات ولا شأن لله عز وجل.
والذي يعتقده المسلم أنه لابد من الاثنين؛ لا بد من أن يفعل الإنسان السبب، ولابد أن يستعين بالله عز وجل على حصول المسبب.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فعل الأسباب لا يتنافى مع التوكل، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالتوكل على الله عز وجل ليس بترك الأسباب، والرسول صلى الله عليه وسلم -وهو سيد المتوكلين- كان يلبس اللأمة والمغفر في الحرب، وهما من أسباب الوقاية، وهو مع ذلك متوكل على الله عز وجل.
فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل هو أمر مطلوب، فالإنسان عندما يريد الولد فإنه يتزوج، وليس هناك طريق للنسل إلا الزواج أو ملك اليمين، ولا يأتي الولد عفواً، ولو أن إنساناً قال: إذا قدِّر الله لي أن يأتني الولد تزوجت وإلّا فلا، أو يصير لي ملك يمين وإلّا فلا فإن هذا يعتبر سفهاً؛ لأن الولد لا يحصل إلا بهذا الطريق.
فلابد من الأخذ بالأسباب، ولكن مع كون الإنسان يتزوج ويأخذ بالأسباب عليه أن يعلم أن الزواج ليس هو كل شيء في تحقيق الولد، بل إن شاء الله عز وجل ووفق في حصول الولد حصل ذلك، وإن شاء أن لا يحصل لم يحصل وإن أخذ بالأسباب، فلابد من الأمرين جميعاً، ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إليهما في قوله: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله).
فالإنسان لا يعول على الأسباب ويقول: هي كل شيء. وكذلك لا يتركها ويقول: سأجلس في بيتي ولن أبحث عن الرزق، وإذا قدر الله لي شيئاً فإنه سيأتي إليَّ وإن لم أفعل الأسباب.
وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الطير تغدو خماصاً ولا تجلس في أوكارها وتنتظر أن يأتيها الرزق بدون فعل السبب، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً) أي أنها في الصباح تروح خاوية البطون (وتروح بطاناً) أي: وتأتي في الرواح مليئة البطون. فقد فعلت الأسباب، وفعل الأسباب لا ينافي التوكل، ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الأمرين: فعل السبب، وبيان الشيء الذي لابد منه لتحصيل المقصود، وهو توفيق الله سبحانه، فالإنسان مع فعله السبب يلجأ إلى الله عز وجل ويسأله أن ينفع بالأسباب، وأن يوفقه لتحصيل ما يريد، وأن يسهل له ذلك، فقال: (واستعن بالله ولا تعجز)، ثم قال: (فإن أصابك شيء) أي: بعد فعل الأسباب (فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، فلو أن إنساناً -مثلاً- دخل في مشروع من المشاريع وفعل الأسباب ولكنه فشل في هذا المشروع فليس له أن يقول: لو أنني لم أفعل هذا المشروع وفعلت مشروعاً آخر لحصل كذا وكذا. فهذا كلام باطل، فالله عز وجل أعلم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فلا يدري الإنسان لو فعل مشروعاً آخر أنه سيوفق فيه؛ لأن ذلك غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان).
فالإنسان إذا قال: لو فعلت كذا لكان كذا فإن ذلك من عمل الشيطان ووسوسته للإنسان ليظله وليغويه، وليبعده عن التعويل على الله عز وجل في جميع شئونه.
المرتبة الأولى: علم الله الأزلي بكل ما هو كائن، فإن كل كائن قد سبق علم الله به أزلاً، ولا يتجدد له علم بشيء لم يكن عالماً به أزلاً.
وقد سبق إيضاح هذه المرتبة عند الكلام على صفة العلم في الفقرة رقم (7) ].
فالمخلوقون يتجدد علمهم بالشيء عندما يحصل وعندما يحصِّلون العلم، أما الله عز وجل فقد علم كل شيء أزلا، ولا يتجدد لله العلم بشيء لم يكن معلوماً له أزلاً، بل كل شيء معلوم له أزلاً.
وأما ما جاء في بعض الآيات مثل قوله: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] فليس المقصود أنه يتجدد لله علم بذلك، وإنما المقصود ظهور ذلك العلم ظهوراً يترتب عليه ثواب وعقاب، وليس معنى ذلك أنه يحصل لله علم لم يكن حاصلاً من قبل، بل كل شيء معلوم لله أزلاً.
وقد سبق إيضاح ذلك في الفقرة السابقة من الفقرات التي اشتمل عليها الكتاب. انظر الفقرة رقم (7).
[ علْم الله محيط بكل شيء، فقد علم أزلاً ما كان وما سيكون، ومالم يكن أن لو كان كيف يكون ].
علم الله تعالى: ما كان وما سيكون، وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، فالشيء الذي لا يكون قد علمه الله عز وجل، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، فهم يَسألون أن يرجعوا إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، والله تعالى يقول: إنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، فهذا الشيء لم يكن، ومع ذلك علم لو كان كيف سيكون، فعلمه محيط بكل شيء.
[ كما قال الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27-28].
فأخبر عن أمر لا يكون، وهو رجوع الكفار إلى الدنيا، وأنهم لو ردوا لعادوا لما نهو عنه ].
ونظير هذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت
فقولنا: (عن أمر لا يكون) هو اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً من الناس، فلو كان متخذاً خليلاً لكان المتخَذ أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه لا يتخذ خليلاً، فهذا لا يتعلق بالعلم، ولكنه يتعلق بالشيء الذي لا يكون لو كان كيف يكون.
[ وقال الله عز وجل: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، وقال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فصلت:47]، وقال: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:8-10]، وقال: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:13-14]، وقال: عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3].
وكل ما هو كائن في الوجود من حركة أو سكون قد سبق به علم الله، ولا يحصل لله علم بشيء لم يكن معلوماً له من قبل أزلاً.
قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه (أضواء البيان) عند قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] قال: ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون.
وقد بيّن أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، فقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ بعد قوله: وَلِيَبْتَلِيَ دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار.
وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه، ومعنى قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ [البقرة:143] أي: علماً يترتب عليه الثواب والعقاب. فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس، أما العلم بالسر والنجوى فهو سبحانه وتعالى عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى.
الأمر الأول: الوقوع، فإذا وقع شيء عُلم بأنه مقدر؛ لأنه لولم يقدر لم يقع، فإن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
الثاني: حصول الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور ستقع في المستقبل، مثل إخباره عن الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، وغير ذلك من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فهذه الأخبار تدل على أن هذه الأمور لابد لها من أن تقع، وأنه قد سبق بها قضاء الله وقدره، ومثل إخباره عن أمور ستقع قرب زمانه صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين). رواه البخاري .
وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في عام واحد وأربعين للهجرة، حيث اجتمعت كلمة المسلمين فسمي عام الجماعة، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من هذا الحديث أن الحسن رضي الله عنه لن يموت صغيراً, وأنه سيعيش حتى يحصل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلح.
فكل ما هو كائن من خير أو شر فهو بقضاء الله وقدره ومشيئته وإرادته، وأما ما جاء في حديث علي رضي الله عنه في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الطويل، وفيه: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) رواه مسلم فلا يدل على أن الشر لا يقع بقضائه وخلقه، وإنما معناه أن الله لا يخلق شراً محضاً لا يكون لحكمة ولا يترتب عليه فائدة بوجه من الوجوه، وأيضاً فالشر لا يضاف إليه استقلالاً، بل يكون داخلاً تحت العموم، كما قال الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، وقال: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فيُتأدب مع الله بعدم نسبة الشر وحده إلى الله، ولهذا جاء فيما ذكره الله عن الجن من تأدبهم في نسبة الخير إليه، وذكر الشر على البناء لما لم يسم فاعله، قال الله عز وجل عن الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].
والفرق بين المشيئة والإرادة أن المشيئة لم تأتِ في الكتاب والسنة إلا لمعنى كوني قدري، وأما الإرادة فإنها تأتي لمعنى كوني ومعنى ديني شرعي.
ومن مجيئها لمعنى كوني قدري قوله تعالى: وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]، وقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125].
ومن مجيء الإرادة لمعنى شرعي قول الله عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقوله: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
والفرق بين الإرادتين أن الإرادة الكونية تكون عامة فيما يحبه الله ويسخطه، وأما الإرادة الشرعية فلا تكون إلا فيما يحبه الله ويرضاه، ثم إن الكونية لابد من وقوعها، وأما الدينية فتقع في حق من وفقه الله، وتتخلف في حق من لم يحصل له التوفيق من الله.
وهناك كلمات تأتي لمعنى كوني وشرعي -منها: القضاء، والتحريم، والإذن، والكلمات، والأمر، وغير ذلك- ذكرها ابن القيم ، وذكر ما يشهد لها من القرآن والسنة في كتابه (شفاء العليل) في الباب التاسع والعشرين منه.
وأما قوله عز وجل: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] فقد فُسِّر بأن ذلك يتعلق بالشرائع، فينسخ الله منها ما يشاء ويثبت ما يشاء، حتى خُتمت برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي نسخت جميع الشرائع قبلها، وفُسِّر بالأقدار التي هي في غير اللوح المحفوظ، كالتي تكون بأيدي الملائكة. وانظر (شفاء العليل) لـابن القيم في الأبواب: الثاني، والرابع، والخامس، والسادس، فقد ذكر في كل باب تقديراً خاصاً بعد التقدير في اللوح المحفوظ.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر) أخرجه الترمذي وحسنه -وانظر السلسلة الصحيحة للألباني- فلا يدل على تغيير ما في اللوح المحفوظ، وإنما يدل على أن الله قدر السلامة من الشرور، وقدر أسباباً لتلك السلامة، والمعنى أن الله دفع عن العبد شراً وذلك مقدر بسبب يفعله وهو الدعاء، وهو -أيضاً- مقدر، وكذلك قدر أن يطول عمر الإنسان، وقدر أن يحصل منه سبب لذلك، وهو البر وصلة الرحم.
فالأسباب والمسببات كلها بقضاء الله وقدره، وكذلك يقال في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه). رواه البخاري و مسلم .
فأجل كل إنسان مقدر في اللوح المحفوظ، فلا يتقدم عنه ولا يتأخر، كما قال الله عز وجل: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11]، وقال: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49].
وكل من مات أو قتل فهو بأجله، ولا يقال كما قالت المعتزلة: إن المقتول قُطع عليه أجله، وإِنه لولم يقتل لعاش إلى أجل آخر. فإن كل إنسان قدّر الله له أجلاً واحداً، وقدر لهذا الأجل أسباباً، فهذا يموت بالمرض، وهذا يموت بالغرق، وهذا يموت بالقتل، وهكذا.
وأما ما جاء في حديث محاجة آدم وموسى في القدر فليس من قبيل الاحتجاج بالقدر على فعل معصية، وإنما هو على المصيبة التي كانت بسبب المعصية.
فقد روى البخاري و مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة! فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى. مرتين).
وقد خصّ ابن القيم في كتابه (شفاء العليل) الباب الثالث بالكلام على هذا الحديث، فذكر ما قيل في معناه من أقوال باطلة، وذكر الآيات التي فيها احتجاج المشركين على شركهم بالقدر، وأن الله أكذبهم بأنهم باقون على شركهم وكفرهم، وأن ما قالوه هو من الحق الذي أريد به باطل، ثم ذكر توجيهين لمعنى الحديث:
أولهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية ، والثاني من فهمه واستنباطه، فقال في (ص35): إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنّا لا نلوم آدم على المصيبة التي نالت الذرية بخروجه من الجنة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيهاً على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له: (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، وفي لفظ: (خيبتنا)، احتج آدم بالقدر على المصيبة وقال: (إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي).
والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة؟! فهذا جواب شيخنا رحمه الله.
وقد يتوجه جواب آخر، وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته، كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يَدْفَع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة.
يوضحه أن آدم قال لموسى : (أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً علي قبل أن أخلق)، فإذا أذنب الرجل ذنباًَ ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن، فأنبه مؤنب عليه أو لامه ملامةً فإنه يحَسُن له أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قدر عليّ قبل أن أخلق. فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكر حجة له على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به.
وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، كأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً، فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148]، لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20].
فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه، فلم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.
ونكتة المسألة سبب اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان سبب اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل.
الظاهر أن في قوله: [ خالقاً لكل شيء إلا هو ] سقطاً يدل عليه ما قبله، والتقدير: وأن يكون خالقاً لكل شيء إلا هو، وفي هذه الجمل كلها رد على القدرية الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم، وإن الله لم يقدرها عليهم. فإن مقتضى قولهم هذا أن أفعال العباد وقعت في ملك الله وهو لم يقدرها، وأنهم بخلقهم لأفعالهم مستغنون عن الله، وأن الله ليس خالقاً لكل شيء، بل إنّ العباد خلقوا أفعالهم، وهذا غير صحيح، فالله سبحانه وتعالى خالق العباد وخالق أفعال العباد، وهو خالق الذوات والصفات، كما قال الله عز وجل: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16] ، وقال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]، وقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].
ويقابل نفاة القدر فرقة أخرى ضالة، وهم الجبرية، فقد سلبوا عن العبد الاختيار، ولم يجعلوا له مشيئة ولا إرادة، وسووا بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية، وزعموا أن كل حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار، وأن حركة الآكل والشارب والمصلي والصائم كحركة المرتعش، فليس للإنسان فيها كسب ولا إرادة، وعلى هذا فما فائدة إرسال الرسل، وإنزال الكتب؟!
ومن المعلوم قطعاً أن للعبد مشيئة وإرادة، فيحمد على أفعاله الحسنة ويثاب عليها، ويذم على أفعاله السيئة ويعاقب عليها، وأفعاله الاختيارية ينسب إليه فعلها وكسبها، وأما الحركات الاضطرارية كحركة المرتعش فلا يقال: إنها فعل له، وإنما هي صفة له.
ولهذا يقول النحويون في تعريف الفاعل: هو اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث أو قام به.
والمراد بحصول الحدث الأفعال الاختيارية التي وقعت بمشيئة العبد وإرادته، ومرادهم بقيام الحدث ما لا يقع تحت المشيئة، كالموت والمرض والارتعاش ونحو ذلك، فإذا قيل: أكل زيد وشرب وصلى وصام فـزيد فيها فاعل، وقد حصل منه الحدث، وهو الأكل والشرب والصلاة والصيام، وإذا قيل: مرض زيد، أو مات زيد، أو: ارتعشت يده فإن الحدث ليس من فعل زيد، وإنما هو وصف قام به.
وأهل السنة والجماعة وسط بين الجبرية الغلاة في الإثبات، والقدرية النفاة، فإنهم أثبتوا للعبد مشيئة، وأثبتوا للرب مشيئة عامة، وجعلوا مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، كما قال الله عز وجل: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29].
فلا يقع في ملك الله ما لم يشأه الله، بخلاف القدرية القائلين: إن العباد يخلقون أفعالهم. ولا يعاقب العباد على أشياء لا إرادة لهم فيها ولا مشيئة كما هو قول الجبرية.
وبهذا يجاب عن السؤال الذي يتكرر طرحه، وهو: هل العبد مسير أو مخير؟ فلا يقال: إنه مسير بإطلاق، ولا مخير بإطلاق، بل يقال: إنه مخير باعتبار أن له مشيئة وإرادة، وأن أعماله كسب له يثاب على حسنها ويعاقب على سيئها، وهو مسير باعتبار أنه لا يحصل منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده.
أي أن هداية المهتدين وضلال الضالين كل ذلك حاصل بمشيئة الله وإرادته، وقد بين الله للعباد طريق السعادة وطرق الضلال، وأعطاهم عقولاً يميزون بها بين النافع والضار، فمن اختار طريق السعادة وسلكه انتهى به إلى السعادة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك فضل من الله وإحسان، ومن اختار طريق الضلال وسلكه انتهى به إلى الشقاوة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك عدل من الله سبحانه، قال الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، أي: طريقي الخير والشر، وقال: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، وقال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17].
ومن أدلة الهداية الأولى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] أي: إنك تدعو كل أحد إلى الصراط المستقيم.
ومن أدلة الهداية الثانية قول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
وقد جمع الله بين الهدايتين في قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، فقوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ أي: يدعو كل أحد فحذف المفعول لإرادة العموم، وهذه هي هداية الدلالة والإرشاد، وقوله: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أظهر فيه المفعول لإفادة الخصوص، وهي هداية التوفيق.
فقال أبو إسحاق : كلمةُ حق أريد بها باطل، ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء!
فقال عبد الجبار : أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟!
فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبراً عليه؟ أي: أأنت الرب وهو العبد؟!
فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى عليّ بالردى، أتراه أحسن إلي أم أساء؟!
فقال أبو إسحاق : إن كان الذي منعك منه ملكاً لك فقد أساء، وإن كان له فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل.
فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب.
وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال: ادع الله لي أن يرد علي حمارة سرقت مني. فقال: اللهم! إن حمارته سرقت ولم تُرد سرقتها، فارددها عليه. فقال الأعرابي: يا هذا! كفِّ عني دعاءك الخبيث؛ فإنه إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها فلا ترد!
وبهذا ينتهي الكلام على القضاء والقدر.
والله تعالى أعلم.
الجواب: يدل هذا على عدم التعمق في مسائل القضاء والقدر، وأن الإنسان لا يسأل أسئلة لا يجوز له أن يسألها، فيقول: لماذا حصل لفلان كذا، ولماذا حصل لفلان كذا، ولماذا صارت السعادة لفلان والشقاوة لفلان.
فالإنسان ليس له أن يسأل عن مثل هذه الأمور، والمقصود هو التعمق، فهذا هو الذي ينهى عنه، وأما الكلام فيه وفقاً للنصوص من غير ارتكاب أمر محظور فهذا أمر مطلوب، ولا بأس به.
الجواب: معلوم أن كل خير مقدر، وأن كل شر مقدر، فهو يطلب السلامة من سوء القضاء، أي أنه يسأل الله الخير ويستعيذ به من الشر، وكلاهما مقدر.
الجواب: لا أدري هل ثبت مثل هذا الدعاء أم لا، فعلى الإنسان أن لا يقدم على شيء لم يرد، وليحرص على أن تكون أدعيته في حدود ما ورد، فإن ثبت هذا فيشرع الدعاء به.
الجواب: بعض العلماء يقول: إن القضاء في الكليات والقدر في الجزئيات. والذي يظهر أنه لا فرق بينهما، فإنه يؤتى بهما متعاطفتين وهما مترادفتان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر