حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن) .
أورد أبو داود باب ما يرخص فيه من البداوة في الفتنة.
يعني: البداوة ليست مطلوبة في الأصل، وفيها جفاء (من بدا جفا) وقد سبق أن مر بنا الحديث في هذا، ولكن في بعض الأوقات وعندما يكون هناك فتن فإنه يرخص في ذلك بل ويرغب فيه للسلامة من الفتن، والابتعاد عنها وعن المشاركة فيها، بأن يكون الإنسان في عزلة وبعد عنها، حتى لا يكون له مشاركة أو نصيب فيها.
أورد أبو داود حديث أبي سعيد قال رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال)، يعني: أعالي الجبال، (مواقع القطر) : أماكن نزول المطر، سواء كان في سفح أو وعر، وسواء كان في علو أو سفول، فهو يتبع العشب والرعي، ويكون بذلك فاراً بدينه من الفتن؛ لأنه مشتغل بهذه الغنم يرعاها، ويشرب ويقتات من درها، ويكون بعيداً من الفتن وأهلها.
قوله: [ (يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر ) ].
مواقع القطر هذه أعم من شعف الجبال؛ لأن المقصود بها أماكن الرعي والخصب، وسواء كان ذلك في جبال أو في غير جبال، وهو من عطف العام على الخاص.
قوله: [ (يفر بدينه من الفتن) ].
يعني: السبب الذي جعله يكون كذلك هو الفرار بدينه من الفتن، وحتى لا يكون مع أهلها فيشارك فيها.
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .
[ عن مالك ].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ].
عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن صعصعة ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن أبيه].
وهو كذلك ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن أبي سعيد الخدري ].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال: خرجت وأنا أريد -يعني: في القتال- فلقيني أبو بكرة فقال: ارجع فإني سمعت رسول الله صلى الله وعلى آله وسلم يقول: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قال: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه) ].
أورد أبو داود باباً في النهي عن القتال في الفتنة.
أي: أن الإنسان لا يشارك في الفتن بالقتال، بل عليه الاعتزال وترك المشاركة؛ لأن في ذلك السلامة، وقد أورد أبو داود حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه أنه قال للأحنف بن قيس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، يعني: تقابلا وكل منهما ضرب بسيفه صاحبه.
قوله: [ (قال: هذا القاتل فما بال المقتول؟) ].
هذا القاتل قتل غيره فهو في النار، لكن ما بال المقتول وهو ليس بقاتل؟ قال: (إنه أراد قتل صاحبه)، وفي بعض الألفاظ: (كان حريصاً على قتل صاحبه) ومعنى ذلك: أنه حصل منه الإقدام ولكنه غلب، وإلا فإنه قصد القتال، ورفع سيفه ومد يده.
إذاً: كل منهما حصلت منه مشاركة بالفعل، وليس بمجرد النية، فهو رفع سيفه ولكن صاحبه سبقه وتفوق عليه وبادره بالقتل أو تمكن من قتله فيكونان مشتركين في إرادة القتل، وأحدهما تمكن من صاحبه والثاني لم يتمكن مع حرصه على قتل صاحبه، ولكن هذا كما هو معلوم لا يلزم أن يكونا واقعين في النار، ولكنهما مستحقان لعذاب النار، وأمرهما تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عفا عنهما وإن شاء عذابهما.
أبو كامل هو الفضيل بن حسين الجحدري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي .
[ حدثنا حماد بن زيد ].
حماد بن زيد مر ذكره.
[ عن أيوب ].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ ويونس ].
هو يونس بن عبيد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الحسن ].
الحسن بن أبي الحسن ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الأحنف بن قيس ].
الأحنف بن قيس ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بالحلم.
[ عن أبي بكرة ].
هو أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [ حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني ].
محمد العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود .
[ حدثنا عبد الرزاق ].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا معمر ].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
الجواب: هذا محتمل والله أعلم، وهو من قبيل: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار).
الجواب: له وجه، ويمكن ذلك، وقد جاء في الحديث (من مشى إلى رجل من أمتي ليقتله فليقل هكذا) والمقتول أو الذي يراد قتله هو الذي يقول هكذا، وبهذا يستقيم.
أما حديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، فلا يدخل تحت هذا؛ لأن الأول إنسان يريد أن يدافع عن نفسه ولا يريد قتل الآخر، أما في الفتنة فإن كل واحد يريد قتل الآخر، وأما إذا اعتدي على إنسان فإنه يدافع عن نفسه بدون القتل، وقد يضطر إلى القتل فيكون معذوراً ولكن في ذاك الحديث: (إذا التقى المسلمان..) فكل واحد متجه لقتل الآخر، لا أن شخصاً معتدياً على آخر، والمعتدى عليه يدافع عن نفسه.
أما عن رجوعه إلى ما جاء في الحديث فهذا واضح، وإنما الإشكال هو في تطبيقه على القصة، إذ الحديث فيه قاتل ومقتول واحد في الجنة وواحد في النار، وفي القصة كل واحد منهما يقال فيه: شقي، فلا يستقيم، أو أنه ساق الحديث من أجل أن يبين أن الذي ينبغي أن يكون الإنسان هكذا، وأنه لا يكون مقاتلاً ولا حريصاً على القتل.
الجواب: نعم، يستدل به.
الجواب: هذا مثال -والله أعلم- ولذا سبق أن مر بنا أن الإنسان يلحق بإبله كما في قوله: (من كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه)، فإن المقصود أنه يبتعد عن الفتن ويكون تبعاً لما أعطاه الله، ولكن هنا تمثيل بالغنم، لأنها أسهل من غيرها في صعود ورقي الجبال، ولكن المعنى ليس خاصاً فيها؛ لأن من كان صاحب إبل فإنه يحصل في اشتغاله بها ورعيه لها وشربه من لبنها أو درها مثلما حصل للغنم، وقد مر الحديث في هذا.
الجواب: لا شك في ذلك؛ لأن البدو ليسوا مجتمعين، بل هم متفرقون متشتتون، يتبعون مواضع القطر، ويكونون في أماكن مختلفة، فالفتن غالباً تكون في المدن.
الجواب: الذي يبدو أنه القتل، وأما الشهوات والشبهات فهذه تعالج بالتحذير منها وبيان أخطارها وأضرارها.
الجواب: لا يقال هذا، وإنما يقال: الله أعلم، وأما في ذلك الوقت فكان يقال: الله ورسوله أعلم؛ لأن عنده علم يخبر به، والرسول يسأل مثل هذا السؤال من أجل أن يبين، وكان المقصود من ذلك أن يستعد السامع وأن يتهيأ، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا يقال في كل شيء يسأل عنه: الله ورسوله أعلم؛ لأن هناك أموراً لا يعلمها رسول الله عليه الصلاة والسلام، مثل: لو سئل الإنسان: متى تقوم الساعة؟ فلا يقول: الله ورسوله أعلم؛ لأن الرسول لا يعلم قيام الساعة، فإذاً فيقال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم، أو لا أدري.
حتى في المسائل والأمور الشرعية عندما يسأل عنها الإنسان يقول: الله أعلم، فيجب إضافة ذلك إلى الله عز وجل، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يستعملون ذلك في حياته؛ لأنه كان يخاطبهم فيقولون: الله ورسوله أعلم، ثم يعلمهم ويخبرهم، وإنما قال ذلك ليستعدوا لتلقي الجواب، مثل ما جاء في حديث معاذ بن جبل لما كان رديفه قال: (أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم) ثم قال: حق الله كذا، وحق العباد كذا.
الجواب: يحتمل أن تقع في زمن أبي ذر ، وفي حياة أبي ذر.
والاحتمال معناه: أنها قد تحصل وقد لا تحصل في زمانه.
الجواب: ليس خاصاً بالله؛ لأنه يقال لله ولغير الله، ولهذا قاله الصحابة يجيبون النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، فهذا جواب أبي ذر ، وكذلك أيضاً جواب معاذ قال: (لبيك وسعديك).
الجواب: الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أولى ممن يعتزلهم، والفتن التي يكون فيها اعتزال هي ما جاء في الأحاديث والمقصود بها الاقتتال، وأما وجود فتن شهوات وشبهات فيخالط الناس ويحذر من تلك الفتن، ويبين الحق ويحذر من الباطل.
الجواب: اجتهدوا في طلب الحق.
الجواب: لكن كما هو معلوم خير ابني آدم الذي حصل منه أنه ما قتل وما أراد القتل، لكن كونه يدفع بدون القتل هذا فيه إحسان إلى نفسه، وفيه إحسان إلى القاتل بالحيلولة بينه وبين أن يقع في أمر خطير، فإن الدفاع بشيء دون القتل أو بمنع القاتل من القتل بمسكه أو بتقييده أو ما إلى ذلك من الأمور، فهذا فيه مصلحة للقاتل والمقتول.
يعني إذا دخل عليه بيته يمنعه بدون أن يقاتله .
وقوله: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ [المائدة:28] كأن المقصود به لن أبسطها لأقتلك، لكن كونه يرده ويمنعه فلا شيء ينفيه.
وهنا في العون يذكر مسألة يقول: قال القاري : والصواب أن الدفع جائز إذا كان الخصم مسلماً إن لم يترتب عليه فساد، بخلاف ما إذا كان العدو كافراً؛ فإنه يجب الدفع ما أمكن؛ لأنه إذا قتل قتل كافراً وما قتل مسلماً.
الجواب: لا شك أن هذا من الفتن، ومن فتنة الناس في دينهم كونهم يتفرقون ويتحزبون. والفتن كما هو معلوم ليست كلها مجرد قتل؛ لأن الفتن فيها ظاهر وفيها خفي وفيها قتل، وفيها فتنة في الدين، وفتنة الأهل والمال، وفتنة في أمور كثيرة.
ولا يقال: إن اعتزال الكلام في هذه المناهج هو الأفضل، وإنما يبين الحق ليتبع والباطل ليترك وليحذر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر