أورد المصنف حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بايع رجلاً فأعطاه صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا رقبة الآخر)، ثم استوثق منه وقال: (أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، فقال: إن ابن عمك معاوية يأمرنا بكذا وكذا، فقال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله).
وهذا الحديث أورده أبو داود مختصراً، وهو حديث عظيم، وجاء في صحيح مسلم مطولاً، وكنت أذكر منه جملتين أرددهما كثيراً وهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) فإن هاتين الجملتين داخلتان في هذا الحديث الطويل عند مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما.
قوله: (من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده) هي كناية عن كونه صافحه بالمبايعة.
قوله: [ (وثمرة فؤاده) ]، بمعنى: أنه يكون صادقاً ومخلصاً ولا يظهر شيئاً ويخفي شيئاً، فيتفق الظاهر والباطن، ويبايعه ظاهراً بوضع يده في يده، ويكون قلبه متفقاً مع قالبه، وباطنه متفقاً مع ظاهره، ليس شأنه شأن المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فيظهر الولاء وهو يبطن الحقد والعداوة ويتربص.
قوله: [ (فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا رقبة الآخر) ]، وهذا يدل على أن الإمام المبايع يبقى على بيعته، وأنه لا يجوز الخروج عليه، ولو خرج عليه أحد فإنه يقاتل ويقتل حتى تبقى الجماعة على تماسكها ووحدتها، دون أن يكون فيها تفرق، ودون أن يكون هناك فوضى.
قوله: [ قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ].
هذا للتوثق والتأكد، (قال: نعم، قال: فإن ابن عمك معاوية يأمرنا بكذا وكذا) ، لأنه قال: (فليطعه ما استطاع) ، فقال: إنه يأمرنا بكذا وكذا، قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله.
إذا كان الأمير والوالي أمر بطاعة فإنه يسمع له ويطاع، وإذا أمر بمعصية فإن السمع والطاعة إنما هي لما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الطاعة في المعروف) وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله)، ولهذا جاء الأمر بطاعة ولاة الأمور تابعاً لطاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ولم يكن مستقلاً بحيث يسمع له ويطاع مطلقاً، وإنما الذي يسمع له ويطاع مطلقاً هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] فأمر بطاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأمر بطاعة ولاة الأمور، ولكن لما ذكر طاعة الرسول أظهر الفعل وهو (أطيعوا) ولما جاء عند ولاة الأمور ما أظهر الفعل بل قال: (وأولي الأمر منكم)، فحذف الطاعة مع ولاة الأمور للإشارة إلى أن طاعتهم إنما تكون تابعة لطاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وقد أظهر الفعل مع الرسول عليه الصلاة والسلام وهو (أطيعوا)؛ لأنه لا يأمر إلا بما هو حق، ولا يأمر بمعصية، وهو معصوم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولهذا أعيد الفعل معه، فقال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، ولم يعد الفعل مع ولاة الأمور؛ لبيان أن طاعتهم لا تكون مستقلة باستمرار بحيث يسمع لهم ويطاع في كل أمر، وإنما السمع والطاعة مقيدة في أن يكون طاعة لله ورسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [ ابن عمك ]، لأن عبد الله بن عمرو سهمي، ومعاوية أموي، وكل منهما قرشي، فهو يريد بنوة العمومة وهي بعيدة ليست قريبة؛ فهم كلهم من قريش، وقريش هم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ، وهو الأب الحادي عشر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فكلاهما من قريش؛ معاوية وعمرو بن العاص.
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ حدثنا عيسى بن يونس ].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا الأعمش ].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن زيد بن وهب ].
زيد بن وهب وهو ثقة حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ].
عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن عبد الله بن عمرو ].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما وهو الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير ، وهو أحد الصحابة المكثرين من الرواية، وكان يكتب، ولكنه ما بلغت أحاديثه مثلما بلغت أحاديث السبعة الذين اشتهروا بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب، أفلح من كف يده)، ومحل الشاهد هنا: (أفلح من كف يده) يعني: في القتال بغير حق، ويمكن أن يكون أيضاً في الفتن التي تحصل، وذكر العرب لأنهم معظم المسلمين في أول الأمر، والإسلام إنما كان أولاًً في العرب، ثم بعد ذلك امتد إلى العجم، واتسعت الفتوحات، ودخل الناس في دين الله، ودخل من العجم من دخل بدون فتوحات بهداية الله عز وجل: صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي.
قوله: (أفلح من كف يده)، يعني: عن القتال في الفتن.
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[ حدثنا عبيد الله بن موسى ].
عبيد الله بن موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن شيبان ].
هو شيبان بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
الأعمش مر ذكره، وأبو صالح ذكوان السمان ، اسمه: ذكوان ، ولقبه: السمان ، وهو مشهور بكنيته أبو صالح ، وهو مدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي هريرة ].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
وللجمع بين حديث: (ويل للعرب)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم)، نقول: لا تنافي بينهما؛ لأن هذا إخبار بأمور ستحصل، وأما الذي يقول: هلك الناس فهو يقول شيئاً ويكون فيه مبطلاً، وهو يكون في مقدمة من وصفهم بالهلاك.
أورد أبو داود حديث ابن عمر : (يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح) .
يعني: يقرب أن يحاصر المسلمون إلى المدينة، وهذا يمكن أن يشهد له: (إن الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) ، وأن الناس قد يحصل لهم ابتلاء، وأنهم قد يحاصرون حتى يكون أبعد الأماكن التي يدافع عنهم فيها والثغور هي سلاح، وهو مكان قيل: إنه قريب من خيبر، والله تعالى أعلم بالواقع والحقيقة.
ومعنى حديث: (يأرز الإيمان إلى المدينة): أن قوة الإيمان تكون هناك، وفيه أيضاً: كون الناس يأتون إلى المدينة من أجل فضلها ومن أجل السلامة من الفتن ومن الشرور التي تحصل في مختلف الأقطار.
وهذا فيه انقطاع؛ لأنه لم يصرح بشيء فيه، ومعلوم أنه يروي عن ابن وهب بواسطة، وكثيراً ما يروي عن ابن وهب بواسطة أحمد بن صالح المصري ، فلا أدري من هو هذا المحذوف، والحديث صححه الألباني ، لكن لا أدري من أي وجه كان تصحيحه مع هذا الانقطاع.
وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث أخرجه الحاكم من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وهو ابن أخي عبد الله عن عمه عبد الله عن جرير به.
وجرير بن حازم موجود هنا في الإسناد أيضاً.
وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، فلعل محدث أبي داود هنا هو أحمد هذا، وإنما لم يسمه أبو داود لما قيل من اختلاطه، ورواية مسلم عنه فقط.
واسمه أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم المصري الوهبي لقبه بحشل أخرج له مسلم ، وهو من الحادية عشرة.
واعتذر الحافظ لـمسلم فقال: لعل إخراج مسلم عنه قبل اختلاطه.
[ حدثنا جرير بن حازم ].
جرير بن حازم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبيد الله بن عمر ].
عبيد الله بن عمر هو العمري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن نافع ].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عمر ].
هو عبد الله بن عمر وقد مر ذكره.
ولا يمكن أن يقال: إن هذا حصل في زمن الردة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه ليس بظاهر، وما حصل في زمن أبي بكر أن الناس حوصروا بل كانت البلاد بأيديهم.
وهذا تفسير من الزهري لسلاح الذي هو أبعد المسالح بأنه قريب من خيبر.
قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح ].
أحمد بن صالح ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل .
[ عن عنبسة ].
هو عنبسة بن خالد الأيلي، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود .
[ عن يونس ].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الزهري ].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أورد أبو داود حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)، أي: إن الله عز وجل زوى له الأرض فشاهدها ورأى ما يصل إليه ملك أمته، وقد حصل ذلك في زمن بني أمية، حيث فتحت الفتوحات في الشرق والغرب حتى وصل عقبة بن نافع إلى المحيط الأطلسي، ووصلت بعض الجيوش التي أرسلت إلى جهة المشرق إلى الصين وإلى السند والهند، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية، ودخل الناس في هذا الدين، وتحقق بذلك ما أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكذلك كان الأمر في عهد بني العباس؛ ويذكر عن هارون الرشيد أنه مرت سحابة ببغداد فقال: (أمطري حيث شئت فخراجك سيأتي إلي)؛ لأنها تجاوزت بغداد فلم تمطر عليها، فقال: أين أمطرت فخراجك سيأتيني، بمعنى: أن الأرض التي سينزل فيها ذلك الماء سيصل خراجها إلى بغداد، وذلك إشارة إلى اتساع رقعة البلاد الإسلامية.
فتحقق ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من افتتاح البلاد ودخول الناس في هذا الدين الحنيف، مع أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وكذلك الذين جاءوا بعدهم ممن صار على منوالهم في الفتوحات والجهاد في سبيل الله كانوا أقل عدداً من أعدائهم وأقل عُدداً، ولكن وجدت عندهم قوة الإيمان التي هي سبب كل خير، وضعف الإيمان وعدم الاستقامة سبب كل شر وضعف وهوان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)، فهذه الفتوحات إنما حصلت بالصدق مع الله وبقوة الإيمان والإخلاص والجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يهتدي الناس، وأن يدخلوا في دين الله، فالمسلمون كانوا أقل عدداًً وعُدداً، وأعداؤهم الكفار كانوا أكثر عدداًً وعُدداً، ومع ذلك كان المسلمون يتفوقون ويتغلبون على الكفار؛ بسبب ما أعطاهم الله من قوة الإيمان والصدق.
ولهذا جاء في صحيح البخاري : أن جيشاً ذهب إلى قتال الفرس، وكان أميرهم النعمان بن مقرن ، وكان فيهم المغيرة بن شعبة ، فلما التقوا مع كبير الفرس طلب كبير الفرس واحداً من المسلمين يأتي للتفاوض والتفاهم معه، فذهب المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فقال له ذلك الزعيم: ما أنتم؟ قال: نحن قوم من العرب كنا في بلاء وفقر شديد، نعبد الشجر والحجر، ونمص النوى والجلد من الجوع، فبعث الله فينا رسولاً من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فدعانا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأمرنا بالجهاد في سبيله، وأخبرنا بأن من قتل منا فهو في الجنة، ووصفها كذا وكذا، ومن عاش منا ملك رقابكم.
هذا الكلام جاء من قوة إيمان، ومن عزيمة وإخلاص لله عز وجل؛ ولهذا لما تغيرت أحوال الناس هان المسلمون على أعدائهم بعد أن كان الكفار يهابون المسلمين، صاروا هم الذين يهابون ويخافون الكفار؛ والسبب في ذلك كله ضعف الإيمان، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث : (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري) .
قوله: [ (وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) ]، الأحمر هو الذهب، والأبيض هو الفضة، وكنوز كسرى وقيصر التي كانت من الذهب والفضة غنمها المسلمون في جهادهم للروم وللفرس، وأحضرت تلك الكنوز إلى المدينة وتولى قسمتها الفاروق رضي الله عنه بنفسه في المدينة، وتحقق بذلك ما أخبر به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في قوله: (ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله) وقد تحقق ذلك وأنفقت في سبيل الله على يد الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.
قوله: [ (وإني سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة بعامة) ]، يعني: بأن يصيبهم قحط عام يصير به هلاك وضرر الجميع، وأعطاه الله ذلك، فالقحط يحصل في بلد، ويحصل في بلد آخر الرخاء والخصب، لكن كونه يحصل لهذه الأمة أنها تهلك بالقحط، وقلة المطر، وتفنى بسبب ذلك، هذا لا يحصل.
قوله: [ (وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم) ]، بيضتهم بمعنى: أنه يقضي على الإسلام والمسلمين، والإسلام باق، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجته، ولو حصل ضعف في مكان حصلت قوة في مكان آخر، لكن لا تخلو الأرض ممن يقوم بأمر الله، ولكن الشيء الذي قد حصل هو كون بعضهم يقتل بعضاً، والفتن التي تكون بينهم تحصد بعضهم بالقتل وحصول الأضرار الكبيرة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (وألا يهلك أمتي بسنة بعامة)، أي بسنة قحط تعم البلاد.
وقوله: (وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم) يعني: لن يوجد عدو ليس من المسلمين يستبيح بيضتهم ويقضي على الإسلام والمسلمين؛ لأن الإسلام باق وعزيز، ولكنه يكون قوياً في بعض الأزمان، ودون ذلك في بعض الأزمان، لكن كونه تخلو منه الأرض أو ينتهي، هذا لا يكون، بل لابد أن يكون هناك من يقوم بشرع الله، ولا يضره من خالفه، كما سيأتي في آخر هذا الحديث.
قوله: [ (وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد) ]، يعني: ما قدره الله وقضاه فإنه لابد من وجوده، وكل شيء شاءه الله لا بد أن يكون، وكل شيء لم يشأه الله لا يمكن أن يكون، ولهذا فإن عقيدة المسلمين في باب القدر تنبني على هاتين الجملتين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ما سبق به قضاء الله وقدره لابد من وجوده ولابد من حصوله، وما جرى به القضاء بأنه لا يكون فلا سبيل إلى كونه ووجوده، ولهذا يقول الشاعر:
فما شئت كان وإن لم أشأ
وما شئت إن لم تشأ لم يكن
ما شئت يا الله كان وإن لم أشأه أنا، وما شئت أنا إن لم تشأه فإنه لا يكون؛ لأنه لا يكون ولا يقع في ملك الله إلا ما قدره الله وقضاه.
والقدر مغيب ولا يعلمه إلا الله، ولكن يمكن أن يعرف المقدر بأمرين: الأمر الأول: الوقوع، فإذا وقع الشيء فهو مقدر؛ لأنه لا يقع إلا مقدر.
والأمر الثاني: حصول الإخبار به من الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يدل على أنه سبق به القضاء والقدر، وأنه لابد أن يوجد ذلك المقدر، ولكنه عرف بإخبار الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بأنه سيحصل كذا وكذا، وأنه سيقع كذا وكذا، وسيجري كذا وكذا، فهذا لا بد وأن يوجد.
وهذا الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيوجد سبق به القضاء والقدر؛ ولهذا قال: (إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد)، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا جاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وكذلك في الدعاء: (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت)، فالذي قدره الله وأعطاه لا أحد يمنعه، وما قدر ألا يكون فإنه لا سبيل إلى كونه، ولا سبيل إلى وجوده.
قوله: [ (وإني لا أهلكهم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم) ]، يعني: قضاء الله وقدره بأنه لا يهلكهم بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فقدر وقضى أن بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، ويضر بعضهم بعضاً، وهذا يقع.
قوله: [ (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) ]، هذا هو الذي يخشاه النبي على الأمة، وهو كونها تبتلى بمن يضل، سواء كانوا هؤلاء الأئمة أئمة دعوة وتبليغ وإرشاد، أو أصحاب سلطة، والإمامة تكون بكونه متبوعاً وغيره يتبعه وإن لم يكن والياً، وقد يكون والياً ويكون مع إضلاله قوة تساند وتؤيد هذا الضلال، وتحتضن من يكون من أهل الضلال، فقال صلى الله عليه وسلم: (وإنما أخشى على أمتي الأئمة المضلين)؛ لأنهم يحرفونهم ويصرفونهم عن الحق والهدى بأن يضلوهم ويخرجوهم من الجادة والاستقامة إلى الطرق المنحرفة الخارجة عن الصراط المستقيم، كما قال الله عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
قوله: [ (وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة) ]، يعني: إذا حصلت الفتن، وبدأ قتل الناس بعضهم لبعض وإهلاك الناس بعضهم لبعض فإن هذا سيبقى، ولكن ليس لأحد أن يأتي من خارج المسلمين ويقضي عليهم ويستبيح بيضتهم، وإنما يقتل بعضهم بعضاً ويهلك بعضهم بعضاً.
قوله: [ (ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) ].
وهذا قد حصل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بحصول ارتداد من ارتد، وكذلك في مختلف العصور والدهور يحصل الارتداد عن الدين، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابد وأن تطوف نساء دوس بذي الخلصة، وهذا سيقع كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كون بعض الناس يقول: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة وقد وفقها الله للدخول في الإسلام، فهذا كلام مردود، إذ كيف يقال هذا وقد ارتد من ارتد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والردة تحصل في كل وقت وفي كل حين، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن وجود ذلك، وأنه سيحصل وسيقع.
قوله: [ (وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) ]، يعني: يخرج أناس دجالون يدعون النبوة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين لا نبي بعده، وإنما هؤلاء كذبة دجالون.
قوله: [ (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق -قال
هذا معناه: بقاء الخير والإسلام والحق في مختلف العصور والدهور، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجته حتى يأتي أمر الله، وأمر الله هو ريح تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، فلا يبقى إلا حثالة لا خير فيهم وعليهم تقوم الساعة، وعلى هذا فيكون أمر الله هو ذلك الوقت الذي يبقى فيه الإسلام والخير، وفي آخر الزمان وعند نهاية الدنيا يحصل ذهاب كل من في قلبه خير، ولا يبقى إلا أشرار كفار عليهم تقوم الساعة.
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ ومحمد بن عيسى ].
محمد بن عيسى هو الطباع ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة .
[ قالا: حدثنا حماد بن زيد ].
هو حماد بن زيد بن درهم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أيوب ].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي قلابة ].
هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي أسماء ].
أبو أسماء الرحبي هو عمرو بن مرثد، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن ثوبان ].
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
أورد أبو داود حديث أبي مالك الأشعري : (إن الله أجاركم من ثلاث: ألا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا)، كما دعا نوح عليه السلام على قومه، وحصل هلاكهم، وهذا لم يحصل من النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنه عليه الصلاة والسلام لما أوذي واشتد به الأذى وخرج مهموماً مغموماً على وجهه خاطبه جبريل، وقال: (إن هذا ملك الجبال فأمره بما شئت، فخاطبه ملك الجبال وقال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة، فقال: لا، بل أرجو من الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً)، فهو لم يدع عليهم مع ما حصل له منهم من الأذى.
قوله: [ (وألا يظهر أهل الباطل على أهل الحق) ]، بأن يظهر الكفار على المسلمين بحيث يقضوا عليهم، فيكون من جنس (وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم)؛ فإن أريد به الكفار، وأنهم يقضون على الإسلام، ويستبيحون بيضة الإسلام ولا يبقى إسلام، فهذا لا يكون، وهو الذي مر في الحديث السابق، وإن أريد به أنه قد يحصل من أهل الضلال من يكون عنده غلبة وله سلطة وولاية، فهذا يقع ويحصل.
قوله: [ (وألا تجتمعوا على ضلالة) ]، لا يتفقون على ضلالة، بمعنى: أنهم يتركون الحق وتخلو الأرض من الحق، ولا يبقى إلا الضلال وتجتمع الأمة على الضلال فهذا لا يكون.
والحديث فيه انقطاع بين شريح وبين أبي مالك فهو لم يدركه، ذكر ذلك الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة.
لكن فيما يتعلق بعدم اجتماع الأمة على ضلالة، فإن هذا محل اتفاق ولا خلاف فيه، فالأمة لا تجتمع على ضلالة من أولها إلى آخرها، ولن تخلو الأرض ممن هو على حق وهدى.
محمد بن عوف الطائي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي .
[ حدثنا محمد بن إسماعيل ].
هو محمد بن إسماعيل بن عياش، وقد عابوا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع، أخرج له أبو داود .
[ حدثني أبي ].
هو إسماعيل بن عياش ، وهو صدوق في روايته عن أهل بلده، ومخلط عن غيرهم، وحديثه أخرجه البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[ قال ابن عوف : وقرأت في أصل إسماعيل ].
إسماعيل هو ابن عياش ، يعني: في أصل كتابه.
[ قال: حدثني ضمضم ].
هو ضمضم بن زرعة، وهو صدوق يهم، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[ عن شريح ].
هو شريح بن عبيد الحضرمي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن أبي مالك -يعني الأشعري- ].
أبو مالك الأشعري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر