يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم.
يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم.
يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد وسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
) رواه مسلم.وكذلك الحديث الذي فيه: (الصوم لي) فإن هذا فيه ضمير التكلم، وهو يرجع إلى الله عز وجل، وقال كذلك: (أنا عند حسن ظن عبدي بي) فكل ما كان من هذا القبيل فإنه يعتبر من الأحاديث القدسية؛ لأن المتكلم فيها هو الله، والضمائر ترجع إلى الله، ومثل هذا الكلام لا يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يقول: (يا عبادي) إلا الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يضيف إلى ربه هذا الحديث القدسي، فيقول: قال الله عز وجل كذا وكذا. أو يقال: قال الله عز وجل فيما يرويه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم. فهذا هو الحديث القدسي.
فالله عز وجل أخبر أنه حرم الظلم على نفسه، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد حرم الله على نفسه الظلم، فلا يقع منه الظلم أبداً، وهو منزه عنه، ونفي الظلم عن الله عز وجل هو من قبيل النفي الذي جاء في الكتاب والسنة، ومتضمن إثبات كمال ضد ذلك المنفي، فقد جاء في القرآن آيات عديدة فيها نفي الظلم عن الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] وقال عز وجل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] وقال سبحانه: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112].
كل هذه الآيات وأمثالها التي فيها نفي الظلم عن الله عز وجل تدل على إثبات كمال ضد ذلك المنفي الذي هو الظلم، أي: يدل على إثبات كمال عدله سبحانه وتعالى، وأن الله تعالى متصف بالعدل على التمام والكمال، وهكذا النفي في الكتاب والسنة عندما يأتي فهو نفي متضمن إثبات كمال، وليس كالنفي الذي يكون عند المتكلمين الذي يؤدي إلى نفي الموجود ويؤدي إلى أن الله تعالى لا وجود له، حيث يقولون: ليس بكذا وليس بكذا. وكل صفة تنفى عندهم عن الله، فيئول الأمر إلى أنه لا يبقى وجود لله عز وجل، والنفي في الكتاب والسنة إنما يأتي متضمناً إثبات كمال لله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] لبيان كمال عدله، وقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [فاطر:44] لبيان كمال قوته، وقوله تعالى: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] لبيان كمال قدرته سبحانه وتعالى، يعني: ما مسنا من تعب ولا نصب ولا إعياء.
إذاً: فكل نفي جاء في الكتاب والسنة يدل على إثبات كمال ضده في حق الله سبحانه وتعالى، وهو ضد ذلك المنفي، فنفي العجز يدل على إثبات كمال القوة وكمال القدرة، ونفي الظلم يدل على إثبات كمال العدل.
فمنهج سلف هذه الأمة أنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا النفي الذي ينفونه عنه وفقاً لما جاء في الكتاب والسنة يدل على إثبات كمال الله سبحانه وتعالى، بخلاف أولئك الذين ينفون عن الله الصفات بحجة أنهم لو أثبتوا لكانوا مشبهين، وتصوروا أنه ليس هناك إثبات إلا مع التشبيه، ولهذا يقولون: ليس بكذا، وليس بكذا. وينفون عنه جميع الصفات، فيئول الأمر إلى أن يكون لا وجود له؛ لأنه لا يتصور وجود ذات مجردة من جميع الصفات.
فالمتكلمون تصوروا أنه لا إثبات إلا مع تشبيه، ففروا من تشبيه بالموجودات حسب تصورهم الباطل، ووقعوا في تشبيه أسوأ منه، وهو التشبيه بالمعدومات، ولهذا يقول بعض أهل العلم: إن المعطل يعبد عدماً. يعني: لا وجود لمعبوده. وكما قال ابن عبد البر -رحمه الله- في كتابه (التمهيد): إن الذين ينفون الصفات عن الله عز وجل ويصفون المثبتة بأنهم مشبهة؛ لأنهم ما تصوروا إثباتاً إلا مع تشبيه.
ثم يقول ابن عبد البر : وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. أي أن المعطلة عند المقرين للصفات يعتبرون نافين للمعبود.
ثم إن الذهبي رحمه الله ذكر هذا النقل عن ابن عبد البر في كتابه (العلو للعلي الغفار)، وقال: صدق والله -أي: ابن عبد البر -، فإن الجهمية مثلهم كما قال حماد بن زيد : إن جماعة قالوا: في دارنا نخلة. فقيل: ألها خوص؟ فقالوا: لا، ألها عسب؟ قالوا: لا، ألها قنو؟ قالوا: لا، ألها ساق ؟ قالوا: لا، قالوا: إذاً ما في داركم نخلة؛ لأنه إذا كانت جميع صفات النخل منفية عنها فلا وجود لهذه النخلة التي نفيت عنها جميع الصفات.
فكذلك إذا نفيت الصفات عن الله عز وجل فمعنى ذلك أنه لا وجود له، وعلى هذا فنهج المتكلمين إنما هو نقص وإضافة نقص إلى الله عز وجل، بل إضافة العدم إليه وأنه لا وجود له، وأما أهل السنة والجماعة فهم ينفون عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا النفي متضمن إثبات كمال الله سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى في الحديث: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) أي: أنه سبحانه وتعالى حرم على نفسه الظلم، ومنع الظلم عن نفسه؛ وذلك لكمال عدله سبحانه وتعالى.
قوله: (وجعلته بينكم محرماً) أي: كما حرمه الله على نفسه فلا يقع منه أبداً فإنه حرمه على عباده، ولكن منهم من يحصل منه الظلم، سواء ظلم نفسه، وذلك بأن يأتي بأمور منكرة تعود مضرتها عليه ويكون ظالماً لنفسه، أو يظلم غيره، سواءٌ أكان ظلمه في نفسه بقتله أو بقطع عضو منه، أم كان في عرضه أم في ماله.
فيكون الظلم قاصراً على الإنسان ويكون متعدياً إلى غيره، فيظلم الإنسان نفسه، وذلك بتركه للأوامر ووقوعه في المعاصي، وكذلك أيضاً يظلم غيره بأن يلحق به الأذى والضرر، فيكون ظالماً لنفسه وظالماً لغيره.
ثم قال: (فلا تظالموا) يعني: فلا تتظالموا، بل عليكم أن تبتعدوا عن الظلم وأن تتركوا الظلم، وأن تكونوا على السداد وعلى العدل، وأن تحذروا من الظلم.
هذه هي الجملة الأولى من الجمل العشر التي اشتمل عليها حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه.
الله عز وجل هو الذي يتفضل بالهداية على من شاء من عباده، ومن خذله الله عز وجل فإنه لا يحصل له إلا الضلال، ومعلوم أن كل إنسان يقدم على ما ينفعه ويقدم على ما يضره بمشيئته وإرادته، فالمهتدي يقدم على ما فيه هدايته بمشيئته وإرادته، والضال يقدم على ما فيه ضلاله بمشيئته وإرادته، وهذا الذي حصل من هذا المهتدي وهذا الضال مطابق لما قدره الله تعالى وشاءه، ولا يخرج شيء عن مشيئته سبحانه وتعالى، وكل ما يقع في الوجود من خير وشر وهداية وضلال فإنما هو بمشيئة الله عز وجل ثم بمشيئة العباد التابعة لمشيئة الله عز وجل، أي: أن العباد لهم إرادة ومشيئة، ويقدمون على ما ينفعهم وعلى ما يضرهم، ولكن إقدامهم على ما ينفهم وما يضرهم لا يخرج عن مشيئة الله وإرادته، ولا يقع في ملك الله شيء ما شاءه الله ولا أراده، فلا يقع في ملكه إلا ما قد شاءه وأراده، كما قال الله عز وجل: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28] فأثبت أن لهم مشيئة، وأن الإنسان يشاء أن يستقيم ويشاء أن ينحرف.
ثم قال بعد ذلك: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، يعني: إنكم لا تشاءون شيئاً ولا يقع منكم شيء إلا وقد شاءه الله سبحانه وتعالى، ولا يقع من العباد شيء لم يشأه الله تعالى، كما تقول القدرية: إن العباد يخلقون أفعالهم.
بل الله عز وجل هو الخالق لكل شيء، خالق العباد، وخالق أفعال العباد، وخالق الذوات، وخالق الصفات سبحانه وتعالى، فكل ما يقع في الوجود فهو من خلقه وإيجاده، وقد وقع بمشيئته وإرادته.
فمن حصل له الضلال الذي هو ضد الهدى فقد حصل بمشيئة العبد وإرادته، والله سبحانه وتعالى قد كتب ذلك وقدر ذلك، ومن حصلت له الهداية فقد حصلت بمشيئته وإرادته، والله تعالى قدر ذلك، فهو المتفضل بالهداية أولاً وآخراً، هو الذي تفضل بها حيث هيأ الأسباب ووفق لحصولها ووجودها، فالفضل لله عز وجل أولاً وآخراً في كل هداية.
وأما الضلال فإنه يقع من العباد بمشيئتهم وإرادتهم، والله عز وجل قدر ذلك وقضاه، وهو خذلان لذلك الذي حصل منه، والهداية التي حصلت للعبد هي بفضل من الله عز وجل وإحسان.
يقول الحافظ ابن رجب : قد يظن بعض الناس أن في هذا الحديث معارضة مع الحديث القدسي الذي يقول الله عز وجل فيه: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) فالله عز وجل خلق الناس مفطورين على الإسلام، ولكن هناك من يصرف عن هذه الفطرة، وهناك من يثبت على هذه الفطرة، فمن الناس من يأتي مؤيداً ومثبتاً لهذه الفطرة، وهو الذي يكون مهتدياً وينشئ أولاده على الهداية، ومنهم من يكون منحرفاً فيحرف أولاده عن هذه الفطرة، وذلك بصرفهم عنها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ومعنى ذلك أن هذه الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها من الناس من يأتي مثبتاً لها، وهو الذي كان على هدى وسداد، فيكون عوناً لأولاده على الهداية، ومنهم من يكون منحرفاً عن هذه الفطرة، فيسعى إلى حرف وصرف أولاده عنها، فينقلهم من هذه الفطرة إلى أن يكونوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً، أو إلى غير ذلك من ملل الكفر المختلفة.
والضلال يراد به عدم العلم أيضاً، فكما أنه يراد به الغواية وحصول الغواية فإنه يراد به عدم العلم، والله عز وجل خلق الناس وأخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، ثم علمهم وأعطاهم العلم، وما جاء في القرآن من قول الله عز وجل: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7] فمعنى ذلك أنه كان غير عالمٍ بهذا الوحي الذي أوحى الله تعالى إليه وهذا العلم الذي أعطاه الله إياه، فكان قبل ذلك غير عالمٍ به، هذا هو المقصود بالضلال الذي كان موجوداً فهداه الله عز وجل إلى هذا الوحي والنور وأعطاه إياه، كما قال الله عز وجل: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى:52] يعني: ما كان عنده هذا الشيء، ثم أعطاه الله سبحانه وتعالى إياه.
فإذاً: عرفنا أنه يأتي الضلال بمعنى الغواية ويأتي بمعنى الجهل وعدم العلم، ثم إن الله عز وجل يعطي العلم ويوفق من شاء لأن يعطيه العلم، والضلال الذي أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو عدم العلم بهذه الأمور التي علمه الله تعالى إياها وهذا الوحي الذي أوح الله تعالى به إليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وفي قوله: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) بيان أن الله سبحانه وتعالى يتفضل على من شاء بالهداية، ولهذا قال: (إلا من هديته) ومن هداه الله عز وجل فقد هداه بفضله وإحسانه وتفضله عليه بهذه الهداية.
لقد أمر سبحانه بطلب الهداية فقال: (فاستهدوني)، أي: اطلبوا مني الهداية. وفي هذا أمر بطلب الهداية، وأن الإنسان يسأل الله عز وجل الهداية، وقد جاء في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] وحاجة الناس إلى الهداية أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب حاجتهم إليهما ليحيا الإنسان هذه الحياة الدنيا، وأما الهداية فهي التي تنبني عليها الحياة الآخرة المستمرة الدائمة.
فالهداية هي التي بها الحياة الباقية في النعيم، وأما الحياة الدنيوية فغذاؤها وقوامها هو الطعام والشراب، وبذلك تكون الحياة، وبدونهما يحصل الموت ولا تحصل الحياة، وأما الحياة الباقية فغذاؤها إنما هو بالهداية إلى الصراط المستقيم.
وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم يتضمن شيئين:
الأول: الثبات على ما قد حصل من الهداية.
الثاني: طلب المزيد من الهداية، فيطلب الإنسان من ربه بقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أن يثبته على ما حصل له من الهداية، وأن يزيده هدًى إلى هداه.
العباد مفتقرون إلى الله عز وجل وهو غني عنهم، وحاجتهم إليه وفقرهم إليه دائم مؤبد، لا يستغنون عن الله طرفة عين، وهم بحاجة إليه في جميع أمور دينهم ودنياهم، وهم محتاجون إلى فضله وإحسانه وكرمه وجوده، وقد أخبر الله عز وجل في هذا الحديث بأن كل إنسان جائع، وأن الله تعالى هو الذي يرزق وهو الذي يطعم، وأن العبد عليه أن يسأل الله عز وجل وأن يطلب منه أن يطعمه، ومع سؤاله عليه أن يأخذ بالأسباب التي يكون بها تحصيل الرزق، فلا يسأل الله عز وجل الطعام والرزق دون أن يبذل أسباباً، بل عليه أن يبذل الأسباب ويستعين بمسبب الأسباب، ويعول على الله عز وجل في تحصيل المراد، فإنه لا بد من أمرين: لا بد من فعل السبب، ولا بد من التعويل على من بيده كل شيء وهو الله سبحانه وتعالى؛ لأن السبب قد يوجد ويتخلف المُسَبَّب، ولكن إذا وجد السبب ووجد توفيق الله عز وجل ومشيئته وإرادته لحصول ذلك المراد الذي يسأله العبد فإنه يتحقق هذا المسئول مع الأخذ بالأسباب التي تؤدي إليه، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله تعالى هو الذي يرزق الطير، وأن تلك الطيور لا تجلس في أوكارها تنتظر شيئاً يؤتى به إليها فيها دون أن تبرحها، وإنما تخرج من أوكارها تبحث عن الرزق، والله تعالى هو الذي يرزقها، فهي تأخذ بالأسباب فتغدوا خماصاً، أي: تخرج من أوكارها في الصباح خالية البطون، وتروح في آخر النهار بطاناً، يعني: ممتلئة البطون.
فالإنسان يأخذ بالسبب ويستعين بالله عز وجل على تحصيل المراد وتحقيق المراد، ولهذا جاء في حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) ثم قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)، فجمع بين الأمرين فقال: (احرص على ما ينفعك) أي: ببذل الأسباب.
(واستعن بالله)، أي: لا تعتمد على الأسباب وتكون الأسباب عندك هي كل شيء، بل هناك شيء وراء الأسباب وهو توفيق الله سبحانه وتعالى وحصول التوفيق منه، فبذلك تنفع الأسباب، ولكن الإنسان لا يترك الأسباب ويهملها ويقول: سأجلس في بيتي وأغلق علي بابي، وإذا كان الله قدر لي رزقاً فإنه سيأتي من يطرق علي الباب ويعطيني إياه، هذا غلط.
فقوله: (كلكم جائع إلا من أطعمته) يبين أن الله تعالى هو الذي يرزق، وهو الرزاق ذو القوة المتين سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
لما ذكر في الجملة الأولى ما يتعلق بالغذاء الذي يكون للجسم ويصل إلى باطن الجسم لينتفع منه الجسم أتى بعد ذلك بذكر الشيء الذي يواري الجسم ويستر الجسم وهو الكسوة، فقال: (يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم) أي: اطلبوا مني تحصيل هذا الشيء الذي به كُسْوَتكُم، وهذا الذي به ستر عوراتكم ومواراة أجسادكم، فكل ذلك داخل في ملك الله عز وجل، فاسألوا الله عز وجل من فضله واسألوه أن يكسوكم.
وهذا فيه أن الإنسان مفتقر إلى الله عز وجل في جميع شئونه من أمور دينه ودنياه، مفتقر إليه في أمور دينه في طلب الهداية، وحاجته إلى الهداية فوق كل حاجة، وهو في أمور دنياه في حاجة إلى الله عز وجل، ولا يستغني عنه في الرزق من المطعم والمشرب والكسوة التي يواري بها جسده، والتي يغطي بها جسده ويستر بها عورته.
العباد مأمورون ومنهيون، أي: مكلفون بأوامر ونواه، ومطلوب منهم امتثال الأوامر واجتناب النواهي، ويحصل منهم التقصير، ويحصل منهم النقص، ويحصل منهم الخطأ في ليلهم ونهارهم، في سرهم وعلانيتهم، وطريق السلامة من هذا الخطأ ومن الذنب إذا وقع ومن المصيبة إذا حلت بالإنسان في الدين بالذنوب والمعاصي أن يرجع إلى الله عز وجل ويسأله المغفرة، ويتوب إلى الله عز وجل ويستغفره، والله عز وجل يحب من عباده أن يدعوه، وأن يستغفروه، وأن يسألوه، (والدعاء هو العبادة)، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإنسان يسأله قضاء الحاجات، وكشف الكربات، ومغفرة الذنوب، ولا يستغني العبد عن ربه طرفة عين.
فهنا يقول جل وعلا: (إنكم تخطئون بالليل والنهار) وهذا شأن العباد، كما في حديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وأنا أغفر الذنوب جميعاً) أي: كل الذنوب يغفرها الله تعالى إذا تيب منها، وأعظم الذنوب وأشدها وهو أظلم الظلم وأبطل الباطل الشرك بالله عز وجل، والله تعالى يغفره لمن تاب، كما قال الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38] فأعظم الذنوب إذا تيب منه فالله تعالى يتوب على من تاب، وكذلك الذنوب التي هي دونه، فمن تاب منها يتوب الله عز وجل عليه، والتوبة تجب ما قبلها، والله عز وجل أمر عند وجود الذنوب وعند حصولها أن يكون الإنسان مستغفراً سائلاً الله عز وجل أن يغفر له ما قد حصل منه من الذنوب والمعاصي.
الله عز وجل غني عن العالمين، وكل الخلق مفتقر إليه ومحتاج إليه، وعبادة العباد لا تنفع الله عز وجل، ومعاصيهم لا تضره، بل طاعاتهم تنفعهم ومعاصيهم تضرهم، والله عز وجل لا يبلغ العباد نفعه فينفعوه، ولا يبلغون ضره فيضروه، بل هو النافع الضار سبحانه وتعالى، فلا يصل إليه نفع من العباد، وهو غني عنهم وعن أعمالهم، وكذلك لا يصل إليه ضرر منهم، وإنما ضررهم يعود على أنفسهم، كما أن نفعهم يعود إليهم.
الله عز وجل قسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، وهذا هو الذي شاءه الله عز وجل، وهذا هو الذي قدره الله، فلابد من أن يوجد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولكن لو أن الناس كلهم من أولهم إلى آخرهم كانوا مهتدين، وكانوا على أتقى قلب رجل من الناس ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، وكذلك العكس، فلو كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً، فهو دال على كمال غناه، وعلى كمال ملكه، وأن وجود التقوى من جميع الخلق لا يزيد في ملك الله شيئاً، ووجود الفجور والمعاصي من جميع الخلق لا ينقص من ملك الله سبحانه وتعالى شيئاً.
أي: لو أن الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم سأل كل إنسان منهم بغيته وحاجته وتحقق ذلك له لم ينقص ذلك من ملك الله شيئاً أصلاً، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، والمخيط إذا أدخل البحر لا ينقص شيئاً، ومن المعلوم أن المخيط وهو الإبرة لو غمس في البحر ثم أخرج فالبلل الذي فيه لا يعتبر شيئاً بجانب هذا البحر في رأي العين، ولا يعتبر شيئاً في الوزن فكل ما أعطي الخلق من أولهم إلى آخرهم يساوي البلل الذي في الإبرة من هذا البحر.
العباد مأمورون ومنهيون، وأعمالهم محصاة عليهم ومدونة ومسجلة ومكتوبة، تكتبها الحفظة ويكتبها الكتبة الذين يكتبون أعمال العباد، كما قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] أي: الملائكة الذين يكتبون الحسنات والسيئات، ثم يجد العباد هذا الذي عملوه أمامهم قد أحصي، فالخير مُحصى والشر محصى، والأعمال الصالحة محصاة والأعمال السيئة محصاة، ولا يظلم ربك أحداً، فلا يُنقَصُ أحد من حسناته، ولا يضاف لأحدٍ سيئاتٌ أخرى لم يفعلها، ولا يحمل سيئاتٍ من سيئات غيره، كما قال الله عز وجل: فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا يعني: لا يخاف هضماً من الحسنات ونقصاً في الحسنات، ولا ظلماً بزيادة السيئات، بل الذي عمله يجده، إن خير فخيراً وإن شر فشراً، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].
ويقول الله عز وجل: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30] يعني: كل شيء أمام الإنسان، وقال تعالى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
إذاً: فكل ما يحصل من العباد من الأعمال فإنهم يجدونه أمامهم إن خير فخيراً وإن شر فشراً، فمن وفق لعمل الخير فإنه يجد ثوابه أمامه، ويجد جزاءه أمامه، فهو الذي تفضل بالتوفيق للعمل الصالح، وهو الذي تفضل بالجزاء الحسن على ذلك العمل الصالح، فله الفضل أولاً وآخراً، له الفضل في التوفيق لدخول الجنة، وله الفضل في التوفيق للأعمال الموصلة إلى الجنة، ومن لم يحصل منه العمل الصالح الذي يؤدي به إلى الجنة ويؤدي به إلى السلامة فلا يلومن إلا نفسه؛ لأنه هو الذي جنى على نفسه، وهو الذي فرط، وهو الذي أهمل نفسه، ويجد ما قدم من الشر أمامه، كما أن الذي وفق يجد ما قدم من الخير أمامه، فلا يُنقَصُ من حسنات المحسن شيء، ولا يضاف إلى المسيء سيئات أخرى ولا يحمل سيئات غيره، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18].
هذا هو حديث أبي ذر ، الحديث القدسي العظيم المشتمل على تلك الجمل العشر، وقد رواه مسلم رحمه الله، وهو أحد خمسة أحاديث متوالية، من الحديث الحادي والعشرين إلى الحديث الخامس والعشرين- كلها من أفراد مسلم، والله تعالى أعلم.
الجواب: صدور الأذى يحصل، ولكن لا يبلغ الله عز وجل، ولا يصل إلى الله عز وجل، ولكنه باعتبار صدوره منهم يعتبر أذى منهم، ولكنه لا ينال الله عز وجل الضرر بسبب ذلك.
الجواب: نعم، لكن بكون الضرر لا يصل إلى الله، وكون الأذى لا يصل إلى الله، ولكن كونه يحصل منه الشيء الذي يغضب الله ويسخطه، وأن هذا شيء يصدر من العباد فذلك إيذاء لله عز وجل باعتبار صدوره، لا باعتبار وصوله إليه وتضرره به جل جلاله.
الجواب: صح هذا الحديث عن بعض أهل العلم، ومعناه: لو أن الله عز وجل عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم فهذه النعم التي أنعم الله تعالى بها على العباد، كالسمع والبصر، والأخذ والإعطاء، والمشي وما إلى ذلك هي نعم، فلو أن الله عز وجل آخذهم عليها ولم يتجاوز عنهم ما سلموا من العذاب وما سلموا من الجزاء؛ لحصول التقصير منهم ولحصول النقص منهم، فلهذا لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولكنه يتجاوز عن سيئاتهم وعن أخطائهم وعن تقصيرهم، كما قال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فهل الصواب مع القائل أم مع ابن رجب ؟
الجواب: النظر في الكلام الأول الذي فيه أنه ليس هناك شيء خير مما كان ونحو ذلك.
وأما قوله: (والشر ليس إليك) فيعني: أن الله عز وجل لم يخلق شراً محضاً لا يترتب عليه خير بوجه من الوجوه، بل إنه ما من شر يخلو من مصلحة أو فائدة، أما أن يكون شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه فهذا الذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل بقوله: (والشر ليس إليك) ، والله عز وجل خالق كل شي، خالق الخير وخالق الشر، فالشر من خلقه، والخير من خلقه، ولكن الشر الذي نفي عنه هو الشر الذي لا خير فيه بوجه من الوجوه، ولا يترتب عليه مصلحة، فهذا معناه صحيح ليس فيه إشكال، ولكن لعل الحافظ ابن رجب يقصد الكلام الذي جاء في صدر السؤال، وهو قوله: إن إيجاده لخلقه على هذا الوجه الموجود أكمل من إيجاده على غيره. فهذا فيه نظر لا شك.
والله عز وجل قال: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149] فلو شاء لجعل الناس كلهم مهتدين، ولكنه تعالى شاء أن يبتلى العباد وأن يمتحنوا وأن يؤمروا وأن ينهوا وأن يتبين أولياء الله من أعداء الله، فلعل المقصود بذلك هو الأول.
ولعله يوضحه قوله: وما فيه من الشر فهو شر إضافي نسبي بالنسبة إلى بعض الأشياء دون بعض، وليس شراً مطلقاً بحيث يكون عدمه خيراً من وجوده من كل وجه.
الجواب: لا أدري كيف يكون في بلادك أناس ما سمعوا عن الإسلام؟! مع أن هذه الوسائل التي يسرها الله في هذا الزمان منتشرة وعامة وموجودة، ويصل فيها كل خير وكل شر، كل خير يصل إلى الناس عن طريقها، وكل شر يصل إلى الناس عن طريقها، فكيف لا يصل الإسلام وذكر الإسلام إليهم وهذه الوسائل الموجودة المنتشرة في هذا الزمان جعلت العالم كله كأنه في بيت واحد أو في قرية واحدة؟!
نعم يمكن أن يكون بعض الناس ليست لهم صلة بالعالم، ولا لهم صلة بهذه الوسائل، فيمكن أن يكونوا في أمكان بعيدة أو في غابات وما إلى ذلك، والذي لم تبلغه الرسالة ولم يبلغه الدين يكون حكمه حكم المجانين، وحكم الناس الذين يمتحنون يوم القيامة، وعلى ضوء ذلك الامتحان يتبين من يكون سعيداً ومن يكون شقياً، كما ذكر ذلك العلماء، وكما ذكروا ما ورد في ذلك عند تفسير قول الله عز وجل: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
الجواب: الذي في حديث أبي ذر ليس فيه إضافة إلى الله تعالى، فلفظ الحديث: (من وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)؛ فليس في اللفظ إضافة الخير إلى الله عز وجل حتى يقال: فيه الأدب الذي ذكره الله عن الجن في قوله: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، ففي هذه الآية ما أضيف الشر إلى الله عز وجل، والخير أضيف إلى الله عز وجل، فقال عز وجل عنهم حين ذكر الشرُّ: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ فذكر مبنياً لما لم يسمّ فاعله.
والخير ذكر مبنياً للمعلوم.
وأما لفظ: (غير ذلك) فليس من هذا الباب، ولا يشكل إن قال: ومن وجد شراً، لكن لما كان ليس هناك إلا خير وشر ذكر الخير وكنى عن غيره بقوله: (غير ذلك).
الجواب: كل ذلك وارد ومقصور، فالخير يوجد في الدنيا وثوابه يوجد في الدنيا ويوجد في الآخرة، وفي الدعاء الذي في القرآن: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، فحسنة الدنيا وحسنة الآخرة هي الثواب من الله عز وجل يحصل في الدنيا ويحصل في الآخرة، والعقوبة تحصل في الدنيا وتحصل في الآخرة، فمن وجد خيراً في الدنيا فليحمد الله عز وجل وليزد في الإحسان، وفي الآخرة كذلك يحمد الله عز وجل على ما أنعم عليه حتى وصل إلى ما وصل إليه، وكذلك أيضاً من وجد غير ذلك في الدنيا فلا يلم إلا نفسه، وعليه أن يسعى لتدارك التقصير وتدارك الخلل حيث حصل له عقوبة في الدنيا وضرر في الدنيا بما أصابه من المصائب وذلك بسبب ذنوبه، كما قال الله عز وجل: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وفي الآخرة يندم حيث لا ينفعه الندم، وأما في الدنيا فإنه إذا ندم فهناك فسحة لأن يتدارك.
الجواب: الظلم كما هو معلوم محرم، ومن الناس من يحصل منه الظلم ويكون ظلوماً وجهولاً.
وأما مقولة شيخ الإسلام فيعني بها أنه غالباً لا يسلم من الظلم أحد، سواء ظلمهم لأنفسهم أو لغيرهم.
وأما كونه أصلاً كما قال فلا أدري هل هذا أصل عام في جميع الناس أنهم ظلومون؟! فلا أعرف وجهه.
الجواب: منهم من قال: الخير والشر. ومنهم من قال: الشر فقط.
الجواب: إذا كان هؤلاء المدرسون يضلون ويخرجون الناس عن الفطرة التي فطرهم الله عليها إلى الانحراف عنها فلا يدرسن أحد عندهم، ولكن يمكنه أن يحصل على الأشرطة وعلى الكتب والرسائل المفيدة السليمة ويشتغل بها، وبحمد الله ففي هذه الزمن تيسر الحصول على العلم بشكل ما حصل مثله فيما مضى، وذلك لوجود هذا التسهيل للكلمات والدروس والمحاضرات والندوات، ويكون الإنسان كأنه موجود بين هؤلاء الذين صدرت منهم المحاضرات باقتنائه لهذه الأشرطة وسماعه إياها، فإن ذلك يفيده، ويمكنه من أن يستفيد وأن يتعلم، وإذا تيسر له أيضاً أن يتصل بالهاتف أو يكتب الرسائل لأهل العلم ويستفيد منهم فذلك أمر طيب، وإذا كان أولئك الذين يحصل منهم التدريس ليسوا على استقامة وإنما هم من أهل البدع والضلال فلا يدرس عندهم لئلا يضلوه، ولئلا يقع فيما وقعوا فيه فيبتلى بما ابتلوا به.
الجواب: سلف هذه الأمة رحمة الله عليهم كان كثير منهم يجتهدون في العبادة، ويعتبرون أنفسهم مقصرين، فهم مع اشتغالهم بالعبادة لا يعتبرون أنفسهم قد قدموا شيئاً، بل يهضمون جانبهم ويعتبرون أنهم مقصرون، كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] فمع عنايتهم بالعبادة ومع اشتغالهم بالعبادة يعتبرون أنفسهم مقصرة، وقد جاء في ترجمة منصور بن زاذان أنه قيل: لو قيل لـمنصور بن زاذان : إن ملك الموت بالباب ما أمكنه أن يزيد شيئاً من الأعمال. لأنه كان دائماً على الصلة بالله عز وجل في عبادته له سبحانه وتعالى.
فإذاً: ما جاء من آثار عن السلف من جهة اهتمامهم بالعبادة وخوفهم من عدم القبول واعتبار أنفسهم مقصرين كان ذلك هو ديدنهم وشأنهم رحمة الله تعالى عليهم.
الجواب: لا شك أن هذا من إغواء الشيطان لبعض الناس الذين فتنوا بإيذاء الناس وإلحاق الأضرار بهم، بحيث يهلكون أنفسهم ويهلكون غيرهم، فيكونون قد جمعوا بين جنايتين: جناية على أنفسهم، حيث تسببوا في إهلاكها وقتلها، والله عز وجل حرم قتل النفس، وجناية أخرى على غيرهم، حيث تسببوا في هلاكهم، وقد قتل أُناس بغير حق شرعي، وقد بين صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) فلا شك أن هذا من الإجرام، ولا شك أن هذا من الاستسلام للشيطان والانقياد له، بحيث يجني الإنسان على نفسه ويجني على غيره، ويلحق الضرر بنفسه وبغيره.
فهؤلاء الذين يفجرون بأنفسهم ويتسببون في إتلاف الآخرين وإهلاكهم وإتلاف الممتلكات لا شك أنهم جمعوا بين مصائب متعددة، وبين بلاء متنوع لا يقتصر عليهم، بل هم ذهبوا نتيجة له، وغيرهم ذهبوا نتيجة له، وسيلقى كلٌّ ما قدم من الأعمال السيئة التي يفعلها في هذه الحياة، وسيجد أمامه الجزاء على ذلك والعقوبة على ذلك، والعاقل يجب عليه أن يحرص على مصلحته ومصلحة غيره، وعلى منفعته ومنفعة غيره، فلا يحصل منه إخلال بهذه المصالح وبهذه المنافع، بحيث يبدل ذلك بإساءة إليه وإلى غيره، ولا شك أن هؤلاء فعلوا أفعالاً في غاية الإجرام وغاية الضرر، فقتلوا الآمنين، سواءٌ أكانوا من الساكنين في تلك الأماكن أم من المارين في تلك الأماكن، ولا شك أن هذا في منتهى الإجرام وفي منتهى الخبث، ونسأل الله عز وجل أن يكفي المسلمين شر الأشرار، وأن يهدي من ضل ويخرجه من الظلمات إلى النور؛ إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب.
فما مدى صحة هذا الحديث؟ وما رأيكم في هذه المسألة؟ ثم لو صح -كما قال السبكي - فما الجمع بينه، وبين النهي عن إطلاق لفظ السيد، كما في حديث: (لا تقل للمنافق: سيد)؛ لأنه في ذلك الحديث جعل كل بني آدم سيداً؟
الجواب: أبو يونس ما أعرفه، والباقون معروفون، وكلهم ثقات، ولكن لو صح الحديث فالمقصود بالسيد الذي هو سيد قومه كما هو معلوم، فالأشرار رأسهم منهم، والأخيار رأسهم منهم، والسؤدد هنا لو صح الحديث المقصود به تقدم المرء على غيره، فيكون مرجعاً في الخير ومرجعاً في الشر، لكن التقدم في الشرع أمر محبوب وأمر مرغوب وأمر ممدوح.
ولا يستقيم ما جاء في هذا الحديث إلا أن يعتبر تقدماً، وكون الإنسان رأساً في شر أو رأساً في خير، فيكون مقدم الخبثاء من جنسهم، ومقدم الأخيار من جنسهم، ولكن لا يعني ذلك أن كل متقدم يكون محموداً؛ لأن هناك تقدماً مذموماً وتقدماً محموداً، وذلك راجع إلى حال المتقدم، ولما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل قال:(عظيم الروم)، يعني: أنه مقدم وكبير فيهم.
الجواب: ذلك راجع إلى الطريقة التي رسمت له، فهل رسم له أن يوزع على الفئة الفلانية؟ إن كان مطلوباً منه أن يوزع على جهة معينة فلا يعط غيرهم، وإن كان الأمر مطلقاً أعطى من يعرف ومن لا يعرف، ممن يكون أهلاً لذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر