حدثنا الحسن بن شوكر حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا الحجاج بن أبي عثمان عن أبي الزبير أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حدثهم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف، ويردف، ويدعو لهم) ].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في لزوم الساقة. يعني: مؤخر الجيش والمراد: أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وراء الجيش لينظر من ضعف مركوبه أو ضعف هو لكونه يمشي وليس عنده مركوب، وكذلك إذا رأى انهزاماً أو فراراً، فعندما يجد هذا المنهزم القائد أو الإمام في المؤخرة يكون ذلك دافعاً له أو مانعاً له من أن يحصل الانفلات والفرار وغير ذلك من الأسباب التي تترتب على لزوم الإمام للساقة.
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخلف في المسير) يعني: يكون في آخر الركب وفي آخر الجيش.
(يزجي الضعيف) يعني: المركوب الذي يكون ضعيفاً يسوقه.
(ويردف الضعيف) أي: إذا كان هناك شخص يمشي يحمله ويجعله يركب وراءه، أو يقول: اركب وراء هذا، فيكون من فوائد ذلك أنه يسوق المركوب الذي قد ضعف، ويردف من كان ضعيفاً يمشي، ويدعو للجيش عموماً، ويدعو لهؤلاء الضعفة خصوصاً.
الحسن بن شوكر صدوق، أخرج له أبو داود .
[ حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا الحجاج بن أبي عثمان ].
ابن علية مر ذكره، والحجاج بن أبي عثمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي الزبير ].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي ، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن جابر ].
جابر رضي الله عنه قد مر ذكره.
حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى) ].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب على ما يقاتل المشركون، يعني: على أي شيء يقاتلون؟ يقاتلون لكونهم كفاراً إلا إذا حصل منهم الدخول في هذا الدين، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاتان الشهادتان متلازمتان لا بد منهما: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والنبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: (أمرت)، أو (نُهيت) فالآمر له هو الله سبحانه وتعالى، وأما الصحابة إذا قالوا: أمرنا أو نهينا فالآمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، (إذا قالوها) يعني: دخلوا في الإسلام فعصموا أموالهم وأنفسهم بذلك، عصموا أنفسهم من القتل وأموالهم من الأخذ والغنيمة.
وقوله: (إلا بحقها) أي: بحق هذه الكلمة التي هي لا إله إلا الله وهو مقتضاها.
قوله: (إلا بحقها).
يمكن أن يرجع إلى الشهادة وأن مقتضاها الأخذ بما تتطلبه من الصلاة والصيام.. وما إلى ذلك، ويمكن أن يكون المقصود حق الأنفس والأموال في أن القتل إنما يكون إذا أسلم، فلا يقتل بسبب الكفر؛ لأنه سلم من الكفر بإسلامه وبإظهار الشهادة، ولكنه يقتل بكونه مستحقاً للقتل بعد أن يسلم إذا كان قصاصاً أو غير ذلك مما يكون مستحقاً به القتل، وكذلك المال يكون فيه معصوماً إلا إذا امتنع من الحق الذي عليه في ماله فإنه يؤخذ منه. (وحسابهم على الله) يعني: نحن لنا الظاهر والبواطن علمها عند الله عز وجل، فلم نؤمر أن نشقق ما في القلوب ونعرف ما فيها؛ لأن ذلك من علم الله عز وجل، ولكن لنا الظاهر، وهو: أن من أظهر الإسلام قبلنا منه، والله تعالى هو الذي يتولى حسابهم سواء اتفق الظاهر والباطن أو أن الظاهر يكون على خلاف الباطن، والناس ليس لهم إلا الظاهر، والباطن علمه إلى الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26] فإذا دخل في الإسلام، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنه يعصم نفسه بذلك، وإذا كان قال ذلك نفاقاً فأظهر الإسلام وأبطن الكفر فالله تعالى هو الذي يتولاه، والمنافق النفاق الاعتقادي في الدرك الأسفل من النار كما جاء ذلك في القرآن الكريم.
وحديث أبي هريرة أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة ، فهو في الكتب كلها.
كذلك جاء الحديث عن ابن عمر ولم يذكره أبو داود هنا، وإنما هو في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) بمعنى حديث أبي هريرة ، والحافظ ابن حجر في فتح الباري قال: إن هذا الحديث من غرائب الصحيح، يعني: كونه جاء من طريق واحد، يعني حديث ابن عمر قال: وقد خلا منه مسند الإمام أحمد على سعته، ومعلوم أن الحديث عند العلماء باعتبار الصحابي يكون متفقاً عليه، وعندما ينفرد به مسلم إنما هو باعتبار الصحابي، وليس معناه أن المتن يكون موجوداً عن صحابي وصحابي، وقد يكون مسلم رواه من طريق صحابي غير الصحابي الذي رواه البخاري من طريقه، والمتفق عليه أن يكون البخاري ومسلم روياه من طريق صحابي واحد مثل حديث جبريل المشهور اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث أبي هريرة ، وانفرد مسلم بإخراجه من حديث عمر ، فهو من أفراد مسلم عن عمر ، وهو من المتفق عليه عن أبي هريرة ، وهنا يقول الحافظ ابن حجر : إن حديث ابن عمر - (أمرت أن أقاتل الناس) - المتفق على صحته من غرائب الصحيح، وقد خلا منه مسند الإمام أحمد على سعته، مع أن حديث أبي هريرة الذي بمعناه موجود فيه.
وكما عرفنا أن الرواية تكون باعتبار الصحابي، فإن مسند الإمام أحمد موجود فيه حديث أبي هريرة هذا، لكن الذي لا يوجد في مسند الإمام أحمد حديث ابن عمر فالحديث يعتبر متفقاً عليه، ويعتبر فرداً من حيث الصحابي.
مسدد بن مسرهد البصري ، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ حدثنا أبو معاوية ].
محمد بن خازم الضرير الكوفي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الأعمش ].
سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي صالح ].
وهو: ذكوان ولقبه: السمان المدني ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي هريرة ].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو موافق لحديث أبي هريرة المتقدم، ويختلف عنه في بعض الأمور.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله).
يعني أن يأتوا بالشهادتين: الشهادة لله بالوحدانية، ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وهاتان الشهادتان متلازمتان لا بد منهما، فلا تكفي شهادة أن لا إله إلا الله عن شهادة أن محمداً رسول الله، ومن أتى بالشهادة لله بالوحدانية ولم يأت بالشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة فإن ذلك لا ينفعه؛ لأن دين الإسلام مبني على هاتين الشهادتين، ومقتضاها الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإخلاص هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، والمتابعة هي مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وأن يستقبلوا قبلتنا).
يعني أن يتجهوا إلى القبلة التي نصلي إليها وهي الكعبة، أي على من دخلوا ديننا أن يستقبلوا قبلتنا، ولا يستقبلوا القبلة التي كانوا يستقبلونها قبل إسلامهم، مثل اليهود والنصارى وغيرهم.
قوله: (وأن يصلوا صلاتنا).
أي: يصلون الصلاة التي فرضها الله على المسلمين، وليست الصلاة التي كانت عندهم في كفرهم قبل إسلامهم، وإنما يستقبلون قبلة المسلمين ويصلون صلاة المسلمين.
قال: [ (فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها) ].
قوله: (إلا بحقها) أي: بحق دمائهم وأموالهم، بحيث يكونون مستحقين لأن يقتلوا إذا فعلوا ما يوجب قتلهم، وكذلك يؤخذ منهم زكاة أموالهم.
قوله: [ (لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين) ].
أي: لهم ما للمسلمين من الحقوق، وعليهم ما على المسلمين من الواجبات.
سعيد بن يعقوب الطالقاني أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي .
[ حدثنا عبد الله بن المبارك ].
هو عبد الله بن المبارك المروزي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن حميد ].
هو حميد بن أبي حميد الطويل ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أنس ].
هو أنس بن مالك رضي الله خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر ذكره.
وهذا الإسناد من أعالي الأسانيد عند أبي داود التي هي الرباعيات.
أورد المصنف حديث أنس من طريق أخرى، وفي الحديث السابق: (أمرت أن أقاتل الناس) وهنا قال: (المشركين).
وقوله: بمعناه أي: بمعنى الحديث المتقدم عن أنس رضي الله عنه.
قوله: [ حدثنا سليمان بن داود المهري ].
هو سليمان بن داود المهري المصري ، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .
[ أخبرنا ابن وهب ].
هو عبد الله بن وهب المصري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرني يحيى بن أيوب ].
هو يحيى بن أيوب المصري ، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن حميد الطويل عن أنس ].
حميد بن أبي حميد الطويل وأنس قد مر ذكرهما.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم في سرية إلى الحرقات -وهم من جهينة- فنذروا بهم -أي: أخبروا بغزوهم- فهربوا، فأدركوا رجلاً منهم، فلما لحقوه قال: (لا إله إلا الله) فقتلوه، وكانوا يرون أنه إنما قال ذلك خوفاً من السلاح بعد أن رفعوه عليه، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم، وقال لـأسامة : (من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!) أي: بأي شيء تدفع هذا الإيراد وهذا الكلام في كونك تقتل مسلماً يقول: لا إله إلا الله؟! فقال: إنما قالها خوفاً من السيف. يعني: خوفاً من القتل، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا شققت عن قلبه لتعرف هل قالها خوفاً من السلاح أو لا؟! فقال أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه: وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
وهذا الحديث يدل على أن الناس لهم الظاهر، وأن من أظهر الإسلام فإنه يقبل منه، والبواطن علمها عند الله عز وجل، وعلمها موكول إلى الله سبحانه وتعالى، لكن من قال: (لا إله إلا الله) فإنه يكف عنه؛ لأن هذا هو الشيء الظاهر الذي يعرف به أن الإنسان المقاتل يكون مسلماً.
قوله: [ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى الحرقات ].
السرية قطعة من الجيش تذهب وتعود إلى الجيش.
والحرقات من جهينة.
قوله: [ فنذروا بنا فهربوا ].
يعني: أُنِذرُوا وأخبروا ووصلهم العلم بأنهم مغزوون فهربوا.
قوله: [ فأدركنا رجلاً فلما غشيناه قال: (لا إله إلا الله) فضربناه حتى قتلناه ].
يعني أنهم لما رفعوا عليه السيف قال: (لا إله إلا الله) ففهموا أنه قال ذلك خوفاً من السيف فقتلوه وقد قال: (لا إله إلا الله).
والمقصود من الترجمة أن الكفار يقاتلون على التوحيد، وأنهم إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يكف عنهم، والناس ليس لهم إلا الظاهر، يكتفون بالظاهر وعلم البواطن موكول إلى الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السر والعلانية ويعلم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى.
قوله: [ فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!) ].
أي: لما ذكر أسامة بن زيد رضي الله عنه ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!) يعني: بأي شيء تجيب عن كونك قتلت مسلماً يقول: (لا إله إلا الله) وقد أظهر الإسلام ثم بعد ذلك تقتله وهو لا يستحق القتل، وليس لك حق قتله؛ لأن القتال إنما هو على التوحيد وقد وجد منه التوحيد؟! وهذا كما هو معلوم إنما هو بحسب الظاهر، وأما البواطن فإنها موكولة إلى الله سبحانه وتعالى.
قوله: [ فقلت: يا رسول الله! إنما قالها مخافة السلاح! ].
هذا هو الذي بنى عليه أسامة رضي الله عنه ومن معه هذا الفعل الذي فعلوه، وهو أنه إنما قالها مخافة السلاح.
قوله: قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟!
هنا وبخه وبين له أن مثل ذلك أمور غيبية، والغيب لا يطلع إليه إلا الله ولا يعلمه إلا الله، وما في القلوب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فقال: ألا شققت عن قلبه لتعرف هل قالها مخافة السلاح أم قالها مؤمناً مسلماً يريد وجه الله عز وجل ولم يكن خائفاً؟!
قوله: [ (من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!) فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ ].
أي: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر هذه الكلمة حتى قال أسامة بن زيد : وددت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم. وذلك لأن الإسلام يجب ما قبله، ويكون هذا الذي حصل منه يجبه الإسلام ويخلص منه بالدخول في الإسلام، والإسلام يجب ما قبله ويهدم ما كان قبله، كما جاء في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في صحيح مسلم الذي فيه أنه لما جاء وأراد أن يسلم ومد يده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه ويعلن إسلامه، قبض عمرو يده بعد أن مد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال له: (لماذا يا
هو الحسن بن علي الحلواني ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي .
[ وعثمان بن أبي شيبة ].
هو عثمان بن أبي شيبة الكوفي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي ، فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[ حدثنا يعلى بن عبيد ].
يعلى بن عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الأعمش ].
هو سليمان بن مهران الكاهلي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي ظبيان ].
هو حصين بن جندب ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا أسامة بن زيد ].
هو أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
فالجواب: لعل الرسول صلى الله عليه وسلم عذره لأنه فهم أن من قال ذلك يكون مستحقاً القتل لأنه إنما قال ذلك خوفاً من القتل ولم يقله رغبة وقصداً في الدخول في الإسلام، وإنما قاله تعوذاً.
وقد قال بعض أهل العلم: لعل ذلك حصل في وقت لا ينفع معه الإيمان. يعني مثل ما حصل لفرعون حين أعلن الإسلام عند حضور الأجل ومعاينته الموت، ومع ذلك ما نفعه إسلامه، فقالوا: إن هذا الذي حصل منه الدخول في الإسلام إنما قال ذلك لما أشرف على الهلاك ورأى أنه هالك، فقالوا: إنه لا ينفعه.
ولكن القول الأول أولى، فهم قتلوه ظناً منهم أنه قال ذلك لما غشوه بالسلاح تعوذاً وخوفاً من القتل، وأنهم محقون في قتلهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم عذرهم في ذلك فلم يوجب عليهم القصاص.
وقد أشار الخطابي إلى معنىً آخر، وهو أنه يشبه أن يكون المعنى فيه أن الأصل في دماء الكفار الإباحة، وهذا الذي أشار إليه الخطابي يصح اعتباره في الحرب، فالأصل أن دماءهم في الحرب على الإباحة، وأما إذا كانوا أهل ذمة أعطوا الجزية وكانوا تحت حكم الإسلام أو كانوا مستأمنين فليس الأصل حينئذٍ هو الإباحة.
أورد أبو داود حديث المقداد بن الأسود رضي الله تعالى عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت يا رسول الله إن لقيت رجلاً من المشركين وقطع يدي فلحقته فلاذ مني بشجرة، ثم قال: أسلمت لله -يعني أنه دخل في الإسلام ودخل في هذا الدين الحنيف- أفأقتله؟ قال: (لا تقتله)، قال: إنه قطع يدي! قال: [ (لا تقتله؛ فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله) ].
يعني: أنت معصوم الدم، وكذلك هو بمنزلتك معصوم الدم بعد أن قال: (لا إله إلا الله) فأنت معصوم الدم لأنك مسلم، وهذا -أيضاً- بعد أن قال: (لا إله إلا الله) صار معصوم الدم، فصار بمنزلتك.
وقوله: [ (وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) ].
يعني: أنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته، بمعنى أنك تستحق القتل، إلا أن قتله كان من أجل الكفر وأنت قتلك من أجل القصاص.
وقوله: [ لاذ مني بشجرة ]
أي: هرب مني واستتر بشجرة.
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الليث ].
هو الليث بن سعد المصري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن شهاب ].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عطاء بن يزيد الليثي ].
عطاء بن يزيد الليثي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ].
عبيد الله بن عدي بن الخيار ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو من ثقاة التابعين، وحديثه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .
[ عن المقداد بن الأسود ].
المقداد بن الأسود هو المقداد بن عمرو رضي الله عنه، ويقال له: المقداد بن الأسود ؛ لأن الأسود تبنَّاه فاشتهر بذلك، فكان يقال له: المقداد بن الأسود ، وهو المقداد بن عمرو ، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل. قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: لا تراءى ناراهما) ].
أورد أبو داود باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، يعني أنه سجد وأظهر ما يدل على إسلامه، ويعني بالترجمة النهي عن قتله وقد وجد منه شيء يدل على إسلامه.
وأورد أبو داود حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه أنه قال: [ بعث رسول الله سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود ] يعني: لجئوا إلى السجود وسجدوا.
قوله: [ فأسرع فيهم القتل ].
أي: قتلوهم وهم ساجدون.
قوله: [ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل ].
أي: أمر لهم بنصف الدية.
قيل: إنهم كانوا مسلمين، ولكنهم بين الكفار، فقتلوا كما قتل الكفار، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر لهم بنصف العقل، أي: بنصف الدية، ولم يأمر بها كاملة لأنهم بمقامهم مع الكفار صاروا شركاء في حصول الجناية عليهم، فصاروا مثل الذي قتل بفعله وفعل غيره، فالشيء الذي من فعله يسقط لأنه شارك في قتل نفسه، وأما من شارك في قتله فيكون عليه نصف الدية، فلا يتضمن القتل في هذه الحالة.
قوله: [ قال: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) ].
يعني هؤلاء قتلوا بسبب وجودهم بين المشركين، وظن المسلمون أنهم منهم.
وقيل: إن اعتصامهم بالسجود ليس دليلاً واضحاً على إسلامهم؛ لأنه يوجد منهم السجود لكبرائهم وكذلك السجود لغير الله عز وجل، فمجرد السجود من الكفار لا يكفي، وإنما الذي يعول عليه هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لكن لما كانوا مسلمين وكانوا بين الكفار وصار لهم مشاركة في أنهم قتلوا بتسبب أنفسهم وبفعل غيرهم صار على الذي حصل منه القتل نصف العقل وليس كله.
وقوله: [ (لا تراءى ناراهما) ] معناه الإشارة إلى التباعد بين المسلمين والكفار، وأن المسلم لا يكون مع الكفار، بل يكون بعيداً منهم بحيث لا ترى نارُه نارَهم ولا نارُهم نارَه، بمعنى أنهم إذا أوقدوا ناراً وهو أوقد ناراً فإن كلاً لا يرى نار الآخر، وذلك إشارة وكناية عن التباعد بين المسلمين والكفار.
وهذا يدل على البعد عن المشركين وعدم البقاء بين أظهرهم، لكن إذا كان البقاء بين المشركين فيه مصلحة للدعوة إلى الله عز وجل ودعوتهم للإسلام فيكون سائغاً من هذه الناحية، أما إذا كان ليس كذلك، لا سيما إذا كان الإنسان يقيم بين المشركين ولا يتمكن من إظهار شعائر دينه فبقاؤه ضرر كبير عليه، وهو مستحق للوعيد الشديد، لكن إذا كان البقاء من أجل مصلحة تفوق هذه المفسدة، وهي كون بقائه فيه مصلحة للدعوة إلى الله عز وجل وهداية من يهدي الله عز وجل من الكفار على يديه وبسببه فإن هذا لا بأس به.
هو هناد بن السري أبو السري ، ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[ حدثنا أبو معاوية ].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن إسماعيل ].
هو إسماعيل بن أبي خالد ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن قيس ].
هو قيس بن أبي حازم ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن جرير بن عبد الله ].
هو جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
معنى قوله: [ لم يذكروا جريراً ] أنه مرسل من قيس بن أبي حازم يضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون من قبيل المرسل.
قوله: [ هشيم ].
هو هشيم بن بشير الواسطي ثقة مدلس، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ ومعمر ].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ وخالد الواسطي ].
هو خالد بن عبد الله الواسطي الطحان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث صححه الألباني إلا فيما يتعلق بالعقل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر