حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: توضئوا منها. وسئل عن لحوم الغنم فقال: لا توضئوا منها. وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل؛ فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها مأوى الشياطين. وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها؛ فإنها بركة) ].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى باباً في الوضوء من لحوم الإبل، أي: من أكلها، وأن الإنسان إذا أكلها فإن عليه أن يتوضأ، وذلك للحديث الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الوضوء من لحم الإبل، فقال: توضئوا من لحوم الإبل، وسئل عن الوضوء من لحم الغنم فقال: لا توضئوا منها، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا فيها، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها).
والحديث دليل على الوضوء من لحم الإبل، وأن من أكل من لحوم الإبل فإن عليه أن يتوضأ، وعليه أن يعيد الوضوء إذا كان قد توضأ وأكل بعد الوضوء؛ لأن أكل لحوم الإبل ناقض من نواقض الوضوء، كما ثبت في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المشهور عن كثير من المحدثين، وذهب أكثر الفقهاء إلى عدم الوضوء من لحم الإبل، واستدلوا على ذلك بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، قالوا: ولحم الإبل مما مسته النار، فكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، لكن الذين قالوا بلزوم الوضوء من لحم الإبل، قالوا: إن ذاك عام، وهذا خاص، فإنه كان في أول الأمر أن الوضوء يكون مما مست النار مطلقاً، وكل شيء مسته النار أو غيرته النار فإنه يتوضأ منه، وبعد ذلك جاء ما ينسخ ذلك، وهو ترك الوضوء مما مست النار؛ لقول جابر : (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)، وحديث الوضوء من لحم الإبل خاص، فلا يدخل تحت ذلك العموم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: سئل عن هذا فقال: (توضئوا ، وسئل عن الوضوء من لحم الغنم فقال: لا توضئوا)، وفي بعض الروايات قال: (إن شئتم).
فدل هذا على أن الوضوء من أكل لحم الإبل أمر مطلوب وأمر متعين، وقد قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وهذا المذهب هو الأقوى دليلاً، وإن كان الجمهور على خلافه.
وقد جاء في بعض الروايات: (إن شئتم) وهذا يدلنا على الفرق بين لحوم الإبل وغيرها، فلحوم الإبل هي التي جاء فيها دليل على الوضوء، وأما الغنم فقد جاء الدليل على أنه لا يتوضأ منها، وغيرها سكت عنه، فلا يصار إلى الوضوء منه إلا بدليل، والدليل إنما دل على الوضوء من لحم الإبل فقط، أما غيرها فإنه لم يأت دليل يدل عليه، والأصل هو ما جاء عن جابر قال: (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) يعني: من غير لحوم الإبل، وعلى هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن لحوم الإبل قال: (توضئوا منها، ولما سئل عن لحم الغنم قال: لا تتوضئوا منها).
وهذا التفريق من رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لحوم الإبل ولحوم الغنم يرشد إلى مسألة أخرى وهي فيما يتعلق بالإحسان إلى الأموات في الصدقة عنهم، والحج عنهم، والدعاء لهم، وكذلك قراءة القرآن وإهدائها لهم، فإن بعض أهل العلم الذين قالوا بالجواز مطلقاً قاسوا الذي لم ينص عليه على المنصوص عليه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصدقة؟ فقال: (تصدق أو تصدقوا) يعني: أن الإنسان يتصدق عن قريبه الميت، وسئل عن الحج فقال للمرأة التي سألته عن الحج: (حجي) ، وسئل أسئلة فأجاب بالإذن، فالذين يقولون بجواز إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الأموات، يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن أمور فأذن فيها، فيقاس عليها قراءة القرآن وإهدائها للأموات؛ لأنه لو سئل عنها لأجاب؛ لأن هذه أمور سئل عنها فأجاب، وتلك لم يسأل عنها ولو سئل لأجاب، وهذا الذي جاء من التفريق بين لحوم الإبل ولحوم الغنم يدلنا على عدم صحة هذا القول، وأنه قد يسأل عن الشيء فيجاب عنه بجواب، ويسأل عن غيره فيجاب عنه بجواب آخر، فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسئل عن الوضوء من لحم الغنم وإنما سئل عن الوضوء من لحم الإبل فقط، فقال: (توضئوا) فهل يقال: إنه لو سئل عن الوضوء من لحم الغنم لقال: توضئوا؟!
الجواب: لا يقال هذا؛ لأنه لما سئل أجاب بجواب آخر، فدل هذا على أن ما نص عليه الشارع لا يلحق به ما يشابهه إذا كان يختلف عنه، لاسيما في هذه الأمور التي تتعلق بإضافة شيء للأموات أو إهداء شيء لهم، فإن هذه يقتصر فيها على ما ورد عليه الدليل.
والقول بأن هذا مثله ويلحق به ولو سئل لأجاب؛ يدلنا هذا التفريق بين لحوم الغنم ولحوم الإبل على أن الجواب قد يختلف وليس بلازم أن يتحد، والقول بأنه لو سئل عن الإهداء لأجاب غير صحيح؛ لأن سؤاله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الإبل، وإجابته بالوضوء، وسؤاله عن لحم الغنم وإجابته بعدم الوضوء، يدلنا على التفريق بين الأشياء، وأن المعول في الفرق هو ما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفع الأموات بسعي الأحياء ما ورد فيه دليل يصار إليه، وما ورد من دليل فيه خلاف بين أهل العلم، والأقرب أنه لا يصار إليه، ولا يصار إلا إلى ما ورد عليه الدليل من نفع الأموات بسعي الأحياء كالصدقة والصيام كقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليّه)، وكذلك الحج، والعمرة: (حج عن أبيك واعتمر) وهكذا الدعاء.
أما الأمور التي لم ترد فلا تلحق بحجة أن هذه أمور سئل عنها، ولم يسأل عن هذه، ولو سئل لأجاب، فقد يسئل ولا يجيب، وقد يجيب بجواب آخر، كما أنه سئل عن الوضوء من لحم الإبل فأجاب بجواب، وسئل عن الوضوء من لحم الغنم فأجاب بجواب آخر غير الجواب الأول.
قوله: [ (وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين) ].
المقصود بقوله: (فإنها من الشياطين) يعني: أن الإبل فيها شدة، وفيها غلظة، وفيها نفار، وإذا حصل منها نفور فإنها تؤذي أو تتلف من يكون حولها، ومن يكون معها في معاطنها ومباركها، والمعاطن هي: المبارك التي تختص بها، والتي إذا شربت الماء بركت فيها، يعني: ما حول المكان الذي تشرب منه يقال له: معاطن الإبل، فلو حصل لها شيء ينفرها فإنها تتلف من حولها، وتؤذي من حولها إذا لم تتلفه.
ولهذا جاء التفريق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم؛ لأن أصحاب الإبل عندهم الغلظة، وعندهم التكبر، كما جاء في بعض الأحاديث، وأصحاب الغنم عندهم السكينة والهدوء، والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام كانوا يرعون الغنم، وهي ذات سكينة وهدوء، ورعاية الإبل أو الاشتغال بالإبل فيه غلظة وفيه قوة؛ لأن فيها قوة، وفيها قسوة، فصاحبها يكون فيه شبه بها من حيث القسوة، ولهذا فإن أهل الإبل هم أهل الكبر وأهل الخيلاء، بخلاف أهل الغنم فإنهم أهل سكينة وأهل وقار، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: قوله فيها: (فإنها من الشياطين)، أي: أنها فيها من صفات الشياطين، وهي الغلظة والشدة والنفرة، وأنها تؤذي من حولها، ومنهم من يقول: إنها من الشياطين معناه: أن الذي فيه عتو وفيه قوة وفيه غلظة يقال له: شيطان، فما كان من الإبل ومن الإنس والجن والدواب وما حصل منه عتو وإيذاء وما إلى ذلك فإنه يوصف بهذا الوصف ويقال له: شيطان، فقوله: (إنها من الشياطين) يعني: أن عندها الغلظة والشدة والقسوة، وأن كل من عتا من الإنس والجن والدواب يوصف بهذا الوصف.
أو أنها ذات نفار، وذات غلظة وجفوة، وأنها إذا حصل منها نفور فإنها تتلف من يكون حولها، وليس ذلك لنجاسة أرواثها وأبوالها فإن أرواثها وأبوالها طاهرة، وكل مأكول اللحم فإن روثه وبوله طاهر، والدليل على ذلك إذن الرسول صلى الله عليه وسلم للعرانيين بأن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها، فلو كانت أبوالها نجسة ما أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرب من الأبوال للاستشفاء؛ لأنه لا يتداوى بحرام، كما جاءت في ذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير، وأدخله المسجد، ولا يؤمن من حصول الروث منه وحصول البول منه، فهذا يدل على طهارة بوله وروثه؛ لأنه لا يعرض المسجد لأن يحصل فيه ما ينجسه بأن يدخل فيه شيئاً أبواله نجسه وأرواثه نسجه، بل الأبوال طاهرة والأرواث طاهرة.
وأما ما جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من أحد أصحابه أن يأتي بثلاثة أحجار فجاء بحجرين وروثة فردها وقال: (إنها رجس)، فهذا المقصود منه أنها تكون من روث ما لا يؤكل لحمه كالحمار، ويقال: إن الروث يكون للحمير والبغال والخيل، ولكن الخيل كما هو معلوم أيضاً مأكول لحمها، فكل مأكول اللحم يكون طاهراً، فيحمل ذلك على أنها روثة حمار، وقد سبق أن ذكرنا أن الروث وإن كان من مأكول اللحم فإنه لا يستنجى به؛ لأن الاستنجاء به تقذير له، وقد جاء أنه طعام لدواب الجن، كما أن العظام لا يستنجى بها؛ لأنها تكون طعاماً للجن.
وعلى هذا فإن الحكم بعدم الصلاة بمعاطن الإبل ومباركها لا لنجاسة أبوالها وأرواثها فهي طاهرة، وإنما لشدتها وغلظتها ونفورها، وما يترتب على الصلاة حولها من الأذى والضرر.
ولما سئل عن الصلاة في مرابض الغنم قال: (صلوا فيها؛ فإنها بركة) يعني: أنها ذات سكينة وهدوء، وفيها بركة، وليس فيها غلظة ولا شدة كالإبل، ومن المعلوم أن الصلاة في مرابض الغنم لا يؤمن من بولها وروثها، وهذا يدل على طهارة أرواث وأبوال مأكول اللحم، وأنه لا يكون نجساً، فمثله أيضاً الإبل إلا أن التفريق بين الإبل والغنم هو ما في الإبل من الشدة والنفار الذي يترتب عليه إيذاء من يكون حولها.
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .
[حدثنا أبو معاوية ].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش ].
هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الله بن عبد الله الرازي ].
عبد الله بن عبد الله الرازي صدوق، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة .
[ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ].
هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن البراء بن عازب ].
البراء بن عازب رضي الله عنه صحابي ابن صحابي، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
(لحوم الإبل) بعض أهل العلم يقول: إن كل ما يطلق عليه لحم فإنه يجب الوضوء منه، وبعضهم يستثني من ذلك بعض الأشياء كالكرش والأمعاء ويقول: إن هذه لا يقال لها: لحم، ولكن كما هو معلوم فإنه من باب الأخذ بالحيطة إنما هو في الوضوء من جميع أجزاء الإبل.
وأما المرق فإنه لا يقال له: لحم.
حدثنا محمد بن العلاء وأيوب بن محمد الرقي وعمرو بن عثمان الحمصي المعنى قالوا: حدثنا مروان بن معاوية أخبرنا هلال بن ميمون الجهني عن عطاء بن يزيد الليثي قال هلال : لا أعلمه إلا عن أبي سعيد رضي الله عنه وقال أيوب وعمرو : وأراه عن أبي سعيد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بغلام وهو يسلخ شاة ،فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنحَّ حتى أريك، فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط، ثم مضى فصلى للناس ولم يتوضأ).
قال أبو داود : زاد عمرو في حديثه: (يعني لم يمس ماءً)، وقال: عن هلال بن ميمون الرملي ].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي (الوضوء من مس اللحم النيء وغسله) يعني: قد يكون فيه دم، فهل يتوضأ من هذا الفعل أو يغسل؟
أورد أبو داود رحمه الله في هذا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بغلام يسلخ شاة، فقال: تنح حتى أريك) يعني: أريك كيفية السلخ، ولعله رآه يفصل الجلد من اللحم بالسكين، فأراه النبي صلى الله عليه وسلم الطريقة السهلة التي ليس فيها عناء ولا مشقة، (فتنحى الغلام، فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم يده بين اللحم والجلد فدحس بها) يعني: حركها ودفع يديه حتى غاصت إلى الإبط، أي: بدون سكين فما دام أنه يدخل يده ويحركها بين الجلد واللحم فإنه ينفصل الجلد من اللحم، ولا يلحق بالجلد شيء، بل يكون الجلد مستقلاً بنفسه وليس عليه لحم، ويكون اللحم مستقلاً لم يذهب منه شيء، بخلاف الدحس بالسكين فإنه قد يقطع قطعة من الجلد فتكون مع اللحم، وقد يقطع قطعة من اللحم فتكون مع الجلد، وأما هذه الطريقة التي أرشده إليها الرسول صلى الله عليه وسلم -والتي يعرفها كثير من الناس- فهي أنه يدخل يده ويحركها حتى ينفصل الجلد من اللحم.
قوله: [ (فدحس بها حتى توارت إلى الإبط)].
يعني: أن يده دخلت حتى ذهبت إلى مكان بعيد، بسبب هذا الدفع الذي حصل ليده وانفصل بسببها الجلد من اللحم.
قوله: [ (ثم مضى فصلى للناس ولم يتوضأ)].
يعني: لكونه لمس هذا اللحم، وهذا اللحم إن كان فيه دم، فإن كان نجساً فهو لا يحتاج إلى وضوء، وإنما يحتاج إلى غسل؛ لأن النجاسة لا تحتاج إلى وضوء، فإذا جاءت على جسد الإنسان وهو متوضئ فيزيله وهو باقٍ على وضوئه، وإن كان غير نجس فليس في ذلك إشكال.
وذكر في بعض الروايات قال: (يعني: لم يمس ماءً) ولعل ذلك لكونه لم يكن عليها شيء من الدم؛ لأن الغالب أن ما بين الجلد واللحم لا يكون فيه دم، وإنما ينفصل الجلد من اللحم، واليد لا يكون فيها شيء من الدم؛ لأن اللحم لم يقطع حتى يخرج منه شيء من الدم.
فمس اللحم النيء لا يتوضأ منه، وكذلك لا تغسل اليد منه، ما دام أنه لم يعلق بها شيء، فإن علق بها شيء فيغسل غسلاً بدون وضوء.
وقوله: [ باب: الوضوء من مس اللحم النيء وغسله ] لا أدري، هل يقصد بقوله: (وغسله) أن الإنسان إذا لمسه يتوضأ ويغسل، أو أن المقصود به إذا غسله بماء وحركه بيده فإنه يتوضأ؛ لأنه قد يكون خالطه شيء من الدم، فإذا كان يرجع الضمير إلى اللحم النيء فمعناه: أنه لا يتوضأ منه، لأنه إن كان نجساً فيغسل النجاسة، وإن كان غير نجس فليس هناك أمر يقتضي الوضوء، وكأن الضمير يرجع إلى اللحم، وليس إلى الإنسان.
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ وأيوب بن محمد الرقي ].
أيوب بن محمد الرقي ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة .
[وعمرو بن عثمان الحمصي ].
عمرو بن عثمان الحمصي صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ المعنى ].
يعني: أن هؤلاء الثلاثة متفقون في المعنى، حتى وإن كان بينهم اختلاف في اللفظ، وهذه طريقة أبي داود رحمه الله عندما يذكر عدداً من شيوخه ويكون اللفظ ليس متفقاً، فإنه يقول: المعنى، فهذه الكلمة (المعنى) المقصود بها: أنهم متفقون في المعنى وبينهم اختلاف في الألفاظ.
[قالوا: حدثنا مروان بن معاوية ].
هو مروان بن معاوية الفزاري، وهو ثقة، يدلس أسماء الشيوخ، وهذا نوع من التدليس؛ لأن التدليس ينقسم إلى تدليس الشيوخ، وتدليس الإسناد، وتدليس التسوية.
وتدليس الإسناد هو: أن يروي عن شيخه مالم يسمعه منه بلفظ موهم للسماع كـ(عن) أو (قال).
وتدليس التسوية هو: أن يأتي إلى الإسناد الذي يروي فيه شيوخه عن رجال ضعفاء بين ثقات، فيحذف الضعفاء ويسوي الإسناد كأنه ثقات.
وتدليس الشيوخ هو: أن يذكر الشخص بغير ما اشتهر به، بأن يذكره بكنيته مع اسم أبيه، أو يذكره باسمه ويحذف اسم أبيه وينسبه إلى جد بعيد من أجداده، فإن هذا فيه توعير للطريق أمام معرفة الشخص، والمضرة منه أنه قد يصير المعروف مجهولاً؛ لأنه يظن أنه شخص غير معروف؛ لأنه ذُكر بغير ما اشتهر به، مع أنه لو ذكر بما اشتهر به لعرف، لكن كونه يذكر بغير ما اشتهر به؛ بأن تكون كنيته غير مشهورة فتذكر كنيته، واسمه مشهور فيحذف، وأبوه غير مشهور فيذكر منسوباً إلى أبيه، فيقال: أبو فلان بن فلان، أو يكون اسمه مشهوراً وكنيته غير مشهورة واسم أبيه أيضاً غير مشهور، فيذكر كنيته أو يذكر اسمه وينسبه إلى جد من أجداده لا يعرف به، كل هذا يسمونه تدليس أسماء الشيوخ.
والمضرة التي تنتج من ورائه هو توعير الطريق أمام معرفة الشخص، وقد يظن المعروف مجهولاً؛ لأنه ذكر بغير ما اشتهر به، فـمروان بن معاوية قالوا فيه: يدلس أسماء الشيوخ، يعني: أنه معروف بتدليس أسماء الشيوخ.
قالوا: وكان الخطيب البغدادي أيضاً يفعل هذا الفعل في كتبه، يعني: يذكر شيخه بألفاظ متعددة، وبصيغ مختلفة.
[أخبرنا هلال بن ميمون الجهني ].
هو هلال بن ميمون الجهني الرملي، وهو صدوق، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجة .
[ عن عطاء بن يزيد الليثي ].
عطاء بن يزيد الليثي ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[قال هلال : لا أعلمه إلا عن أبي سعيد ].
يعني: أنه يروي عن عطاء لا يعلمه إلا عن أبي سعيد ، يعني: أن الشك هو في أبي سعيد ، هل هو عن أبي سعيد أو لا؟ فـهلال يروي عن عطاء بن يزيد الليثي قال: لا أعلمه إلا حدثه عن أبي سعيد الخدري .
[وقال عمرو وأيوب : وأراه عن أبي سعيد ].
يعني: أظنه عن أبي سعيد ، يعني: أن كلهم غير جازمين بأنه أبو سعيد ، لكن جاء في صحيح ابن حبان الجزم بأنه أبو سعيد ، كما ذكره في عون المعبود، ثم إذا كانت الرواية عن صحابي فجهالة الصحابي لا تؤثر؛ لأن الصحابة كلهم عدول.
و أبو سعيد هو سعد بن مالك بن سنان ، مشهور بكنيته ونسبته أبي سعيد الخدري ، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ قال أبو داود : زاد عمرو في حديثه: (لم يمس ماءً) وقال: عن هلال بن ميمون الرملي ].
قوله: (لم يمس ماءً) تفسير لقوله: (لم يتوضأ).
وقوله: [ وقال: عن هلال بن ميمون الرملي ].
يعني: أن شيخه عمرو بن عثمان الحمصي قال: عن هلال بن ميمون الرملي ، فخالف صاحبيه: أيوب ومحمد بن العلاء ؛ فإنهما قالا: أخبرنا هلال بن ميمون الجهني ، فـأيوب ومحمد بن العلاء لفظهما: (أخبرنا) وأما عمرو بن عثمان فعبر بـ(عن)، في الرواية عن هلال بن ميمون ولم يعبر بالإخبار.
والأمر الثاني: أنه أتى بـالرملي وأولئك أتوا بـالجهني ، يعني: هذا نسبة إلى بلد، وذاك نسبة إلى قبيلة، فالشيخان الأولان اتفقا في الإتيان وفي لفظ الإخبار، فقد أتيا بلفظ الجهني ، نسبة إلى قبيلته، وأما عمرو بن عثمان فأتى بالرواية عنه بـ(عن)، وأتى بنسبته إلى بلده فقال: الرملي ، هذا هو المقصود من قول أبي داود : (وقال: عن هلال بن ميمون الرملي )، يعني: أنه خالف صاحبيه باثنتين: التعبير بـ(عن) بدل (أخبرنا)، وأتى بـالرملي بدل الجهني .
[ قال أبو داود : ورواه عبد الواحد بن زياد وأبو معاوية عن هلال عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، لم يذكر أبا سعيد ].
ذكر أبو داود رحمه الله أن بعض الرواة رووه عن عطاء بن يزيد مرسلاً، ولم يذكروا أبا سعيد ، وهذا على تعريف المرسل المشهور، وهو: أن المرسل قول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا..، فقد مر بنا أنه يعبر بالمرسل أحياناً بما هو مشهور عند المحدثين وهو هذا، وبالانقطاع يعني: كون الراوي يروي عمن لم يلقه ولم يدركه، أو أدرك عصره ولكنه لم يلقه، وهذا هو الذي يسمى المرسل الخفي، وهذا المعنى العام للمرسل؛ لأن المعنى العام للمرسل أنه ليس مقصوراً على قول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وهذا الذي في هذا الإسناد هو من قبيل المرسل على المعنى المشهور، وقد سبق رواية إبراهيم التيمي عن عائشة ، وقال أبو داود : (وهو مرسل؛ لأن إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة شيئاً)، يعني: أنه مرسل على الانقطاع، فرواية الراوي عمن لم يسمع منه أو لم يدركه من المرسل بالمعنى العام، وقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، من المرسل على المعنى المشهور عند المحدثين.
قوله: [رواه عبد الواحد بن زياد ].
عبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ وأبو معاوية ].
أبو معاوية مر ذكره.
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان -يعني: ابن بلال - عن جعفر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية والناس كنفتيه، فمر بجدي أسكّ ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له؟) وساق الحديث].
أورد أبو داود رحمه الله: باباً في ترك الوضوء من مس الميتة، يعني: أن الميتة إذا لمسها الإنسان وهو على وضوء فهو باقٍ على وضوئه.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله : (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية والناس كنفتيه) يعني: أنهم حوله محيطون به وعلى جانبيه صلى الله عليه وسلم، (فمر بجدي أسك) الأسك قيل: ملتصق الأذنين، وقيل: صغير الأذنين، وهو ميت، فلمسه وأمسك بأذنيه وقال: (أيكم يكون هذا له؟ فقالوا: إنه ليس بمرغوب فيه لو كان حياً فكيف وهو ميت؟)، ثم قال: وساق الحديث؛ لأنه أتى بمحل الشاهد، وترك باقيه؛ لأنه يتعلق بأمور أخرى، فذكره اختصاراً، وفي باقيه قال: (للدّنيا أهون على الله من هذا عليكم)، أي: إذا كان هذا هين عليكم، وهو رخيص عندكم فالدنيا كلها أهون على الله من هذا عليكم، وهذا من كمال بيانه صلى الله عليه وسلم وفصاحته وبلاغته وكمال نصحه لأمته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أراد أن يبين حقارة الدنيا، وأنه ليس لها شأن عند الله عز وجل، وإنما المهم هو الآخرة، وأما الدنيا فهي أهون عند الله من هذا الجدي الأسك الذي هو ميت عليهم، ومع ذلك فأذنه صغيرة أو ملتصق الأذنين، والواحد يزهد فيه ولا يحب أن يكون له لو كان حياً، وإنما يحب أن يكون له من نفائس الغنم، وأحسنها منظراً وأكملها.
والمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لمس أذنه، ومضى ولم يتوضأ، فدل هذا على أن لمس الميتة لا ينتقض به الوضوء.
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .
[حدثنا سليمان -يعني: ابن بلال- ].
سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر عن أبيه].
هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهو إمام من أئمة أهل السنة، وهو من الأئمة الاثني عشر عند الرافضة، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
وهو يروي عن أبيه، وأبوه هو محمد بن علي بن الحسين ، المشهور بـالباقر ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر ].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد فيه إمامان من أئمة أهل السنة، وهما من الأئمة الاثني عشر عند الرافضة الذين يغلون فيهم، ويصفونهم بصفات لا تليق ولا تنبغي لهم، ولا يجوز أن تطلق عليهم، كما جاء في كتاب الكافي للكليني في جملة أبواب من أبوابه أنه قال: (باب: أن الأئمة يعلمون ما كان وما سيكون، وأنهم يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم!) ثم ساق أحاديث من أحاديثهم التي هي من جنس هذا الباب، وكتاب الكليني الكافي منزلته عند الرافضة كمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة.
ومن أبوابه أيضاً أنه يقول: (باب: أنه ليس شيء من الحق إلا ما خرج من عند الأئمة، وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل!) وهذا معناه: أن الأحاديث التي جاءت عن أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة أنها باطلة وأنه لا يعول عليها، ولا يحتج بها -حسب زعمهم-؛ لأنها لم تخرج من عند الأئمة!
بل إن القرآن الذي في أيدي الناس جمعه أبو بكر الجمعة الأولى، وجمعه عثمان الجمعة الأخيرة، والمصحف العثماني الموجود بين أيدينا هو من جمع عثمان ، وهو لم يخرج من عند الأئمة الاثني عشر.
فأهل السنة والجماعة يوقرون أهل البيت، ويحترمونهم، وينزلونهم منازلهم، فلا يجفون ولا يغلون فيهم، وإنما اعتدال وتوسط.
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي في ترك الوضوء مما مست النار، يعني: إذا أكل الإنسان من لحم الغنم أو غيرها -روى الإبل- فإنه لا يحتاج إلى وضوء لكونه أكل من ذلك اللحم، وقد جاء في بعض الأحاديث التي سيذكرها المصنف أنه أمر بالوضوء مما مست النار، وقال: (توضئوا مما مست النار) فيكون المقصود أن هذا كان في أول الأمر، ولكن ذلك نُسخ كما جاء في حديث جابر : (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) يعني: أن في المسألة حديثين: الأول متقدم، والثاني متأخر، والأول فيه الأمر بالوضوء، والآخر هو الترك.
فإذاً: لا يتوضأ مما مست النار إذا لم يكن لحم إبل؛ لأن لحم الإبل جاءت فيه أحاديث تخصه، فهو مستثنى من هذا العموم.
و أبو داود رحمه الله بدأ بالأحاديث التي فيها ترك الوضوء، وبعد ذلك أتى بالأحاديث التي فيها الوضوء مما مست النار، والإمام مسلم رحمه الله لما ذكر الأحاديث في الوضوء مما مست النار وترك الوضوء بدأ بالأحاديث التي فيها الوضوء، ثم عقبها بالأحاديث التي فيها ترك الوضوء، قال النووي أو غيره: إن طريقة مسلم أنه عندما يذكر الأحاديث المتعارضة فإنه يبدأ بالأحاديث المنسوخة، ثم يأتي بعدها بالناسخة، والإمام مسلم رحمه الله لا يبوب، ولكنه يجمع الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد، ويجعلها مع بعض، هذه طريقة مسلم رحمه الله، فإنه يذكر الأحاديث والأسانيد في مكان واحد، وأما التكرار فإنه قليل بالنسبة للأحاديث، وقد أحصاها الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في خدمته لصحيح مسلم ، وفي الطبعة التي طبعت بعمل محمد فؤاد عبد الباقي جعل فيها مجلداً خاصاً وهو المجلد الخامس، وكله يتعلق بالفهارس، وقد ذكر الأحاديث التي جاءت في أكثر من موضع، وأظنها تبلغ مائة واثنين وثلاثين موضعاً، هذه هي الأحاديث التي كررها، وإلا فالغالب عليه أنه يجمع الأحاديث في مكان واحد، وهنا أتى مسلم بالأحاديث المتعلقة بالوضوء مما مست النار أولاً، ثم عقبها مباشرة بالأحاديث التي فيها ترك الوضوء مما مست النار، فقال النووي أو غيره: إن مسلماً رحمه الله قدم الأحاديث المنسوخة وعقبها بالأحاديث الناسخة.
وأبو داود رحمه الله ذكر أحاديث ترك الوضوء ثم أتى بالأحاديث التي فيها الأمر بالوضوء مما مست النار، لكنه لا يعني أنه يرى الوضوء مما مست النار؛ لأنه هو نفسه روى حديث: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)، لكن هذا يدل على أنه ليس عنده هذا المنهج الذي عند مسلم ، وهو تقديم المنسوخ والإتيان بالناسخ وراءه.
وقد أورد حديث ابن عباس : (أن النبي أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ) يعني: أنه أكل لحماً من كتف شاة، (ثم صلى ولم يتوضأ) يعني: أنه ترك الوضوء مما مست النار، فدل هذا على أن أكل ما مست النار من غير الإبل لا يتوضأ منه.
عبد الله بن مسلمة مرّ ذكره.
[حدثنا مالك ].
هو مالك بن أنس، الإمام المشهور بإمام دار الهجرة.
[ عن زيد بن أسلم ].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عطاء بن يسار ].
عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عباس ].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود رحمه الله حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: (ضفت النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: صرت ضيفاً عنده، (فأمر بجنب فشوي -يعني: جنب شاة أو ذبيحة- وأخذ الشفرة فجعل يحز لي منها) يعني: لما قدمه أخذ الشفرة -وهي السكين العريضة أو الغليظة- فجعل يحز، يعني: يقطع من الجنب، منها ويعطي للمغيرة ، وهذا دليل على استعمال السكين في قطع اللحم، لاسيما إذا كان حاراً أو كان كثيراً، فكونه يستعمل السكين للحاجة فلا بأس بذلك، فإذا كان المقصود منه أمراً اقتضى هذا فلا بأس باستعمال السكين، وقد جاء في بعض الأحاديث المنع من ذلك، لكنه لم يثبت، ولعل ذلك إن ثبت محمول على من يترفع أو يستكبر، وأنه لا يأكل بيده، ولا يريد أن تمس يده الطعام وإنما يريد أن يقطع بالسكين عند أكله.
فاستعمال السكين عند الحاجة لا بأس به، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحديث فيه خدمة الضيف أيضاً، والتقديم له، وكون المضيف يقطع اللحم، ويجعله في جهة ضيفه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحز للمغيرة ، يعني: يقطع له ويضعه في جانبه.
ثم إن مثل هذا العمل يمكن أن يفعله الناس بعضهم ببعض، ولاسيما مع الكبير؛ لأنه جاء عن أنس بن مالك رضي الله أنه أكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً وكان فيه دباء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الدباء، فكان النبي صلى الله عليه وسلم تمتد يده إلى شيء فوق الجهة التي يأكل منها، فلما رآه يرغب في الدباء، وأنه يعجبه؛ جعل يأخذ ويلقيه في الجهة التي تليه صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (يحز لي) فيه دليل على إكرام الضيف فكما يقدم له الطعام أيضاً يقطع ويعطيه ويناوله أو يضع في جهته التي يأكل منها.
قوله: [ (فجاء
يعني: جاء بلال فأعلمه بأن الناس ينتظرون وسيقيم الصلاة، فقال: (ما له تربت يداه؟ وألقى الشفرة)، وقوله: (تربت يداه) هذه كلمة اعتادوا أن يقولوها، وهي من الكلام الذي يجري على الألسنة، مثل: لا والله، وبلى والله، فمثل هذا الكلام لا يحتاج إلى كفارة، وإنما يجرى على الألسنة فلا يؤاخذ به الناس، وهذه أيضاً مثل قولهم: عقرى حلقى، وقولهم: ثكلتك أمك، وتربت يداك، وغير ذلك من الألفاظ التي كانوا يستعملونها وهم لا يريدون مقتضاها ومعناها، وأنهم يدعون على من فعلها.
وقوله: (ما له؟) يعني: أعجلنا (فألقاها وقام إلى الصلاة)، قال بعض أهل العلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قدم الطعام وأقيمت الصلاة فإنه يبدأ بالطعام)، والرسول صلى الله عليه وسلم هنا ترك الطعام وألقى الشفرة ومشى، قالوا: فهذا يحمل على من كان إماماً؛ لأن الناس ينتظرونه، فالأمر بأن يجلس على المائدة ويأكل هو فيما إذا كان مأموماً وهو بحاجة إلى الطعام، لاسيما إذا كان صائماً, والنفس متعلقة بالطعام فإنه قد يشوش.
وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قد أكل، وحصل منه ذلك، سواء كان صائماً أو غير صائم، المهم أنه وُجد منه الأكل، فمنهم من قال: إن هذا يحمل على أنه كان إماماً، والإمام ليس له أن يتأخر عن الناس، بل عليه أن يأتي لكي يصلي بهم، والمأموم هو الذي له أن يجلس ويأكل حتى يفرغ من الطعام.
قوله: [ زاد الأنباري : (وكان شاربي وفى فقصه لي على سواك) ].
الأنباري هو أحد الشيخين لـأبي داود ، زاد أمراً آخر خارجاً عن قضية الأكل أو ترك الوضوء مما مست النار، فالنبي صلى الله عليه وسلم قام وصلى ولم يتوضأ، وهذا هو محل الشاهد.
وقوله: (وكان شاربي وفى) يعني: قد طال، وكان ينزل عن شفتيه، قال: (فقصه لي على سواك) يعني: أنه وضع السواك على الشفة وقص ما فوق ذلك، وفي لفظ آخر -وهو شك من الراوي-: (أو قال: أقصه لك) يعني: في بعض الروايات: أنه قصه، وفي بعضها: قال: (أقصه لك)، يعني: أنه يستفهم منه أو يستأذنه في أن يقصه له.
وهذا يدل على سنة وهي قص الشوارب، وهي من سنن الفطرة، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن مر بنا ذلك.
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره.
[ ومحمد بن سليمان الأنباري ].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[ المعنى، قالا: حدثنا وكيع ].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن مسعر ].
هو مسعر بن كدام، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي صخرة جامع بن شداد ].
أبو صخرة جامع بن شداد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن المغيرة بن عبد الله ].
المغيرة بن عبد الله ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي .
[ عن المغيرة بن شعبة ].
المغيرة بن شعبة هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
قد سبق ذكر بعض الأحاديث التي اشتملت عليها الترجمة، وهي ترك الوضوء مما مست النار.
وقد ذكرنا أن أبا داود رحمه الله ذكر الأحاديث التي فيها الترك، ثم ذكر بعدها الأحاديث التي فيها الوضوء مما مست النار، وأن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، وعلى هذا فيكون الوضوء مما مست النار قد نُسخ، وأنه لا يحتاج إلى وضوء من أكل ما مسته النار، ولا يستثنى من ذلك إلا لحوم الإبل؛ لأنه قد ورد فيها بعض الأحاديث التي تخصها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من أكلها، وأما ما سواها فإنه لا يتوضأ من أكله.
وهذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتفاً ثم مسح يده بمسح وصلى ولم يتوضأ)، وهذا كغيره مما تقدم من الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل شيئاً مسته النار، ثم صلى ولم يتوضأ، وهذا إنما هو في غير الإبل كما ذكرنا، وأما الإبل فإن الأكل منها يوجب الوضوء، وفي الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم أكل كتفاً ومسح يده بمسح -أي: بكساء- ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ) فدلنا هذا على أن الوضوء مما مست النار ليس لازماً، وأن الوضوء كان أولاً، ثم نسخ إلى الترك كما سيأتي مبيناً في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
هو ابن مسرهد البصري ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[حدثنا أبو الأحوص ].
هو سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سماك ].
هو سماك بن حرب، وهو صدوق، وفي حديثه عن عكرمة اضطراب، أخرج حديثه البخاري تعلقاً ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، وهنا يروي عن عكرمة .
[ عن عكرمة ].
وهو مولى ابن عباس ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وروايته عن ابن عباس هنا لا تؤثر؛ لأنها متفقة مع أحاديث كثيرة، كلها جاءت في ترك الوضوء مما مست النار، فكون رواية سماك عن عكرمة فيها اضطراب فلا يؤثر ذلك على روايته هذه؛ لأن هذه الرواية مطابقة لروايات عديدة ولأحاديث عديدة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك الوضوء مما مست النار.
[عن ابن عباس ].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
وهو أيضاً أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله الأنصاري وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس من طريق أخرى، وهي مثل التي قبلها من حيث المعنى.
وقوله: (انتهش من كتف) يعني: أكل، وقوله: (ثم صلى ولم يتوضأ) أي: أنه ترك الوضوء مما مست النار، فهو مثل الذي قبله مما تقدم من الأحاديث.
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي .
[حدثنا همام ].
هو همام بن يحيى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن قتادة ].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن يحيى بن يعمر ].
يحيى بن يعمر ثقة يرسل، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عباس ].
ابن عباس قد مر ذكره.
وفي بعض النسخ: (انتهس) بالسين المهملة، وهذه النسخة فيها (انتهش)، فقيل: إن أحدها في الأضراس، والثاني في الأسنان.
أورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه قال: (قربت للنبي صلى الله عليه وسلم لحماً وخبزاً فأكل، ثم دعا بوضوء -وهو الماء الذي يتوضأ به- فتوضأ وصلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه، وأكل منه ثم صلى ولم يتوضأ) .
وهذا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أكل اللحم توضأ، ثم أكل فضل طعامه وصلى ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار؛ لأنه أولاً توضأ ثم بعد ذلك ترك الوضوء ولم يتوضأ، ومعلوم أن هذا خاص في غير الإبل كما أسلفت، وحيث إن الإبل قد جاء فيها حديثان عن صحابيين، فيهما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل، وأما الغنم فقال: (إن شئتم) في بعض الروايات، وقال: (لا تتوضئوا) في بعض الروايات.
وهنا ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أكل لحماً وخبزاً ثم توضأ وصلى، ثم دعا بفضل طعامه، ثم أكل ولم يتوضأ للصلاة) وهذا فيه الدليل على أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ترك الوضوء مما مست النار، فيكون ذلك ناسخاً، وقد سبق أن الإمام مسلماً رحمه الله ذكر في كتابه الصحيح الأحاديث التي فيها الوضوء مما مست النار، ثم عقبها بالأحاديث التي فيها ترك الوضوء مما مست النار، وقال النووي في شرحه: إن هذه طريقة مسلم : حيث يبدأ بالأحاديث المنسوخة ثم يعقبها بالأحاديث الناسخة.
ثم إن الحديث فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد إلى طعامه، وهذا فيه دليل على أن العودة إلى الطعام فيما إذا كان الإنسان بحاجة إليه لا بأس بذلك، وأن الإنسان يمكن أن يأكل ثم يعود إلى الأكل بعد ذلك لاسيما إذا كان قد ترك الأكل لكونه قام إلى الصلاة، فإنه بعد ذلك يعود إلى طعامه ويأكل منه، وهذا الحديث يدلنا على جواز العود إلى الأكل، أو إلى فضل ما أبقاه الإنسان وما أكله من قبل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ثم توضأ وصلى، ثم عاد وأكل من فضل طعامه الذي بقي، ثم صلى ولم يتوضأ.
هو إبراهيم بن الحسن الخثعمي المصيصي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .
[حدثنا حجاج ].
هو ابن محمد المصيصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال ابن جريج ].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وهو ثقة يرسل ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني محمد بن المنكدر ].
محمد بن المنكدر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت جابر بن عبد الله ].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود : وهذا اختصار من الحديث الأول ].
أورد أبو داود رحمه الله حديث جابر من طريق أخرى، وفيه: أنه قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار)، والمراد بهذه الجملة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حصل منه الوضوء مما مست النار، وحصل منه ترك الوضوء مما مست النار، ولكن الترك هو الأخير، فيكون ناسخاً للأول، وعلى هذا يكون الأخير هو الذي يُعمل به؛ لأنه هو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الترك ناسخاً للفعل الذي هو الوضوء؛ نسخه كون النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء، فآخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ترك الوضوء مما مسته النار؛ لأنه كان يتوضأ أولاً مما مست النار، ثم بعد ذلك ترك الوضوء مما مست النار، إلا لحوم الإبل كما سبق.
موسى بن سهل أبو عمران الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .
[حدثنا علي بن عياش ].
علي بن عياش ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا شعيب بن أبي حمزة ].
شعيب بن أبي حمزة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن محمد بن المنكدر عن جابر ].
محمد بن المنكدر وجابر قد مر ذكرهما.
وقوله: [ قال أبو داود : هذا اختصار من الحديث الأول ].
الحديث الأول فيه: أنه أكل ثم دعا بوضوء وتوضأ، ثم بعدما صلى عاد وأكل فضل طعامه، ثم صلى ولم يتوضأ، فكان من رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء أولاً ثم الترك آخراً، والحديث الأخير اختصار له؛ لأن جابر رضي الله عنه يقول: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار) يعني: أنه وجد منه الوضوء قبل صلاة الظهر، فإنه أكل ثم توضأ وصلى، وبعد صلاة الظهر أكل بقية طعامه الذي هو لحم وخبز، ثم صلى ولم يتوضأ، فصار الترك هو الآخر.
فالحديث الثاني اختصار له؛ لأنه قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار).
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة أو سادس ستة في دار رجل، فجاء
والمقصود هنا: أنه لم يتوضأ لتلك القطعة من اللحم التي أكلها، فكان الذي دل عليه هو الترك، ولكن الحديث فيه ضعف، وفي معناه شيء من النكارة من جهة أنه كان يعلكها حتى أحرم بالصلاة، لكن معناه من حيث ترك الوضوء مما مست النار قد ثبت في أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها حديث جابر وغيره من الأحاديث المتقدمة التي ذكرها أبو داود رحمه الله قبل.
هو أحمد بن عمرو السرح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[حدثنا عبد الملك بن أبي كريمة ].
عبد الملك بن أبي كريمة صدوق، أخرج حديثه أبو داود وحده، وقال فيه أحمد بن أبي السرح : هو من خيار المسلمين، وهذه تزكية وثناء على شيخه ابن أبي كريمة .
[حدثني عبيد بن ثمامة المرادي ].
عبيد بن ثمامة المرادي مقبول، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[قال: قدم علينا مصر عبد الله بن الحارث بن جزء ].
عبد الله بن الحارث بن جزء هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر