باب التخلي عند قضاء الحاجة:
حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي حدثنا عبد العزيز -يعني: ابن محمد - عن محمد -يعني: ابن عمرو - عن أبي سلمة عن المغيرة بن شعبة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد) ].
قول الإمام أبي داود السجستاني رحمة الله عليه: [كتاب الطهارة]، هذا هو أول كتاب في كتابه السنن، وجرت عادة المحدثين والفقهاء عندما يكتبون في الأحكام أنهم يقدمون كتاب الصلاة،ثم الزكاة،ثم الصيام،ثم الحج، ويجعلون بين يدي الصلاة كتاب الطهارة؛ لأن الطهارة شرط في صحة الصلاة، فلزم أن تكون متقدمة عليها؛ فيجعلون الطهارة قبل الصلاة؛ لأنه لا صلاة إلا بطهارة، ولا صلاة إلا بوضوء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فمن أجل ذلك كانوا يقدمون كتاب الطهارة على كتاب الصلاة والزكاة والصيام والحج.
قوله: [باب التخلي عند قضاء الحاجة].
التخلي هو: الذهاب للخلاء، أو أن يكون الإنسان في مكان خالٍ عن الناس بحيث لا يرى عورته أحد، وكانوا يذهبون إلى المكان الخالي لقضاء الحاجة، وكان هذا قبل أن توضع الكنف في البيوت، ولما وضعت الكنف في البيوت كانوا يقضون حوائجهم فيها.
ومن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا أرد أن يقضي حاجته أن يذهب بعيداً عن الناس.
أورد أبو داود رحمة الله عليه حديث المغيرة بن شعبة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد)، يعني: كان إذا ذهب إلى المكان الذي يقضي فيه حاجته ذهب بعيداً عن الناس.
والذهاب إلى مكان بعيد عن الناس أمر مطلوب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفعله، ولما يترتب على ذلك من فوائد، منها: ألا يرى عورته أحد، وأما أن يرى شخصه من مكان بعيد وهو يقضي الحاجة فهذا أمر لا يؤثر.
ومنها: أنه إذا كان بعيداً عن الناس لا يسمع صوت بخلاف ما إذا كان قريباً من الناس فإن الناس يسمعون ذلك الصوت منه.
فإذاً: يستدل بهذا الحديث على أن الإنسان إذا كان في مكان خالٍ وعراء وفضاء من الأرض أن عليه أن يذهب بعيداً عن الناس، وهذا من آداب قضاء الحاجة، وأما إذا كان في مكان مستور كالأبنية والحجب التي توضع دون رؤية الناس من القماش أو الجلود أو الخيام أو غير ذلك؛ فإن هذا مما يحصل به المقصود.
فالمقصود هو: التستر والبعد عن الناس حتى لا يروا عورته، فإذا كان في مكان خالٍ بعيداً عن الناس، وإذا كان في مكان أعد لذلك كالكنف فإنه يكون بذلك مستتراً عن الناس، ولا سبيل للناس إلى رؤيته.
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة أخرج حديثه أصحاب الكتاب الستة إلا ابن ماجة .
وقد كان ابن معين وابن المديني وغيرهما لا يقدمان عليه أحداً في الموطأ؛ لأن الذين رووا الموطأ عن مالك كثيرون ومنهم: عبد الله بن مسلمة بن قعنب .
وهذا هو أول شيخ روى عنه أبو داود في سننه، عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي أحد رجال أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .
وسبق أن مر بنا في سنن النسائي ومسلم والبخاري أن أول شيخ روى عنه النسائي هو قتيبة بن سعيد ، وأول شيخ روى عنه مسلم هو زهير بن حرب أبو خيثمة ، وأول شيخ روى عنه البخاري هو عبد الله بن الزبير المكي ، وأول شيخ روى عنه ابن ماجة هو قتيبة ، كـالنسائي ، وأول شيخ روى عنه الترمذي هو أبو بكر بن أبي شيبة ، فهؤلاء هم الذين حصل البدء بهم في هذه الكتب الستة.
كلهم من الثقات، وفيهم من اتفق أصحاب الكتب الستة على الإخراج له، وفيهم من لم يخرج له بعضهم، ولا يعني عدم التخريج لشخص أو لرجل من الذين كتبوا في الصحيح، أو الذين يروون عن الثقات أن يكون فيه كلام؛ لأن الذين كتبوا في الصحيح ما كتبوا كل حديث صحيح، ولا أوردوا في مؤلفاتهم كل حديث صحيح، وإنما أوردوا جملة كبيرة من الصحيح، وكذلك لم يخرجوا عن كل ثقة، فكم من ثقة لم يخرج له أصحاب الصحيح وغيرهم، ولا يعني هذا أن فيه كلاماً؛ لأنهم لم يلتزموا أن يخرجوا كل حديث صحيح، ولم يلتزموا أن يخرجوا عن كل شخص ثقة، فكم من ثقة خرج له البعض ولم يخرج له البعض الآخر! لا لقدح فيه، بل هو عنده حجة ولكنه ما اتفق له أن يخرج عنه؛ لأن الأحاديث التي اختارها ليس في إسنادها ذلك الشخص الثقة.
[ حدثنا عبد العزيز - يعني: ابن محمد -].
أي: ابن محمد الدراوردي فكلمة (يعني) هذه جاءت في نسب عبد العزيز الدراوردي ؛ لأن تلميذه عبد الله بن مسلمة بن قعنب لما روى عنه ما زاد على كلمة عبد العزيز ، وإنما قال: حدثنا عبد العزيز فقط، فالذي جاء بعده -وهو أبو داود - أراد أن يوضح من هو عبد العزيز هذا الذي أهمل نسبته عبد الله بن مسلمة بن قعنب تلميذه، فأراد أن يوضحه ولكن لما أراد توضيحه أتى بكلمة (يعني) حتى يفهم منها أن ذكر النسب ليس من التلميذ، ولكنه ممن دون التلميذ.
ولو أن من دون عبد الله بن مسلمة قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي لظن أن القائل هو التلميذ.
وهذا من دقة علماء أهل الحديث وعنايتهم؛ إذ أن الشخص إذا كان مهملاً في الإسناد فإن من دون تلميذه لا ينسبه أو يزيد في نسبه بدون أن يبين، بل يأتي بشيء يوضح به ذلك المهمل بكلمة مثل: (يعني) حتى يفهم منها أنها للتوضيح والبيان زادها من دون التلميذ.
وعلى هذا فكلمة (يعني) فعل مضارع له فاعل وله قائل، ففاعله: ضمير مستتر يرجع إلى التلميذ، وهو عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، وقائل هذه العبارة هو من دون التلميذ، سواء كان أبو داود تلميذ عبد الله بن مسلمة بن قعنب أو الذي روى عن أبي داود ، أو الذين تحت أبي داود ؛ إذ من المعلوم كلمة (يعني) تأتي أحياناً في شيخ المصنف، وقد مر بنا في سنن النسائي مثل هذا، حيث يقول النسائي : أخبرنا فلان يعني: ابن فلان، أو أخبرنا فلان وهو ابن فلان.
وهذه لا تكون من النسائي ، وإنما تكون ممن دونه؛ لأن النسائي كما سبق أن عرفنا أحياناً يذكر بعض شيوخه في سطر، حيث ينسبه ويقول: فلان بن فلان بن فلان بن فلان إلى آخره، وأحياناً لا ينسبه، فيأتي من دونه فيأتي بكلمة (يعني) أو كلمة (هو).
وعلى هذا فإن من دون التلميذ إذا أراد أن يوضح هذا المجمل الذي لم ينسبه شيخه فإنه يأتي بما يوضح، لكن يأتي بكلمة (يعني) أو بكلمة (هو).
فقائل (هو) أو: (يعني): هو من دون التلميذ.
و عبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي صدوق له أوهام أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وكلمة (يعني) يقال فيها كما قيل في التي قبلها، يعني: أن تلميذه عبد العزيز بن محمد الدراوردي لما روى عنه ما زاد على قوله: عن محمد ، فلم يزد ابن عمرو ، فـعبد الله بن مسلمة القعنبي الذي هو تلميذ تلميذه أو أبو داود أو من دونه هو الذي زاد كلمة (يعني)، فالتي عند عبد العزيز بن محمد الزائد لها أبو داود أو من دونه، وأما (يعني) التي جاءت مع محمد بن عمرو فالزائد لها عبد الله بن مسلمة القعنبي أو من دونه؛ لأن عبد الله بن مسلمة القعنبي ليس تلميذه وإنما تلميذه عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، فـعبد العزيز بن محمد ، قال: حدثنا محمد ، ومن دونه إما عبد الله بن مسلمة القعنبي أو أبو داود أو من دون أبي داود هو الذي أضاف أو أتى بكلمة (يعني): ابن عمرو .
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف تابعي ثقة، معروف بكنيته، وقيل فيه: إنه سابع الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم؛ وذلك أنه اشتهر في المدينة في عصر التابعين سبعة من الفقهاء بلقب الفقهاء السبعة.
وإذا ذكر المحدثون في كتب الحديث، أو الفقهاء في مسائل الفقه مسألة من المسائل اتفق عليه هؤلاء السبعة قالوا: وقال بها الفقهاء السبعة.
فكلمة الفقهاء السبعة تعني سبعة من التابعين، وستة منهم لا خلاف في عدهم من الفقهاء السبعة، والسابع منهم فيه ثلاثة أقوال، أما الستة الذين اتفق على عدهم من الفقهاء السبعة فهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وعروة بن الزبير بن العوام وخارجة بن زيد بن ثابت والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ، هؤلاء ستة متفق على عدهم في فقهاء المدينة السبعة.
وأما السابع ففيه ثلاثة أقوال: قيل: هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الذي معنا في هذا الإسناد، وقيل: هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وقيل: هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام .
وقد ذكر ابن القيم في أول كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) جملة كبيرة من المفتين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في مختلف الأقطار والبلاد، فذكر أهل الفتوى في المدينة من الصحابة والتابعين، وكذلك ذكر أهل الفتوى في البصرة والكوفة ومصر ومكة وهكذا.
فذكر في أول كتابه (إعلام الموقعين) جملة من أهل الفتوى الذي عرفوا بالفتوى وبالفقه، والذين يرجع إليهم في المسائل يستفتون فيها، ولما جاء عند المدينة والفقهاء من التابعين ذكر من فقهاء التابعين في المدينة سبعة، وجعل السابع منهم أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وليس أبا سلمة الذي معنا في الإسناد.
وذكر بعضهم بيتين من الشعر ثانيهما مشتمل على أسماء الفقهاء السبعة، على أن السابع هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، البيتان هما:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة
فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة
عبيد الله هو: عبيد الله بن عتبة بن مسعود ، وقاسم هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وعروة هو: عروة بن الزبير بن العوام ، وسعيد هو: سعيد بن المسيب ، وسليمان هو: سليمان بن يسار ، وخارجة هو: خارجة بن زيد بن ثابت ، وأبو بكر هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام .
فذكر في هذا البيت أوائل أسماء هؤلاء الفقهاء السبعة، والسابع منهم على أحد الأقوال: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام .
ومن المسائل التي اتفق عليها الفقهاء السبعة: مسألة وجوب الزكاة في عروض التجارة، فيقولون: وقال بها الأئمة الأربعة، أي: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، والفقهاء السبعة، وهذا يغني عن عدهم وسردهم، ومن أراد أن يعرفهم فهم مذكورون في كتب المصطلح.
فـأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف تابعي ثقة أحد الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم.
[ عن المغيرة بن شعبة ].
هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابي مشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وكأن الحديث فيه اختصار، ففي بعض رواياته ذكر قصة، وأنه كان مرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه أن يأتي بوضوء فتوضأ، ولما أراد أن يغسل رجليه أراد المغيرة أن ينزعهما ليغسلهما فقال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين).
أورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله الأنصاري وهو بمعنى حديث المغيرة بن شعبة المتقدم، بل هو موضح له؛ لأنه هنا عبر بالبراز، يعني: المكان الذي تقضى فيه الحاجة، وهو الفضاء.
وقوله: [ (كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد) ]، هذا أيضاً كناية عن قضاء الحاجة، ومعناه: أنه كان يذهب بعيداً عن الأنظار حتى لا يراه أحد، وليس المقصود أنه كان يتوارى بحيث أنه يكون بعيداً جداً، بل المقصود أنه كان يبعد حيث لا يراه أحد، ويمكن أن يبعد حتى يرى رؤية غير واضحة، والعورة لا سبيل إلى رؤيتها بهذا، فهذا الحديث هو بمعنى الحديث المتقدم.
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاريو أبو داود والترمذي والنسائي .
[حدثنا عيسى بن يونس ].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا إسماعيل بن عبد الملك ].
هو إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفيراء وهو صدوق كثير الوهم، أخرج حديثه البخاري في جزء رفع اليدين وأبو داود والترمذي وابن ماجة ، ولم يخرج له النسائي ، ففي كتاب النسائي الذي درسناه لم يمر بنا إسماعيل بن عبد الملك هذا؛ لأنه ليس من رجال النسائي ، وهو صدوق كثير الوهم.
[ عن أبي الزبير ].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق يدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن جابر بن عبد الله ].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما وهو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
و جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أحد السبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعة من الصحابة هم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأنس وجابر وأبو سعيد الخدري وعائشة أم المؤمنين. ستة رجال وامرأة واحدة.
يقول السيوطي في الألفية مشيراً إلى هؤلاء:
والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر
و أنس والحبر -وهو ابن عباس - كالخدري وجابر وزوجة النبي.
فهؤلاء سبعة من الصحابة رضي الله عنهم عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
و جابر بن عبد الله الأنصاري الذي في هذا الإسناد هو أحد هؤلاء السبعة من الصحابة المكثرين من رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.
والإسناد فيه إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفيراء وهو صدوق كثير الوهم، وفيه أيضاً أبو الزبير المكي وهو مدلس، لكن الحديث هو بمعنى الحديث المتقدم، فوجود شخص كثير الوهم، وآخر مدلس لا يؤثر؛ لأن الحديث هو بمعنى الحديث الذي قبله، فهو شاهد له، ويدل على ما يدل عليه الحديث الذي قبله.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا أبو التياح حدثني شيخ قال: لما قدم عبد الله بن عباس البصرة فكان يحدث عن أبي موسى فكتب عبد الله إلى أبي موسى يسأله عن أشياء فكتب إليه أبو موسى : (إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دَمِثاً في أصل جدار فبال، ثم قال: إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعاً) ].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: باب الرجل يتبوأ لبوله، يعني: يبحث أو يختار مكاناً مناسباً لبوله؛ لأنه لما ذكر في الباب الأول ما يتعلق بالتستر عند قضاء الحاجة، ذكر أنه إذا كان في فضاء يذهب بعيداً حتى لا يراه أحد، وإذا كان في مكان كالأبنية أو الخيام أو ما إلى ذلك فليكن في مكان يستره عن الناس.
فالباب الأول يتعلق بالتستر، وأن الإنسان يبتعد عن الناس عند قضاء حاجته إذا كان في فضاء، أو يذهب إلى الأماكن المخصصة لقضاء الحاجة في البيوت مثل الكنف والمراحيض.
وفي هذه الترجمة المقصود: أن ينظر المكان المناسب الذي يبول فيه؛ لأن المكان قد يكون صلباً وإذا وقع عليه البول تطاير على البائل؛ وأما إذا كان رخواً فإن الأرض تشربه ولا يرتد عليه، فيختار الإنسان مكاناً مناسباً ليبول فيه بأن يكون دمثاً، والدمث: هو الأرض السهلة الرخوة الترابية التي إذا وقع عليها البول راح وغاص فيها.
أما إذا كانت الأرض صلبة فإن وقوعه على الأرض يكون معه التطاير، وأيضاً ما لم تشربه الأرض فقد يسيل ويرجع على البائل إذا كان في مكان أعلى منه، وعلى هذا فالذي ينبغي على الإنسان أنه إذا جلس في الأرض ليقضي الحاجة أن يختار أرضاً رخوة، وأن يكون أعلى من المكان الذي يبول فيه؛ لأنه إذا كان المكان أعلى منه قد ينزل البول ويرتد عليه، ولكنه إذا كان المكان أنزل منه فإنه لا مجال إلى ارتداه، وإذا كانت الأرض رخوة فإن الأرض تشرب البول ويذهب في الأرض ولا يتطاير على صاحبه.
أورد أبو داود رحمة الله عليه حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دمثاً في أصل جدار)، يعني: مكاناً سهلاً في أسفل الجدار أو بجوار الجدار، وإذا كان الجدار أمامه فهذا أكمل في الاستتار.
والدماثة هي السهولة، ولهذا يقال عمن فيه سهولة في خلقه: دمث الأخلاق، أو فيه دماثة؛ إشارة إلى السهولة وعدم الشدة، كما أن الأرض التي بهذه السهولة يقال لها: دمثة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم اختار مكاناً دمثاً في أصل جدار، يعني: مكاناً رخواً في أسفل الجدار بحيث يكون الجدار أمامه يستتر به، فكون الجدار أمامه فيه سترة فلا يراه أحد من أمامه، وكذلك أيضاً كون الأرض دمثة، معناه: أن البول ينزل فيها ولا يرجع ولا يتطاير على صاحبه.
وقوله: ((فبال ثم قال صلى الله عليه وسلم: إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعاً))، يعني: يبحث أو يختار لبوله مكاناً وموضعاً مناسباً فيه السهولة، وهذا هو المقصود من إيراد الحديث: أنه يبحث عن مكان سهل، ويختار موضعاً مناسباً من حيث الاستتار كما استتر صلى الله عليه وسلم بالجدار أن يكون
مكاناً دمثاً أو أرضاً سهلة رخوة ينزل فيها البول وليست صلبة.
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي أبو سلمة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد ].
هو ابن سلمة ، وهنا حماد مهمل، ويحتمل أن يكون حماد بن زيد وأن يكون حماد بن سلمة لكن موسى بن إسماعيل كثير الرواية عن حماد بن سلمة وقليل الرواية عن حماد بن زيد فالعادة جرت أن التلميذ عندما يكون مكثراً عن شيخ لا ينسبه؛ اكتفاءً بما هو معروف عنه من كثرة الرواية عنه، فإذا كان التلميذ له شيخان أحدهما قد أكثر عنه والثاني لم يكثر عنه، ثم أهمله فلم ينسبه، فيحمل على الذي أكثر عنه، كما قال هنا: عن حماد ، وما قال: ابن سلمة ولا قال: ابن زيد مع أنه تلميذ لهذا ولهذا إلا أنه مكثر عن ابن سلمة ومقل عن حماد بن زيد .
إذاً: يحمل المهمل على من له به خصوصية، ككونه مكثراً عنه كما هنا.
و حماد بن سلمة بن دينار البصري ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[أخبرنا أبو التياح ].
هو يزيد بن حميد ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته.
ومن علوم المصطلح معرفة الكنى والألقاب، فمن له كنية ولقب ينبغي معرفتهما، وفائدة معرفة الكنى: ألا يظن الشخص الواحد شخصين، فإذا جاء في بعض الأسانيد يزيد بن حميد لزم أن يقال: هو أبو التياح وإذا أتى في بعضها أبو التياح لزوم أن يقال: هو يزيد بن حميد .
فالذي لا يعرف أن يزيد بن حميد كنيته أبو التياح يظن أن أبا التياح شخص، وأن يزيد بن حميد شخص آخر.
إذاً: فائدة معرفة ذلك: ألا يظن الشخص الواحد شخصين؛ فإنه إذا ذكر باسمه مرة وبكنيته أخرى لا يظن أن هذا غير هذا، بل إن هذا هو هذا، وإنما ذكر مرة باسمه ومرة بكنيته.
[حدثني شيخ].
هذا مبهم، وأما الذي مر وهو قوله: (حدثنا حماد ) فهذا مهمل؛ ففي علم المصطلح إذا ذكر الشخص ولم ينسب قيل له: المهمل، وإذا ذكر بدون اسمه فقيل: شيخ أو رجل، فهذا يقال له: مبهم، والمهمل لابد من معرفة نسبته، والمبهم لابد من معرفة اسمه ونسبه وحاله، وإذا كان مبهماً ولم يعرف فإن هذا قدح وضعف في الإسناد.
[لما قدم عبد الله بن عباس البصرة فكان يحدث عن أبي موسى ] ، يعني: أن الصحابة كانوا يحدثون عن الصحابة.
[ فكتب عبد الله إلى أبي موسى يسأله عن أشياء، فكتب إليه أبو موسى : (إني كنت مع رسول الله)] يعني: أن ابن عباس قدم البصرة فكان يحدث بأحاديث، وكان يحدث عن أبي موسى ، فكتب إلى أبي موسى يسأله عن أشياء كان منها هذا الذي يتعلق بهذا الحديث، فقال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم …).
عبد الله بن عباس هو ابن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين مر ذكرهم آنفاً عند حديث جابر بن عبد الله ، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير بن العوام ، فهؤلاء أربعة من صغار الصحابة اشتهروا بلقب العبادلة الأربعة، وفي الصحابة عدد كبير من الصحابة يقال لهم: عبد الله، ومنهم أبو موسى الاشعري فهو مشهور بكنيته واسمه عبد الله بن قيس ، وعبد الله بن مسعود وعدد كبير من الصحابة يقال لهم: عبد الله لكن اشتهر منهم أربعة لقبوا بالعبادلة الأربعة.
فإذا قيل: العبادلة الأربعة من الصحابة، انصرف الذهن إلى ابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم.
[فكتب عبد الله إلى أبي موسى ].
أبو موسى هو عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح؛ لأن الإنسان يجب عليه التنزه من البول، وكذلك يجب عليه أن يحتاط بحيث لا يتطاير عليه البول، وكونه بال إلى أصل متصل بالجدار جاء ما يدل عليه في الأحاديث الأخرى.
فهذا الحديث من حيث الإسناد ضعيف؛ لأن فيه راوٍ لم يسم، وهو الشيخ الذي أبهم، ولكن الحديث من حيث المعنى صحيح.
فالإنسان عندما يريد أن يبول عليه أن يستتر، وقد جاءت الأحاديث في الاستتار، ويختار المكان المناسب للبول، كالمكان الرخو الذي لا يكون صلباً يضرب فيه البول ثم يتطاير، وهذا أمر مطلوب.
حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا حماد بن زيد وعبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: عن
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: (ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء)، يعني: إذا أراد الدخول؛ لأن (دخل) هنا ليس المقصود بها أن يقولها وهو في الخلاء، وإنما إذا أراد الدخول، ومثل هذا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، يعني: إذا أردتم القيام، فقوله: (إذا دخل) أي: إذا أراد الدخول قال هذا، وليس معنى ذلك أنه يقوله بعد الدخول؛ لأنه لا يجوز أن يذكر الله في الخلاء وداخل المراحيض.
هذه الترجمة معقودة لبيان الدعاء الذي يدعى به عند دخول الخلاء.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، يعني: إذا أراد الدخول دعا بهذا الدعاء، فاللهم نداء، وهو طلب من الله عز وجل.
وقوله: (اللهم) بمعنى: يا الله، لكن جاء في اللغة حذف ياء النداء والتعويض عنها بميم بعد الله، فكلمة (اللهم) هي (يا الله) حذفت ياء النداء وجاء بدلها الميم المشددة، ولا يجمع بين ياء النداء وبين الميم؛ لأنه لا يجمع بين العوض والمعوض، فلا يقال: يا اللهم وإنما يقال: يا الله أو اللهم.
ولهذا يقول ابن مالك رحمه الله في الألفية:
والأكثر اللهم بالتعويض وشذ يا اللهم في قريض
قوله: (والأكثر) يعني: في الاستعمال (اللهم بالتعويض) يعني: استعمال الميم عوضاً عن (يا).
وقوله: (وشذ يا اللهم في قريض) يعني: في الشعر.
فاللهم هي نداء حذفت (يا) التي قبل لفظ الجلالة وعوضت عنها الميم المشددة بعد لفظ الجلالة.
وقوله: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، الخبث: جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة، والمقصود بذلك: التعوذ بالله من شياطين الجن الذكران والإناث؛ لأن (الخبث) ترجع للذكور، و(الخبائث) ترجع للإناث.
فالاستعاذة بالله عز وجل عند دخول الخلاء تكون بهذا اللفظ الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [قال: عن حماد : (قال: اللهم إني أعوذ بك وقال
يعني: الإسناد فيه شخصان في درجة واحدة: حماد بن زيد وعبد الوارث بن سعيد ولكنهما اختلفا في العبارة في رواية متن الحديث، فالذي جاء من طريق حماد بن زيد قال: (اللهم إني أعوذ بك)، أي: فيه لفظ: (اللهم) وفيه: (بك) أما عبد الوارث فبلفظ: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث)، وليس فيه (اللهم) وفيه (بالله).
إذاً: الفرق بين رواية حماد بن زيد ورواية عبد الوارث بن سعيد : أن حماد بن زيد قال في روايته: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، وعبد الوارث بن سعيد قال في روايته: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث)، وهما بمعنى واحد، وكلاهما صحيح، والنتيجة والمؤدى واحد.
مسدد بن مسرهد ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي ، ولم يخرج له مسلم ولا ابن ماجة .
[حدثنا حماد بن زيد ].
هو حماد بن زيد بن درهم البصري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ وعبد الوارث ] .
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عبد العزيز بن صهيب ].
ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أنس بن مالك ].
رضي الله عنه، وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين مر ذكرهم آنفاً رضي الله عنهم وأرضاهم.
حدثنا الحسن بن عمرو -يعني: السدوسي - حدثنا وكيع عن شعبة عن عبد العزيز -هو ابن صهيب - عن أنس بهذا الحديث قال: (اللهم إني أعوذ بك) وقال شعبة : وقال مرة: (أعوذ بالله) ].
ثم أورد أبو داود رحمه الحديث من طريق أخرى من طريق شعبة وفيه: أنه جاء عن شعبة من وجهين: (اللهم إني أعوذ بك) و(أعوذ بالله)، يعني: مثلما جاء عن حماد بن زيد في الأول وعبد الوارث بن سعيد في الثاني.
وقوله: (وقال وهيب ) وهو ابن خالد : (فليتعوذ بالله)، وهذا يكون على اعتبار أن هذا قولي، وأما الرواية المتقدمة فهي فعلية؛ لأنها تضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من فعله، وأنه كان يقول إذا دخل الخلاء كذا وكذا، وأما هنا فقوله: (فليتعوذ) يعني: أن هذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم للناس أو للذي يريد أن يدخل الخلاء أن يتعوذ بالله من الخبث والخبائث.
و أبو داود رحمه الله ذكر الإسناد فيما يتعلق بالرواية عن شعبة ولكنه أشار إلى رواية وهيب بن خالد حين ذكرها بعد ذلك.
وقوله: (يعني: السدوسي ) هذا مثال لما أشرت إليه آنفاً عن النسائي من أن في شيوخه من يقال فيه: يعني، والذي قال هذا هو من دون النسائي ، وهذا الذي عند أبي داود مثله؛ لأن الحسن بن عمرو السدوسي شيخ لـأبي داود ، فـأبو داود لن يقول: حدثنا الحسن -يعني: السدوسي -، وإنما سيقول: الحسن بن عمرو فقط ويسكت، لكن من دون أبي داود هو الذي يقول: يعني؛ لأن كلمة (يعني) فاعلها ضمير مستتر يرجع إلى أبي داود ، وقائلها هو من دون أبي داود .
فإذا مر استعمال كلمة (يعني) في شيخ أبي داود فالذي قالها هو من فوق أبي داود ، كحديث عبد الله بن مسلمة بن قعنب الذي يروي عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي وعبد العزيز بن محمد الدراوردي يروي عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي وكل منهما قيل فيه: يعني. هذا المثال يوضح لنا أنه قد يأتي في شيوخ أبي داود التعبير بكلمة (يعني)، ولكن الذي قالها هو من دون أبي داود ؛ لأن أبا داود ما زاد في روايته عند ذكر شيخه على كلمة الحسن بن عمرو ، وكلمة السدوسي أضافها من دون أبي داود .
والحسن بن عمرو هذا انفرد أبو داود بالرواية عنه، وقد مر بنا في النسائي رواة لن يأتي ذكرهم في هذا الكتاب، وهم كثيرون، مثل: إسماعيل بن مسعود الذي يروي عنه النسائي كثيراً، وكذلك سليمان بن سيف الحراني لم يرو عنه إلا النسائي .
ومعنى هذا: أنه سيأتينا أشخاص وأسماء جدد ما مرت بنا في النسائي .
[ حدثنا وكيع ].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة ].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهو لقب رفيع يدل على علو منزلة الرجل وعلى حفظه وإتقانه؛ لأن الوصف بأمير المؤمنين في الحديث من أعلى صفات وألقاب التعديل التي إذا عدل بها الشخص تدل على علو مكانته ومنزلته بمثل هذا اللقب، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز هو ابن صهيب ].
عبد العزيز بن صهيب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكلمة (هو) هذه هي اللفظة الثانية التي تذكر للتوضيح، فيؤتى بكلمتين: إما (يعني) وإما (هو)، وهذا الإسناد الذي معنا فيه اللفظتان: لفظة (يعني) عند السدوسي الذي هو شيخ أبي داود ، ولفظة (هو) عند ذكر عبد العزيز ؛ لأن شعبة عندما روى عن عبد العزيز ما زاد على كلمة عبد العزيز ، بل قال: حدثنا عبد العزيز ، ولم يزد، فمن دون شعبة أتى بنسبه فقال: وهو ابن صهيب ، وأتى بكلمة (هو) حتى يعرف أنها ليست من تلميذه وإنما هي ممن دون تلميذه.
[عن أنس ].
رضي الله عنه، وهو صاحب رسول الله، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواية ثلاث ركوعات شاذة وهي رواية ثقة لكن فيها خطأ، ورواية الركوعين هي المحفوظة.
وكذلك ما جاء في صحيح مسلم في حديث السبعين ألفاً، فإن في أكثر الروايات (لا يسترقون)، وفي صحيح مسلم (لا يرقون) ولكنها شاذة.
سبق تحت ترجمة ما يقوله إذا دخل الخلاء: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد دخول الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) أو: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث)، إما هذه العبارة وإما هذه العبارة.
وقد ذكر أبو داود رحمه الله هاتين الصفتين: الأولى من طريق حماد بن زيد ، والثانية من طريق عبد الوارث بن سعيد ثم ذكر أن رواه شعبة رواه عن عبد العزيز وأنه قال: (اللهم إني أعوذ بك) وقال مرة: (أعوذ بالله).
ثم قال: (وقال وهيب : (فليتعوذ بالله، يعني: بصيغة الأمر، وسبق أن أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق شعبة وفيه الإشارة إلى الطريقين: الطريق الموافقة لطريق حماد المتقدمة في الإسناد الذي قبله، والطريق الموافقة لطريق عبد الوارث بن سعيد، وبعد ذلك قال وهيب عن شعبة : (فليتعوذ)، ولم يأت ذكر الرواية التي فيها وهيب التي أشار إليها المصنف، فلا أدري هل تركت وأشار الشارح إليها دون أن يسند الحديث، أو ذكر وهيب فيه شيء من التصريف والتحريف؛ لأن الحديث الذي بعده عن عمرو بن مرزوق هو عن زيد بن أرقم وهو بنفس الصيغة التي ذكرها عن وهيب ، وهي بلفظ الأمر: (فليتعوذ بالله من الخبث والخبائث) وهناك نسخة أخرى فيها: (وقال وهيب : عن عبد العزيز ) ورمز لها (ع) و(س) وهذه النسخة هي نسخة محمد عواض وعلى حسب الرموز هي عند ابن داسة وابن الأعرابي .
إذاً: هي الرواية المتقدمة إلا أنها لم تذكر، فما دام أنه قال: عن عبد العزيز فمعناه أن الرواية لم تذكر، وإنما ذكرت رواية شعبة ولم تذكر رواية وهيب .
والحديث الذي أورده أبو داود رحمه بعد الحديث الأول هو حديث عمرو بن مرزوق وهو عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). وهو مثل اللفظ الذي أشار إليه المصنف من رواية وهيب عن عبد العزيز التي لم يذكرها المصنف.
وقوله: (فليتعوذ بالله من الخبث والخبائث) هذا الحديث حديث قولي وليس حديثاً فعلياً؛ لأن الروايات المتقدمة فعلية، أي: من فعله صلى الله عليه وسلم، وأما هذا فهو من أمره صلى الله عليه وسلم.
وجاء في بعض الأحاديث: (ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله)، وعلى هذا فيجمع بين الذكر والتسمية فيقال: (بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).
والخبث: جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة، وفيه الإشارة إلى أن المقصود شياطين الجن ذكورهم وإناثهم؛ لأنه قال في أثناء الحديث: (إن هذه الحشوش محتضرة)، يعني: أن الكنف أو أماكن قضاء الحاجة تحضرها الشياطين، أي: شياطين الجن.
ومن المعلوم أن الجن يتخلص منهم بذكر اسم الله عز وجل، وأما الإنس فلا يتخلص منهم إلا بالمعاملة الطيبة، ولهذا جمع الله عز وجل بين ذكر المعاملة التي يعامل بها الإنس ويحصل بها اكتسابهم وبين ما يقال للتخلص من شر الجن، فقال سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، فالإنسي إذا حصل منه شيء وقوبلت إساءته بالإحسان فإن ذلك ينفع بإذن الله.
وقد يحصل من بعض الناس أنه لا ينفع فيه الإحسان، ومع الإحسان يتمرد، لكن في الغالب أن المعاملة الطيبة ومقابلة الإساءة بالإحسان أن ذلك ينفع: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35]، وليس كل أحد يصبر على أن يقابل السيئة بالإحسان، بل هناك من يقابل السيئة بالسيئة.
ومقابلة السيئة بالسيئة سائغ؛ لقوله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، وقوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126]، لكن الصبر والتحمل ومقابلة الإساءة بالإحسان هذا هو الذي ينفع في التخلص من أذى الإنس.
أما الجن فقال الله عز وجل فيهم: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]، يعني: أن هذا هو الذي يخلص منه، ولهذا جاء في بعض الأحاديث: أن الإنسان إذا دخل بيته وقال: بسم الله، قال الشيطان لأتباعه ولأصحابه ولجنده: لا مبيت لكم.
معناه: أنه إذا دخل بيته وسمى الله، ثم إذا أكل أو شرب سمى الله عز وجل قال الشيطان: لا مبيت ولا عشاء؛ لأن ذكر الله عز وجل يطردهم ولا يتمكنون من الوصول إلى ما يريدون مع ذكر اسم الله عز وجل.
وقوله: (إن هذه الحشوش محتضرة)، أي: تحضرها شياطين الجن؛ ولذا قال: (فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث).
قوله: [حدثنا عمرو بن مرزوق ].
هو الباهلي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود ، وهذا من الرجال الذين لم يسبق أن مر ذكرهم في سنن النسائي ؛ لأنه ما خرج له النسائي ولا خرج له إلا البخاري وأبو داود ، فهو من الأسماء الجديدة التي لم تمر بنا في سنن النسائي ؛ لأنه ليس من رجال النسائي .
فالقلوب لابد أن تكون سليمة من الغيظ والحقد والضغينة لهم، والألسنة تكون سليمة ونظيفة من أن تتكلم فيهم بما لا ينبغي، والله عز وجل يقول بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، وهذا فيه سلامة اللسان؛ لأن قولهم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) دعاء لهم، فاللسان يستغفر لهم، ثم قال: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ، وهذا فيه طلب سلامة القلب، وأن يسلم الله القلوب من أن يكون فيها شيء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم يجب احترامهم وتوقيرهم واعتقاد أنهم خير الناس؛ لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بقوله: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، فهذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم خير هذه الأمة، فهم أفضل من مشى على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته على رسله ورضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين.
فالواجب هو البعد عن نيلهم والكلام فيهم بما لا ينبغي، وعلى هذا أجمع أهل السنة والجماعة؛ لأن الله تعالى عدلهم وعدلهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاجون بعد تعديل الله ورسوله إلى تعديل المعدلين وتوثيق الموثقين، ولا يعني التعديل أنهم معصومون؛ فإن العصمة ليست إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصحابة يخطئون ويصيبون وليسوا بمعصومين، ولكن من حيث العدالة هم عدول، ولهذا فإن المجهول فيهم بحكم المعلوم، ولهذا نجد أن الذين يؤلفون في الرجال وبيان أحوالهم عندما يكون الشخص من الصحابة يكتفون بأن يقولوا: صحابي، أو يذكرون شيئاً من ميزاته التي هي زائدة على الصحبة، كأن يكون شهد بدراً أو الحديبية، أو أنه من السابقين الأولين، أو أن عنده صفة زائدة على الصحبة فينصون عليها، وأما غيرهم فإنهم يحتاج إلى معرفة أشخاصهم وأعيانهم وأحوالهم.
ولهذا قال الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية: إن الذي عليه العلماء: أنه ما من رجل من رجال الإسناد إلا ويحتاج إلى معرفته إلا الصحابة.
ولهذا درج العلماء على الاكتفاء بذكر أن الرجل من الصحابة ولو كان مبهماً غير مسمى ما دام أنه أضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قيل: عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج أن يقال: من هو هذا الرجل؟ وهذا الرجل مبهم لا يحتاج إلى معرفة عينه، ولأنه صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من العدول الذين يعول على حديثهم.
لكن لا يعني هذا أنهم معصومون؛ لأن العصمة إنما هي للأنبياء، ولكن من حيث البحث عن أحوالهم، وهل أحدهم ثقة أو ليس بثقة؟ لا يبحث، ولهذا يأتي في بعض التراجم أن الشخص يقال فيه: قيل: إنه صحابي، وقيل: إنه تابعي، فقولهم: قيل: إنه صحابي، معناه: أنه يكفي أن يقال: إنه صحابي، وإذا قيل: ليس بصحابي بل هو ثقة، فمعناه: أنه بناه على أنه تابعي يذكر حاله، فالذي يذكر أنه ليس بصحابي يتكلم في حاله، والذي يعرف أنه صحابي يكفي في شرفه وبيان منزلته أنه صحابي.
ولهذا لا ينظر إلى من يقلل من شأن الصحابة، أو تحدثه نفسه أن يتكلم في الصحابة، أو ينال من الصحابة فيما يتعلق ببيان أحوالهم وما كانوا عليه، أو البحث عن عيوبهم ومثالبهم وما إلى ذلك؛ فإن هذا لا يليق بالمسلم الناصح لنفسه.
ويذكر عن بعض المخذولين أنه قال: إن الصحابة يجب أن يكونوا مثل غيرهم تحت المجهر! يعني: أنهم يعاملون معاملة غيرهم، وأن يفتش عنهم ويذكر كل شيء قيل عنهم كما يقال في حق غيرهم، وأن يبحث عنهم، وهل هم ثقات أو ليسوا بثقات؟ وما إلى ذلك، وهذه ليست طريقة أهل السنة والجماعة، بل هذه طريقة مخالفة لأهل السنة والجماعة ، فأهل السنة والجماعة يكفي عندهم أن يعرف أن الواحد صحابي، ولا يزيدون على ذلك شيئاً إلا أن يضيفوا بيان منزلته وعظيم قدره، وأن له منزلة جاء فيها نص إما لكونه مشهوداً له بالجنة، أو لكونه شهد بدراً أو الحديبية، أو من السابقين الأولين أو من المهاجرين أو كذا أو كذا ... إلى آخره.
أما أن يتكلم فيهم فهذا لا يليق بالمسلم الناصح لنفسه، كما ذكرت عن شيخ الإسلام أنه قال: ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و أبو زرعة الرازي من علماء القرن الثالث الهجري روى عنه الخطيب البغدادي بإسناده في كتابه الكفاية أنه قال: إذا رأيتم أحداً ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق، وذلك أن الكتاب حق والرسول حق، وإنما أدى إلينا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء -أي: الذين يريدون أن يتكلموا في الصحابة- إنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة.
يعني: أن القدح في الناقل قدح في المنقول؛ لأن الصحابة إذا قدح فيهم فماذا يبقى عند من قدح فيهم؟! وإذا كان الصحابة ليسوا عدولاً والكتاب ما جاء إلا عن طريقهم، والسنة كذلك، فليس بأيدي من سبوا الصحابة إلا الخذلان، وليس بأيديهم شيئاً من الحق؛ لأن الحق جاء عن طريق الصحابة، وإذا قدح في الناقل فهو قدح في المنقول.
ولهذا يقول أبو زرعة : وإنما يريد هؤلاء أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، يعني: أن النتيجة التي تترتب على القدح في الصحابة هي إبطال الكتاب والسنة؛ لأن القدح في الناقل قدح في المنقول.
فمنهج أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يجب احترامهم وتوقيرهم، واعتقاد أنهم خير الناس، وأنه ما كان مثلهم قبلهم ولا يكون بعدهم مثلهم، وهم خير من مشى على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته على رسله ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
فـعمرو بن مرزوق الذي في هذا الإسناد هو الذي نقل عنه الحافظ ابن حجر هذه الجملة في مخاطبة ذلك الخارجي الذي سب واحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له عمرو بن مرزوق : ما أرى الله إلا مخزيك. يعني: توقع العقوبة من الله وتوقع الخزي الذي يحل بك؛ لأنك سببت واحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين.
[ أخبرنا شعبة ].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهذا لقب رفيع من أعلى صيغ التعديل والتوثيق، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن قتادة ].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مدلس، ولكن المعروف عند المحدثين أن شعبة إذا روى عن مدلس فقد أمن تدليسه؛ لأن شعبة لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما صرحوا فيه بالسماع، وإلا ما أمن تدليسهم فيه.
وهنا شعبة هو الذي يروي عن قتادة ، وقتادة مدلس.
وهذا من القواعد التي ذكرها العلماء في معرفة السلامة من تدليس المدلس، وأنه إذا روى شعبة عن مدلس فإن تدليسه مأمون؛ لأنه لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما صرحوا فيه بالسماع، وقتادة بن دعامة السدوسي البصري أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن النضر بن أنس ].
هو النضر بن أنس بن مالك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن زيد بن أرقم ].
زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر