باب التحريض على النكاح.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه قال: إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بمنى إذ لقيه عثمان رضي الله عنه فاستخلاه، فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة قال لي: تعال يا علقمة . فجئت فقال له عثمان : ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن! بجارية بكر لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد؟ فقال عبد الله : لئن قلت ذاك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) ].
قوله: [ كتاب النكاح ] النكاح في اللغة: هو الضم والتداخل، يقال: تناكحت الأشجار إذا تداخلت وانضم بعضها إلى بعض، وفي الاصطلاح: هو عقد بين زوجين يحل به الوطء، والوطء شرعاً لا يجوز إلا بأحد طريقين: أحدهما: الزواج، والثاني: ملك اليمين، قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ المؤمنون:5-7 ]، فالذي شرعه الله عز وجل في ذلك أمران اثنان لا ثالث لهما، وهما الزواج وملك اليمين، وما سوى ذلك فهو من العدوان، وهو من الخروج عن الحق إلى ما سواه.
وعقد المصنف رحمه الله باب التحريض على النكاح، والتحريض: هو الحث عليه والترغيب فيه، وأورد حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
والحديث حدث به عبد الله بن مسعود بمناسبة ذكرت في الحديث، وهي أن علقمة بن قيس النخعي قال: كنت أمشي مع عبد الله بن مسعود فدعاه عثمان في منى واستخلاه، يعني: خلا به فلم يكن معهما ثالث، فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة دعا علقمة فجاء وجلس معهما، وقال عثمان رضي الله عنه لـعبد الله : [ يا أبا عبد الرحمن ! ألا نزوجك بجارية بكر لعله يرجع إليى من نفسك ما كنت تعهد؟! -يعني: من النشاط- فقال: لئن قلت ذاك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) ].
وهذا الذي ذكره علقمة مما حصل بين عثمان وابن مسعود من الخلوة والانفراد والتحدث ثم قال: [ فلما رأى أن ليس له حاجة ] جاء في بعض الشروح أنَّ معناه: أنه ليس له حاجة في النكاح، وليس هناك شيء من الروايات يدل على هذا المعنى، والذي يظهر هو خلاف ذلك، وهو أنه لما رأى أن الكلام الذي بينهما قد انتهى ولم يبق هناك حديث يكون سراً بينهما دعا علقمة ليجلس بينهما؛ لأن المقصود من الانفراد قد انتهى، فلم يكن هناك حاجة إلى أن يبقيا منفردين، فدعا علقمة فجاء وجلس معهما، وبعد جلوسه معهما قال عثمان رضي الله عنه لـعبد الله بن مسعود -وهو أبو عبد الرحمن -: يا أبا عبد الرحمن ! ألا نزوجك بكراً لعله يرجع إليك ما كنت تعهد من نفسك؟ ثم إن عبد الله حدث بالحديث بهذه المناسبة.
يقول العلماء في علم المصطلح: إن الحديث إذا كانت له قصة فإنها تدل على ضبط الراوي، فالراوي ضبط الحديث وضبط معه القصة التي كانت فيه، فـعلقمة ضبط القصة وحدث بالمناسبة التي جرت وحصلت وعلى أثرها جاء التحديث بالحديث، فهذا من الأمور التي تدل على ضبط الراوي لما رواه.
ومثله قول ابن عمر رضي الله عنه: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فكونه يتذكر الهيئة التي حدثه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عليها -وهي وضع يده على منكبه- يدل على ضبطه للحديث.
قوله: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج): الباءة: هي النكاح وما يلزم له، وذلك بأن يكون عنده قدرة على أن يقضي شهوته بالزواج، فمن كان عنده قدرة على النكاح وعلى الزواج فعليه المبادرة إلى ذلك ولا يتخلف؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام حث ورغب وحرض على الزواج، وبعض الناس من الشباب أو الشابات قد يتعذرون في بعض الأحوال بأن الزواج قد يؤخرهم أو يكون سبباً في التأخر في الدراسة، فيترك أحدهم الزواج حتى يفرغ من الدراسة، وهذا ليس بصحيح، بل قد يكون الزواج سبباً من أسباب القوة والنشاط في الدراسة، وذلك لأنه يصرفك عن التفكيرات التي كنت تفكر بها فيما يتعلق بالزواج، فيكون عنده الإحصان والعفة، وعنده غض البصر، فيكون ذلك من أسباب نشاطه وقوته في الدراسة، وأما بالنسبة للشابات فإنه قد يكون الأمر في حقهن أخطر فيما يتعلق بالتأخير؛ لأن الفتاة إذا كانت في سن الشباب وفي السن الذي يطلب فيه زواجها ويرغب الشباب والرجال فيها ثم تأخرت عن ذلك وردت الكفؤ لأجل أن تكمل الدراسة فإنها قد تجلب على نفسها خسارة فادحة وخسارة عظيمة، وهي أنها تنصرف الرغبة عنها؛ لأنها تقدمت بها السن، ولأنها مضى عليها وقت ولم تتزوج، والوقت الذي يرغب فيها فيه قد فوتته على نفسها، فعند ذلك تضطر إلى أن تتزوج من شخص لا يكون محل رغبة عندها؛ لأنها فوتت الفرصة على نفسها، فتصبح ضرة شريكة بعد أن كان بإمكانها أن تنفرد بزوج، فترتب على ذلك حصول أضرار لها.
فالحاصل أن المبادرة إلى الزواج مطلوبة، فالشاب عليه أن يبادر إلى الزواج متى استطاع إليه سبيلاً، والفتاة إذا تقدم لها كفؤ فإن عليها المبادرة إلى الزواج وعدم التأخير.
قوله: (وأحصن للفرج) يعني: أن الإنسان يحصل له بالزواج عفة وإحصان الفرج؛ وذلك قضاء الشهوة وقضاء الوطر، فيكون بذلك قد ظفر بمطلوبه على الوجه المشروع، وسلم من أن يتعرض لأمر محرم، سواءٌ أكان وسيلة أم غاية، فالوسيلة المحرمة هي النظر، كما في الحديث: (العين تزني وزناها النظر) والغاية المحرمة الوقوع في الفاحشة والعياذ بالله.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين عظم فائدة الصيام في حق الشاب الذي لا يستطيع الزواج، فقال: (فإنه له وجاء) أي: هو بمثابة الخصاء، والوجاء قيل: هو رض الخصيتين، أي: أنهما لا يستفاد منهما ولا يحصل بسببهما رغبة في النساء، فهو قاطع ومضعف للشهوة، ويكون بمثابة الخصاء الذي يجعل الإنسان لا رغبة له في النساء.
فهذا هو المسلك والسبيل الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للتخلص من ذلك الضرر والبلاء الذي قد يحصل للإنسان نتيجة لقوة الشهوة من الاندفاع إلى المحذور والمحرم.
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن ماجة .
[ حدثنا جرير ].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الأعمش ].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن إبراهيم ].
هو إبراهيم ين يزيد بن قيس النخعي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن علقمة ].
هو علقمة بن قيس النخعي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود ].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهنا مسألة وهي: هل لفظ النكاح يطلق على الوطء أو على العقد؟
الجواب: النكاح قيل: إنه يطلق على العقد، وقيل: إنه يطلق على الوطء، وقيل: إنه مشترك بينهما.
فمن العلماء من قال: إنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، ومنهم من عكس، والذين يقولون: إن اللغة ليس فيها مجاز يقولون: إنه يطلق كثيراً على كذا ويطلق قليلاً على كذا، وكله إطلاق لغوي صحيح.
ومنهم من قال: إنه يطلق بالاشتراك، فهو لفظ واحد يطلق على هذا وعلى هذا، كما يطلق لفظ القرء على الطهر والحيض، وكما يطلق لفظ (عسس) على أقبل وأدبر، وهي من الألفاظ المتضادة، وكما يطلق اسم العين على العين الجارية والعين الباصرة وعلى النقد، فهذا يسمونه مشتركاً لفظياً.
وقد رجح بعض أهل العلم أنه حقيقة في العقد، وقال: إنه لم يأت في القرآن إلا بمعنى بالعقد غالباً، وقد جاء بمعنى الوطء في آية، وهي قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ البقرة:230 ].
وقالوا: إن الذي جاء في السنة من تفسير النكاح بأن المقصود به ذوق العسيلة إنما هو زيادة إيضاح وبيان على العقد، وإلا فإن العقد موجود، ولكن بينت السنة أنه لا يتم حلها للأول إلا إذا وطئها الثاني، وأن مجرد العقد لا يكفي، بل لابد من أن تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها كما جاء في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من قال: إنه حقيقة في الوطء؛ لأنه هو الذي يكون به المقصود، وبه حصول الغاية وحصول المطلوب.
وقد ترجم الإمام أبو داود للباب فقال: باب التحريض على النكاح، والتحريض هو الحث، ولم يذكر له حكماً من الأحكام التكليفية الخمسة، والعلماء على أن الزواج إنما هو من الأمور المستحبة، وبعض أهل العلم قال: إنه يجب إذا خاف العنت، وأما إذا لم يخف العنت فإنه لا يجب عليه. وكثير من أهل العلم يقولون: إنه لا يجب عليه ولو خاف العنت، ويعتبرونه مستحباً.
وقول علقمة : (إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى) يمكن أن يكون في الموسم، لكن هذا يكون بعد التحلل الأخير، فبعد التحلل الأخير يحل للمحرم كل شيء حرم عليه بالإحرام، ومعلوم أن الحاج إذا رمى في يوم العيد وحلق وطاف وسعى إذا كان عليه سعي فإنه بعد ذلك يجامع ولو كان في منى.
قول علقمة في حديثه: (فاستخلاه) يقصد عثمان مع عبد الله بن مسعود ، وقد جاء النهي عن تناجي اثنين دون الثالث، ومعلوم أنهما لم يكونا جالسين وإنما كانا يمشيان فدعاه عثمان ، وهذا بخلاف ما لو كانا جالسين فيتناجى اثنان دون الثالث؛ لأن ذلك يشق عليه، لكن كانا يمشيان فإنه يختلف عن أن يكونا جالسين.
ومعنى قول عثمان لـعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما: (لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد) أي: النشاط الذي كان في شبابه، أي: لعله ينشط إذا رأى الشابة ورأى الجارية، فينشط ويعود إلى نشاطه الأول الذي كان يعرف، وهذا يدل على أنه قال له ذلك وهو ليس بشاب؛ لأنه قال: (ما كنت تعهد) يعني: في حال شبابك، فالكلام كان مع كبير وليس مع شاب، ولهذا قال: (لعله يرجع إليك ما كنت تعهد من نفسك).
وهذا يدل على أنه لا يعاب الزواج في الكبر، فـسويد بن غفلة تزوج وهو فوق المائة، ولكن يتزوج بامرأة بينه وبينها سنوات، لا أن تكون صغيرة، بل تكون امرأة قد انقطع منها النسل أو أنها تنجب لكن تكون كبيرة في العمر.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد - قال: حدثني عبيد الله قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تنكح النساء لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) ].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [ باب ما يؤمر به من تزويج ذات الدين ]، أي: أن الإنسان يتزوج ذات الدين؛ لأن هذا هو المهم في الأمر، فالأمور الأخرى إذا جاءت مع عدم الدين فلا تكون فائدتها كبيرة، فالمهم هو الدين، وما جاء مع الدين فهو خير وبركة، وإذا وجد الفسق مع وجود الصفات الأخرى فإن هذا خلل كبير ونقص عظيم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: [ (تنكح النساء لأربع: لجمالها، ولحسبها، ولمالها، ولدينها) ] هذا إخبار عن الأمور التي تدفع إلى الزواج؛ لأن الجمال من الدوافع، والمال من الدوافع، والحسب من الدوافع، والدين من الدوافع، ولكن المهم في الأمر هو الدين؛ لأن الدين إذا وجد وانضاف إليه أمور أخرى حسنة كان ذلك خيراً على خير، وإذا فقد الدين أو ضعف الدين وضعف الإيمان فإن تلك الأمور لا تصلح وليست لها أهمية؛ إذا يمكن عند عدم الدين الوقوع في أمور محرمة منكرة، لكن الدين هو الذي يمنع من الوقوع في المعاصي، فلهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الدوافع التي تدفع الناس إلى الزواج بالنساء، وأن منها الجمال، ومنها المال، ومنها الحسب، ومنها الدين، ثم إن المسلم أُرشِد إلى العناية والحرص على الظفر بذات الدين، قال صلى الله عليه وسلم: [ (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ].
وهذا هو محل الشاهد من قوله: [ ما يؤمر به من تزويج ذات الدين ]؛ لأن فيه (اظفر): فهو أمر بالزواج بذات الدين والظفر بها، فهذا هو الذي يطابق الترجمة.
وقوله: (تربت يداك) هو من الكلمات التي تقال ولا يقصد معناها، والمقصود من ذلك أنه يجدّ ويجتهد في الوصول والظفر بذات الدين.
ومعنى الحسب هنا قيل: أن تكون من أهل بيت ذوي شرف ومكانة ومنزلة وسؤدد في قومهم، فهذا من الأشياء التي ترغّب في المرأة، والمهم في الأمر هو الأخير وهو الدين، وهو مسك الختام الذي أرشد إليه وأمر به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
هو مسدد بن مسرهد البصري ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد - ].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثني عبيد الله ].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثني سعيد بن أبي سعيد ].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبيه ].
هو أبو سعيد المقبري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي هريرة ].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتزوجتَ؟ قلت: نعم، قال: بكراً أم ثيباً؟ فقلت: ثيباً، قال: أفلا بكراً تلاعبها وتلاعبك؟) ].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [ باب في تزويج الأبكار ] يعني: تزوّج الأبكار؛ لأن الأبكار في حال شبابهن تخلو قلوبهن من التعلق بأحد، فيكون في ذلك كمال المودة، وإذا كانت ثيباً فقد يكون هناك تعلق منها بالزوج الأول، وقد يكون هناك شيء من الوحشة بينها وبين الزوج الثاني، فتكون البكر خالية من أن تكون متعلقة بأحد، فيكون هذا زيادة في كمال المتعة واللذة بها؛ لصفاء وسلامة قلبها من أن يكون فيه تعلق بأحد.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أنه تزوج فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [ (أتزوجت؟ قلت: نعم، قال: بكراً أم ثيباً؟ فقلت: ثيباً، قال: أفلا بكراً -أي: أفلا تزوجت بكراً- تلاعبها وتلاعبك)، وسبب تزوج جابر رضي الله عنه ثيباً أن والده استشهد في غزوة أحد وترك بنات، فأراد أن يأتي لهن بامرأة كبيرة تحسن رعايتهن والعناية بهن، فآثر مصلحة أخواته على مصلحته رضي الله عنه وأرضاه، فلم يأتِ بواحدة مثلهن في عدم الخبرة والمعرفة والعناية بالبنات، وإنما أتى بامرأة تكبرهن في السن حتى تكون لهن بمثابة الأم، فترعاهن وتمشطهن وتحسن رعايتهن وتقوم بما يلزم من شئونهن، فاختار مصلحة أخواته على مصلحة نفسه، ومحل الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى تزوج البكر فقال: [ (أفلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) ].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا أبو معاوية ].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا الأعمش ].
الأعمش مر ذكره.
[ عن سالم بن أبي الجعد ].
سالم بن أبي الجعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن جابر بن عبد الله ].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود : كتب إلي حسين بن حريث المروزي قال: حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: غربها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي، قال: فاستمتع بها) ].
أورد أبو داود باباً في النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، وهذه الترجمة المقصود بها أن الزواج إنما يكون لحصول الولد وكثرة النسل مع العفة وغض البصر الذي سبق أن مر في حديث ابن مسعود : (فإنه أحصن للفرج، وأغض للبصر).
وهنا أيضاً بيان أنَّ من الأمور التي تترتب على الزواج حصول النسل وحصول الولد، والولد لا سبيل إلى حصوله إلا بالزواج وملك اليمين، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى تزوج الودود الولود، وأخبر أنه مكاثر بهذه الأمة الأمم يوم القيامة.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [ (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن امرأتي لا ترد يد لامس، قال: غربها) ] يعني: أبعدها، وذلك أن يطلقها ويتخلص منها، وفي بعض الروايات عند غير أبي داود : (طلقها)، (قال: أخشى أن تتبعها نفسي) ] يعني: أن يتعلق بها، وقد يطلبها بطريق محرم، [ (فقال: أمسكها) ].
وهذا الحديث لا تظهر دلالته على الترجمة في النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، ويناسبه الباب الذي سيأتي فيه ذكر حكم الزواج بالزانية.
التفسير الأول: أنها تستسلم وتنقاد لمن أراد منها الفاحشة.
التفسير الثاني: أن ذلك في بذلها وإعطائها وتبذيرها، فالذي يريد منها مالاً أو غيره فإنها تخرج ما عندها.
التفسير الثالث: أنها رجلة، فعندها توسع في مخاطبة الرجال والكلام معهم ولا تبتعد عن الرجال، وقد يلمسها الرجال مجرد لمس من دون أن يكون هناك فاحشة، وعلى كل كونها تتوسع في مخاطبة ومخالطة الرجال هذا أمر معيب في النساء.
وقد أرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يطلقها ويتخلص منها، وجاء في بعض الروايات عند غير أبي داود : (طلقها، قال: أخشى أن تتبعها نفسي، قال: أمسكها).
وقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على أنه يجوز للإنسان -وذلك على التفسير الأول- أن يبقي المرأة الزانية عنده، ومنهم من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقره على إبقاء امرأة غير عفيفة تلوث فراشه، وإنما المقصود من ذلك أنها عندها توسع في مخالطة الرجال ولا تهتم بالابتعاد عنهم، ولعل هذا هو الأقرب؛ لأن كون الرسول يأمره بأن يمسكها وهي زانية فيه ما فيه، فالعفيف لا يتزوج الزانية وإن كان هذا ليس تزوجاً وإنما هو إبقاء على الزواج.
وقال بعض أهل العلم: إن هذا فيه إبقاء، وهناك فرق بين الاستدامة وبين الابتداء، لكن لا شك في أن المرأة إذا كانت متصفة بالفاحشة وغير تائبة فليس من اللائق بالمسلم أن يمسك من تكون كذلك بحيث تلوث فراشه.
فعلى هذا يحمل -والله تعالى أعلم- على أن المقصود من ذلك التفسير الثالث وهو: أنها ليست لديها صيانة لنفسها من ناحية التبذل ومخاطبة الرجال والتوسع في ذلك.
هذا فيه دليل على المكاتبة وأنها معتبرة، وأنها من طرق التحمل، وهي طريقة معتبرة سواء في أوائل الأسانيد بين المؤلفين وبين شيوخهم، أو في أعلى الأسانيد، وفي الذكر بعد الصلاة قال: كتب معاوية بن المغيرة بن شعبة فأملى وراد : يعني أملى المغيرة على وراد بالإجابة.
فالمكاتبة معتبرة، وهي من طرق التحمل، وهذا الحديث عند أبي داود منها، قال: كتب إلي الحسين بن حريث، وقد جاء عند البخاري في موضع واحد في صحيحه: كتب إلي محمد بن بشار، وقد ذكرت هذا في ضمن الفوائد المنتقاة من فتح الباري، وهناك كتب أخرى ذكرت الموضع الذي ذكره البخاري فيه، وهو الموضع الوحيد، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ليس عنده شيء بالمكاتبة بينه وبين شيوخه إلا في هذا الموضع الذي قال فيه: (كتب إلي محمد بن بشار ).
وهذا مثل قول أبي داود هنا: [ كتب إلي الحسين بن حريث ].
الحسين بن حريث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .
[ حدثنا الفضل بن موسى ].
هو الفضل بن موسى المروزي السيناني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الحسين بن واقد ].
الحسين بن واقد ثقة له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن عمارة بن أبي حفصة ].
عمارة بن أبي حفصة ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن، وعمارة بن أبي حفصة هذا هو والد حرمي بن عمارة بن أبي حفصة الذي سبق أن مر بنا في حديث ابن عمر : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وسبق أن أشرنا إلى الفائدة التي ذكرت في التقريب في اسمه، وكذلك ذكرها -الحافظ - في (فتح الباري)، وقال: وأبو حفصة اسمه نابت بالنون، وقيل: كالجادة. يعني: ثابت. أي أن التسمية بـ(نابت) قليلة، والتسمية بـ(ثابت) كثيرة، ويأتي التصحيف بين (نابت) و(ثابت) بأن يترك القليل ويؤتى بالكثير وهو ثابت، ولهذا صحفه بعضهم فقال: ثابت، ففي ترجمة حرمي بن عمارة قال: وأبو حفصة اسمه نابت وقيل: بل كالجادة. يعني أن اسمه (ثابت)، وفي ترجمة عمارة في (التقريب): وهو بالنون، وقيل: بالمثلثة، وهو تصحيف كما ذكر ذلك الفلاس .
فالتسمية بـ(ثابت) هو الجادة، أي: الذي يكون سهلاً على الألسنة وعلى ما تألفه النفوس لكثرته، بخلاف القليل فإنه قد لا يتنبه له فيظن أنه ليس بصحيح، وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[ عن عكرمة ].
هو عكرمة مولى ابن عباس ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عباس ].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وهو مطابق للترجمة: فيما جاء في النهي عن زواج من لا تلد، قال معقل بن يسار جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال) ]، هذه من الأمور التي ترغب الناس في النساء، كما مر: (تنكح المرأة لأربع: لحسبها، ولجمالها، ولمالها، ولدينها)، قال: فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعاد عليه فنهاه، ثم قال: [ (تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).
فعلى المسلم إذا أراد أن يتزوج أن يبحث عن النسل ولا يتزوج امرأة لا تلد، وقد يعرف أنها لا تلد بكونها قد تزوجت عدة مرات ولم تنجب، وتزوج أزواجها غيرها وأنجبوا، فهذا مما يستدل به على عدم الإنجاب وأنها عقيم، فأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تزوج الولود الودود، والولود هي كثيرة الولادة، والودود هي ذات التودد إلى الزوج، ويعرف ذلك بقياس المرأة بقريباتها كأخواتها وأمهاتها وعماتها وخالاتها، ومن يكون من بيتها، وقد يعرف ذلك منها بكونها تزوجت وأنجبت، وعرف أنها ذات مودة، ولكن الذي تزوجها تركها لأمر، أو مات عنها، أو ما إلى ذلك، فيعرف كونها ولوداً إما بحصول ذلك بالفعل، أو أن تتزوج بكراً فتقاس على أخواتها وعلى لداتها.
قوله: (فإني مكاثر بكم الأمم)، أي: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن تكون أمته أكثر الأمم يوم القيامة.
هو أحمد بن إبراهيم الدورقي البغدادي ، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة .
[ حدثنا يزيد بن هارون ].
هو يزيد بن هارون الواسطي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا مستلم بن سعيد ابن أخت منصور بن زاذان ].
مستلم بن سعيد صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب السنن.
قال أبو داود : [ حدثنا الحسن بن علي قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: رأيت مستلماً فكان يقع يمنة ويسرة. قال الحسن بن علي : لم يضع جنبه إلى الأرض أربعين سنة.
قال أبو داود : مستلم بن سعيد ابن أخي وابن أخت منصور بن زاذان مكث سبعين يوماً لم يشرب الماء ].
[ عن خاله منصور بن زاذان ].
منصور بن زاذان أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو ثقة، وقد ذكر في ترجمته أن أحد العلماء قال: لو قيل لـمنصور بن زاذان : إن ملك الموت بالباب ما كان بإمكانه أن يأتي بشيء جديد، ومعناه أنه مستعد للموت بعبادته واستقامته والتزامه، فلن يأتي بشيء جديد ولو كان ملك الموت بالباب.
وهذا يدل على فضله وعبادته، وهذه من الكلمات الجميلة التي تأتي في أثناء التراجم، والحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) يسوق في بعض التراجم كلاماً جميلاً عن أصحاب تلك التراجم إذا كان لهم كلام جميل، فيذكر ذلك مما فيه حكم وعبر وعظات، وهي كلمات عظيمة نافعة تكتب بماء الذهب لحسنها، وهي كلمات مضيئة جميلة تدل على معنى صحيح، وقد كان شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كثيراً ما يطلب (البداية والنهاية) ويقرأ في تلك التراجم ويبكي -رحمة الله عليه- إذا سمع تلك الكلمات الجميلة المؤثرة التي فيها عبر وعظات.
[ عن معاوية بن قرة ].
معاوية بن قرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن معقل بن يسار ].
هو معقل بن يسار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
الجواب: لا يقال: الأفضل هذا أو هذا، وإنما كتب العلم يكمل بعضها بعضاً، وفي هذا ما ليس في هذا، فعلى الإنسان أن يحرص على أن يقرأ في هذا وفي هذا؛ ليحصل على ما عند هذا وهذا من العلم، فقد يأتي في هذا ما ليس في ذلك، فكون الإنسان يقتني (سير أعلام النبلاء) للذهبي ، أو (يقتني البداية والنهاية)، أو يقتني غيرها من كتب التراجم فهذا أمر طيب، فعلى طالب العلم أن يحرص عليه؛ لأنَّ من أهم المهمات الوقوف على تراجم الرجال وأحوالهم ومنزلتهم من حيث الثقة والضعف، ومن حيث قبول الرواية وعدمه، وليس أمام الناس في هذا إلا كتب الرجال، فكتب الرجال هذه من المهمات في معرفة الرجال، فهي التي تعنى بذلك وتهتم به، فعلى الطالب أن يقتنيها حتى يقف على ما فيها من الكنوز المدفونة في هذه التراجم.
وقد يأتي في الكتاب أحياناً فوائد لا يحصلها الإنسان إلا بأن يقرأ الكتاب كاملاً فيحصلها أو يعثر عليها قدراً، وذلك في مثل كتاب (فتح الباري)، فكتاب (فتح الباري) ليس كتاب تراجم، ولكنه يشتمل على ذكر التراجم عندما يذكر الإسناد، فيعرف بالرجل بعبارات دقيقة ومختصرة، وهو مشتمل على علم جم، فالإنسان يحرص على كتب العلم، سواءٌ أكانت كتب رجال أم غيرها، وعليه أن يقرأها ويطلع على ما فيها من الحكم التي تحرك القلوب، وتؤثر في النفوس، والتي تجعل الإنسان يعرف ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الاستقامة وملازمة التقوى والعبادة، ومن الاشتغال بالعلم وبذله، فهناك كلمات عظيمة وكنوز مدفونة يجدها الإنسان في هذه الكتب، فالذي أوصي به هو اقتناء كتب الرجال، والعناية بها، ومطالعتها، والاستفادة منها؛ ففيها الخير الكثير.
الجواب: الذي يبدو أنه للكراهة وليس للتحريم؛ لأن هذه المرأة أيضاً هي بحاجة إلى ما يحتاج إليه النساء الأخريات، وإذا كان الله عز وجل لم يحقق لها إحدى النتائج والفوائد التي تترتب على النكاح فإنها لابد لها من ذلك حتى تغض البصر وتحصن الفرج، وهذا موجود عندها، وأما أن الزواج بها محرم لا يجوز فلا، وإنما المقصود به التنزيه.
الجواب: الحكام وغير الحكام لا يخلون من أمرين: إما أن يكون عندهم كفر وخروج من الملة، فهؤلاء لا يجوز أن يُصَلَّى وراءهم؛ لأن الكافر لا صلاة له ولا تصح صلاته؛ فلا تصح إمامته، وأما من لم يصل إلى حد الكفر وعنده فسق أو عنده بدع غير مكفرة فتصح صلاته وصلاة من وراءه؛ لأن من صحت صلاته صحت إمامته، فيُصَلَّى وراءه ولا يُنْفَرد عنه، وأما الكافر فلا يجوز أن يصلى وراءه؛ لأن صلاته غير صحيحة فصلاة من وراءه لا تكون صحيحة.
الجواب: الجرين هو المكان الذي يحرز فيه الثمر بعدما يجذ، فإنه يجمع في داخل بنيان ويوضع في الشمس ويجفف، كما أن المكان الذي يوضع فيه الحب والحنطة يسمى البيدر، فهذا يسمى البيدر وذاك يسمى الجرين، وكلها أماكن لحفظ الثمر بعد حصاده، وفيها يصفى وينقى ويتميز الحب عن غيره من القشور.
فإذا أُدخل في الحرز ثم جاء أحد وسرق منه قدر ثمن المجن فعليه القطع؛ لأنه سرق ما يقطع به من حرزه، فالجرين هو الحرز.
وقوله: (ثمن المجن) المجن هو آلة يتترس بها في الحرب، وهي جنة ووقاية، وأصله (مجنن) من أسماء الآلة، وقوله: (ثمن المجن) يعني: ما يبلغ ثمن المجن، قيل: إن قيمته ثلاثة دراهم، وهي ربع دينار.
الجواب: الأخوة بين المسلمين موجودة وقائمة ما دام أنهم لم يكفروا، ولهذا قال الله عز وجل: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [ الحجرات:9-10]، فالبدعة التي لم تصل إلى حد الكفر لا تمنع من الأُخوة الإسلامية، ولكنها أخوة فيها نقص ومعها بغض، ففيها محبة لما عندهم من الإيمان وبغض لما عندهم من الفسوق والعصيان.
الجواب: أهم شيء في الكفاءة هو الدين، فالعفيف يتزوج العفيفة، وهذا من التكافؤ في الدين، وبعض أهل العلم يقول: إن التزوج ممن يكون له سؤدد وله شرف ومنزلة هذا مما يرغب فيه، وهو من الأشياء التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها التي تدفع الناس إلى ذلك، وبعض أهل العلم يقول: إن العرب أكفاء للعرب، وإن الموالي لا يكونوا أكفاء لهم.
ولكن الحديث أرشد إلى شيء وهو الدين، فالمهم هو الدين وما سواه فأمره هين، لكن إذا كان عدم التكافؤ بين الموالي وبين العرب يترتب عليه فتن وشرور وتقاطع فالباب واسع بحمد الله، فعلى الإنسان أن يقدم على شيء لا محذور فيه ولا يترتب عليه فتنة، وإذا لم يترتب على ذلك شيء فإن المهم هو الدين، وما سوى ذلك فأمره سهل.
الجواب: لا بأس بذلك إذا لم تكن مرتكبة للفاحشة، فالعفيف لا ينبغي له أن يتزوج فاجرة؛ لأنها قد تلوث فراشه، وقد يحصل منها أمور منكرة، لكن إذا كان هناك نقص وخلل وأراد أن يصلحها فلكل امرئٍ ما نوى، ولكن كونه يختار له امرأة دينة وسليمة لا شك أنَّه هو الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ثم أيضاً قد تكون النتيجة عكسية، فقد تجره إلى شر ويكون كمن يريد أن يصطاد فيُصاد، ولهذا كان الزواج بالمسلمات وعدم التزوج بالكتابيات هو الأولى وإن كان التزوج بالكتابيات جائزاً، إلا أن الزواج بالمسلمة أولى من الزواج بالكتابية؛ لأن الكتابية يمكن أن يفيدها ويمكن أن تضره، وقد يكون بينهما أولاد ثم تكون فرقة، فيترتب على ذلك أضرار وأخطار.
[ باب في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً [النور:3].
حدثنا إبراهيم بن محمد التيمي حدثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها: عناق، وكانت صديقته، قال: (جئت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله! أنكح
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باب في قوله تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3] ].
هذه الآية الكريمة تدل على أن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وقد ذكر أبو داود هذه الترجمة وأورد هذا الحديث تحتها لبيان أن الزواج بالزانية لا يجوز؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
فمنهم من قال: إنه يجوز أن يتزوج العفيف بالزانية؛ لأنها من جملة إماء المسلمين وجملة الأيامى اللاتي قال الله تعالى فيهن: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، فيدخل في ذلك الزواني وغير الزواني.
وقال بعض أهل العلم: إن العفيف لا ينكح الزانية، وإنما ينكحها زانٍ مثلها، وقد جاء في الحديث الذي بعد هذا: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله)، فمعناه إذاً أن العفيف لا يتزوج الزانية، وأن الزاني له أن يتزوج الزانية؛ لأن اشتغالهما بالحلال خير من اشتغالهما بالحرام.
ومن العلماء من قال: إن هذه الآية الكريمة ليست في الزواج وإنما هي في الوطء، والمقصود بها أن الزاني لا يطأ زانية أو مشركة، أي: لا يزني إلا بزانية أو مشركة، فالمراد بالنكاح هنا الوطء؛ لأن الله قال: إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ قالوا: فقد جاء ذكر المشرك، والمشرك لا يمكن بحال أن يعقد على مسلمة، فلا يجوز للمشرك أن يتزوج مسلمة ولا يجوز للمسلمة أن ينكحها مشرك، فقالوا: فالنكاح هنا يراد به الوطء، وعلى هذا فالزاني لا يطأ إلا زانية، يعني: فاجرة مثله، أو مشركة لا تعترف بحلال ولا حرام، وكذلك العكس: وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ مثلها أَوْ مُشْرِكٌ لا يفرق بين الحلال والحرام، ويستحل الزنا.
قالوا: فذكر المشرك هنا يدل على أن المراد به الوطء.
ولكن الحديث الذي أورده المصنف هنا في سبب نزول الآية وهو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تلاها عليه وقال: [ (لا تنكحها) ] يدل على أن المقصود بذلك الزواج.
وقد تكلم شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى على هذه الآية في (أضواء البيان) وقال: إن هذه من أصعب المسائل؛ لأن القرينة التي في الآية تدل على أن المراد بالنكاح الوطء، وسبب النزول يدل على أن المراد بالنكاح الزواج، قال: والتخلص -يعني: من هذا الإشكال- صعب ولا يتم إلا بنوع من التكلف والتعسف، ثم أشار إلى شيء من ذلك وقال: إن النكاح يحمل على أنه مشترك في المعنيين، فيطلق على الوطء وعلى النكاح، فيكون المراد به النكاح باعتبار والوطء باعتبار.
ومعنى ذلك أنه إن قصد به الوطء في الزنا فذلك لدلالة ذكر المشرك عليه، فيكون المراد به الوطء لقرينة ذكر المشرك، والحديث الذي ورد بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن أن يتزوجها يدل على أن المراد بذلك الزواج، فتكون الآية تفسر بالمعنيين، فتحمل على المعنيين الذين يدل عليهما اللفظ بالاشتراك، وهما: الوطء والزواج.
والحاصل أن الزواج بالزانية من العفيف لا يجوز كما يدل عليه الحديث، وأما زواج الزاني بالزانية فإنه سائغ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله) في الحديث الآتي، وقوله: (المجلود) يعني: أنه ظهر زناه وتحقق لوجود الجلد فيه، فالزاني الذي تحقق زناه لا ينكح إلا مثله.
فالذي يظهر أن العفيف لا يتزوج الفاجرة الزانية، وأما الزاني فإنه يتزوجها بدلاً من أن يشتغلا بالحرام.
وأما الحديث ففيه أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحمل الأسارى من مكة إلى المدينة، وكان هناك بغي بمكة يقال لها: عناق، وكانت صاحبته، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في زواجها فتلا عليه الآية وقال له: [ (لا تنكحها) ] ، فيدل على أن العفيف لا يجوز له أن ينكح الزانية، وأن الزاني له أن ينكح الزانية التي تكون مثله، وأما المشرك فإنه لا يجوز له أن ينكح المسلمة مطلقاً لما جاء من نصوص الكتاب والسنة في ذلك.
والمراد بكون العفيف لا يتزوج الزانية هو قبل توبتها، وأما إذا تابت فالتوبة تجب ما قبلها، والله تعالى يتوب على من تاب، وللعفيف أن يتزوجها.
إبراهيم بن محمد التيمي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .
[ حدثنا يحيى ].
هو يحيى بن سعيد القطان ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبيد الله بن الأخنس ].
عبيد الله بن الأخنس صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عمرو بن شعيب ].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهو صدوق، أخرج له البخاري في (جزء القراءة) وأصحاب السنن.
[ عن أبيه ].
هو شعيب ، وهو صدوق أخرج له البخاري في (جزء القراءة) و(الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[ عن جده ].
هو جد شعيب ، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة : [ (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله) ] وهذا يدل على أن الزاني ينكح الزانية، وذلك في حال كونهما غير تائبين، وأما إذا كانا قد تابا فإن التوبة تجب ما قبلها، فالعفيف له أن يتزوج الزانية إذا تابت، وكذلك العكس.
وقوله: (المجلود) أي: الذي أقيم عليه الحد وتحقق زناه، وليس له مفهوم من ناحية أن الذي لم يجلد لا يكون كذلك بل هو مثله، فالمجلود وغير المجلود سواء، لكنه ذكر المجلود لأن به تحقق وجود الزنا، والجلد كفارة له، لكن إذا لم يتب كان كفارة عن الذنب الذي حصل منه فحسب، أما إذا أصر فلا يكفر الجلد إصراره ولا يزوج بالعفيفة، ولكن إن حصل أن زانياً عقد له على عفيفة فإنه يصلح العقد ولا يقال: إن العقد باطل، وإن كان ليس كفؤاً لها.
وأما العفيف فقد أجاز له كثير من العلماء الزواج بالزانية استدلالاً بقوله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ.. [النور:32].
هو مسدد بن مسرهد ، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ وأبو معمر ].
هو عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا عبد الوارث ].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن حبيب ].
هو حبيب المعلم ، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عمرو بن شعيب عن سعيد المقبري ].
عمرو بن شعيب قد مر ذكره، وسعيد المقبري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي هريرة ].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
[ وقال أبو معمر : حدثني حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب ].
يعني: أن اللفظ الذي ساقه هو على لفظ الشيخ الأول وهو مسدد ، ثم أخبر عن الشيخ الثاني، فالرواية عن أبي معمر جاءت بزيادة لفظ (المعلم) إضافة إلى حبيب ، وأيضاً الأول بلفظ (عن) وهنا بلفظ التحديث.
حدثنا هناد بن السري حدثنا عبثر عن مطرف عن عامر عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أعتق جاريته وتزوجها كان له أجران) ].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي [ باب في الرجل يعتق أمته ويتزوجها ] أي: أن ذلك صحيح وفيه أجر عظيم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي موسى : (كان له أجران) يعني: أجر على عتقه وأجر على إحسانه إليها بالعتق والزواج، حيث تزوجها وصار لها حق القسم بعد أن كانت لا قسم لها، فأحسن إليها بأن نقلها من حالة أنه لا قسم لها إلى حالة أنها من جملة الزوجات اللاتي يقسم لهن، فيكون له أجران: أجر على إعتاقه وإحسانه إليها بالعتق، وأجر على إحسانه إليها بالزواج، وكونها صارت من جملة زوجاته اللاتي لهن حق القسمة.
هو هناد بن السري أبو السري ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.
[ حدثنا عبثر ].
عبثر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن مطرف ].
هو مطرف بن طريف ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عامر ].
هو عامر بن شراحيل الشعبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي بردة ].
هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي موسى ].
هو أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، فكل رجال هذا الإسناد أخرج لهم أصحاب الكتب الستة إلا هناداً فلم يخرج له البخاري في الصحيح، وإنما خرج له في (خلق أفعال العباد).
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج صفية وجعل عتقها صداقها، وصفية هي بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها أم المؤمنين، وقد كانت أمة فاعتقها، فالنبي صلى الله عليه وسلم وجعل عتقها صداقها، فدل ذلك على ما ترجم له المصنف من الإعتاق والزواج، وأنه يكون قد أحسن بذلك إحسانين، وأنه يجوز أن يجعل العتق صداقاً؛ لأنه نعمة أنعم بها عليها، وقد اختلف العلماء في ذلك هل هو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم أم أنه له ولغيره، والقول بالخصوصية يحتاج إلى دليل، فالصحيح أن ذلك سائغ وجائز، وأنه ليس من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أعتق صفية وجعل عتقها صداقها).
يعني: أعتقها وتزوجها، وعتقها هو صداقها.
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا أبو عوانة ].
هو الوضاح بن عبد الله اليشكري ، هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن قتادة ].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ وعبد العزيز بن صهيب ].
عبد العزيز بن صهيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أنس بن مالك ].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي، فـقتادة وعبد العزيز في درجة واحدة، فهو إسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر