وسؤال معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدله على عمل يقربه من الجنة ويباعده من النار يدلنا على حرص الصحابة على معرفة الحق وعلى معرفة ما يقربهم إلى الله عز وجل وما يحصلون به الثواب من الله سبحانه وتعالى، فهم الحريصون على كل خير والسباقون إلى كل خير رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قوله: [ (دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار)] فيه إثبات الجنة والنار، وأنهما موجودتان، وهما باقيتان لا تفنيان ولا تبيدان، وفيه -أيضاً- أن عبادة الله عز وجل لتحصيل الجنة والسلامة من النار شأن سلف هذه الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كما يقول بعض الصوفية: ما عبدت الله رغبة في جنته ولا خوفاً من ناره، وإنما شوقاً إليه!
فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم خير الناس، وأفضل الناس- يسألون الله الجنة ويعوذون به من النار، ويبحثون عن الأعمال التي توصل إلى الجنة والأعمال التي بها يتخلصون من النار ويبتعدون عنها.
والله عز وجل قد أخبر عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85].
وقال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17].
فبين أن الأعمال سبب في دخول الجنة، وقد جاء في الصحيحين عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، ففي الآيات الكريمات التي ذكرت دلالة على أن الأعمال سبب في دخول الجنة، وأن الإنسان يدخل بعمله الجنة، والحديث يدل على أن الإنسان لا يدخل بعمله الجنة، فكيف يجمع بين ما جاء في الآيات وما جاء في الحديث؟
والجواب هو أن يقال: إن الباء التي في الحديث غير الباء التي في الآيات؛ لأن الباء في الآيات للسببية، والله عز وجل جعل الأعمال سبباً في دخول الجنة، والباء التي في الحديث هي باء المعاوضة، فقوله: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) أي: بأن تكون الجنة عوضاً عن عمله، فيستحق الجنة بمجرد عمله دون أن يكون وراء ذلك فضل الله ورحمته، فهذا لا يكون، بل الفضل لله عز وجل في دخول الجنة.
ومعلوم أن الإنسان عندما يعمل عملاً عند غيره في هذه الحياة الدنيا فإنه يستحق الأجرة في مقابل عمله عوضاً، وليس للذي يدفع العوض منة وفضل على الأجير الذي أعطي أجرته؛ لأن الأجرة في مقابل العمل، فهذا عَمِل وهذا أعطى في مقابل العمل.
أما دخول الجنة فالأعمال -وإن كانت سبباً في دخولها- إلا أن ذلك بفضل الله عز وجل، ولا يقال: إن القضية هي عمل وجد فكانت الجنة عوضاً عنه! بل الفضل لله عز وجل أولاً وآخراً، فهو الذي تفضل بالتوفيق للعمل الصالح الذي يوصل إلى الجنة، وتفضل بالجزاء والثواب الذي هو الجنة، فرجع الأمر إلى فضل الله عز وجل في تحصيل السبب ثم حصول المسبب.
وعلى هذا تكون الآيات والحديث لا اختلاف بينها، وإنما هي متفقة، بحيث تحمل الباء في الآيات على السببية، وأن الله تعالى جعل الأعمال أسباباً في دخول الجنة، والباء التي نُفي فيها دخول الإنسان بعمله الجنة إنما هي باء المعاوضة، فدخول المرء الجنة ليس معاوضة له على عمله، بل الأعمال سبب في دخول الجنة، وليست القضية قضية معاوضة كما هو مشاهد ومعاين في الذين يعملون أعمالاً في الدنيا ويحصلون على أجورهم من المستأجرين، فإن تلك الأجور ليس فيها فضل ولا منة، وإنما فيها معاوضة، فالأعمال -كما سبق- وإن كانت سبباً في دخول الجنة إلا أن الله تعالى هو الذي تفضل بها، فتفضل بالسبب وتفضل بالمسبب.
وفي هذا -أيضاً- دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يحرص على الأعمال الصالحة، وأن من استعان بالله وعول على الله وجد واجتهد وأخذ بالأسباب الموصلة إلى المقصود والمطلوب فإن ذلك يكون بتيسير الله عز وجل وتوفيقه لتحصيل ذلك المطلوب.
وأيضاً فيه تشجيع على مثل هذا السؤال، وبيان أهميته، وأن شأنه عظيم، وأن السؤال عن مثل هذا من أهم المهمات؛ لأنه سؤال عن عمل الإنسان في هذه الحياة؛ إذ إن هذه الحياة دار العمل والآخرة دار الجزاء، وليس فيها إلا جنة أو نار، ودخول الجنة إنما يكون بما يحصل في الدنيا للعبد من توفيق الله عز وجل للأعمال الصالحة التي توصل إلى الجنة وتباعد من النار.
والله عز وجل قد خلق الخلق لعبادته، وقد أُمروا ونهوا، وبين لهم التوحيد، وبين لهم الشرك، وبين لهم طريق الخير وطريق الشر، كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] يعني: طريق الخير وطريق الشر. وقد حصل تبيين ذلك بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعبادة الله عز وجل يجب أن تكون خالصة له، وأن تكون موافقة لسنته صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فتكون الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلة في عبادة الله؛ لأن عبادة الله عز وجل لا تعتبر ولا تكون مجدية ونافعة إلا إذا توافر فيها الشرطان: أن تكون خالصة لله، وأن تكون مطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: لابد -مع شهادة أن لا إله إلا الله- من شهادة أن محمداً رسول الله، وهما شهادتان متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فحين بعث رسول الله عليه الصلاة والسلام وجب على كل إنسي وجني أن يدخل في هذا الدين، وإلا فإن النار مثواه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، ويقول بعض العلماء: كنت إذا سمعت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأملته فأجد معناه في القرآن. قال: ولما سمعت هذا الحديث تأملته ووجدت معناه في قول الله عز وجل: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17] أي أن هذه الآية مثلها قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار).
وعلى هذا فعبادة الله عز وجل لابد فيها من شرطين: إخلاص العمل لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا توافر هذان الشرطان نفع العمل ونفعت العبادة، وإن اختل أحدهما فإن العمل مردود على صاحبه، ولا عبرة به حينئذٍ ولا قيمة له.
فقُدّمت الصلاة؛ لأنها أهم من غيرها، حيث إنها صلة وثيقة بين العبد وربه، وتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، بخلاف الأعمال الأخرى، فإن منها ما يكون واجباً في السنة كالزكاة والصيام، ومنها ما يكون واجباً في العمر كالحج، وأما الصلاة فهي في اليوم والليلة خمس مرات، ولهذا فإذا صاحب المرء إنساناً فإنه يستطيع أن يعرف أنّه من أهل الاستقامة أو من أهل الضلال خلال أربعٍ وعشرين ساعة، وذلك بكونه يصلي أو لا يصلي، فإن كان من المصلين فهذه علامة الخير، وإن كان من غير المصلين فهذه علامة السوء، فقدمت الصلاة في الحديث لأهميتها؛ ولأنها صلة وثيقة بين العبد وبين ربه؛ ولأنها تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات.
وقدمت الزكاة على الصيام؛ لأنها متعدية النفع؛ فالمزكي يستفيد منها بحصول الأجر ونماء المال، والفقير الذي تُدفع إليه الزكاة يستفيد منها بسدّ حاجته.
والزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما يأتي الجمع بين الصلاة والزكاة في الآية أو الحديث، كما قال الله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وقال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ الحج:41]، وقال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، وقال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11].
فهذه الأركان جاءت مرتبة وفقاً لأهميتها.
ثم إنّ هذه الأمور التي قدمت هي أهم الفرائض، والله عز وجل قد جعل أحب ما يتقرب العبد به إليه هو الفرائض، كما جاء في الحديث القدسي: (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
فقوله: (تعبد الله) أي أن من أسباب دخول الجنة عبادة الله تعالى، وهي فرائض ونوافل، فالفرائض ذكرت منها الأركان الخمسة التي هي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وهذه أمور واجبة لازمة.
والمقصود بذلك: النوافل؛ لأنه ذكر أمثلة للفرائض أولاً ثم ذكر أمثلة للنوافل ثانياً، فذكر ثلاثة أشياء: الصوم، والصدقة، وقيام الليل.
فهذه الأمور الثلاثة هي من أفضل أبواب الخير التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (ألا أدلك) هذا استفهام، فقبل أن يذكر أبواب الخير مهّد لها بهذا الاستفهام حتى يتهيأ المخاطب -وهو معاذ رضي الله عنه- لمعرفة ما يلقى عليه ليحفظه ويعيه ويستوعبه، بحيث لا يفوته منه شيء، فهذا الأسلوب وهذه الطريقة فيها لفت نظر المخاطب بتنبيهه إلى العناية والاهتمام لما سيلقى عليه بحيث يعيه ويستوعبه.
ثم ذكر النوافل التي بها زيادة الإيمان وزيادة الكمال وزيادة الأجر والثواب عند الله عز وجل، فقال: (الصوم جُنَّة) والجُنَّة: هي الوقاية التي يُتقى بها ما يُحذر ويُخاف، ولهذا يقال للترس الذي يتقى به السهام: جُنَّة.فالصوم جُنة في الدنيا من المعاصي وفي الآخرة من النار. ويدل للأول -وهو أن الصوم جنة في الدنيا- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
أي: أن من قدر على الزواج فليتزوج وليقض وطره، ومن عجز ولم يتمكن من ذلك لعدم القدرة المالية التي توصله إليه فإن عليه أن يكثر من الصوم؛ لأن الصوم يضعف شهوته ويُوهن قوّته، فيسلم بذلك من الوقوع في الفاحشة واقتراف الأمر المحرم، فإن الصوم يكبح جماح النفس، ويقمع شدة الشهوة؛ لأنه يكون فيه إضعاف للنفس، بخلاف الإفطار، فإنه يكون فيه النشاط وفيه الأكل والشرب والاستمتاع، فهو الذي يجعل الإنسان فيه هذه الشهوة، والصوم يضعفها، فأرشد عليه الصلاة والسلام إلى ما يكون به السلامة من الوقوع في الفاحشة والوقوع في الأمر المحرم، فإذا لم يستطع الإنسان أن يقضي شهوته بطريق الحلال فإن عليه أن يصوم حتى لا يقع في الأمر المحرم؛ لأن الصوم يضعف شهوته، فلا يكون عنده الاندفاع والرغبة التي تجعله يقدم على تفريغها وعلى حصولها بطريق محرمة.
وأما الوقاية التي يحدثها الصوم في الآخرة: فهي السلامة من النار في الآخرة، وقد جاء في الحديث الصحيح: (من صام يوماً في سيبل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً).
فصوم التطوع يكون جُنّة من المعاصي وجُنّة من النار.
والصدقة: هي الإحسان إلى الناس -بالمال أو بغيره- وإيصال النفع إليهم، وسدّ عوزهم وفقرهم.
وهي من أسباب إطفاء الخطايا، أي: زوالها وذهابها، ولا شك في أن الصغائر تذهب بفعل الطاعات، وأما الكبائر فإنها تذهب مع التوبة، أما مع الإصرار عليها فلا، وإذا كان الإنسان يتصدق وهو مصرّ على الكبائر فلا يقال: إن الصدقة تمحو كبائره التي هو مصر عليها، وإنما تمحو الصغائر، وأما الكبائر فتمحوها التوبة، فإذا تصدق وهو تائب من جميع الذنوب فإن الصدقة تطفئ تلك الخطايا كما يطفئ الماء النار، أي أنها تقضي عليها وتستأصلها، كما أن الماء إذا صُبّ على النار فإنه يخمدها ويطفئها، وهذا معروف بالمشاهدة والمعاينة، وكذلك المعاصي تطفئها الصدقة، والتي هي القربة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل بسدّ عوز المعوزين وقضاء حاجات الفقراء والمساكين.
وفي ذلك تشبيه الأمور المعنوية بالأمور الحسية في تقريب ذلك إلى الأذهان وإلى الأفهام؛ لأن المشاهَد أن الماء إذا صُبّ على النار قضى عليها وأنهاها، فكذلك الصدقة إذا جاءت فإنها تقضي على المعاصي، ولكن الكبائر تُمحى بالتوبة منها.
يعني: أنه من أبواب الخير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أبواباً ثلاثة من أبواب الخير: الصوم، والصدقة، وقيام الليل، فالصدقة نفعها متعد، والصوم وقيام الليل نفعهما قاصر لا يتعدى.
وقيام الليل هو أفضل الصلاة بعد الفريضة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة: قيام الليل)، وهو أفضل التطوع الذي يتطوع به من الصلوات، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلا قول الله عز وجل: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17] تلا هاتين الآيتين المشتملتين على بيان هذا العمل الصالح، وأن أولياء الله عز وجل الذين يحصل منهم هذا العمل الصالح يرغبون ويرهبون، وجزاؤهم الجنة بسبب أعمالهم التي عملوها وقدموها في هذه الحياة.
ومما ينبغي أن ينبه عليه: أن الإنسان إذا وعظ أو ذكّر فمرت به آية فعليه أن يأتي بها كما كان يُحدّث، ولا يتحول من كونه يخاطب الناس إلى كونه يقرأ القرآن ويصير كأنه قارئ تالٍ؛ فإن مقام الاستدلال غير مقام التلاوة، فبعض الناس تجده يخاطب الناس، فإذا مرت به آية تحول إلى كونه قارئاً، فالذي يسمعه يظن أنه قارئ، وليس محدثاً ولا مذكراً ولا خطيباً، وإنما يظنه قارئاً للقرآن. فمقام الاستدلال غير مقام القراءة.
وقوله: (وصلاة الرجل من جوف الليل) ذِكْر الرجل هنا لا مفهوم له، بل المرأة كذلك، وإنما ذكر الرجل؛ لأن أن الغالب أن الخطاب مع الرجال، وإلا فإن الأصل التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، ولا يصار إلى الفرق بينهما إلا إذا وجد ما يدل على أن هذا الحكم خاص بالرجال دون النساء أو العكس، كما يأتي في بعض الأحاديث بيان التفريق بين الرجال والنساء في بعض الأحكام، مثل مسألة الغسل من بول الرضيع الذي لم يأكل الطعام، فإنه يكون فيه النضح من بول الغلام والغسل من بول الجارية، وكذلك الجنازة إذا كانت رجلاً يكون الإمام عند رأسه، وإذا كانت امرأة يكون في وسطها، فهذه من الأمور التي يحصل فيها التفريق بين الرجال والنساء، وكذلك فيها يتعلق بالعقيقة والدية والشهادة والميراث والعتق، وهي خمسة أمور تكون النساء فيها على النصف من الرجال. فالأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، وعلى هذا فإن قوله في الحديث: (وصلاة الرجل) لا مفهوم فيه لذكر الرجل، بل مثله المرأة.
وقوله: (رأس الأمر الإسلام) الأمر: هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الشأن، وهو أعظم الشئون.
وقوله: (وعموده الصلاة) يدلنا على عظم شأن الصلاة؛ لأنها عمود الإسلام، ومعلوم أن الأعمدة يقوم عليها البنيان، وتقوم عليها الخيام، وإذا نُزع عمود الخيمة سقطت على الأرض، وإذا كُسرت أعمدة البنيان هبطت العمارة المكونة من طوابق كثيرة بعضها على بعض حتى تكون أقل مما يساوي طابقاً واحداً لما اختلت الأعمدة، وهذا يبين لنا أن الصلاة شأنها عظيم؛ لأنها هي العمود الذي يقوم عليه الإسلام.
ثم قال: (وذروة سنامه الجهاد)، السَّنام: هو أعلى الشيء، وسنام البعير: أعلاه، والذروة: أعلى السنام؛ لأن السنام أعلى شيء، وأعلى شيء في السنام هو الذروة، وأطلق على الجهاد أنه ذروة سنام الإسلام؛ لأن فيه علو الإسلام وظهوره وقوة المسلمين وتفوقهم على الكفار وغلبتهم لهم، حيث يكونون غالبين للكفار، فيهابهم الكفار ويخشونهم، فإما أن يدخلوا في الدين وإما أن يدخلوا تحت حكم الإسلام ويدفعوا الجزية، ولكن يكونون تحت ولاية المسلمين، ويكون ذلك سبباً في هدايتهم؛ لأنهم يشاهدون أحكام الإسلام، ويشاهدون تطبيق الإسلام من المسلمين، فيكون في ذلك القدوة الحسنة والأسوة الطيبة لهم.
وإنما يكون ظهور الإسلام وقوته وتفوق المسلمين على أعدائهم الكافرين بقوة الإيمان وقوة اليقين الذي به يفتحون العباد والبلاد، كما كان شأن سلف هذه الأمة الذين كان عددهم قليلاً بالنسبة لأعداد أعدائهم، ومع ذلك فقد نصرهم الله عز وجل بقوة إيمانهم ويقينهم وثباتهم وإخلاصهم لله عز وجل.
ولا يحصل جهاد الأعداء إلا إذا حصلت مجاهدة النفس، فالمسلم إذا لم يجاهد نفسه فإنه لا يستطيع أن يجاهد غيره، وجهاد النفس هو أهم شيء؛ لأن الإنسان إذا لم يكن عنده قوة إيمان ومجاهدة للنفس لا يكون عنده صبر، ولا يكون عنده جَلَد، ولا تكون عنده رغبة، ولا يكون عنده حرص على مجاهدة الكفار، فمجاهدة النفس هي الأساس الذي تقوم عليه قوة المجاهدين والمقاتلين للكفار، ولهذا تفوق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة على أعدائهم مع قلة عدد المسلمين وقلة عتادهم وكثرة أعداد الكفار وكثرة عتادهم بقوة الإيمان وقوة البصيرة وقوة الدين، هذا هو الذي مكنهم من التغلب على أعدائهم، فإن الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وذلك بقوة الإيمان وقوة اليقين، فالجهاد أولاً جهاد النفس، ثم جهاد المنافقين وجهاد الكفار، كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73].
وهذا يبين لنا خطورة شأن اللسان، وأن أمره خطير، وأنه ليس بالأمر الهيّن، وأنه هو الذي يوقع الإنسان في المهالك ويتسبب في العطب، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لـمعاذ قال له معاذ : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ثكلتك أمك يا
يعني: جزاء وعقوبة ما يحصل من الألسنة من الكلام السيء في هذه الحياة الدنيا، فهذا هو الذي يوصلهم إلى النار، وهو الذي يوقعهم فيها؛ لأن الناس في هذه الحياة الدنيا يزرعون، فالحياة الدنيا هي دار الزرع ودار العمل، والآخرة دار الحصاد، فالناس يحصدون ويحصلون أجر ما قدموا، إن قدموا خيراً وجدوه، وإن قدموا شراً وجدوه، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، وجاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
وفي هذا بيان عظم شأن اللسان، وأن أمره ليس بالأمر الهين، بل شأنه خطير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراًَ أو ليصمت) وفي الحديث المتفق على صحته: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)، والذي بين اللحيين هو اللسان والذي بين الرجلين هو الفرج.
ثم إن الإمام مسلماً رحمة الله عليه من حسن ترتيبه ومن حسن دقته في كتابه الصحيح لما ذكر هذا الحديث أورد بعده حديث ابن عباس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاوية : (لا أشبع الله بطنك) بعدما ذكر الحديث الذي فيه هذا الشرط؛ ليدل على أنه دعاء له وليس دعاء عليه، وذلك أن ابن عباس روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى معاوية فرجع فأخبره أنه وجده يأكل، ثم أمره أن يذهب مرة أخرى، فرجع فأخبره أنه وجده يأكل، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا أشبع الله بطنك) فصار دعاء له بناءً على ذلك الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، فصار منقبة لـمعاوية وفضلاً له، وليس فيه ذم لـمعاوية كما يحرص على ذكره من يعادون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أن هذا من مثالبه، وأنه دعاء عليه.
فهذا الحديث العظيم مشتمل على هذه الوصايا العظيمة النافعة الجامعة ممن أعطي جوامع الكلم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجواب: الذي ينبغي هو ألا يقال مثل هذا الكلام، وإنما يؤتى بالكلام الطيب والكلام المناسب، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا الذي حصل منه -كما هو معلوم- يكون دعاءً لصاحبه وليس دعاء عليه.
الجواب: هذا ليس بجيد، أعني كون الإنسان يرتل الآيات حال الوعظ ونحوه، بل الإلقاء في الاستدلال يكون مثل غيره، ويستخدم هذه الطريقة كثير من الدعاة والوعاظ، ويقصدون بذلك ترقيق قلوب السامعين وشد الانتباه، وهذا المقصود لا يراعى، بل يراعى الصدق والإخلاص والإتيان بالكلام المؤثر الذي يكون صحيحاً، بحيث لا يكون فيه أحاديث ضعيفة أو موضوعة، وإنما يكون بآيات من كتاب الله، وأحاديث من أحاديث رسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وكذلك من كلام العلماء وكلام سلف هذه الأمة الذي فيه تأثير على القلوب.
وقد يقال: قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة (ق) يوم الجمعة على المنبر!
ونقول: إن تلك قراءة قرآن، حيث كان يقرأها على المنبر، أما كلامنا فهو في الاستدلال، أي: كون الإنسان يتكلم ثم يأتي بدليل من الكتاب العزيز ويقرؤه بترتيل، فيتحول من كونه مذكراً متكلماً إلى كونه قارئاً، أو يسأل عن الدليل على شيءٍ فيذهب يرتل الآية.
وقول الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم تلا) لا يشعر أن قراءته كانت متلوة مرتلة، وإنما يدل على كونه صلى الله عليه وسلم ألقاها عليهم.
الجواب: إذا كانت الآيات كثيرة فلا بأس بذلك، وأما إذا كان يأتي بآية، ثم يأتي بآية، ثم يأتي بآية، فلا يأتي بالاستعاذة.
الجواب: لا ينبغي مثل ذلك، فإنه يمكن للإنسان أن يعبد الله عز وجل ولا يجتمع مع غيره ويتكلف ذلك.
الجواب: إذا صلت المرأة في بيتها وقامت بما هو واجب عليها فلا شك أنها تحصل على ما يحصل عليه الرجل؛ لأنها معذورة، فالمرأة إذا فعلت ذلك في مصلاها أو في بيتها فإنه -إن شاء الله- يرجى أن تحصل الفضل الذي يحصله الرجل.
الجواب: الظاهر أنه الجهاد في سبيل الله، ولهذا أورد هذا الحديث في كتاب الجهاد، وأصل سبيل الله يراد به معنى خاص ويراد به معنى عام؛ لأن كل طرق الخير هي في سبيل الله، ويطلق (سبيل الله) على الجهاد في سبيل الله، ولهذا فسبيل الله المذكور مع أصناف الزكاة الثمانية المقصود به الجهاد؛ لأن جميع الأصناف المذكورة هي في سبيل الله ما عدا العاملين عليها؛ لأن هؤلاء يأخذون أجورهم.
الجواب: لا شك أن الأركان الخمسة جاءت مرتبة في حديث جبريل، وجاءت مرتبة في حديث ابن عمر ، وجاءت مرتبة في غيرهما، وبالنظر يعلم أن الصلاة لها أهمية عظمى، حيث تصلي في اليوم والليلة خمس مرات، وهي الفاصلة بين المسلمين والكفار، وهي آخر ما ينقض من عرى الإسلام، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، وهي عمود الإسلام، ثم تليها الزكاة؛ لأنها متعدية النفع، ثم يليها الصوم؛ لأنه قاصر النفع، وكل من الزكاة والصيام يأتي في السنة مرة، والحج جاء آخراً؛ لأنه لا يجب إلا مرة واحدة في العمر.
الجواب: آلات التصوير إذا كان يستعملها المرء فيما هو مباح فلا بأس بذلك، وإذا أعارها لمن يستعملها في المباح فلا بأس.
الجواب: إذا كان ليس من المصلين ولا يعقل الصلاة فلا شك أن وجوده كعدمه، ولهذا لا ينبغي أن يكون في الصف وهو لا يعقل الصلاة.
الجواب: جاء عن عدد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يمسحون على الجوارب، ولا شك أنها لا تسلم، لكن الشأن في الشقوق؛ لأنها قد تكون يسيرة وقد تكون فاحشة كبيرة بحيث يكون وجود الجورب كعدمه، فهناك فرق بين الشقوق اليسيرة وبين الشقوق الكبيرة التي يكون أكثر الرجل فيها بادياً.
الجواب: أن يجمع يومين ويؤخر يومين، ولا بأس بذلك.
الجواب: الجهاد كما هو معلوم هو جهاد الكفار، وجهاد النفس هو وسيلة له، ولا أعرف أن الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: إذا كانت محتاجة إليه فلا بأس بذلك؛ لأن القرض -كما هو معلوم- يكون الأصل أنه حلال، وإنما المحرم هو الزيادة التي تكون بسبب القرض، ولكن كونها تتنزه عن هذا إذا كانت موظفة وعندها شيء تستغني به فلا شك أنه أولى.
وينبغي لها أن تحرص على هداية أخيها وعلى سلامته، فتعتذر وتقول: إن فعلك هذا غير سائغ، ولهذا لا أحب أن أشارك في هذا، فتبين له بلطف ولين، وتحرص على أن يسلم، فليست القضية في كونها تأخذ أو لا تأخذ، بل أهم شيء أن تخلص أخاها وأن تحرص على تخليصه من الوقوع في الأمر المحرم الذي هو الربا.
وأما رده الدين إليها من ذلك القرض فقبولها له ليس به بأس.
الجواب: يلبس، ولكن لا يلبس لباساً يماثل لباس المبتدعة.
الجواب: الأولى عدمه؛ ما دام الإنسان يعتبر أن تغطية الرأس هيئة كاملة وأنها هي الهيئة المثلى، وإذا كشف وصلى فلا شيء عليه.
الجواب: المرأة في الجنة لها ما لا يخطر على بالها من النعيم ومن الخير، ثم من أين لنا أن نعرف أن المرأة لا تريد زوجها؟ فهذا الكلام افتراض باطل؛ لأنه إذا كان بينهم شيء في الدنيا من الغل فإنه ينزع يوم القيامة من قلوبهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر