حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ترسلوا فواشيكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، فإن الشياطين تعيث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء) قال أبو داود : الفواشي: ما يفشو من كل شيء ].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في كراهية السير في أول الليل.
يعني: عند غروب الشمس، والمقصود من ذلك كون الإنسان يبدأ بالسير عند غروب الشمس، وأما إذا كان السير من قبل الغروب وهو مواصل للسير فلا يلزمه أن ينزل، وإنما المقصود بالحديث أنه إذا غربت الشمس فلا ترسل الفواشي، وهو كل ما يفشو ويظهر من الدواب والبهائم.
كذلك الصبيان كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمقصود من هذا أن أبا داود رحمه الله أخذ من عمومه أن السير أيضاً يكون كذلك، وهذا فيما يبدو إذا كان نازلاً أو كان يمشي في ذلك الوقت أو يبدأ السير في ذلك الوقت، أما كون الإنسان مستمراً مواصلاً للسير فلا يلزمه أن ينزل، وإنما يواصل السير.
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترسلوا فواشيكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء ..).
والفواشي قال أبو داود : هو كل ما يفشو ويظهر، يعني: ينتشر، ويدخل في ذلك الدواب.
قوله: [ (حتى تذهب فحمة العشاء) ].
والمراد بالفحمة: شدة الظلام، بحيث يظهر الليل ويشتد الظلام، فهذا هو المقصود بالوقت الذي يترك الانتشار فيه حتى مجيء ذلك الوقت، فإن الشياطين تعيث فساداً في ذلك الوقت، فإذا ذهب ذلك الوقت فلا بأس من الانتشار وإرسال الفواشي.
[ قال أبو داود : الفواشي: ما يفشو من كل شيء ].
يعني: ما يظهر وينتشر، فيدخل في ذلك الدواب والصبيان.
ولا تحدد هذه الفترة ما بين المغرب إلى العشاء، وإنما تحدد قبل ذلك.
أحمد بن عبد الله بن أبي شعيب الحراني ، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ حدثنا زهير ].
زهير بن معاوية ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا أبو الزبير ].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي ، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن جابر ].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود ، فهو من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود .
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس) ].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في أي يوم يستحب السفر.
يجوز السفر في جميع الأيام، ولكن الخميس جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يسافر فيه.
قوله: [ (قلما كان رسول الله يخرج في سفر إلا في يوم الخميس) ].
معناه: أن سفره في غير الخميس يكون قليلاً، وسفره في الخميس هو الكثير، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجه لم يسافر يوم الخميس، قيل: إنه سافر يوم السبت.
سعيد بن منصور ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا عبد الله بن المبارك ].
عبد الله بن المبارك المروزي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن يونس بن يزيد ].
يونس بن يزيد الأيلي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الزهري ].
محمد بن مسلم بين عبيد الله بن شهاب الزهري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ].
عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن كعب بن مالك ].
كعب بن مالك رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك، وتاب الله عليهم، ونزلت فيهم الآية: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118] وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا يعلى بن عطاء حدثنا عمارة بن حديد عن صخر الغامدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها، وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار) وكان صخر رجلاً تاجراً، وكان يبعث تجارته من أول النهار، فأثرى وكثر ماله.
قال أبو داود : وهو صخر بن وداعة ].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الابتكار في السفر.
يعني: الذهاب في البكور في أول النهار، وقد أورد أبو داود حديث صخر بن وداعة الغامدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها، وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار..) وكان صخر تاجراً فكان يرسل تجارته في أول النهار فأثرى، يعني: صار ثرياً وكثر ماله؛ لأنه أخذ بهذا الحديث الذي هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بالبركة في بكورها.
سعيد بن منصور ، مر ذكره.
[ حدثنا هشيم ].
هشيم بن بشير الواسطي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا يعلى بن عطاء ].
يعلى بن عطاء ، وهو ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[ حدثنا عمارة بن حديد ].
عمارة بن حديد ، وهو مجهول، أخرج له أصحاب السنن.
[ عن صخر الغامدي ].
صخر الغامدي رضي الله عنه، وقد أخرج له أصحاب السنن.
والحديث فيه هذا الرجل المجهول، ولكنه جاء عن عدد من الصحابة، حيث ذكر في الجامع الصغير أنه جاء عن ثمانية من الصحابة منهم صخر هذا، فالحديث له شواهد عن عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجود هذا المجهول في هذا الإسناد لا يؤثر.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن عبد الرحمن بن حرملة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب) ].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الرجل يسافر وحده. يعني: أن ذلك مذموم، وأنه ورد فيه ما يدل على منعه وكراهته، وذلك لأن الواحد إذا سافر وحده قد تحصل له أمور كمرض أو هلاك فلا يكون معه من يغسله، ولا يكون معه من يحفظ متاعه، ومن يواسيه ويكلفه بحمل وصية، أو بإخباره بشيء يحتاج للإخبار؛ لأنه سافر وحده وليس معه أحد يمكن أن يقوم بهذه المهمة.
وكذلك قد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراكب شيطان والراكبان شيطان والثلاثة ركب).
(الراكب شيطان) يعني: أن فعله هذا مذموم، وأنه متصف بصفة الشياطين، وكذلك الراكبان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والثلاثة ركب) معناه أن هذا أقل عدد يكون فيه السفر، وهذا فيه تنبيه على أن سفر الإنسان وحده أو سفر اثنين فقط مذموم، ولكن هذا يختلف باختلاف الأحوال، فقد يكون الإنسان مضطراً إلى سفر ولا يجد من يصحبه ولا يستطيع البقاء، ولكن كون الإنسان يحرص دائماً وأبداً على أن يكون معه رفقة حتى وإن كان في طرق سالكة، ففي هذا الزمان الطرق السالكة الآن فأصبحت لا يخشى المحذور الذي يتوقع فيما إذا كان الإنسان يسافر وحده، فيكون في فلاة فقد يتيه، وقد يحصل له ما يحصل، فالآن هذه السكك وهذه الطرق التي تمشي فيها السيارات ولا تخرج عنها في السير إذا حصل للإنسان شيء فإنه يوجد من يقوم بشئونه وما يحتاج إليه، ولكن مع هذا كله الأخذ بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تمكن الإنسان من ذلك هو الذي ينبغي.
ثم إن الحديث يدل على أن أقل عدد معتبر شرعاً في السفر هو ثلاثة فأكثر، وهذا كما جاء في هذا الحديث، وإلا فإن الجمع يكون باثنين في الجماعة، ففي الصلاة الوارد اثنان أقل الجماعة إمام ومأموم يعني: ليس لازماً أن يكونوا ثلاثة، فالصلاة جماعة تحسب باثنين، وكذلك في الفرائض الجمع يكون باثنين، فأقل الإخوة اثنان وليس ثلاثة؛ لأن حصول العدد اثنين يكون معتبراً ويكون جمعاً، وفي النحو أقل الجمع ثلاثة؛ لأنه يوجد مفرد ومثنى وجمع، وفي السفر كما جاء في هذا الحديث أقل الجمع المعتبر الذي جاءت به السنة ثلاثة.
قوله: [ (الراكب شيطان) ].
يعني: فيه صفة الشيطان الذي لا يتقيد بدين، ولا يتقيد بشيء يلتزمه.
عبد الله بن مسلمة القعنبي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .
[ عن مالك ].
مالك بن أنس ، إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الرحمن بن حرملة ].
عبد الرحمن بن حرملة ، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[ عن عمرو بن شعيب ].
عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهو صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[ عن أبيه ].
وهو: شعيب بن محمد ، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[ عن جده ].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، الصحابي الجليل، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير ، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
حدثنا علي بن بحر بن بري حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا محمد بن عجلان عن نافع عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) ].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم.
يعني: يجعلون واحداً منهم أميراً عليهم، وهذه الإمارة المقصود منها الرجوع إليه عندما يريد الإنسان أن يذهب إلى جهة، أو يريد أن يتخلف، أو يريد أن يستأذن في شيء حتى يكون بعضهم على علم من بعض، فلا يذهب الواحد منهم حيث يشاء ولا يعرف عنه أصحابه شيئاً، وإنما يكون هناك مرجع لهم يرجعون إليه، بحيث يستشيرونه ويرجعون إليه في النزول إذا أرادوا أن ينزلوا، وإذا أرادوا أن يركبوا ويرتحلوا، وإذا كان الواحد منهم يريد أن يذهب في حاجة من الحاجات أو لغرض من الأغراض يستأذنه حتى يكون على علم، وحتى يعرف بعضهم عن البعض أموره وأحواله، فلا يكون كل واحد منهم أمير نفسه، أو يكونون رفقاء فلا يدري الاثنان إلا وقد ذهب الثالث، ولا يدرون إلى أين ذهب؟!
فإذا كان هناك أمير يرجعون إليه يقول للأمير: أريد أن أفعل كذا وكذا.. أستأذنك في كذا وكذا.. فهذه هي الإمارة، وهذه هي مهمتها، فليست المهمة أن يجلد ويضرب، وأنه يسير والياً وحاكماً، وإنما مهمته أن يكون هؤلاء المسافرون يتشاورون ويرجع يعضهم إلى بعض، ويستأذن المأمور الأمير في ذهابه إذا أراد أن يذهب لحاجة، وكذلك إذا أراد أن يتقدم ويسبقهم بيوم أو يومين إلى أهله وما إلى ذلك.
فهذا هو المقصود بالإمارة، فالإمارة المقصود منها أن يعرفوا مرجعهم، لا أن هذه ولاية يترتب عليها أحكام كإقامة حدود وجلد وما إلى ذلك، فليس هذا من شأنهم، وليست هذه مهمتهم، وإنما مهمتهم ما يتعلق بأحوال السفر والارتحال والنزول.
وهذا أيضاً فيه تحديد بالثلاثة، وهذا مثل ما مر في الحديث السابق أن الثلاثة ركب، فهم الذين يؤمرون واحداً منهم، وأما الاثنان فهما شيطانان كما مر في الحديث، فليس ذلك هو المأذون به والمرخص فيه أن يسافر اثنان، بل يسافرون ثلاثة، والأمر في الحديث يدل على الاستحباب.
علي بن بحر بن بري ، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي .
[ حدثنا حاتم بن إسماعيل ].
حاتم بن إسماعيل ، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا محمد بن عجلان ].
محمد بن عجلان المدني ، صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن نافع ].
نافع مولى ابن عمر ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي سلمة ].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي سعيد الخدري ].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سعد بن مالك بن سنان ، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وتوجيهه أنه عندما يكون الشخص أميراً على هذين الاثنين فإنهما يرجعان إليه ويستجيبان له فيما يأمرهما به فيما يتعلق بالسفر، فيكون مثل ذلك اثنان اختارا واحداً هو أهل للحكم والقضاء في مسألة اختصما إليه فيها، فإنه ينفذ حكمه إذا كان من أهل القضاء والاجتهاد، يعني: من جهة أن الاثنين يرجعان إلى الثالث الذي هو أميرهما، فهذا وجهه.
أورد أبو داود حديث نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وقد روى لهم الحديث أبو سلمة ، وهو مثل حديث أبي سعيد المتقدم، فقالوا لـأبي سلمة : أنت أميرنا، يعني: أنت الذي حدثت بالحديث، ورويت هذه السنة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت الأمير.
قوله: حدثنا علي بن بحر حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا محمد بن عجلان عن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة ].
كلهم مر ذكرهم في الإسناد السابق إلا أبو هريرة ، فهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.
الإمارة تكون في حال السفر في الطريق وفي المكان الذي يقيمون فيه حتى يرجعوا، وإذا نزلوا في بلد وهم مع بعض فليستأذنوا الأمير إذا ذهب أحدهم في مهمة في البلد.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) قال مالك : أراه مخافة أن يناله العدو ].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في المصحف يسافر به إلى أرض العدو.
السفر بالمصحف إلى أرض العدو إذا كان يؤمن ألا يناله العدو، ولا يحصل له شيء من امتهانهم وما إلى ذلك لا بأس به؛ لأن التعليل هو الخوف من أن ينالوه بشيء لا يليق في حق القرآن، وأما إذا لم يكن هناك محذور، والإنسان يأخذه معه ليقرأ فيه، والمحذور مأمون فلا بأس بذلك، وإنما النهي إذا كان يغلب على الظن أنه تحصل إساءة للقرآن وامتهان له أو يناله العدو بسوء، فهذا هو الذي يمنع منه.
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو).
قال مالك : أراه مخافة أن يناله العدو. أي: بسوء.
وهذا الذي قاله مالك قد جاء في بعض الروايات أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني: كونه خشية أن يناله العدو، فهذا التعليل ثابت، إذاً: فالحكم يدور مع علته، فإن وجدت هذه العلة فلا يسافر به، وإن لم توجد المخافة عليه فإنه لا بأس بالسفر به.
وهنا قال في الترجمة: المصحف، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (القرآن) كما في الحديث، وذلك أن المصحف إنما وجد في زمن عثمان رضي الله عنه؛ لأنه جمع القرآن وجعله في مصحف، فصاروا يعبرون عنه بالمصحف، وفي التراجم يأتون بلفظ المصحف، وإلا فالحديث جاء بالقرآن أنه لا يسافر به إلى أرض العدو؛ لأن المصحف إنما وجد في زمن عثمان ، وقبل ذلك ما كان يوجد مصحف، وقبل زمن أبي بكر ما كان مجموعاً، ولكنه جمع مرتين، مرة في عهد أبي بكر في صحف، فجمع كل شيء يتعلق بالقرآن في عهده.
وفي زمن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على مصحف واحد، وأحرق ما سوى ذلك حتى لا يختلفوا، وكان على حرف واحد وعلى لغة واحدة، ولم يكن على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، لأن القرآن أول ما نزل نزل على سبعة أحرف للتخفيف والتسهيل على الناس؛ لأن العرب كانوا متفرقين ومتنابذين، وكان كل لا يعرف لغة الآخر، ولما جاء الإسلام جمع بينهم، ووحد بينهم، واختلطوا وصار كل يعرف لغة الآخرين، فعند ذلك لم يكن هناك حاجة إلى الاستمرار، فرأى عثمان رضي الله عنه -والصحابة أقروه على ذلك- أن يجمع الناس على حرف واحد، وهذا الحرف الواحد الذي هو لغة واحدة يشمل القراءات.
الأحرف غير القراءات، فالأحرف لغات، والقراءات هي إما نقط أو شكل أو زيادة حرف مثل: يعملون وتعملون، ومثل عجبتَ وعجبتُ في قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات:12] يعني: في الشكل، وقد يكون بزيادة حرف مثل الكتاب والكتب كما في قول الله عز وجل: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ [التحريم:12] قراءة حفص عن عاصم بالقراءة المشهورة التي بين أيدينا وهي: كتبه، وقراءة جمهور القراء: (كتابه) فصارت القراءتان موجودتين، ورسم المصحف بتحمل القراءات، ولهذا فرسم المصحف له هيئة خاصة لا يجوز أن تحول إلى الحروف الإملائية التي اعتادها الناس؛ لأن رسمه يستوعب القراءات، مثل (كتابه) رسمها لا تكون الألف فيه مرسومة بعد الباء، وإنما تكون التاء متصلة بالباء، وعند قراءة (كتابه) تكون الكاف مكسورة والتاء مفتوحة، وتوجد ألف قصيرة فوقها إشارة إلى المد، والباء مكسورة، وعلى قراءة (كتبه) تكون الكاف والتاء مضمومة، والباء مكسورة، والرسم يستوعب قراءته، لكن لو جاء لفظ (كتابه) بالألف فإنه لا يستوعب قراءة (كتبه) فجاء الرسم مستوعباً القراءات.
إذاً: الأحرف غير القراءات، وابن القيم رحمه الله له في كتاب: إعلام الواقعين كلام في مسألة سد الذرائع، أورد فيها تسعة وتسعين دليلاً من أدلة سد الذرائع ختمها بالدليل التاسع والتسعين، وهو جمع عثمان رضي الله عنه القرآن على حرف واحد، سداً لذريعة الاختلاف بين الناس.
فإذاً: كلمة المصحف تأتي في التراجم والأبواب، لأن هذا هو الأمر الذي استقر عليه، مثلما جاء في حديث (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) فهذا هو الحديث الثابت الذي في الصحيحين وفي غيرهما، ولا يوجد (ما بين قبري ومنبري)، ولكن في التراجم لما صار الواقع خلاف ما في الحديث، فهدم بيت النبي صلى الله عليه وسلم ووسع المسجد ترجم العلماء على ذلك، ولهذا ترجم الإمام البخاري ترجمة فقال: فضل ما بين القبر والمنبر وأتى بحديث: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).
فإذاً: كان المؤلفون يذكرون الشيء بعدما وجد، وأما قبل أن يوجد فإنه لا يعرف، وإنما يؤتي بلفظ القرآن كما في الحديث بلفظ البيت، فنهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، ولم يقل المصحف؛ لأن المصحف ما وجد إلا متأخراً، وكذلك أيضاً قوله: (ما بين بيتي ومنبري) فهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن جاءت الترجمة بلفظ: باب فضل ما بين القبر والمنبر.
قوله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر ].
وقد مر ذكرهم جميعاً إلا ابن عمر وهو: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: الذي يبدو والله أعلم أن الرواية رواها الراوي بالمعنى، أو أن المقصود به الشيء المكتوب الذي في أيدي الناس، وإلا فإن المصحف الذي استقر عليه الأمر بعدما جمعه عثمان إنما وجد في زمن عثمان ، فيمكن أن تكون الرواية رويت بالمعنى، أو أن المقصود منه الصحيفة التي فيها القرآن، وهذا هو الموجود في زمنه صلى الله عليه وسلم، فقد كان يكتب القرآن في صحف أو في ألواح.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر