ومن الكتب التي ألفت على الكتب والأبواب: الكتب الستة التي اشتهرت عند العلماء بأنها الأصول التي اشتملت على أحاديث الأحكام وغيرها، وهي صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، وسنن أبي داود ، وسنن النسائي ، وجامع الترمذي ، وسنن ابن ماجة .
والخمسة الأولى اتفق على عدها من الكتب الأصول، وكثير من أهل العلم اعتبروا سنن ابن ماجة هو السادس؛ لأن فيه أحاديث كثيرة زائدة على ما في الكتب الخمسة.
وقد اعتنى بزوائده الحافظ البوصيري فزادت على ألف حديث، فمن أجل ذلك قدمه بعض أهل العلم على غيره، ومنهم من قدم الموطأ وجعله السادس، وهو الذي مشى عليه صاحب جامع الأصول، وقبله المؤلف الذي بنى عليه ابن الأثير كتابه جامع الأصول.
ومنهم من اعتبر السادس سنن الدارمي ، لكن الذي اشتهر هو اعتبار سنن ابن ماجة ، ولهذا ألفت الكتب في الأطراف والرجال على اعتبار أن السادس هو سنن ابن ماجة ومما ألف بالنسبة للأطراف: كتاب تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للمزي ، وبالنسبة للرجال: كتاب الكمال في أسماء الرجال للمقدسي ، ثم تهذيب الكمال للمزي ، ثم تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر ، وتقريبه له أيضاً، وفي درجة تهذيب التهذيب تذهيب التهذيب للذهبي ، وبعده خلاصة تهذيب الكمال للخزرجي ، فهذه كلها كتب مبنية على أن السادس هو سنن ابن ماجة .
وهذه الكتب الستة المقدم فيها البخاري ، ثم مسلم ، ثم سنن أبي داود ، ثم النسائي ، ثم الترمذي ، ثم ابن ماجة ، وقد جاء عن بعض أهل العلم الإشارة إلى تقديم بعض هذه الكتب على بعض، فمما ذكر في ترجمة أبي داود السجستاني رحمة الله عليه: أن أبا عبد الله بن مندة قال: الذين ميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة: البخاري ومسلم ثم يليهم أبو داود والنسائي .
و أبو داود السجستاني رحمة الله عليه هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي السجستاني ويقال: السجزي، نسبة إلى سجستان، والنسبة إليها يقال فيها: سجستاني، ويقال: سجزي.
وكانت ولادته سنة اثنتين بعد المائتين في أول القرن الثالث الهجري الذي عرف بالعصر الذهبي لتدوين السنة وجمعها والعناية بها، فلقد ألفت في ذلك العصر المؤلفات الكثيرة الواسعة ومنها الكتب الستة، لأن أصحاب الكتب الستة كلهم عاشوا في القرن الثالث الهجري والبخاري رحمة الله عليه في أول حياته أدرك ستة سنوات من القرن الماضي، والنسائي أدرك القرن الرابع فتوفي بعد مضي ثلاث سنوات منه، وعلى هذا فإن أصحاب الكتب الستة كلهم في القرن الثالث الهجري.
وكانت وفاة أبي داود سنة مائتين وخمس وسبعين، وأول أصحاب الكتب الستة وفاة البخاري حيث توفي سنة مائتين وست وخمسين، ويليه مسلم حيث كانت وفاته سنة مائتين وأربع وستين، ثم بعد ذلك أبو داود وابن ماجة وكانت وفاتهما معاً في سنة خمس وسبعين ومائتين، ثم بعد ذلك الترمذي وكانت وفاته سنة تسع وسبعين ومائتين، وآخرهم وفاة النسائي حيث كانت وفاته سنة ثلاثمائة وثلاث من الهجرة.
ومما جاء في أبي داود قول الحافظ ابن حجر في التقريب: ثقة حافظ، مصنف السنن وغيرها، من كبار العلماء.
وقال فيه الذهبي في سير أعلام النبلاء: إنه كان مع تبحره في الحديث فقيهاً، وكتابه السنن يدل على فقهه وعلى مكانته في الفقه، يعني: كونه يأتي بالأبواب والتراجم، ثم يورد أحاديث للاستدلال على تلك التراجم، فذلك من فقهه واستنباطه.
وكما ذكروا أن فقه البخاري في تراجمه فكلام الذهبي رحمة الله عليه يشير إلى أن السنن بما فيه من أبواب كثيرة وأحاديث منتقاة، وعناية بأحاديث الأحكام دال على فقه أبي داود بالإضافة إلى روايته، فهو بذلك عالم رواية من حيث ذكر الأحاديث بأسانيدها ومتونها، وعالم دراية من حيث الاستنباط من الأحاديث، وبذكر التراجم التي يضعها ثم يأتي بالأحاديث التي تدل عليها.
وكذلك أثنى على كتابه هو نفسه وبين منزلته، لأنه تعب فيه وعرف منزلته ومقداره، فمن أجل ذلك قال ما قال عنه من المدح والثناء الذي ذكره في رسالته لأهل مكة، وكذلك أثنى عليه أهل العلم وبينوا منزلته وعظيم قدره.
ومما ذكر في ترجمته قالوا: إن سهل بن عبد الله التستري جاء إلى أبي داود وطلب منه أن يخرج لسانه الذي يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبله، ومما ذكر أيضاً في ترجمته: أنه كان يقول: خير الكلام ما دخل إلى الأذن بدون إذن، يعني: لوضوحه وسلامته وسلاسته وحسنه وجماله، ذكر ذلك الحافظ الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء، ونقل عن ابنه أبو بكر بن أبي داود قال: سمعت أبي يقول: خير الكلام ما دخل في الأذن بدون إذن.
والكلام في أبي داود وفي سننه كثير، وما يتعلق بسنن أبي داود وبيان قيمتها، وكيفية تأليفها، وموضوع الكتاب قد أوضحه في رسالته إلى أهل مكة، وهي رسالة قيمة مختصرة توضح مراده.
عافانا الله وإياكم عافية لا مكروه معها، ولا عقاب بعدها؛ فإنكم سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب السنن أهي أصح ما عرفت في الباب؟ ووقفت على جميع ما ذكرتم.
فاعلموا أنه كذلك كله، إلا أن يكون قد روي من وجهين صحيحين فأحدهما أقوم إسناداً والآخر صاحبه أقدم في الحفظ، فربما كتب ذلك ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث ].
هذه المقدمة لهذه الرسالة هي حمد الله عز وجل، والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، والدعاء للذين يخاطبهم، وهذه طريقة طيبة في الرسائل والكتابات، سار عليها العلماء في بداية كتبهم.
وكان من سؤال أهل مكة: أنه هل كتب في سننه أصح ما عنده؟ فقال: إنه كذلك، إلا أنه قد يكون الحديث فيه ما يأتي من طريق أقوم وما يأتي من طريق شخص عرف في التقدم في الحفظ.
قال: فإما أن يكتب ما كان أقوم إسناداً وأصح، وإما أن يكتب ما كان على الطريقة الثانية التي هي التقدم في الحفظ، قال: وهذا قليل لا يبلغ عشرة أحاديث.
بين أنه اختصر كتابه، وأنه يورد في الباب حديثاً أو حديثين؛ لأن مقصوده من إيراد الباب هو بيان الحكم الذي يستدل عليه، ثم يورد الدليل عليه إما من طريق أو طريقين، ولم يشأ أن يورد الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد من طرق كثيرة؛ لأن هذا يؤدي إلى كبر حجم الكتاب، وهو يريد أن يكون الكتاب مختصراً يعرف فيه الحكم من الترجمة، ويعرف فيه الدليل على ذلك الحكم، ولم يرد أن يكثر الطرق حتى لا يكبر حجم الكتاب.
أخبر أنه إذا أورد طرقاً في بعض الأحيان فإنما ذلك لشيء جديد زائد، وهو وجود ألفاظ في تلك الطرق التي أتى بها زائدة على الحديث أو الحديثين، فأتى بها من أجل هذه الزيادة، لأن زيادة الثقة إذا جاءت فإنها بمثابة الحديث المستقل.
وهذا فيه أن أبا داود يختصر الأحاديث، وأنه عندما يورد الحديث بالترجمة لا يعني أن هذا هو الحديث بتمامه دون أن يكون قد دخله اختصار، بل أشار إلى أنه اختصر بعض الأحاديث ولم يوردها بتمامها وكمالها.
وهذه طريقة البخاري وطريقة النسائي ، تجدهم يقطعون الحديث، ويأتون بالجمل منه في الأماكن التي يستدلون بها على تلك التراجم التي يوردونها؛ لأنهم أرادوا من وراء ذلك أن تكون الكتب رواية ودراية تشتمل على الأسانيد والمتون، وتشتمل على الفقه.
وقد ذكر سبب اختصاره للحديث حيث قال: إنه لو أورده بكماله قد لا يتنبه بعض من سمعه إلى محل الشاهد، لأنه إذا كان الحديث مثلاً صفحة كاملة ومحل الشاهد منه كلمتان أو ثلاث قد يمر عليه كله فلا يتنبه إلى محل الشاهد، فهو يريد أن يأتي إلى محل الشاهد رأساً فيختصر الحديث ويورد محل الشاهد.
وقد قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام مسلم : قلت: قد حصل للإمام مسلم حظ عظيم في تأليف كتابه، من حيث عنايته بجمع الروايات، وعدم تقطيع الأحاديث وتفريقها. يعني: عدم الرواية بالمعنى.
ولا شك أن المحافظة على ألفاظ الحديث طريقة مثلى، والرواية بالمعنى جائزة، ولكن ينبغي أن تكون عندما لا يتقن اللفظ، أما إذا عرف لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي العدول عنه إلى الرواية بالمعنى، ولكن حيث يضبط المعنى ويعقل ولا يضبط اللفظ تأتي الرواية بالمعنى؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم إذا وجد بلفظه لا ينبغي العدول عنه ولا روايته بالمعنى.
وقد كان مسلم رحمه الله يترجم الكتب ولا يبوب تحتها أبواباً، ولهذا جاء بعض العلماء بعده وعملوا أبواباً لأنه في حكم المبوب، حيث جمع الأحاديث التي يتصل بعضها ببعض في مكان واحد فصاروا يضعون له أبواباً كـالنووي وغيره، ولهذا لما عمل النووي حاشية على صحيح مسلم ترك المتن كتباً وأحاديث بدون أبواب، ثم في الحاشية يأتي بذكر الأبواب؛ لأنها من صنعه.
فـمسلم رحمة الله عليه أتى بكتاب الإيمان وهو أول كتاب عنده بعد المقدمة، وأول حديث في كتاب الإيمان هو حديث جبريل وقد ساقه بطوله دون اختصار، وهو الحديث المشهور: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد) إلى آخر الحديث، وفي آخره قال عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
الحديث أورده من طريق ابن عمر وكان جاء إليه اثنان من أهل العراق حاجين أو معتمرين، واكتنفاه فكان واحد عن يمينه وواحد عن شماله، وقالا له: لقد ظهر في بلدنا أناس يقولون بالقدر، ويقولون: إن الأمر أنف، فقال: إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني براء، ثم قال: حدثني عمر رضي الله عنه.. وساق الحديث الطويل.
ومقصوده من إيراد الحديث قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره)؛ لأنه أتى به دليلاً على البراءة من هؤلاء، وأنه على خلاف ما صاروا إليه.
إذاً أبو داود رحمه الله كـالبخاري وكـالنسائي وغيرهم من الذين يعددون التراجم، ويوردون الأحاديث على تلك التراجم، فيأتون بها في مواضع متعددة، وتكون مشتملة على محل الشاهد، وذلك من الاختصار للأحاديث.
المرسل عند المحدثين له معنيان: معنى يقال إنه عند الفقهاء وهو في الحقيقة يأتي على ألسنة المحدثين أيضاً، ومرسل في اصطلاح المحدثين، فالمرسل في اصطلاح المحدثين هو الذي يقول فيه التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.
هذا هو المشهور في اصطلاح المحدثين، وهناك مرسل أعم من هذا المرسل، وهو المنقطع الذي يرويه الراوي عن شخص ما أدركه، أو أدركه ولم يسمع منه، وهو الذي يسمونه المرسل الخفي.
أما مرسل جلي فهو: الذي يكون فيه الانقطاع واضحاً، حيث يروي شخص عن شخص ما أدرك عصره.
كما ذكروا الفرق بين التدليس والمرسل الخفي فقالوا: المدلس هو رواية الراوي عن شيخه ما لم يسمعه منه بلفظ موهم للسماع، أما إن عاصره ولم يعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي، فهو ليس تلميذاً له، أما المدلس فهو تلميذ لمن دلس عنه.
والمشهور عند كثير من المحدثين ومنهم الإمام مسلم كما ذكر ذلك في مقدمته: أنه لا يحتج بالمرسل لما فيه من الانقطاع، والجهل بالساقط، وليس ذلك خشية أن يكون الساقط صحابياً، فإن جهالة الصحابي لا تؤثر، فالسبب في عدم الاحتجاج بالمرسل: احتمال أن يكون الساقط تابعياً، وذلك التابعي يحتمل أن يكون ثقة ويحتمل أن يكون ضعيفاً، فمن أجل ذلك قالوا بعدم الاحتجاج بالمرسل.
لكن بعض أهل العلم يقول: إن المرسل إذا ضم إليه مرسل آخر جاء من طريق آخر فإنه يضم بعضهما إلى بعض ويصير من قبيل الحسن لغيره، كالمدلس إذا جاء الحديث فيه تدليس، وجاء من طريق آخر فيه شيء من الضعف اليسير فيضم بعضها إلى بعض ويصير الحديث حجة، ويعول عليه، ويقال له: الحسن لغيره، والحسن لغيره: هو الحديث المتوقف فيه إذا جاء ما يقويه ويعضده.
إذاً: المرسل غير مقبول عند كثير من المحدثين؛ لأن فيه سقطاً، والساقط يحتمل أن يكون تابعياً، والتابعي قد يكون غير ثقة في الحديث، وليس الإشكال في أن يكون الساقط صحابياً؛ فإن الصحابة لا تضر جهالتهم، ولا يؤثر عدم معرفة أشخاصهم وأحوالهم؛ لأنهم كلهم عدول بتعديل الله عز وجل لهم وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم.
يعني: أنه ما روى عن متروك، والمتروك هو الذي عرف بفحش الغلط، وكثرة الخطأ؛ فترك حديثه بسبب ذلك.
قال رحمه الله: [ وإذا كان فيه حديث منكر بينت أنه منكر، وليس على نحوه في الباب غيره ].
إذا كان الحديث منكراً ذكره وذكر أنه منكر، ولكن ليس في الباب على نحوه غيره، أي: فإنما ذكره لأنه هو الموجود في الموضوع، ولو كان يوجد حديث صحيح أو غير منكر لأتى به، لكنه لما كان الموضوع الذي ترجم له ليس فيه أحاديث صحيحة أورد الحديث المنكر ونص على أنه منكر.
لكن ينبغي أن يعلم أن بعض العلماء يستعمل لفظ المنكر على غير هذا المعنى، وهو: الأحاديث الغرائب التي جاءت من طريق واحد، فيقال: عنده مناكير، وليس معنى ذلك أنه ضعيف الحديث، ولكن عنده أحاديث ما جاءت إلا من طريقه فهي تعتبر غريبة.
ولا يعني أن الحديث إذا جاء من طريق واحد وهو طريق مستقيم صحيح يكون مردوداً، بل يكون مقبولاً، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري في ترجمة أبي بردة بن أبي موسى أو في ترجمة بريد بن أبي بردة عن الإمام أحمد : أنه يطلق المناكير على الغرائب، فهذا اصطلاح لبعض العلماء.
يعني: أن ما في كتابه ليس في كتب هؤلاء منه إلا الشيء اليسير، وعامة ما عندهم مراسيل، يعني: فيها انقطاع.
قال رحمه الله: [ وفي كتاب السنن من موطأ مالك بن أنس شيء صالح، وكذلك من مصنفات حماد بن سلمة وعبد الرزاق ، وليس ثلث هذه الكتب فيما أحسبه في كتب جميعهم، أعني مصنفات مالك بن أنس وحماد بن سلمة وعبد الرزاق ].
هذا فيه إشارة إلى كثرة ما فيه من الأحاديث الزائدة التي لا توجد عند هؤلاء في مصنفاتهم.
قال رحمه الله: [ وقد ألفته نسقاً على ما وقع عندي، فإن ذكر لك عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ليس مما خرجته فاعلم أنه حديث واهن ].
وهذا فيه بيان معرفة قدر هذا الكتاب وعظيم منزلته عند مؤلفه، وليس مقصود أبي داود وغيره ممن يثني على مؤلفه التبجح والغرور، وإنما المقصود من ذلك النصح للمسلمين، وحرصه على أن يستفيدوا من هذا الكتاب الذي أفنى كثيراً من عمره في جمعه وترتيبه وتنظيمه وتأليفه، فالمقصود من ذلك النصح وبعث الهمم والترغيب والتشويق إلى الكتاب، والعناية به ودراسته والاستفادة منه، فهذا هو المقصود من هذا الثناء على كتابه.
وهذا يفيد أن كتابه جامع، وأنه استوعب واستقصى، وقد عرفنا فيما مضى أنه كان يترك الطرق المتعددة التي هي موجودة فيما يورده حتى لا يكبر حجم الكتاب.
وقوله: (وإما حديث واهن) هذا على حسب علمه، وليس معنى هذا أنه لا يوجد حديث صحيح ليس عند أبي داود ، بل كما هو مشاهد ومعاين أن في صحيح البخاري أحاديث كثيرة ليست عند أبي داود ولكن هذا على حسب علمه واستقصائه، وعلى حسب جهده الذي بذله.
هذا استدراك يعني به: أن هذا الذي جاء وليس عنده يكون عنده من طريق آخر، ومعناه: أنه جاء من طريقين أو من ثلاثة فهو أورده من طريق وغيره أورده من طريق آخر.
قال رحمه الله: [ فإني لم أخرج الطرق لأنه يكبر على المتعلم ].
قوله: (لم أخرج الطرق) أي: ما استوعبت طرق الأحاديث لا من حيث الصحابة ولا من دون الصحابة؛ فإن الحديث -كما هو معلوم- قد يبلغ إلى حد التواتر وهو يورده من طريق واحد أو من طريقين؛ لأنه ما أراد الاستيعاب، مثل حديث: (نضر الله امرأ سمع مقالتي) رواه أبو داود من بعض الطرق عن بعض الصحابة، وجاء عن عدد كبير من الصحابة ليسوا عند أبي داود ، لأنه ما أراد استيعاب وجمع الطرق؛ لأنه يكبر بذلك حجم الكتاب.
قال رحمه الله: [ ولا أعرف أحداً جمع على الاستقصاء غيري ].
في هذا -كما قلت- بيان لارتياحه واطمئنانه إلى الجد والاجتهاد الذي بذله والنتيجة التي توصل إليها بسبب ذلك، وقصده من ذلك النصح والحث والترغيب والتشويق إلى الاستفادة من كتابه لا التبجح ولا غيره من القصود السيئة التي قد تحصل من بعض الناس فيما يكتبون ويقولون.
قال رحمه الله: [ وكان الحسن بن علي الخلال قد جمع منه قدر تسعمائة حديث، وذكر أن ابن المبارك قال: السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو تسعمائة حديث، فقيل له: إن أبا يوسف قال: هي ألف ومائة، قال ابن المبارك : أبو يوسف يأخذ بتلك الهنات من هنا وهنا نحو الأحاديث الضعيفة ].
هذا فيه إيضاح استقصائه واستيعابه، وقد قال كما سيأتي: إن في كتابه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، وهنا ذكر أن بعض العلماء قال: إن السنن تسعمائة حديث، فقيل له: فلان عنده ألف ومائة، فقال: هذا عنده شيء من الهنات، يعني: أنه يتوسع ويكتب أشياء فيها ضعف.
قوله: (وهن شديد) يعني: ضعفاً شديداً، قوله: (بينته) أي يقول: إنه فيه كذا وفيه كذا.
وكذلك يبين ما لا يصح سنده ويقول: فيه فلان أو فيه كذا.
قال رحمه الله: [ وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض ].
قوله: (وما لم أذكر فيه شيئاً) يعني: ما لم أبين فيه وهناً أو ضعفاً وإنما أسكت عليه فهو صالح للاحتجاج.
قوله: (ولكنه متفاوت وبعضه أصح من بعض) يعني: هذا الذي لا أتكلم عليه وأسكت عنه ليس على درجة واحدة بل هو متفاوت.
قال: [ وهذا لو وضعه غيري لقلت أنا فيه أكثر ].
يعني: هذا الكلام الذي قلته في كتابي أقوله لأنني عرفت قيمته وعرفت منزلته، ولو كان الذي وضعه غيري وقرأته وعرفت قيمته ومنزلته لقلت فيه أكثر من هذا؛ للترغيب فيه وللحث على الاستفادة منه.
قال رحمه الله: [ وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صالح إلا وهي فيه، إلا أن يكون كلام استخرج من الحديث، ولا يكاد يكون هذا ].
وهذا مثلما تقدم من ناحية الاستيعاب، وأنه إذا وجد شيء ليس عنده فإنه ضعيف إلا أن يكون جاء عنده من طريق آخر، أو أضيف إلى الأحاديث استنباطاً فهذا شيء آخر، ولا يكاد يكون هذا.
وهذا يبين أيضاً عظيم منزلته عنده، وأن على الناس أن يحرصوا على هذا الكتاب، وأن يستفيدوا منه، لأنه مشتمل على الأحكام.
قال: [ ولا يضر رجلاً ألا يكتب من العلم بعدما يكتب هذه الكتب شيئاً، وإذا نظر فيه وتدبره وتفهمه حينئذ يعلم مقداره ].
يعني: أن الإنسان إذا اشتغل به واستوعبه فلا يضره ألا يشتغل بغيره لاستيعابه!
ثم قال: (وإذا نظر فيه وتدبره وتفهمه حينئذ يعلم مقداره).
يعني: إذا أردت أن تتحقق فاقرأ الكتاب وقف عليه وتدبره وتأمله لتعرف مقداره، وكما يقولون: التجربة أكبر برهان.
يعني هذه أدلة المسائل التي تكلم بها هؤلاء العلماء.
بعدما ذكر قيمة هذا الكتاب، وأحياناً يقول: (الكتب)، ويعني بذلك: الكتب التي اشتمل عليها الكتاب؛ لأن كتابه اشتمل على خمسة وثلاثين كتاباً، فإذا جاء ذكر الكتب في بعض الأحيان فمعناه الكتب التي في داخل الكتاب، وهي كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة... وهكذا؛ لأنه مبني على كتب، والكتب يندرج تحتها أبواباً كثيرة.
وهو هنا يقول: إنه مع هذه العناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستيعاب هذا الكتاب وشموله لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يعجبني أيضاً أن يطلع الرجل على آراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أقوالهم، ولهذا فإن العلم الشرعي عند العلماء هو قال الله وقال رسوله وقال الصحابة، لأن الصحابة رضي الله عنهم هم خير الناس، وهم أعلم الناس، وهم أعلم من غيرهم وأدرى؛ لأنهم الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا معاني النصوص وتلقوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم من غيرهم وأدرى من غيرهم.
ولهذا يقول ابن القيم رحمة الله عليه في النونية:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان
فبعدما ذكر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه، أرشد إلى أنه ينبغي أن يحرص على كلام الصحابة، وأن يعتنى بكلامهم ويرجع إليه.
وهذا فيه الإشارة إلى منزلة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ومنزلة كلامهم تابعة لمنزلتهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال رحمه الله: [ ويكتب أيضاً مثل جامع سفيان الثوري ، فإنه أحسن ما وضع الناس في الجوامع ].
وهذا فيه أيضاً الإرشاد إلى جامع الثوري والعناية به.
ثم ذكر أن الأحاديث التي في كتابه أحاديث مشهورة عند أهل العلم، وليست غريبة لا يقف عليها أحد، ولا يعني هذا أن الغريب لا يعول عليه، فإن من الغريب -وهو ما جاء من طريق واحد- ما هو حجة عند العلماء، وهو موجود في الصحيحين وفي غير الصحيحين، ومن ذلك أول حديث في صحيح البخاري، وكذلك آخر حديث فيه.
ففاتحة كتاب البخاري وخامته حديثان غريبان ما جاء كل واحد إلا من طريق واحد، لكنهم ثقات يعول على تفردهم، فأوله حديث إنما الأعمال بالنيات، وهو حجة عند العلماء، وأصل من الأصول في الدين، ولهذا يقول بعض العلماء: الأحاديث التي يدور عليها الدين أربعة، ومنها: (إنما الأعمال بالنيات)؛ لأن ما يتعلق بالقلوب والنيات يدل عليه هذا الحديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرأ ما نوى).
وآخر حديث في صحيح البخاري حديث أبي هريرة : (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فهذا حديث غريب ما جاء إلا من طريق أبي هريرة يرويه عنه أبو زرعة بن جرير ويرويه عنه آخر وهكذا، وهو مشهور من حيث الثبوت، لكن ليس له طرق كثيرة.
والعلماء يقولون: إن الآحاد تنقسم إلى: مشهور وعزيز وغريب.
فالمشهور: ما جاء من أكثر من طريقين ولم يبلغ حد التواتر.
والعزيز: ما جاء من طريقين.
والغريب: ما جاء من طريق واحد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر