عن المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن، بحسب امرئ أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) رواه الإمام أحمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة ، وقال الترمذي : حديث حسن.
ذكر المصنف تخريجه عن الإمام أحمد وعن ثلاثة من أصحاب السنن الأربعة وهم من عدا الإمام أبا داود رحم الله تعالى الجميع.
وكان من طريقة الإمام النووي رحمه الله عندما يخرج الأحاديث أن يقول: رواه فلان وفلان، فيعبر بـ(رواه)، وأما الحافظ ابن رجب فإنه يعبر بـ(خرجه) وأحياناً يعبر بـ(رواه)، ولا فرق بين خرجه ورواه، فإن المقصود به المؤلف الذي روى هذا الحديث في كتابه بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن)، الوعاء هو: الظرف الذي توضع فيه الأشياء، والبطن هو: الذي يوضع فيه الطعام، وإذا أُكثر من الطعام أدى إلى تخمة وصار ضرراً وشراً على صاحبه؛ وذلك لما ينتج عنه من الكسل والخمول والفتور، وما يحصل عنه أيضاً من الأمراض والأمور المنغصة.
وبعد أن بين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن البطن هو شر وعاء يملأ أرشد عليه الصلاة والسلام إلى الطريقة المثلى في الأكل وهي أخذ الكفاية، ثم بين هذه الكفاية فقال عليه الصلاة والسلام: (بحسب امرئ) أي: يكفيه (أكلات يقمن صلبه)، أكلات: جمع أكلة، أي: لقيمات يقمن صلبه، وصلبه هو ظهره، وذلك أنه إذا أكل الإنسان وحصل له التغذي بالطعام فإنه يكون عنده نشاط وتكون عنده قوة وفيه حياة، وإذا ذهب عنه الطعام أدى به ذلك إلى السقام وإلى المرض، وربما أدى به ذلك إلى الموت بسبب الجوع.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (بحسب) الحسب هنا بمعنى الكافي، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]، أي: كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين، وقد مر في حديث أبي هريرة : (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، أي: لو لم يكن عنده من الشر إلا هذا لكان كافياً فكيف إذا كانت عنده شرور أخرى، فإن ذلك شر إلى شر وضرر إلى ضرر.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الإنسان إذا لم يكتف بهذه الأكلات التي يحصل بها إقامة الصلب إلى هذه القسمة الثلاثية، وهي أن يكون ثلث بطنه لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أحوال للناس: فالحالة الأولى: حال من يملأ بطنه، وبذلك يتعرض لأسباب الأمراض وللأسقام وللكسل والخمول، والحالة الثانية: حال من يأتي بالطريقة التي فيها الكفاية، وهي الأكلات التي يقمن صلبه، وإذا كان ولا بد فهناك شيء بين الكفاية والامتلاء، وهو أن يملأ الثلثين ويبقى ثلث يكون فيه مجال للتنفس وهذه هي الحالة الثالثة.
فهذا هو هديه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالمآكل والمشارب.
هذه أربع خصال إذا اجتمعت في الإنسان صار منافقاً، وإذا وجدت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق.
والمراد بالنفاق هنا: النفاق العملي وليس النفاق الاعتقادي، والنفاق العملي هو الذي لا يخرج من الملة، والنفاق الاعتقادي هو النفاق المخرج من الملة، وهو الذي أصحابه مخلدون في النار، كما قال الله عز وجل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].
فأقرب الأقوال في معنى النفاق هنا أنه النفاق العملي الذي هو إخلاف الوعود والفجور في المخاصمة، وكذلك الغدر عند المعاهدة والكذب، والمطلوب من المسلم أن يكون متحلياً بضد هذه الخصال، فيكون عند الحديث صادقاً، فلا يقدم على الكذب ولا يحدث صاحبه بما هو كذب، ويحذر من أن يكون من أهل الفجور والكذب، وإذا لم يحدث بما هو صدق فليمسك عن الكلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
وقوله: (وإذا وعد أخلف) هذا يكون فيمن يعد وفي نيته أن يخلف، فهذا هو الوصف المذموم، وأما إذا وعد الإنسان وهو يريد ألا يخلف ثم حصل له مانع يمنعه من الوفاء بالوعد وحصل له أشياء تحول بينه وبين تنفيذ ما وعد فإن هذا لا يكون آثماً، وإنما الآثم هو الذي من شأنه أن يعد وهو غير صادق في وعده.
وقوله: (وإذا خاصم فجر) أي: أنه إذا خاصم لا يتحاشى في الكلام، بل يزيد في الكلام ويتكلم بالكلام الباطل في حال الخصومة، والأصل أن يمسك المرء لسانه عند الخصومة فلا يتعدى ولا يتجاوز ولا يتكلم إلا بما هو خير، ولا يتكلم بشيء تصل إليه مضرته، بل يكون كلامه باعتدال وتوسط، ولا يتجاوز الحد إلى أن يكون ظالماً لمن يحدثه ومن يخاصمه فيكون فاجراً بالخصومة، فالفجور هو: الميل عن الحق مع الاحتيال عليه.
وقوله: (وإذا عاهد غدر) أي: أنه إذا أعطى العهد والميثاق فإنه يغدر ولا يفي بعهده.
هذا الحديث فيه بيان أن الإنسان عليه أن يكون متوكلاً معتمداً على الله في جميع شئونه مع أخذه بالأسباب المشروعة التي شرعها الله عز وجل، فلا يكون متوكلاً بدون الأخذ بالأسباب وإنما يكون متوكلاً مع الأخذ بالأسباب؛ لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الاثنين معاً، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله).
فقوله: (احرص على ما ينفعك)، هذا فيه أخذ بالأسباب واستعانة بالله عز وجل وتوكل عليه وطلب للمعونة منه، فيكون الإنسان قد جمع بين الأخذ بالأسباب والاعتماد على مسبب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، فإن الأسباب إذا لم يشأ الله أن تكون مفيدة لم يحصل الإنسان من ورائها على فائدة، ولكنها تكون مفيدة بتوفيق الله عز وجل وإعانته وتسديده، فعند ذلك ينفع السبب وينتهي إلى حصول المسبب، وإلا فإن الأسباب في حد ذاتها دون عون الله لا تنفع، فعلى الإنسان أن يأخذ بها ولا يعتمد عليها، ولكن يعتمد على مسببها الذي هو النافع الضار الذي لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وكما جاء في حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير)، ثم بين كيف يكون رزق الطير، فقال: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالطير لا تجلس في أوكارها تنتظر شيئاً يأتيها وإلا ماتت وهلكت، وإنما شأنها أنها تأخذ بالأسباب فتذهب في الصباح خاوية البطون خماصاً، ثم ترجع بطاناً، أي: ممتلئة البطون، فهي قد أخذت بالأسباب، فأنتم عليكم أن تأخذوا بالأسباب وأن تتوكلوا على الله سبحانه وتعالى، لا أن تتوكلوا على الله عز وجل بدون أخذ بالأسباب؛ لأن الأخذ بالأسباب والاعتماد عليها والغفلة عن الله عز وجل من أخطر الأشياء، واعتقاد أن الأسباب تنفع وتضر بطبيعتها قدح في التوحيد، فهي لا تنفع ولا تضر إلا إذا جعلها الله نافعة أو جعلها ضارة.
ومحو الأسباب عن أن تكوناً أسباباً نقص في العقل، فالذي يقول: إذا كتب الله لي شيئاً فسيأتيني ولن أفعل الأسباب ناقص العقل، وذلك مثل أن يقول الإنسان: إن الولد لا يأتي إلا عن طريق الزواج، لكن إذا كتب الله لي أن يأتيني فسيأتيني ولو بغير زواج؛ فهذا نقص في العقل؛ لأن الولد لا يأتي إلا بفعل الأسباب بطريق الزواج، قال عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7].
وجاء في حديث الرجل الذي قال: أعقل ناقتي أم أدعها وأتوكل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (اعقلها وتوكل)، يعني: خذ بالأسباب وتوكل على الله عز وجل، فلا يهمل الإنسان الأسباب أصلاً ولا يأتي بالأسباب معتمداً عليها غافلاً عن الله عز وجل؛ لأن الأسباب إذا لم يجعلها الله نافعة لم يحصل من ورائها فائدة للإنسان.
وقوله: (لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، الطير هذا شأنها، والله تعالى ألهمها هذا العمل الذي قامت به من غدوها في الصباح تبحث عن الرزق ثم ترجع في المساء فتبيت في أوكارها وقد امتلأت بطونها وجلبت الرزق والعيش لأفراخها التي في عشها، فلم تهمل الأسباب؛ فأنتم كذلك إذا فعلتم مثلما تفعل هذه الطيور معتمدين على الله عز وجل مع أخذكم بالأسباب، فإن الله تعالى يرزقكم ويحقق لكم ما تريدون من الخير.
هذا الحديث فيه حرص الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم على الخير وسؤالهم عن أمور الدين وعن الأمور الجامعة التي يحصلون فيها الأجور العظيمة، وهي أعمال خفيفة ويسيرة لا مشقة فيها، بل عملها يسير وفضلها كبير وجزاؤها عظيم من الله سبحانه وتعالى، فهو يسأل ويقول: (إن شرائع الإسلام كثرت علي) والمقصود من ذلك: النوافل، وإلا فإن الفرائض يتعين على كل مسلم أن يأتي بها، ولكن السائل يسأل عن الشيء الذي يمكنه أن يعتني به وأن يحرص عليه فيما يتعلق بالنوافل، فهو يطلب أن يدله صلى الله عليه وسلم على باب منها يتمسك به يكون جامعاً للخير ومحصلاً للأجر، كما سبق أن مر بنا في الحديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
فلما أراد باباً جامعاً يتمسك به من أبواب الخير فيما يتعلق بالنوافل أرشده النبي صلى الله عليه وسلم ألا يزال لسانه رطباً من ذكر الله عز وجل؛ وذلك بكثرة ذكر الله سبحانه وتعالى.
ومعلوم أن ذكر الله عز وجل يطلق إطلاقاً عاماً ويطلق إطلاقاً خاصاً، فإطلاقه العام يدخل تحته الصلوات، ويدخل تحته قراءة القرآن، ويدخل تحته الأذكار، وأما الذكر الخاص فهو الأذكار الخاصة كالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، فإن هذه الأذكار هي الذكر الخاص، وإلا فإن الصلاة ذكر لله عز وجل؛ لأنها مشتملة على ذكر الله من أولها إلى آخرها، وكذلك قراءة القرآن فهو خير الذكر وخير الكلام وأفضل الكلام، ثم بعد ذلك الأذكار التي مع الأدعية؛ لأن الأدعية هي سؤال الله عز وجل ما يريده الإنسان، وأما الأذكار فهي الثناء على الله عز وجل بما يليق به من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وهذه هي الأذكار التي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الإنسان لسانه رطباً بها، وذلك سهل عليه في أي وقت وفي أي حين، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح- كان يذكر الله على كل أحيانه، والله عز وجل أمر بذكره فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42].
وأثنى الله عز وجل على الذاكرين والذاكرات فقال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، ذكر ذلك في جملة الخصال العشر التي ذكرها الله عز وجل في سورة الأحزاب.
فهذا هو المعنى الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وهذا لا شك أنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان يأتي بذكر الله عز وجل، وذكر الله عز وجل هو تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وتعظيم وثناء على الله عز وجل، ويكون لسانه رطباً بذلك؛ لأنه إذا كان مشتغلاً بذكر الله عز وجل صار منشغلاً عن غير ذكر الله عز وجل من الكلام الذي لا يليق والذي لا ينبغي، فتعويد الإنسان نفسه أن يكون ذاكراً لله يحصل به الحسنات العظيمة لعمل يسير وشيء سهل خفيف، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، وهما من ذكر الله عز وجل، فوصفهما بأنهما خفيفتان على اللسان، وذكر الله عز وجل كله خفيف على اللسان.
فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا العمل العظيم الذي هو إدامة ذكر الله وكثرة ذكره سبحانه وتعالى، وهذا يكون من الإنسان وهو ماشٍ وقائم وقاعد ومضطجع وفي جميع أحواله، وذلك سهل عليه؛ لأنه لا يحتاج إلى كلفة ولا يحتاج إلى مشقة، وليس فيه إلا تحريك اللسان بخير، حتى يعود على الإنسان بخير، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
وبهذا يكون انتهينا من شرح الأحاديث الأربعين أو الاثنين وأربعين التي جمعها الإمام النووي رحمه الله المتوفى سنة (676هـ)، ثم الثمانية التي أضافها الحافظ ابن رجب المتوفى سنة (795هـ).
وهذا الذي ختم به ابن رجب لا شك أنه ختام عظيم، وهو نظير ختم البخاري لكتابه بحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان ..)، كما أن الإمام النووي رحمه الله ختم الاثنين والأربعين بحديث أنس بن مالك الذي فيه: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي).
فالإمام النووي رحمه الله ختم بذلك الحديث، و ابن رجب رحمه الله ختم بهذا الحديث، و البخاري رحمه الله ختم بذلك، ولهذا تابعه بعض العلماء فختموا كتبهم بهذا الحديث، فإن المنذري ختم به كتابه الترغيب والترهيب.
قد ذكرنا في أول الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم، فكان صلى الله عليه وسلم يعجبه جوامع الذكر ويختاره على غيره من الذكر، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: (ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟! قالت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته).
ويكفي في عدم صلاحيتها وأنها غير مناسبة أن بعض الناس يسأل عنها، وما دام الإنسان يسأل عنها فعليه أن يأخذ بالشيء الذي لا يحتاج أن يسأل عنه وهو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فكون الإنسان يسمع بكلام ولا يدري صحته من سقمه، وهل هو طيب أو رديء فيأتي ويقول: ما رأيك في هذا الدعاء؟ يدل على أن فيه شيئاً، فالإنسان ليس بحاجة إلى أن يشغل نفسه بمثل هذا السؤال، وإنما يشغل نفسه بتعلم الأذكار والأدعية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ بها؛ لأنها من كلام الذي أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، وأيضاً كلامه فيه العصمة؛ لأنه كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم، أما غيره من الناس فإنه يخطئ ويصيب، فقد يأتي بشيء محذور وقد يأتي بشيء لا يليق كما في دلائل الخيرات من الأدعية السيئة كدعاء: اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيء، اللهم ارحم محمداً حتى لا يبقى من الرحمة شيء، اللهم بارك على محمد حتى لا يبقى من البركة شيء، اللهم سلم على محمد حتى لا يبقى من السلام شيء.
وأيضاً مثل: اللهم صل على محمد ما سرحت البهائم، اللهم صل على محمد ما شدت العمائم، اللهم صل على محمد ما نفعت التمائم.
فهذا كلام البشر لا ينبغي أن يلتفت الإنسان إليه، وإنما يحرص على كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فقد أعطاه الله جوامع الكلم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فالإنسان إذا حرص على كلامه وتعلم الأدعية والأذكار من كلامه صلى الله عليه وسلم فإنه يحصل الشيء الذي فيه العصمة، ويحصل الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أتى بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه أدعية جامعة، ولكن ذكر الحصى وذكر النوى لم يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: وخرَّج الترمذي من حديث صفية قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح الله بها، فقلت: لقد سبحت بهذه، فقال: ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به؟ فقلت: علمني، فقال: قولي: سبحان الله عدد خلقه).
وخرَّج النسائي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يحرك شفتيه فقال: ماذا تقول يا
وفي النسخة الثانية قال: إسناده ضعيف، يحيى بن أيوب ليس بالقوي، وابن زرارة لا يعرف.
وعلى كلٍ الإنسان يأتي بما ثبت ويستغني عما لم يثبت.
والقراءة لا تكون إلا بتحريك اللسان، ولا يكفي الإنسان أن يقرأ بقلبه أو يستحضر القرآن بقلبه دون أن يحرك لسانه، وإنما القراءة تكون بتحريك اللسان، كما قال عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، وقال: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18].
والرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يستدلون على قراءته في الصلاة السرية باضطراب لحيته؛ لأنهم كانوا يرون عوارضه تتحرك من جهة اليمين ومن جهة الشمال إذا كانوا وراءه، وإنما تتحرك بالقراءة، والقراءة إنما هي باللسان، لأنه لو كانت القراءة بالقلب لم تتحرك اللحية.
قال رحمه الله: [ وخرَّج البزار نحوه من حديث أبي الدرداء ، وخرَّج ابن أبي الدنيا بإسناد له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : (يا
ويناسب الإنسان أن يقتني مثل صحيح الكلم الطيب، الذي جمعه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه لله من كتاب الكلم الطيب لـابن تيمية رحمه الله، فإن هذا الكتاب مع اختصاره مشتمل على جملة كبيرة من الأذكار والأدعية.
وأما هذا الحديث فرواه الدولابي في الأسماء والكنى من طريق واصل بن مرزوق عن رجل من بني مخزوم يكنى أبا شبل عن جده، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الحديث فيه مبهم، والإنسان يحرص على الإتيان بما ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا موقف، وابن مسعود رضي الله عنه له قصة مع الذين كانوا في المسجد متحلقين وبأيديهم حصى، وأحدهم يقول: ليسبح كل واحد مائة، ويهلل مائة، فوقف على رءوسهم رضي الله عنه، وقال: يا هؤلاء! عدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، فإما أنكم أهدى طريقة مما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إنكم تفتحون باب ضلالة، قالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه).
يعني: أن المطلوب مع إرادة الخير موافقة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا من كلام سليمان بن طرخان التيمي والد المعتمر بن سليمان ومعلوم أن الأحاديث فيها ذكر الله عز وجل، وكونه يتخللها السكوت ثم يؤتى بمثل هذا الدعاء، هذا شيء غريب غير معروف، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه وما كان يتوقف ويذكر الله عز وجل مثل هذا الذكر، فنفس الحديث هو ذكر لله عز وجل، فاشتغال الإنسان بالحديث أو بالعلم هو ذكر لله سبحانه وتعالى، دون أن يحصل هذا التوقف والإمهال من أجل أن يؤتى بمثل هذا الكلام.
وقوله: (ومنتهى رحمته)، رحمة الله عز وجل ليس لها نهاية إلا إذا كان المقصود بالرحمة الجنة؛ لأنها من رحمة الله سبحانه وتعالى، وهي محدودة معروفة؛ ولكن ليس لنعيمها نهاية، بل نعيمها دائم ومستمر لا ينقطع ولا ينتهي أبد الآباد؛ فإذا كان المقصود بذلك الجنة فالجنة هي رحمة مخلوقة، فقد جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء).
وأما رحمة الله عز وجل فهي صفة من صفاته، فلا يصلح أن يقال: إن لها منتهى، فرحمة الله عز وجل وسعت كل شيء وليس لها نهاية.
و ابن رجب رحمه الله يجمع أشياء كثيرة طيبة وصحيحة ويجمع أشياء فيها غرابة.
قال رحمه الله: وبإسناده عن المعتمر بن سليمان قال: رأيت عبد الملك بن خالد بعد موته فقلت: ما صنعت؟ قال: خير، فقلت: ترجو للخاطئ شيئاً، قال: يلتمس علم تسبيحات أبي المعتمر نعم الشيء.
وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من هذه الرؤيا وغيرها.
قال رحمه الله: قال ابن أبي الدنيا وحدثني محمد بن أبي الحسين قال: حدثني بعض البصريين أن يونس بن عبيد رآه رجلٍ فيما يرى النائم كان قد أصيب ببلاد الروم، فقال: ما أفضل ما رأيت ثَمَّ من الأعمال؟ قال: رأيت تسبيحات أبي المعتمر من الله بمكان.
وعلى كل فإن الكلمات الجامعة والأدعية الجامعة هي التي جاءت في الأحاديث الصحيحة، وهي التي ينبغي للإنسان أن يشتغل بها، وأما مثل هذه الأمور ومثل هذه الحكايات والمنامات فلا يشتغل بها الإنسان.
الجواب: بعض الأحاديث يكون فيه كلام جامع تدخل تحته معانٍ كثيرة، وبعضها يكون فيه كلام لا يندرج تحته معانٍ كثيرة، مثل أن يسأل عن مسألة معينة فيأتي بالجواب عليها، وقد يسأل عن مسألة معينة ويأتي بجواب جامع مثل ما مر في حديث أبي موسى الأشعري أنه سأله عن شراب يقال له: البتع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام)، فأتى بجواب يشمل هذا ويشمل غيره.
وقد يسأل عن شيء خاص ويجيب بجواب خاص، فلا يعتبر جومع الكلم كالأحاديث الجامعة.
الجواب: هذا لا يعني أنه خرج من الإيمان، وإنما يعني أنه وإن حصل منه الصلاة والصيام وزعم أنه مسلم فهو منافق هذا النفاق العملي، لكن لا يقال: إنه خرج من الإسلام وصار من الكفار.
الجواب: لا نعلم شيئاً يدل على مشروعيته باستمرار، ولكن أقول: الأصل فيه الجواز، وأما كون الإنسان لا يفعل كذا إلا رفع إصبعه، فلا أعلم شيئاً يدل عليه.
الجواب: لا يقال له: مخرج أبداً، وإنما المخرِّج هو الذي يروي بالإسناد، ومن الغلط أن بعض الناس في هذا العصر يستعملون ذلك في حقب المتأخرين الذين يذكرون الأحاديث في كتبهم كـالنووي وابن حجر والسيوطي ، فيقولون: خرجه ابن حجر وخرجه السيوطي وخرجه فلان، وهم ما خرجوه، فهؤلاء يذكرونه فقط ولا يخرجونه، وإنما الذي يخرج هو الذي يسند، وأما من يذكر الحديث فلا يقال له مخرج أبداً، وإنما يقال: ذكره فلان وعزاه إلى كذا، عزاه السيوطي إلى فلان، وعزاه ابن رجب أو ابن حجر إلى فلان، وهكذا..
وإذا قيل: رواه أبو داود أو رواه الترمذي أو خرَّجه البخاري أو خرَّجه مسلم فكله بمعنى واحد، وهو أن يأتوا بالأسانيد.
الجواب: الوعد غير العهد، فالعهد أن يعطي عهد الله وميثاقه، مثل ما يحصل في الجهاد والمعاهدة بين المسلمين والكفار، وأما الوعد فهو أن يقول: إني سأفعل كذا وكذا وهو ناوٍ ألا يفعل.
الجواب: لا يؤجر ما لم يحضر القلب، كما جاء أن الدعاء من قلب لاهٍ لا يستجاب؛ لعدم حضور القلب، فكذلك الذكر.
الجواب: لا يلزم من قوله: (لا أجد له مسلكاً) أن يكون قد امتلأ بطنه وأنه لم يبق فيه مجال، بل معناه أنه أخذ كفايته وحاجته وأنه قد روي، لكن الري كما هو معلوم يحصل بدون امتلاء البطن.
الجواب: المناسب أن يحول الكلام من كونه كلاماً فيما لا ينفع إلى ما ينفع مثل قراءة القرآن والباقون يسمعون، أو يقرءون شيئاً من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يتذاكرون شيئاً من العلم بدلاً من أن يقول: سبحوا وهللوا وكبروا، فيكونون شبيهين بمن أنكر عليهم ابن مسعود .
الجواب: الكبيرة عند العلماء هي التي تشتمل على حد في الدنيا أو توعد عليها بلعنة أو غضب أو نار أو إحباط عمل أو ما إلى ذلك، وهذه الأشياء ينظر فيما ورد من الأحاديث بخصوصها، فعلى ضوء ذلك يتبين هل هي من الكبائر أو ليست من الكبائر.
فإذا قيل: هل يجوز إطلاق النفاق الأصغر والكفر الأصغر، فيقال: كافر ومنافق لمن وقع في تلك الخصال؟
فالجواب: لا يوصف أحد إلا في شيء ورد، وإذا كان المقصود أنه كفر دون كفر فينبه على ذلك ولا يطلق، حتى لا يظن أن الإنسان أضيف إليه شيء لا يستحقه، بل يضاف إليه شيء يستحقه حيث ورد، فمن وجد فيه شيء من ذلك فإنه يقال: وقع كفر دون كفر.
الجواب: لكن لا ندري ما نوع هذه الفوائد؛ لأن الفوائد متنوعة، فأحياناً تكون مسائل فقهية، ولا شك أنها مهمة؛ لأنها أقوال لأناس وجدت في غير مظنتها، حيث إنها تبحث غالباً في كتب الفقه، فإذا وجدت في كتب التراجم فذلك فائدته كبيرة، لكن كلامنا هنا فيما فيه تحريك للقلوب وتأثير على النفوس وشحذ للهمم في الاقتداء بأولئك الأخيار الذين حصل منهم ما حصل، أو تفضل الله عليهم بما تفضل من الصلاح والتقى والاستقامة، حتى قالوا مثل هذه الكلمات النيرة الواضحة المفيدة العظيمة.
الجواب: نعم تدخل، سواء كانت في مناسبة أو غير مناسبة.
الجواب: الإرادة الكونية هي المشيئة، وهي القدر السابق الذي لا يتخلف، وكل شيء أراده الله كونه فلا بد من وجوده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل شيء شاءه الله لا بد من وجوده، وكل شيء لم يشأه الله لا يمكن وجوده:
فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
وأما الإرادة الدينية فإنها تكون فيما يحبه الله ولا تكون فيما يسخطه الله، أي: أن الإرادة الكونية تكون في المحبوب المرغوب وفي المكروه، وتكون في الخير والشر وأما الإرادة الدينية فإنما تكون في الخير فقط، ولكن المراد بها قد يتخلف، بخلاف المراد كوناً فلابد أن يتحقق.
والإرادة الدينية تتحقق فيمن وفقه الله عز وجل لفعل الخيرات، وتتخلف فيمن لم يحصل له التوفيق، ولهذا يحب الله عز وجل من الناس أن يعبدوه وأراد ذلك شرعاً؛ لكن فيهم من يعبده وفيهم من يعصيه، فيهم من يستجيب وفيهم من لا يستجيب.
وتجتمع الإرادتان الكونية والدينية في حق المؤمن حيث أراد الله إيمانه كوناً وشرعاً.
فإذاً: الدينية لا يلزم حصولها لكل أحد؛ لأنها تكون لمن وفقه الله عز وجل، ولهذا جاء في قوله تعالى في سورة يونس: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، فهو يدعو إلى الإسلام كل أحد، ولكن يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر