قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من تكلم في القدر بالبصرة ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا نعرفه، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق، فلبثت ثلاثاً ثم قال: يا عمر ! هل تدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم
حديث جبريل عليه السلام حديث عظيم مشتمل على أمور عظيمة مهمة، وقد مر جملة منه في الدرس الماضي حتى وصلنا فيه إلى سؤال جبريل عن الإسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابه فقال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سببيلاً) وقد ذكرنا أن هذه الأركان الخمسة هي التي بني عليها الإسلام، وأن الشهادتين هما أساس لبقية الأركان، وشرحنا الشهادتين.
ثم أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة، ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن ورسم له الخطة التي يسير عليها في الدعوة إلى الله عز وجل، قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، فهي أهم الأركان، وهي أول شيء يدعى إليه بعد التوحيد، وقد جعلها تالية للشهادتين؛ لأنها أعظم الأركان بعد الشهادتين؛ ولأنها صلة وثيقة بين العبد وبين ربه حيث تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات.
وبقية الأركان ليست مثلها، فمنها ما يتكرر في السنة، ومنها ما يتكرر في العمر.
ومن المعلوم أن الصلاة يمكن أن يعرف بها من يكون ولياً من أولياء الله، ومن يكون بخلاف ذلك، لأنك إذا صحبت إنساناً تستطيع أن تكتشفه في خلال أربع وعشرين ساعة، فإن كان من المحافظين على الصلاة فهي علامة خير، وإن كان بخلاف ذلك فهي علامة شر، بخلاف الزكاة فإنها لا تجب إلا على الأغنياء، ولا تجب إلا في السنة، ولا تجب إلا بشروط، فلا يعرف بها المرء بسرعة.
والصيام لا يجب إلا شهراً في السنة، والحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، وأما الصلاة فتجب في اليوم والليلة خمس مرات، فهي كما قال بعض أهل العلم: صلة وثيقة بين العبد وبين ربه؛ لأنه لا يفرغ من صلاة إلا وهو يفكر في الصلاة التي تليها، وهكذا خلال أربع وعشرين ساعة، فإنه لازم عليه وواجب عليه أن يأتي بهذه الصلوات الخمس التي فرضها الله عز وجل على عباده.
وأمر الصلاة عظيم، وشأنها كبير، وقد جاءت نصوص كثيرة تدل على عظم شأنها، وأنها علامة تميز بين المؤمن والكافر، فالحد الفاصل بين المرء وبين الكفر والشرك ترك الصلاة، كما جاءت أحاديث كثيرة تتعلق بفضلها وعظم شأنها، وكذلك صلاة الجماعة ووجوبها، وأن التخلف عنها من علامات النفاق.
ويليها الزكاة، وهي قرينتها في كتاب الله عز وجل ونفعها متعد؛ لأنها تتعلق بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، ولكنها لا تجب في السنة إلا مرة واحدة، وبعد ذلك الصيام، وهو لا يجب في السنة إلا شهراً واحداً، والحج لا يلزم في العمر إلا مرة واحدة، وما زاد على ذلك فهو تطوع.
وجبريل عليه السلام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ففسره بالأعمال الظاهرة التي هي الشهادتان وهي قول باللسان، والأركان الأخرى التي هي أعمال بالجوارح؛ من صلاة وزكاة وصيام وحج، وكلها أمور ظاهرة، ولهذا فإن الإسلام في الأصل هو الاستسلام لله، ومعنى ذلك: أن هذا الاستسلام يظهر على الجوارح.
ثم إنه سأله عن الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره).
وهذه هي أركان الإيمان الستة، وقد فسره بأمور باطنة، وهي تناسب المعنى اللغوي الذي هو التصديق، وهو ما يقوم بالقلب، فأضيف إلى الإسلام ما يناسب معناه اللغوي، وهو الاستسلام والانقياد، وأضيف إلى الإيمان ما يناسب معناه اللغوي وهو ما يقوم بالقلب من التصديق.
وكما هو معلوم أن الإيمان لابد أن يكون بالقلب وباللسان وبالعمل، ولكن عند اجتماعهما أعطي الإسلام ما يناسب المعنى اللغوي وهو الظاهر، وأعطي الإيمان ما يناسب المعنى اللغوي وهو ما يقوم بالقلب من التصديق، ومن المعلوم أن لفظ الإيمان والإسلام من الألفاظ التي إذا جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، وإذا انفرد أحدهما شمل المعاني المفرقة عند الاجتماع، وفي حديث جبريل لما كان السؤال عن الإسلام والإيمان وزع المعنى العام عليهما، فأعطي الإسلام الأمور الظاهرة، وأعطي الإيمان الأمور الباطنة، لكن إذا جاء لفظ الإسلام منفرداً مستقلاً، فإنه يشمل الأمور الظاهرة والباطنة، كما قال الله عز وجل: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فليس المقصود من ذلك الأمور الظاهرة فقط دون ما يقوم بالقلوب، وكذلك قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] ليس المقصود من ذلك ما جاء في حديث جبريل: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله... إلخ) بل يدخل فيه أركان الإسلام وأركان الإيمان، وكذلك الإيمان عندما يأتي منفرداً يشمل الظاهر والباطن.
قوله: (أن تؤمن بالله) الإيمان بالله عز وجل يعني: الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وقد مر ما يتعلق ببيان الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وهذا الركن الأول من أركان الإيمان مثل الركن الأول من أركان الإسلام؛ لأن ذاك أساس يتبعه كل ما وراءه، وهذا أساس يتبعه كل ما وراءه؛ فالإيمان بالله يتبعه ما وراءه، ولهذا جاءت الضمائر مضافة إليه: بالله.. ملائكته.. كتبه.. رسله، فهو الأساس وغيره تابع له، أي: أن الإيمان بالملائكة تابع للإيمان به، والإيمان بالرسل تابع للإيمان به، والإيمان بالكتب تابع للإيمان به، والإيمان باليوم الآخر تابع للإيمان به، والإيمان بالقدر تابع للإيمان به، ومن لم يؤمن بالله لا يؤمن بهذه الأمور.
قوله: (أن تؤمن بالله وملائكته)، الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان الستة، والملائكة عالم من العوالم التي خلقها الله عز وجل، وقد خلقهم من نور كما ثبت ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) والملائكة خلقهم الله عز وجل ذوي أجنحة، مثنى وثلاث ورباع، وجبريل له ستمائة جناح كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يطيرون بأجنحتهم، ويتحولون إلى صورة الإنسان كما جاء في أول الحديث، وكما جاء في قصة ضيوف إبراهيم، وفي مجيء جبريل إلى مريم بصورة بشر.
وهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فهم مستسلمون منقادون دائماً وأبداً، وقد وكلوا بأعمال كثيرة، فمنهم الموكل بالوحي، ومنهم الموكل بالقطر، ومنهم الموكل بالموت، ومنهم الموكل بالجنة والنار، ومنهم الموكل بالحفظ والكتابة، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم الموكل بالأرحام، ويجب التصديق والإيمان بكل ما جاء في الكتاب وثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الملائكة.
وهم خلق كثير لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ومما يدل على كثرتهم الحديث الصحيح في البيت المعمور وهو في السماء السابعة، وقد جاء في الحديث: (أنه يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ثم لا يعودون إليه)، ومعنى هذا: أنه كل يوم يدخل سبعون ألفاً ولا يتاح لمن دخله أن يرجع إليه مرة أخرى، والحديث يدل على كثرتهم، وأنهم جند لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، وكذلك الحديث الذي فيه: (أن جهنم لها سبعون ألف زمام، وكل زمام معه سبعون ألف ملك يجرونها).
وكل إنسان معه حفظة وكتبة من الملائكة.
وقدم ذكرهم على غيرهم في الأصول الستة؛ لأنهم هم الذين يأتون بالوحي إلى الرسل؛ فهم الواسطة بين الله وبين رسله، ثم ذكر بعدهم الكتب؛ لأنهم ينزلون بالكتب، ثم جاء ذكر الرسل؛ لأنهم هم الذين تصل إليهم الكتب من الملائكة، فجاء الترتيب بذكر الإيمان بالملائكة؛ لأنهم الذين يأخذون عن الله، ثم الذي يأخذونه هو الكتب وينزلون بها، ثم الرسل الذين تنتهي الرسالة إليهم، حيث ينتهي الرسول الملكي إلى الرسول البشري فيبلغه ما أنزل عليه.
وقد جاء وصف الملائكة بالرسالة لا بالنبوة: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] .. جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ [فاطر:1] فوصفوا بأنهم رسل، وما وصفوا بأنهم أنبياء، وعلى هذا فإن الأصل في هذا الباب أن الإيمان بالملائكة من علم الغيب، وأنه لا يثبت فيهم إلا ما ثبت بالدليل، ولا يتكلم بشيء من غير علم؛ لأن علم الغيب لا يعرف إلا بالوحي.
فالإيمان بالله من علم الغيب؛ وإضافة شيء من الصفات والأسماء إليه، لا يثبت إلا عن طريق الوحي، ولا يعلمه الناس من تلقاء أنفسهم، والإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب؛ لأنهم لا يشاهدون ولا يعاينون، بل يكونون قريبين من الإنسان يكتبون ويحفظون، ومع ذلك لا يشاهدهم الناس، ومثلهم الجن الذين يكونون حول الإنس ولا يشاهدونهم ولا يعاينونهم، كما قال الله عز وجل: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27].
قوله: (وكتبه).
الكتب هي من كلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل لا ينحصر ولا ينتهي، لأنه لا بداية له ولا نهاية له، والمخلوقات كلها محصورة، ولهذا جاء في القرآن الكريم آيتان تدلان على سعة كلام الله وكثرته، وأنه لا يحاط به، وأن البحور الزاخرة لو تحولت مداداً يكتب به لنفدت البحور ولو ضوعفت أضعافاً مضاعفة؛ لأنها لو ضوعفت مع سعتها وكثرة مائها فهي محصورة، وكلام الله عز وجل لا ينحصر؛ قال الله عز وجل: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [الكهف:109]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27] فهاتان الآيتان الكريمتان دالتان على أن كلام الله لا ينحصر.
والقرآن من كلام الله، والتوراة من كلام الله، والإنجيل من كلام الله، والزبور من كلام الله، وكل كتاب أنزله الله عز وجل فهو من كلامه، وكل كلام سمعه منه ملك أو إنس فإنه من كلامه، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلمه الله وأن موسى كلمه الله، فكل منهما كليم الله، وإذا دخل أهل الجنة فإنه يكلم أهل الجنة.
والإيمان بالكتب يكون بأن نصدق بما جاء في الكتاب والسنة من كتب أنزلها الله، وكذلك ما لم يذكر لنا؛ لأنه ليس كل كتاب قص علينا، وكل رسول قد أنزل الله عليه كتاباً كما قال الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25]، فنؤمن بالذي سمي باسمه، والذي لم يسم نؤمن به على سبيل الإجمال وإن لم نعرف اسمه، فالتوراة والإنجيل والزبور كلها كتب منزلة، فالزبور كتاب أنزله الله على داود، وكتاب أنزله الله على موسى وهو التوراة، وكتاب أنزله الله على عيسى وهو الإنجيل، وكذلك صحف إبراهيم وموسى، وهذه هي التي سميت في القرآن، وغيرها لم يسم، ونحن نؤمن بالجميع، ونقول: إن هذه الكتب من جملة كلام الله.
ونعلم أن هذه الكتب مشتملة على ما فيه الخير والسعادة لمن أنزلت عليه، وأن من أخذ بها فقد سعد، ومن أعرض عنها فقد خاب وخسر.
قوله: (ورسله) الإيمان برسل الله عز وجل وهم من البشر، أرسلهم الله عز وجل وأوحى إليهم، وأمرهم بالتبليغ، وقاموا بأداء ما كلفوا به على التمام والكمال، ودلوا أممهم على كل ما أمروا بتبليغه لهم، وما بعث الله من نبي إلا ودل أمته على خير ما يعلم لها، وحذرها من شر ما يعلم لها، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ونحن نؤمن بمن سمي منهم على سبيل التفصيل، ومن لم يسم نؤمن به وإن لم نعرف اسمه، والله عز وجل ذكر في القرآن خمسة وعشرين، جاء ثمانية عشر منهم في سورة الأنعام، قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:83-86]. ويبقى بعدهم سبعة وهم: آدم وهود وشعيب وصالح ومحمد صلى الله عليه وسلم وذو الكفل وإدريس، وقد جاء سبعة عشر منهم في سورة الأنبياء.
هؤلاء الخمسة والعشرون جاء ذكرهم في القرآن، فنحن نؤمن بهم وبأسمائهم وهم الذين قصوا علينا، ونؤمن بغيرهم ممن لم يقص علينا.
ثم إن هناك رسلاً وهناك أنبياء، والفرق بين النبي والرسول كما قال بعض أهل العلم: أن الرسول هو الذي أوحي إليه بشريعة ابتداءً، وأنزل عليه الكتاب، وأمر بتبليغه، والنبي هو الذي أمر بأن يبلغ رسالة سابقة، ولم ينزل عليه كتاب، ولكنه كلف بأن يحكم بكتاب، أو أن يبلغ كتاباً.
وهذا مثل أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى الذين قال الله عنهم في سورة المائدة: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44] فقوله: الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة كاشفة، وهناك قال: إنهم يحكمون بالتوراة، والتوراة أنزلت على موسى، وإذاً هم مأمورون بأن يبلغوا التوراة، ولهذا فالنبي مرسل كما قال الله عز وجل: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ [الزخرف:6] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج:52] فوصف الرسول بأنه مرسل، والنبي بأنه مرسل، إلا أن هذا أرسل بكتاب وبشرع جديد أنزل عليه، وهذا يبلغ رسالة سابقة، ويحكم بكتاب سابق أنزل على من قبله ولم ينزل عليه.
وقد جاء في القرآن وصف بعض الرسل بأنهم أنبياء ورسل، كما جاء في حق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41] وجاء: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64] فخاطبه الله بالنبوة، وخاطبه بالرسالة.
وجاء في حق موسى قول الله عز وجل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:51]وجاء في حق إسماعيل : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54] فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أول ما نزل عليه الوحي لم يؤمر بالتبليغ، ثم نزلت سورة المدثر فصار رسولاً نبياً فهو قد نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الأصول الثلاثة، فيكون بذلك قد جمع بين النبوة والرسالة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والواجب هو التصديق والإيمان بكل ما جاء من أسمائهم، ومن الأخبار التي جاءت عنهم، ونحن لا نعرف ذلك إلا بالكتاب العزيز أو بالسنة.
قوله: (اليوم الآخر) وهو الذي بعد اليوم الأول، أي: الدنيا، والحد الفاصل بين الدنيا والآخرة الموت، فكل من مات انتقل من الدنيا إلى الآخرة، وهذه الآخرة فيها حياة برزخية، وحياة بعد البعث، ولكنها كلها على طريقة واحدة من ناحية أنها دار جزاء وليست دار عمل، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ذكره البخاري عنه في كتاب الرقاق: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
الحساب يبدأ بالموت، والعذاب يبدأ بالموت؛ لأن الإنسان يعذب في قبره، سواءً كان كافراً أو مسلماً استحق العذاب.
ويدل على عذاب الكفار في القبور قول الله عز وجل عن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] وبالنسبة للمسلمين ما جاء في قصة الرجلين اللذين كان أحدهما لا يستبرئ من البول، وكان الثاني يمشي بالنميمة، وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على سبب عذابهما في القبر، ووضع جريدتين على قبريهما، وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وما يجري فيه من الفتنة وسؤال الملكين، وأن الموفق إذا سئل عن ربه ودينه ونبيه فإنه يجيب، قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، وأن الذي لم يوفق لا يجيب عن تلك الأسئلة، وأن الموفق يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، والمخذول يفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، والنعيم أو العذاب يكون للروح والجسد جميعاً، وليس للروح وحدها، وذلك أن الإحسان حصل منهما جميعاً، والإساءة حصلت منهما جميعاً.
فتكون العقوبة أو النعيم على مجموع الأمرين؛ لأن الروح وحدها ما حصل منها إحسان وإساءة، والجسد وحده ما حصل منه إحسان وإساءة، وإنما حصلت الإساءة والإحسان بمجموع الروح والجسد.
ومن مات فإنه يبقى في قبره، ومن الناس من تأكله الأرض، ومنهم من لا تأكله وهم الرسل والأنبياء كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعذاب يصل إلى من يستحقه قبر أو لم يقبر، وما كان ذكر العذاب وإضافته إلى القبور إلا لأن الغالب أن الناس يقبرون، لكن من الناس من تأكله السباع، ومنهم من تأكله الحيتان في البحر، ومنهم من يحترق وتأكله النار ويصير رماداً، ولكن كل مستحق لعذاب القبر يصل إليه العذاب، وكل مستحق للنعيم يصل إليه النعيم، والله تعالى على كل شيء قدير، ولا دخل للعقول في ذلك؛ لأن عذاب القبر من أمور الغيب.
ولهذا لا يقال: إننا نفتح القبر ولا نجد فيه جنة ولا ناراً؛ لأن هذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولا يعلمه الخلق، فكما أنك الآن عندك ملائكة وجن يحضرونك ومع ذلك لا تراهم ولا تشاهدهم، فكذلك أيضاً هذه الأمور لا تستطيع أن تصل إليها.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع) فهو صلى الله عليه وسلم يسمعه الله ما يجري في القبور، وغيره ممن يكون حوله لا يسمع، كما أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس صلاة الكسوف عرضت عليه الجنة والنار ورأى العناقيد المتدلية والصحابة الذين وراءه ما رأوا هذا الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه يطلع من شاء على ما شاء ويخفي ما شاء على من شاء.
وعندما يبعث الناس من قبورهم فإن نفس الأجساد التي وضعت في القبور هي التي تعود، ولا تأتي أجساد جديدة غير التي وضعت في القبور؛ لأن الله تعالى يقول: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4] أي: فنحن نعيده، وقد جاء في النصوص ما يدل على كيفية البعث، ومنها قصة الرجل الذي أسرف على نفسه وأوصى بنيه بأن يحرقوه إذا مات ويذروا بعض رماده في البحر وبعضه في البر، وقال: لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله عز وجل البحر أن يخرج ما فيه، والبر أن يخرج ما فيه، ثم أمر تلك الذرات، وكل ذرة وقعت في مكانها، حتى عاد الجسد كما كان.
ومثل ذلك قصة الطيور التي ذكرت في قصة إبراهيم، حيث أمره الله بأن يأخذ أربعة من الطيور فيجعلهن إليه، ثم يذبحهن ويقطعهن ويخلط اللحم بعضه ببعض حتى يصير كتلة واحدة، ثم يجعل على كل رأس جبل قطعة من هذه الكتلة، ثم يدعوهن فتنطلق كل ذرة وكل قطعة حتى تأتي إلى مكانها الذي يخصها من ذلك الطائر، حتى تعود الطيور على ما كانت عليه.
والأجساد نفسها هي التي تبعث، وهذا هو الذي تقتضيه حكمة الله، حيث إن الجسد الذي أساء هو الذي يعذب، والجسد الذي أحسن هو الذي ينعم، ولهذا قال الله عز وجل في القرآن: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]، معناه: أن الأجساد التي كانت في الدنيا هي التي تتكلم؛ لأنها شهدت بما عمل في الدنيا، ولو كانت أجساماً جديدة لما كانت تعرف شيئاً عن الدنيا، فكيف تشهد؟!
وقال الله عز وجل: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، فإذاً: تلك الأجساد هي التي تعاد وهي التي تنعم وتعذب، ولا يخلق أجساداً جديدة فتعذب أو تنعم؛ لأن الأجساد الجديدة لا تعرف شيئاً عن الدنيا، والأجساد التي كانت موجودة في الدنيا هي التي أخبر الله بأنها تشهد.
وقولنا: إن الذي يبعث هو الذي كان في الدنيا، ليس معناه: أنهم ينبتون ويخلقون خلقاً جديداً لا علاقة له بالدنيا، نعم تنشق القبور عن أصحابها، ولكن نفس الجسد الذي كان في الدنيا يجمع الله تعالى بعضه إلى بعض، فيخرج من الأرض ما دخل فيها، كما قال الله عز وجل: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ أي: فنحن نعيده، فإذا انشقت عنهم القبور خرجوا يمشون: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج:43] فهذه كيفية البعث.
وأمور الآخرة أمور غيبية يجب التصديق بها دون أن يجعل الإنسان ذلك تابعاً لعقله، فإن الواجب على العقول التسليم والانقياد والاستسلام وعدم الاعتراض وعدم التردد في تصديق كل ما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ثم الناس عندما يخرجون من قبورهم يذهبون إلى المحشر، ويجتمعون في صعيد واحد، من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، ويموج بعضهم في بعض، ويصيبهم شدة، ويبحثون عمن يشفع لهم إلى الله لفصل القضاء بينهم، حتى يحاسبوا ويذهبوا إلى منازلهم من الجنة أو النار، فيأتون إلى آدم أبي البشر فيعتذر، ثم إلى نوح فيعتذر، ثم إلى إبراهيم فيعتذر، ثم إلى موسى فيعتذر، ثم إلى عيسى فيعتذر، ثم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها) ثم يتقدم ويشفع ويفتح الله عليه بالمحامد، فيقال له: (ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع).
وهذه هي الشفاعة العظمى، وهي التي تسمى: المقام المحمود؛ لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ لأن الكل يستفيد من شفاعته، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة) فنص على يوم القيامة لأنه يظهر فيه السؤدد على الأولين والآخرين، وإلا فهو سيد الناس في الدنيا والآخرة، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فيشفع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويأتي الله لفصل القضاء بين العباد، ثم يحصل الحساب، ثم يحصل وزن الأعمال، ثم يذهبون إلى الجنة والنار، والنار تكون في الطريق إلى الجنة، لأن الصراط منصوب على متن جهنم، والناس يمرون على الصراط، فمن كان من أهل النار وقع في النار، ومن كان من أهل السعادة تجاوز هذا الصراط، وذهب إلى الجنة التي هي وراء النار، وكل هذه أمور غيبية يجب الإيمان والتصديق بها، وعدم الاعتراض عليها، وعدم التردد في قبول شيء منها، وأنها حقيقة وأنها واقعة، وأنها لابد وأن توجد.
فأركان الإيمان كلها غيب؛ الإيمان بالله من علم الغيب، والإيمان بالملائكة من علم الغيب، والإيمان بالرسل من علم الغيب، والإيمان بالكتب من علم الغيب، والإيمان باليوم الآخر من علم الغيب، ولا يعرف الناس شيئاً منها إلا عن طريق الوحي من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء الكتاب والسنة بهذه التفاصيل المتعلقة بالقبر وعذابه ونعيمه، وبالبعث وكيفيته، وبالحشر وما يجري فيه، ثم مجيء الله عز وجل لفصل القضاء ومحاسبة الناس، ثم بعد المحاسبة توزن الأعمال، ووزن الأعمال من أجل أن يعرف كل ما له وما عليه، والله عز وجل عالم بكل شيء، وعالم بالراجح والمرجوح، ولكن ذلك من أجل العباد أنفسهم حتى يعرفوا ما لهم وما عليهم، وليظهر عدل الله عز وجل فيهم، وأن من كان عنده حسنات فإنه لا ينقص منها شيء، ومن كان عنده سيئات فإنه لا يزاد عليها شيء، بل كل ما حصَّل من خير فسيجده أمامه، وما حصل من شر فسيجده أمامه، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].
وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) .
والصراط منصوب على متن جهنم، والناس يمرون عليه، وهم متفاوتون في المرور عليه على حسب ما عندهم من الإيمان والأعمال الصالحة، فمنهم من يمر بسرعة البرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من تخطفه الكلاليب فيقع في النار، ولكن من وقع في النار وهو من أهل الإيمان فإنه لا يخلد فيها، بل لابد وأن يخرج منها ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها؛ لأن الجنة حرمت عليهم، والنار هي مقرهم، وهم متفاوتون فيها في الدركات.
ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالجنة والنار، وما في الجنة من النعيم المقيم، مما جاء بيانه في القرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما في النار من العذاب الأليم الذي جاء بيانه في القرآن وسنة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكل ذلك يجب الإيمان والتصديق به، وأنه حق على حقيقته، وأن كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أخبار ذلك اليوم فإنه يقع طبقاً لما أخبر به عليه الصلاة والسلام.
ثم الإيمان بالقدر، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، وقد مر الكلام فيه قريباً.
ثم سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
وهذا فيه بيان عظم شأن الإحسان، وأنه منزلة عالية رفيعة وأنه أعلى من الإسلام والإيمان؛ لأن فيه قدراً زائداً على ذلك، وهو أن الإنسان يعبد الله وكأنه واقف بين يديه، ومن كان كذلك فإنه يتقن عمله فيأتي به على الوجه الأكمل، ولا يحصل منه إخلال فيه.
والإحسان كما هو معلوم يكون في عمل الإنسان القاصر مثل الصلاة، فيصلي كأنه واقف بين يدي الله، فهو مقبل على صلاته، ومحافظ عليها وآت بكل ما يلزم فيها، وكذلك يكون في العمل المتعدي، وذلك بالإحسان إلى الناس بالقول أو بالمال، وذلك بإخراج الواجب والمستحب من المال في الزكاة والصدقات، وما إلى ذلك، ويكون أيضاً بالإحسان بالعلم، والدعوة إلى الخير، والتبصير بالحق والهدى، وتعليم العلم النافع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا كله إحسان إلى من بذل له؛ لأنه يستفيد هدى، ويستفيد علماً نافعاً، يسير به إلى الله عز وجل على بصيرة.
ويكون الإحسان بالجاه في وجوه كثيرة، لكن كون الإنسان يأتي بمثل الصلاة، وهو مقبل على الله، ويستشعر بأنه بين يدي الله، فهذه درجة كاملة، ودرجة الكمال لا تحصل لكل أحد، ولا تتيسر لكل أحد.
وكذلك إذا لم يكن يراه فإنه يستشعر أن الله مطلع عليه، وأن الله تعالى رقيب عليه، وأنه لا تخفى عليه خافية، فكل حركاته وسكناته يراها الله تعالى، ويطلع عليها، فإن ذلك أيضاً يدفعه إلى العناية بالعمل، وإلى الإتيان بالعمل على الوجه المطلوب، ولهذا يقول العلماء: إن الإسلام والإيمان والإحسان هي درجات، فالمحسن هو مؤمن ومسلم، ودونه المؤمن فإنه مؤمن مسلم، ودونه المسلم، إذ ليس كل مسلم مؤمناً، وليس كل مؤمن يكون محسناً، أي: بالغاً هذه الدرجة التي جاء وصفها في هذا الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والناس متفاوتون في الإيمان وفيما يقوم منه بقلوبهم وفي أعمالهم، وليسوا على حد سواء.
بعد ذلك سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة: (قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل). أي: علمي وعلمك فيها سواء، والمعنى: أننا لا نعلم شيئاً من ذلك؛ لأن علم الساعة من الأمور التي اختص الله بها فلم يطلع عليها أحداً، فلا يعلم متى تقوم الساعة.. في أي سنة، وفي أي شهر من السنة، وفي أي يوم من الشهر إلا الله، نعم جاء في السنة ما يدل على أنها تقوم يوم الجمعة، فلا تكون في بقية الأيام، لكن في أي يوم من الشهر وفي أي سنة، لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث: (خمس لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) .
وهذا يدلنا على أنه لا يعلم الغيب على الإطلاق إلا الله سبحانه وتعالى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلعه الله على كثير من الغيوب وأخفى عليه ما شاء من الغيوب، ومما أخفاه عليه قيام الساعة، ولهذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بهذا الجواب فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، وإنما أتى بهذا الجواب ليبين أنه هو الجواب الذي يصلح عند كل سؤال عن شيء لا يعلمه السائل ولا المسئول.
قوله: (أخبرني عن أماراتها) .
الأمارات هي: العلامات، والساعة لها علامات قريبة من قيامها وهي العلامات الكبرى، وعلامات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامات بعد ذلك وبين ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين) يعني: أن زمن بعثته قريب من الساعة.
وقد جاءت أحاديث تدل على أشراط الساعة، وقد مضى شيء من أشراطها، وهناك أشياء لم تمض، ولكنها لا تعتبر من أشراطها العظام.
وهناك أشراط عظام هي التي تكون بين يديها، مثل خروج الدجال وخروج المهدي ، ونزول عيسى بن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها.
والرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الساعة في حديث جبريل أجاب بهذا الجواب، وفي مواضع أخرى أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان شيء من أماراتها، وكان يرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من الاستعداد لها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سأله ذات مرة سائل فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: وماذا أعددت لها؟ قال: أعددت لها حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب) .
فلفت نظره إلى شيء أهم مما سأل عنه، وهو الاستعداد للساعة بالعمل الصالح الذي يجده إذا قامت الساعة، فهذا هو المهم، وليس المهم أن يسأل عن الساعة، فإن الساعة آتية وكل آت قريب، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله سبحانه وتعالى.
وهذا يدل على أن المهم في أمر المسلم أن يكون مشتغلاً بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله عز وجل، ليجدها أمامه إذا قامت الساعة، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] وقال في الحديث القدسي: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) .
وجاء عليه الصلاة والسلام مرة رجل وهو بين أصحابه يحدثهم، فوقف وقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فأعرض عنه واشتغل مع أصحابه في الحديث الذي هو معهم فيه، ولما فرغ من الحديث مع أصحابه الذين كانوا معه قبل أن يأتي هذا السائل قال: (أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله، قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، فهذا سأله عن الساعة فأجابه بشيء من أماراتها.
وأما جبريل فإنه سأله عن أمارات الساعة، وفي بعض الروايات أنه قال: (سأخبرك بشيء من أماراتها)، ثم إنه قال: (أن تلد الأمة ربتها -أو ربها-)، وفسر هذا بأن المراد منه أن يكثر السبي حتى يطأهن أسيادهن وحتى تلد الولد من سيدها فيكون بمنزلة سيدها وإن لم يكن هو سيدها، ولكنه بمنزلة السيد؛ لأنه ابنه وقائم مقامه، وأمهات الأولاد استيلادهن من أسباب عتقهن.
ومنهم من قال: إنها تلد من يكون سيداً لقومه أو سيداً للناس، ويكون مسئولاً، كأن يكون ملكاً أو تكون له سلطة فيكون راعياً وإماماً لكل هؤلاء ومنهم أمه.
ومنهم من قال: إن هذا إشارة إلى العقوق، وأنه يحصل أن الأمة تلد من يكون سيداً لها، أو يوصف بأنه سيد لها أو أنه ربها، بمعنى: أنه يتسلط عليها ويحصل منه شيء من الإيذاء ومن العقوق لأمه وكأنه بمنزلة من يكون مالكاً لها يتصرف فيها كيف يشاء، وهذا المعنى هو الذي رجحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري وقال: إن هذه كلها صفات مذمومة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بصفات مذمومة، وهذا مذموم، وكذلك كون الذين كانوا بعيدين عن المدن، وما عندهم إلا الجفاء والغلظة في بداوتهم ينتقلون إلى أن يتطاولوا في البنيان، فيقول: إن هذا الأمارات كلها من باب واحد، وهي تتعلق بالذم.
قوله: [ (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) ]
الحفاة هم الذين ليس على أرجلهم نعال، والعراة هم الذين لباسهم قليل، وليس معنى ذلك أنهم يمشون عراة ليس عليهم شيء، وإنما المعنى أنهم وإن كان عليهم ما يسترهم إلا أن ثيابهم تكون بالية، فهم بمثابة العاري لضعف حالهم ولقلة مالهم، فتجد الإنسان قد يملك ما يستر عورته، وقد يكون عنده أكثر من ذلك، لكنه لا يخرج عن كونه عارياً، بمعنى أن قلة ذات يده جعلته بهذا الوصف، ولا يعني ذلك أنهم يمشون عراة ليس عليهم شيء يغطون به سوءاتهم وعوراتهم.
والعالة: الفقراء، وهذا يرجع إلى الاثنين؛ لأن من شأن من يكون حافياً ويكون عارياً أن ذلك حصل له من أجل فقره.
فكلمة (العالة) يدخل تحتها ما تقدم من كونهم حفاة عراة.
قوله: (رعاء الشاء) أي: الذي كان شأنهم رعي الغنم والإبل في البادية، وليس عندهم إلا الجهل والجفاء والغلظة.
قوله: (يتطاولون في البنيان) أي يتحولون من محل البادية إلى أن يكونوا في الحاضرة وأن يكونوا بهذا الوصف الذي بينه الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والمعروف عن المتقدمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أن منازلهم كانت بسيطة، وكان فيها تواضع وسهولة وليس فيها تكلف، وليست مكونة من أدوار كثيرة، وقد جاء في قصة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ونزوله ضيفاً عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ما يدل على أن بيته مكون من دورين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في الأسفل، وكان أبو أيوب في المكان الأعلى، ثم إنه قال: يا رسول الله تنتقل إلى المكان الأعلى، وأنا أكون في المكان الأسفل؛ لأن غرضه من ذلك ألا يكون فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فوقه؛ ولكن الغالب أنهم كانوا يبنون من غير تكرر الأدوار.
وأيضاً يكون السقف قريباً، وقد ذكر بعض أهل العلم آثاراً تدل على هذا المعنى.
ثم إن جبريل مضى بعدما انتهت هذه الأسئلة، قال عمر : (فلبثنا ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، فقال عليه الصلاة والسلام: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
وهذا فيه بيان أن كل ما مضى ذكره يدخل تحت الدين، فهناك أخبار وهناك أحكام، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت؛ كل هذه أحكام يفعلها الإنسان، وأركان الإيمان أمور تعتقد، وهي إخبار عن الله وعن ملائكته، وذلك من الغيب الذي يجب الإيمان به وكذلك الإيمان بالرسل والكتب واليوم الآخر والقدر، فكل ما جاء عنها وما يتعلق بها هي أخبار يجب التصديق بها.
والإحسان عمل، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف الذي بينه.
وأما ما سأل به عن الساعة وعن أماراتها؛ فإن تلك من الأمور المغيبة التي يجب التصديق بها، وألا يتكلم فيها إلا بعلم؛ لأن العلامات والإخبار عن أمور مستقبلة هي من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يعرف شيء منه إلا ما جاء به الوحي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة.
والحاصل أن حديث جبريل المشهور حديث عظيم مشتمل على أمور كثيرة مهمة وعلى أصول عظيمة في العبادات، وفيما يتعلق بما يقوم بالقلوب، وبما يقوم بالجوارح، وبما يقوم باللسان، وفيه إخبار عن أمور مغيبة لا تعرف إلا عن طريق الوحي.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) وقد أثنى العلماء على هذا الحديث وبينوا عظيم شأنه وأهميته، وأنه مشتمل على أصول عظيمة ولذا فإن الإمام مسلم رحمه الله صدر به صحيحه، فكان أول حديث عنده في كتاب الإيمان.
قوله: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ ].
هو عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .
[ حدثنا أبي ].
هو معاذ بن معاذ العنبري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا كهمس ].
هو كهمس بن الحسن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن بريدة ].
هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن يحيى بن يعمر ].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عبد الله بن عمر ].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ حدثني عمر بن الخطاب ].
عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
السؤال: ما معنى قول المعتزلة: عليم بذاته، قدير بذاته، سميع بذاته، وهل يفهم من ذلك أنهم يثبتون الصفات؟
الجواب: المعتزلة يثبتون الأسماء ولا يثبتون الصفات، فهم يقولون: سميع بلا سمع، ومعناه: أن اسمه سميع، ولكنه سميع بذاته، وليس بسمعه.
السؤال: يقام يوم القيامة الميزان بالقسط، فلماذا يبدأ الحساب في القبر؟
الجواب: القبر كما هو معلوم فيه امتحان واختبار، وأما الميزان الذي هو لحصر الأعمال، ومعرفة الحسنات والسيئات، والوزن إنما يكون يوم القيامة، ولكن الجزاء يكون في القبر لمن كان مستحقاً لأن يجازى ويعذب في القبر.
السؤال: ذكرتم في التفريق بين النبي والرسول أن الرسول ينزل عليه كتاب بشريعة جديدة، ألا يشكل على ذلك سليمان، فهو رسول، ولمن ينزل عليه كتاب بشريعة؟ وكذلك آدم؟
الجواب: ما هو الدليل على أنه لم ينزل عليه كتاب؟ فإن عدم ذكر الكتاب الذي أنزل عليه لا يدل على أنه لم ينزل عليه كتاب، وقد جاء في القرآن أن كل رسول أنزل الله عليه كتاباً: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ والألف واللام في (الكتاب) للجنس وليست لكتاب معين؛ لأن الله ما أنزل على رسله كتاباً واحداً وإنما أنزل عليهم كتباً، ولهذا لفظ الكتاب يأتي كثيراً في القرآن ويراد به الجنس، كما أنه يراد به العهد الذهني مثل قول الله عز وجل: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] أي: القرآن؛ لأن (أل) للعهد الذهني، يعني: الكتاب المعهود بالأذهان، وقول الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ المراد به: الكتب لأن المراد به: الجنس.
وقول الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة:48] فالأول القرآن والثاني الكتب السابقة، وكلها بلفظ الإفراد إلا أن هذا للجنس وهذا للإفراد.
وكما قال الله عز وجل: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ [البقرة:177] أي: الكتب، وكذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136] وهو القرآن وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] أي: الكتب.
وكذلك أيضاً يأتي الكتاب مضافاً إلى معرفة فيكون عاماً ويراد به الكتب، كما في قول الله عز وجل في آخر سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ [التحريم:12] على قراءة جمهور القراء ( كتابه ) وهي لا تخالف قراءة: وَكُتُبِهِ لأن الكتاب المقصود به الكتب؛ لأنه مفرد مضاف إلى معرفة فيكون عاماً.
فالحاصل أن الكتاب يأتي مفرداً محلى بالألف واللام، ويأتي مضافاً إلى معرفة فيراد به الجنس، ولا يراد به خصوص كتاب معين.
وأما آدم فهو نبي وهو رسول إلى أولاده، ونوح إنما أرسل بعدما حصل الشرك وتغيرت الفطرة، وأما آدم فإنه يعمل بما أوحى الله تعالى به إليه، وكذلك أبناؤه يعملون بما أوحي إليه به، ولا ينافي هذا ما جاء في حق نوح: كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] لأن نوحاً عليه السلام أرسل بعدما وجد الشرك، وأما في زمن آدم فلم يحصل الخروج عن الشيء الذي فطر الله الناس عليه، كما جاء في الحديث: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) وكما جاء في الحديث الآخر: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
السؤال: ما هو الترتيب الصحيح لمشاهد يوم القيامة: الشفاعة، والحوض، والميزان، وغيرها؟
الجواب: الحوض قيل: إنه في عرصات القيامة؛ لأن الناس يخرجون من قبورهم عطاشاً، فيأتون للحوض ليشربوا منه، فيذاد عنه من يذاد ويشرب منه من يشرب، والناس يجتمعون في صعيد واحد بعد أن يخرجوا من قبورهم ويذهبون إلى المحشر، ثم يأتي الله لفصل القضاء بينهم، ويحاسبهم على أعمالهم، ثم تنصب الموازين وتوزن الأعمال، ثم بعد ذلك يكون العبور على الصراط، والذهاب إلى الجنة أو النار، والنار في الطريق إلى الجنة، والصراط منصوب عليها، والناس يمرون عليه من فوق جهنم، فمن وقع فيها وقع، ومن سلمه الله تجاوز ودخل الجنة.
السؤال: أنكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح العقيدة الواسطية تعريف الإيمان لغة بالتصديق، وذكر أن آمن فعل متعد لغيره، وصدق متعد بنفسه، فنرجو التوضيح.
الجواب: لا أتذكر هذا التفصيل، لكن الإيمان في اللغة هو التصديق كما قيل.
السؤال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها) هل هذا يعتبر من سب الدهر؟
الجواب: ليس هذا من سب الدهر، وإنما هو بيان لحقارة الدنيا وضآلتها، وأنه لا خير فيها إلا ما كان على الطريقة الصحيحة كما قال: (إلا ذكر الله وما والاه) .
وأكثر الناس هالكون، والناجون هم القليلون، قال الله عز وجل: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] وقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] فالشر واسع، والمهتدون قليلون، ولهذا يقول بعض أهل العلم: لا تغتر بطريق الشر ولو كثر السالكون، ولا تزهد في طريق الخير لقلة السالكين، فليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا!
السؤال: بعض الناس لا يصلي في الدور الثاني في المسجد النبوي بحجة أنهم يكونون في مكان فوق قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كما حصل من أبي أيوب الأنصاري عندما طلب من النبي أن يصعد إلى الدور الأعلى من بيته عندما نزل ضيفاً عليه في أول الهجرة فما رأيكم؟
الجواب: هذا ليس بصحيح؛ لأن سطح المسجد منه، وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أراد ألا يكون النبي صلى الله عليه وسلم تحته في المنزل، وأما المسجد فسواء كان من دور أو دورين فالصلاة في أي دور هي صلاة في المسجد، والإنسان الذي يصلي في سطح المسجد حكمه مثل الذي يصلي في أسفل المسجد، فتكون صلاته بألف صلاة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر