باب في التجارة يخالطها الحلف واللغو.
حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: (كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسمى السماسرة، فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمانا باسم هو أحسن منه فقال: يا معشر التجار! إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة) ].
قوله: [ كتاب البيوع والإجارات ] البيوع: جمع بيع، والإجارات: جمع إجارة، وقد ذكرهما بالجمع باعتبار الأصناف والأنواع، والبيع: هو مبادلة المال، وهو: تمليك الأعيان بعوض على التأبيد، والإجارة: عقد على منفعة، فهي تمليك المنافع إلى الأجل المحدد.
والبيع من الأمور التي لابد منها للناس؛ لأن الإنسان تتعلق حاجته بما عند غيره، وغيره لا يبذله له بدون مقابل، فكان السبيل إلى الوصول إلى الذي يريده الإنسان عن طريق البيع، فيدفع الثمن ويأخذ السلعة، فيكون البائع محتاجاً إلى الثمن، والمشتري محتاجاً إلى السلعة، فيدفع هذا ما عنده لهذا، ويدفع هذا ما عنده لهذا.
والإجارة تتعلق بالمنافع لا بالأعيان؛ لأن العين باقية، ونفعها هو الذي يملك ويعقد عليه، مثل استئجار الدار، فيستأجر منفعة الدار وهي أن يسكن فيها، فإذا باع المالك العين صار بيعاً، وخرجت العين من ملكه عن طريق أخذ ثمن عليها، وإن أبقى العين في ملكه ولكنه أخرج منفعتها عن ملكه، وأخذ مقابل ذلك شيئاً، فهذه إجارة، وهي: عقد على منفعة مباحة معلومة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة بثمن معلوم، فلابد من تحديد المدة، ولابد من تحديد الأجرة، وإلا حصل الجهل والغرر والاختلاف بين الناس.
والإجارة مجمع على مشروعيتها مثل البيع، ولم يخالف في ذلك إلا من شذ ممن لا يعتبر خلافه، وكما أن الناس محتاجون إلى ما عند غيرهم من الأعيان، فكذلك أيضاً في الإجارة هم محتاجون إلى ما عند غيرهم من المنافع، ولن تحصل لهم هذه المنافع بلا مقابل؛ فشرعت الإجارة ليحصل صاحب العين مبلغاً من النقود في مقابل منفعة عينه التي يخرجها من ملكه مدة معلومة، والإنسان الذي بيده نقود وهو بحاجة إلى منفعة كسكنى دار، قد لا يستطيع أن يشتري داراً، ولكنه يستطيع أن يدفع أجرة لسكنى الدار؛ فيدفع في مقابل هذه المنفعة، والناس لا يستغنون عن ذلك، والذي نقل عنه القول بعدم جواز الإجارة ابن علية وأبو بكر بن كيسان الأصم ، وابن علية هذا هو إبراهيم بن إسماعيل بن علية ، وأبوه إسماعيل بن علية إمام مشهور، ومحدث كبير، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وابنه إبراهيم هو الذي عنده شذوذ في بعض المسائل، ومنها مسألة الإجارة، وأبو بكر بن كيسان الأصم معتزلي، وابن علية هذا قال عنه الذهبي في الميزان: جهمي هالك، فهما من المبتدعة، هذا من الجهمية، وهذا من المعتزلة، وهما اللذان خالفا في جواز الإجارة، وهذا خلاف ما عليه الإجماع، وخلاف المعقول؛ لأن الناس لابد لهم من المنافع، وهي لا تحصل لهم بالمجان، فلابد إذاً من الإجارة.
قوله: [ باب في التجارة يخالطها الحلف واللغو ] وهو الكلام الذي فيه ترغيب في السلعة وترويج لها، وقد يكون منه ما هو كذب، وقد يكون منه ما هو لغو لا حاجة إليه، فكيف تحصل السلامة من مغبة هذا الذي يحصل في التجارة من اللغو والحلف؟
أورد أبو داود حديث قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: (كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسمى السماسرة) يعني: كان الذين يشتغلون في البيع والشراء يقال لهم: السماسرة، وهذا لفظ أعجمي، فإن العجم هم الذين غلب عليهم التجارة والعمل، وكان يقال لهم: سماسرة، قال: (وإن النبي صلى الله عليه وسلم سمانا باسم هو أحسن منه، فقال: يا معشر التجار!)، يعني: فسماهم تجاراً بدل السماسرة، والسمسار: يطلق على من يكون واسطة في البيع بين البائع والمشتري، ويأخذ في مقابل وساطته شيئاً، فيقال له: سمسار؛ لأنه متوسط بين البائع والمشتري.
قوله: [ (إن البيع يحضره اللغو والحلف)] أي: يحصل فيه الحلف، فالإنسان يحلف من أجل البيع والشراء، فإذا كان صادقاً فهو غير آثم، وإن كان كاذباً فهو آثم، ولا يحتاج الأمر إلى أن يحلف، بل يخبر بالسلعة كما هي، ويخبر عنها بما يعلمه فيها دون أن يحلف، ولا يجعل الله وسيلة إلى أنه لا يتحدث إلا حالفاً، بل يعرض سلعته ويبين ما فيها دون أن يحلف، وإن حلف بكذب فإنه يأثم بذلك.
قوله: [ (فشوبوها بالصدقة) ].
يعني: أخرجوا صدقة تكفر هذا الأمر الذي قد يخالط البيع من كون الإنسان يتكلم بكلام لا حاجة إليه، أو يحلف على السلعة، لكن إذا كان كاذباً فإنه يأثم لكذبه، وإذا تاب تاب الله عليه، والصدقة فيها سلامة من هذا اللغو الذي قد يحصل من الإنسان عند بيعه وشرائه، فتكون صدقته كالكفارة لما يحصل من حلف أو كلام لا حاجة إليه في ترويج السلعة وتنفيقها.
وقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على أن زكاة العروض غير واجبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن تشاب التجارة بالصدقة، ولو كان هناك شيء في التجارة واجب لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكثر أهل العلم على القول بوجوب الزكاة في عروض التجارة؛ بل عروض التجارة هي أغلب ما يحصل منه من الفوائد، وأكثر ما تحصل الزكاة عن طريقها، وقد استدل أهل العلم على زكاة العروض بالآيات والأحاديث العامة فيما يتعلق بالزكاة، لاسيما وغالب المكاسب والأعمال تكون في التجارة، فإذا لم يكن في التجارة زكاة فمعناه أن قسماً كبيراً مما يصرف للفقراء من الأغنياء سينقطع، وقد اتفق على وجوب زكاة عروض التجارة الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة هم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، والفقهاء السبعة هم فقهاء المدينة السبعة الذين يأتي ذكرهم كثيراً عند ذكر الرجال، وهم فقهاء جمعوا بين الفقه والحديث، وكانوا في زمن متقارب وفي عصر واحد فقيل لهم: الفقهاء السبعة، وهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، وعروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وسليمان بن يسار ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، والسابع منهم فيه خلاف، فقيل: هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وقيل: هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب .
فهذه المسألة -وهي مسألة الزكاة في عرض التجارة- من المسائل التي اتفق عليها الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، وقد اشتهر الخلاف في ذلك عن أهل الظاهر، فهم الذين قالوا: لا تجب فيها الزكاة، وكذلك وافقهم جماعة من أهل العلم قليلون جداً، وبعض أهل العلم حكى الإجماع على وجوب زكاة عروض التجارة.
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ حدثنا أبو معاوية ].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الأعمش ]
هو سليمان بن مهران الكاهلي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي وائل ].
هو شقيق بن سلمة ، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن قيس بن أبي غرزة ].
قيس بن أبي غرزة صحابي، أخرج له أصحاب السنن.
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثل الحديث السابق.
الحسين بن عيسى البسطامي صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .
[ وحامد بن يحيى ].
حامد بن يحيى ثقة، أخرج له أبو داود .
[ وعبد الله بن محمد الزهري ].
عبد الله بن محمد الزهري صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[ حدثنا سفيان ].
هو سفيان بن عيينة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
[ عن جامع بن أبي راشد ].
جامع بن أبي راشد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
[ وعبد الملك بن أعين ].
عبد الملك بن أعين صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ وعاصم ].
هو عاصم بن بهدلة ابن أبي النجود ، وهو صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة والبخاري ومسلم أخرجا له مقروناً.
[ عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة ].
مر ذكرهما.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد- عن عمرو -يعني ابن أبي عمرو - عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رجلاً لزم غريماً له بعشرة دنانير، فقال: والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل، فتحمل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه بقدر ما وعده، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أين أصبت هذا الذهب؟ قال: من معدن، قال: لا حاجة لنا فيها، وليس فيها خير، فقضاها عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ].
قوله: [ باب في استخراج المعادن ] ذكر استخراج المعادن في كتاب البيوع لأن المعادن إما أن تكون ذهباً وفضة فتكون أثمان السلع، وإما أن تكون من الأشياء الأخرى فتكون من السلع التي يحتاج إليها الناس، فهي مصدر من المصادر التي يحصل بها الذهب والفضة وكل أنواع المعادن من حديد أو غير ذلك.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس (أن رجلاً لزم غريماً له بعشرة دنانير)، أي: لم يسهل أمره، ولم يتركه حتى يأتي بحقه متى شاء، وإنما تابعه ولازمه ليحصل على حقه، وقال: إنني لا أتركك حتى تأتيني بحميل، أي: ضامن يضمن حقي، وإذا لم توفني فإنه يقوم بالوفاء بدلاً عنك، فالنبي صلى الله عليه وسلم صار حميلاً له، أي: ضمن له حقه.
قوله: [ (فتحمل بها النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه بقدر ما وعده) ].
أي: بقدر ما وعده من ذهب.
قوله: [ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (من أين أصبت هذا الذهب؟ قال: من معدن، قال: لا حاجة لنا فيها، وليس فيها خير)]، قال بعض أهل العلم: إن المنع لم يكن من أجل أنها معدن، وإنما من أجل أمور أخرى، قيل: إنه لم يعطه ذهباً، وإنما أعطاه ذهباً مخلوطاً بترابه، ولم يكن متميزاً، ومعلوم أنه اتفق معه على دنانير، والدنانير معروفة المقدار والوزن، ولم تكن مخلوطة بالتراب، فهو لم يأت بالشيء الذي يكون مطابقاً لحقه حتى يكون موفياً له، وإنما أعطاه ذهباً مع ترابه، فهو ذهب غير معروف المقدار، وليس مساوياً لما يطالبه به، وهو عشرة دنانير، وليس المقصود من المنع كونه من معدن؛ لأن الذهب مثل غيره من المعادن أودعها الله في الأرض.
قوله: [ (فقضاها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ].
أي: قضى العشرة الدنانير التي كانت على ذلك الغريم، والنبي عليه الصلاة والسلام ضمن له، وأعطى لصاحب الحق حقه عندما رآه ملازماً لغريمه.
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .
[ حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد ].
عبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
[ عن عمرو يعني ابن أبي عمرو ].
عمرو بن أبي عمرو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
[ عن عكرمة ].
هو عكرمة مولى ابن عباس ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عباس ].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا أبو شهاب حدثنا ابن عون عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما ولا أسمع أحداً بعده يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات -وأحياناً مشتبهة- وسأضرب لكم في ذلك مثلاً: إن الله حَمى حِمى، وإن حِمى الله ما حرم، وإنه من يرع حول الحِمى يوشك أن يخالطه، وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر) ].
قوله: [ باب في اجتناب الشبهات ] المقصود بالشبهات: الأشياء التي لم يتبين حلها من حرمتها، فليست من الحلال البين، ولا من الحرام البين، وإنما هي مشتبهة لا يدرى هل هي حلال أو حرام، هذه هي المشتبهات.
إذاً: تنقسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام: منها ما هو حلال بين، ومنها ما هو حرام بين، ومنها ما لم يعرف حرمته ولا حله وإنما هو مشتبه، وقد يشتبه على بعض الناس، ويتضح حكمه لبعض الناس، ولهذا قال: (لا يعلمهن كثير من الناس)، ومعناه أن بعض الناس قد يعلم أن هذا المشتبه من الحرام البين أو من الحلال البين، ومن عرف أن هذا المشتبه من الحرام البين فإنه يجتنبه لزوماً، ومن عرف أنه من الحلال البين فله أن يفعله، والاحتياط والورع في تركه؛ لأنه قد يكون حراماً، ففي تركه السلامة المحققة، وإذا فعله مع عدم جزمه بحله، ومع احتمال الحرمة؛ فإنه يكون في نفسه منه شيء، فالطريقة المثلى التي بينها رسول الله عليه الصلاة والسلام هي أن يترك المشتبه حتى لا يعرض الإنسان نفسه لأن يكون قد فعل أمراً محرماً.
قوله: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، وأحياناً يقول: مشتبهة) يعني: أحياناً يقول: مشتبهة، وأحياناً يقول: مشتبهات.
ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً مشاهداً معايناً لكون الشيء يكون حلالاً بيناً وحراماً بيناً ومشتبهاً لا يدرى هل هو حلال أم حرام، وهو أن هناك حِمى قد منع من الوصول إليه، فالإنسان الذي يبتعد عن الحمى يسلم، ومن حام حول الحمى فقد يدخل في الحمى لأنه قريب منه فيقع فيه، وهذا من ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمثال حتى يتضح المعقول بالمحسوس، فإن المكان إذا كان محمياً لا يسمح لأحد أن يرعى غنمه فيه، فإن كان بعيداً منه فإنه قد سلم؛ لأن الغنم ليست قريبة منه فتقع فيه، ومن رعى حوله فيمكن أن تنطلق الغنم وتصل إلى مكان المنع، فكذلك الذي يقدم على المشتبهات ويفعلها فإنه قد يكون ذلك المشتبه حراماً فيقع فيه، ولكن السلامة في تركه والاستبراء للعرض وللدين، كما جاء في بعض روايات الحديث: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) استبرأ لدينه لكونه لم يقع في أمر محرم، ولعرضه حتى لا يلام ويقال: إنه فعل كذا وفعل كذا.
قوله: (وإنه من يرع حول الحمى يوشك أن يخالطه، وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر).
من يخالط الريبة يمكن أن يقع في المحرم، كما أن الراعي الذي يحوم حول الحمى يمكن أن تقع غنمه في الحمى، فيكون قد وقع في أمر محذور وأمر ممنوع منه.
والحديث ورد بأطول من هذا في الصحيحين، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وهذا الحديث جاء في الصحيحين بألفاظ مختلفة، وأورده النووي في الأربعين النووية؛ لأنه من الأحاديث الجامعة، فهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا أبو شهاب ].
هو عبد ربه بن نافع ، وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .
[ حدثنا ابن عون ].
هو عبد الله بن عون ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الشعبي ].
هو عامر بن شراحيل الشعبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ سمعت النعمان بن بشير ].
النعمان بن بشير صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو من صغار الصحابة، وقد توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وعمره ثمان سنوات، وقد جاء عنه التصريح بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الحديث، ففي الصحيحين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين)، وكان عمره ثمان سنوات لما توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا مما يستدل به العلماء على تحمل الصغير في حال صغره وروايته في حال كبره، فتكون روايته معتبرة؛ لأن العبرة بحال الأداء، ومثله الكافر إذا تحمل في حال كفره وأدى في حال إسلامه، فإن روايته معتبرة، فهو يحكي عن شيء حصل في حال الكفر ثم يؤديه في حال الإسلام.
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن النعمان بن بشير ، وفيه التصريح بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [ (وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس) ].
وهذا فيه أن هذا المشتبه الذي لا يدرى هل هو من الحلال البين أو من الحرام البين بعض الناس يعلمه، لكن كثير من الناس تخفى عليهم أحكامها، ولا يهتدي إليها كل أحد.
قوله: [ (فمن اتقى الشبهات استبرأ عرضه ودينه) ].
يعني: من ترك الأمور المشتبهة سلم من أن يعرض دينه لشيء من النقص بأن يفعل أمراً محرماً، وصان عرضه عن أن يتكلم فيه بأن يقال: فلان فعل كذا، وفلان ما عنده ورع، هذا هو معنى (استبرأ لعرضه) ومثله حديث: (مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته) يعني: كون الإنسان عنده حق ثم هو يماطل صاحبه فهو ظلم لصاحب الحق، وهذا المطل يحل عرضه بأن يتكلم فيه صاحب الحق فيقول: منعني حقي، عمل معي كذا وكذا، وعقوبته أي: حبسه إذا كان قادراً على السداد والوفاء ولكنه مماطل.
قوله: [ (فمن اتقى الشبهات استبرأ عرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) ].
لأن الأمر إذا كان مشتبهاً ليس واضحاً أنه حلال، فلعله يكون حراماً، فإذا وقع فيه الإنسان فقد وقع في الأمر المحرم، فالاحتياط هو ترك الشبهات، وليس كل من وقع في الشبهات يقع في الحرام، فقد تكون الشبهة حلالاً فلا يقع فيه، لكن من استمرأ أن يأتي الأمور المشتبهة فقد يكون شيء منها حراماً.
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا عيسى ].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن زكريا ].
هو زكريا بن أبي زائدة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الشعبي سمعت النعمان بن بشير ].
مر ذكرهما.
والأولى أن الإنسان يأخذ لحماً مذبوحاً في البلد يطمئن لذبحه، فهذا أولى من أن يأكل لحماً فيه اشتباه، وأيضاً الشراء من المنتجين في البلد أولى من الشراء من الخارج، وإن كان الشراء منهم جائزاً مثل جواز الزواج بالنصرانية وباليهودية، لكن أيهما أولى الزواج من مسلمة أو من كافرة؟ لاشك أن الزواج من المسلمة أولى، وإن كان الزواج من الكتابية جائزاً، لكن الحلال ليس كله على حد سواء، فهذا أولى من هذا، وكون الإنسان يتزوج بمسلمة أولى من أن يتزوج بكافرة من أهل الكتاب.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من بخاره أو أصابه من غباره) يعني: أنه ما أحد يسلم أن يقع في شيء من الربا، لكن الحديث ضعيف؛ لأن فيه انقطاعاً بين الحسن وأبي هريرة ، فهو لم يسمع منه، ولأن فيه أيضاً شخصاً مقبولاً لا يحتج به إلا عند المتابعة، لكن الانقطاع بين الحسن وأبي هريرة كافٍ في عدم ثبوته.
هو محمد بن عيسى الطباع ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة .
[ حدثنا هشيم ].
هو هشيم بن بشير الواسطي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا عباد بن راشد ].
عباد بن راشد صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ سمعت سعيد بن أبي خيرة ].
سعيد بن أبي خيرة مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ حدثنا الحسن ].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي هريرة ].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
[ (ح) وحدثنا وهب بن بقية ].
هو وهب بن بقية الواسطي ، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[ حدثنا خالد بن عبد الله ].
هو خالد بن عبد الله الواسطي الطحان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
[ عن داود يعني ابن أبي هند ].
داود بن أبي هند ثقة كان يهم، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، وهذا الحديث لفظ ابن أبي هند .
[ عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن عن أبي هريرة ].
تقدم ذكرهم.
أورد أبو داود حديث رجل من الأنصار مبهم، ومعلوم أن جهالة الصحابة لا تؤثر؛ لأنهم عدول ولا يحتاجون إلى تعديل من بعد ثناء الله عز وجل عليهم وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم، والجهالة في غيرهم تؤثر وتضر، وفيهم لا تضر ولا تؤثر، ولا يعني كونهم عدولاً أنهم معصومون، فإن العصمة ليست لأحد إلا للرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، ولكنهم عدول وخيار يعتمد على كلامهم، ويعول على ما جاء عنهم من الرواية، وكل راو من الرواة دون الصحابة لابد من معرفة حاله من الثقة والضعف وغير ذلك إلا الصحابة فإن المجهول فيهم في حكم المعلوم، ولهذا لا يؤثر إذا قيل: عن رجل من الأنصار، أو عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن رجل من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإن ذلك كاف في عدالته وقبول خبره.
وقد ذكر هذا الصحابي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر يوصي الحافر الذي يحفر القبر أن أوسع من جهة رجليه، وأوسع من جهة رأسه، حتى يكون القبر واسعاً غير ضيق يضم الميت بعضه إلى بعض.
قوله: [ (فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده) ].
أي: فلما رجع استقبله داعي امرأة تدعوه إلى طعام، فلما جاء ومد يده ومد الناس أيديهم تبعاً له صلى الله عليه وسلم جعل يلوك قطعة من اللحم في فمه ثم قال: (أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها)، وهذا علمه الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله عز وجل عليه، وليس كل غيب يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي يعلم الغيب على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى، وقد جاء في كثير من الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، مثل قصة العقد الذي فقدته عائشة في سفر، وجلسوا حتى الصباح في البحث عن العقد، ثم نفد الماء فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا وصلوا، ولما يئسوا من الحصول على العقد أثاروا الإبل للرحيل، وإذا العقد تحت الجمل الذي كانت تركب عليه عائشة ، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب على الإطلاق لقال من أول وهلة: العقد تحت الجمل، لكنه ما عرف ذلك حتى ثار الجمل ووجد العقد تحته.
وكذلك عائشة رضي الله عنها لما رميت بالإفك ما كان يعلم عليه الصلاة والسلام بالحقيقة حتى تألم وتأثر، وأرسل عائشة إلى أهلها، وقال لها: (إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفريه)، ولم يعلم براءتها إلا بعد أن نزلت آيات تتلى في سورة النور، فعند ذلك عرف أنها بريئة، وقبل ذلك مضت مدة طويلة وهو لا يعلم حقيقة الأمر، فلو كان يعلم الغيب مطلقاً لعلم براءتها من أول الأمر، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه يوم القيامة يذاد عن حوضه أناس من أصحابه، قال: (فأقول: أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فحتى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو أيضاً لا يعلم بما فعل أصحابه من بعده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قيل له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، والمعنى: أن فيهم من ارتد، وهم الذين ارتدوا من أصحابه وقاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالجيوش المظفرة، حتى عاد الناس إلى ما كانوا عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
والحاصل: أن الله تعالى يطلع نبيه على ما شاء من غيبه، ولا يطلعه على كل الغيب، فالاطلاع على جميع الغيوب هو من خصائص الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا أمر الله نبيه أن يقول: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50]، وقال: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188].
قوله: [ (فأرسلت المرأة قالت: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشترى لي شاة) ].
أخبرت المرأة بالذي حصل، وهو أنها أرسلت إلى البقيع -وهو المكان الذي تباع فيه الغنم- من يشتري لها شاة، فلم يجد، وكان أحد جيرانها قد اشترى شاة، فأرسلت إليه تطلب منه أن يعطيها الشاة بثمنها، فلم تجد صاحب الشاة الذي هو صاحب البيت، فطلبت من امرأته أن تعطيها إياها، فأعطتها الشاة بدون إذن زوجها، فأخذت الشاة بغير إذن صاحبها الذي هو صاحب البيت.
والشاهد من إيراد الحديث فيما يتعلق بالشبهات: هو ترك النبي صلى الله عليه وسلم لأكل هذه الشاة بعد أن علم أنها أخذت بغير إذن أهلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تركوا الأكل منها، وقال: (أطعميه الأسارى) ولعل المقصود بذلك أسارى الكفار، فيطعم ذلك للكفار بدلاً من أن يتلف ولا يستفاد منه، وهذا يدل على أن المال الذي يكون بيد الإنسان وهو غير حلال يتخلص منه بطريقة مناسبة، ومثله ما يسمى بالفوائد الربوية، وهي في الحقيقة مضار، فمن وقع في يده شيء منها، ثم جاء يسأل: ماذا يصنع فيها؟ فالجواب: أنه يصرف ذلك المال في أمور ممتهنة مثل تعبيد طرق أو بناء حمامات، أو ما إلى ذلك من الأشياء التي ليست في أمور شريفة، فيصرف المال في مثل ذلك للتخلص منه، كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم المرأة إلى التخلص من هذه الشاة بهذه الطريقة.
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا ابن إدريس ].
هو عبد الله بن إدريس ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا عاصم بن كليب ].
عاصم بن كليب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن أبيه ].
أبوه صدوق، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[ عن رجل من الأنصار ].
وهو صحابي مبهم كما تقدم.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سماك حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه) ].
قوله: [ باب في آكل الربا وموكله ] أي: حكمه، وأنه ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد المصنف هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه) آكل الربا هو الذي يأخذ الربا، وليس المقصود بذكر الأكل قصر الانتفاع على الأكل، بل الحكم واحد ولو استعمله في غير الأكل، كأن يشتري به لباساً أو سيارة أو بيتاً، ولكنه ذكر الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع، وقد قال الله في القرآن: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، فهو من هذا القبيل، ذكر الأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع.
وموكله هو الذي دفعه؛ لأن المعاملة فيها آخذ ومعطي، فآكله هو الذي أخذه، وموكله هو الذي دفعه، وكاتبه هو الذي يكتب بين الآكل والموكل، والشهود هم الذين يشهدون على عقد الربا، فهؤلاء ملعونون أيضاً؛ لأن مساعدتهم والكتابة لهم والشهادة على أمر محرم من التعاون على الإثم والعدوان، وكلهم ملعونون على لسان رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
هو زهير بن معاوية ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا سماك ].
هو سماك بن حرب ، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ].
عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبيه ].
أبوه هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، الصحابي الجليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
الجواب: كونه يعافى من العمى والجذام والفالج بهذا الدعاء فيه نكارة، ثم الإسناد فيه رجل مبهم، فالظاهر عدم ثبوت هذا الحديث.
الجواب: هذا من أحاديث الأربعين النووية، والذي أعلم أنه صحيح.
الجواب: نعم، يضم بعضهما إلى بعض، وإذا كان مجموعهما نصاباً يزكي.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر