قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة ح وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان المعنى واحد، والإخبار في حديث سفيان عن الأعمش قال: حدثنا زيد بن وهب حدثنا عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله، ثم يكتب شقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ].
سبق أن مر جملة من الأحاديث في باب القدر من سنن أبي داود وهذا حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو من جملة تلك الأحاديث.
فقوله رضي الله عنه: [ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ] هذا ثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدح له بأنه صادق مصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذه الجملة اعتراضية بين قوله: [ حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم ] وبين الحديث: [ (إن خلق أحدكم يجمع) ] وقد قيل: إنها جملة حالية، وقال بعض الشراح: إن كونها اعتراضية أولى من كونها جملة حالية؛ لأن معنى الجملة الحالية أنه الصادق المصدوق في حال تحديثه لنا، ولكن إذا كانت جملة اعتراضية فالمعنى أنه متصف بهذا الوصف دائماً وأبداً، وأن هذا شأنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه دائماً، وليس ذلك مقيداً بحال تحديثه إياهم.
قوله: [ (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً) أي: كل إنسان يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، أي: فيكون نطفة، وهي ماء مهين، فيمكث أربعين يوماً ثم يتحول إلى علقة، أي قطعة صغيرة من اللحم، ثم يتحول إلى مضغة بعد أربعين يوماً أخرى، فيكون على قدر ما يمضغه الآكل، أي يضعه في فمه، والمضغة هي الأكلة التي يضعها الآكل في فمه.
فإذا كملت هذه الأطوار الثلاثة يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويكون عند ذلك مكوناً من جسد وروح، ويكون قد تخلق وصار على هيئة إنسان.
قوله: [ (ويؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله، ثم يكتب شقي أو سعيد) ] يعني أنه يكتب ما قدر الله عز وجل أن يكون له من رزق، سواءً كان مبسوطاً أو مضيقاً، ويكتب أجله، أي مدة حياته ومتى ينتهي أجله، وكذلك عمله الذي يعمله، وكذلك يكتب أنه شقي أو سعيد، فإما أن يكون من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة.
وجاء في بعض الروايات أنه يقول: (ذكر يا رب أو أنثى؟) فيذكر له الحالة التي شاء الله تعالى أن يكون عليها من ذكورة أو أنوثة.
وهذا فيه إثبات القدر، ومعلوم أن التقدير قد حصل في اللوح المحفوظ، وهذا تقدير آخر؛ لأنه قد جاءت أحاديث في ذكر تقديرات أخرى غير التقدير الأول الذي حصل في اللوح المحفوظ، والذي في اللوح المحفوظ هو الأصل وغيره تابع له.
والمرء ينتهي إلى ما قدر له من السعادة أو الشقاوة، فيموت على ذلك، والعبرة بما مات عليه، وما قبل ذلك ليس هو المعتبر، فقد تكون الحال حسنة ثم تتغير إلى حال سيئة، فيختم له بالسوء، أو قد تكون الحال سيئة ثم يتحول إلى حال حسنة وينتهي أمره على أمر حسن، فالعبرة بالخواتيم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات: (وإنما الأعمال بالخواتيم) .
وقد بين عليه الصلاة والسلام في آخر هذا الحديث أن من كان من أهل السعادة قد يعمل بعمل أهل النار طيلة حياته أو أكثر حياته، حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، أي ما يكون بينه وبين الموت إلا شيء يسير، فيهتدي ويتوب إلى الله عز وجل ويعمل بعمل أهل الجنة، ثم يموت على حالة حسنة، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة تجب ما قبلها، فكل الذنوب التي حصلت من الإنسان إذا تاب منها في الحياة قبل أن يغرغر فإن التوبة تجبها.
وعلى العكس من ذلك من يعمل بعمل أهل الجنة ويستمر عليها أكثر حياته، ثم يدركه الخذلان فيرجع عن الحق والهدى، فيرتد أو ينحرف عن الجادة، فيختم له بخاتمة سيئة، ولكن إذا كان الانحراف عن طريق ردة فإنه ليس له إلا النار، وإذا كان الانحراف عن طريق معاصٍ أو بدع غير كفرية فإن أمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار على بدعته أو معصيته، ولكنه لابد أن يخرج من النار ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن العبرة بالنهاية، وأن من كان موفقاً حصل له التوفيق من الله عز وجل فيختم له به، ومن كان بخلاف ذلك حصل له الخذلان وختم له به.
قسم وفق بأن ولد في الإسلام، ونشأ في الإسلام، واستمر على الإسلام، ووفق للأعمال الصالحة ودام عليها حتى توفاه الله عز وجل، فتكون حياته كلها معمورة بالصلاح والتقى.
القسم الثاني الذي يقابله: وهو الذي ولد في الكفر، ونشأ على الكفر، واستمر على الكفر حتى مات عليه والعياذ بالله، فالبدايات سيئة والنهايات سيئة، والحياة كلها معمورة بالسوء، وبالكفر بالله عز وجل والإلحاد.
القسم الثالث: الذي تكون بداياته سيئة وماضيه سيئاً، ثم يحصل له أن يختم له عند النهاية بخير، كالذي عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فسبق عليه الكتاب، فعمل بعمل أهل الجنة فدخلها، وهذا مثل السحرة الذين كانوا مع فرعون، والذين كانت حياتهم كلها سحر وكفر، وفي آخر الأمر: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70] ثم قتلوا وانتهوا على خير، فكانت حياتهم معمورة بالكفر والسحر والخبث، وعند اقتراب الأجل حصل لهم الاهتداء ودخلوا في الحق الذي جاء به موسى، وآمنوا برب هارون وموسى، ثم قتلوا وصارت نهايتهم طيبة.
القسم الرابع: من يكون في حياته على استقامة وعلى هداية، ثم يدركه الخذلان في الآخر عندما لم يبق على حياته إلا الشيء القليل، فيدركه الخذلان فيرتد عن الإسلام والعياذ بالله، ثم يموت على الردة، فيكون عمل بعمل أهل الجنة طيلة حياته، ولما لم يبق عليه إلا الشيء اليسير أدركه الخذلان وارتد عن الإسلام ومات على الردة، فيكون قد عمل بعمل أهل الجنة حتى لم يكن بينه وبينها إلا ذراع، فأدركه الخذلان فعمل بعمل أهل النار فدخلها.
فهذه أقسام الناس الأربعة بالنسبة للبدايات والنهايات: فمنهم من بدايته ونهايته طيبة، ومنهم من بدايته ونهايته سيئة، ومنهم من بدايته حسنة ونهايته سيئة، ومنهم من بدايته سيئة ونهايته حسنة، والعبرة إنما هي بالخواتيم والنهايات التي ينتهي إليها الإنسان.
والحديث فيه إثبات القدر، وأن كلاً سينتهي إلى ما قدر له من شقاوة وسعادة، وكل شيء قدره الله عز وجل سيأتي به الإنسان بإرادته ومشيئته التابعة لمشيئة الله عز وجل وإرادته.
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي .
[ حدثنا شعبة ].
شعبة بن الحجاج الواسطي البصري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ ح وحدثنا محمد بن كثير ].
ح هي للتحول من إسناد إلى إسناد، ومحمد بن كثير هو العبدي ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا سفيان ].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكل من شعبة في الإسناد الأول وسفيان الثوري في الإسناد الثاني وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهذا الوصف هو من ألفاظ التعديل العالية التي لا تحصل لكل أحد، ولا يظفر بها كل أحد، والذين وصفوا بها قليلون جداً.
[ المعنى واحد والإخبار في حديث سفيان ].
معناه أن الرواية بالمعنى، وأن ألفاظهم ليست متفقة في الألفاظ، ولكنها متفقة في المعنى، والإخبار هو في حديث سفيان الذي هو شيخه الثاني.
[ عن الأعمش ].
سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا زيد بن وهب ].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا عبد الله بن مسعود ].
عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
الجواب: حصول الحمل ينبغي أن يفرح به، وأن يحرص عليه؛ لأن من مقاصد الشريعة المكاثرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وفي تكثير المسلمين تكثير من يعبد الله عز وجل، ومن يكون على هذا الدين الحنيف، وهذا أمر مطلوب لا ينبغي للإنسان أن يتأثر منه، أو يحاول التخلص منه بإجهاض أو غير ذلك، وإنما عليه أن يفرح.
وكم من الناس من يحرص على أن يحصل الحمل ولو مرة واحدة، ولا يتيسر له ذلك، بل قد يبذل كل ما يمكنه من أجل أن يظفر بهذا الشيء فلا يتيسر له ذلك، فالذي أكرمه الله عز وجل وجعله من أهل الإنجاب لا ينبغي أن يتساهل في ذلك، وأن يتهاون في ذلك، ولا ينبغي للإنسان أن يتعرض للنطفة أو يتعرض للحمل بإسقاطه، وإنما عليه أن يفرح به وأن يبقيه.
وبعض أهل العلم قال: يجوز أن يسقط مادام في الشهر الأول، ولكن الذي ينبغي أن يحرص على النسل، وألا يتهاون فيه ولا يتساهل.
الجواب: الله أعلم! لكن الذي يبدو أنه موافق له.
الجواب: نعم. ورد ذلك؛ لأن الناس لا يعرفون أحوال الناس إلا بالظاهر، ولا يعرفون البواطن، ولكن الناس يرون أنه عمل بعمل أهل الجنة على حسب ظاهره، وقد يظهر من الإنسان شيء وهو بخلاف ما يظهر، مثل شأن المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].
الجواب: ما شاء الله! هذه بشارة طيبة، وهذه نهاية حسنة، وهذا مثال واضح من أمثلة القسم الذي يطابق ما كان عليه سحرة فرعون الذي كانت حياتهم كلها شر، وفي النهاية ختم لهم بخير وماتوا على خير، وهذه نرجو أن تكون قد ماتت على خير.
أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أَعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم) يعني هل عُلِموا بأن سبق بذلك القضاء والقدر من الله تعالى، وقد فرغ من ذلك؟
قوله: [ (قال: ففيم العمل؟)] أي إذا كان أهل الجنة قد علموا وأهل النار قد علموا ففيم العمل؟! فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كلاً ميسر لما خلق له، والمطلوب من العباد أن يعملوا، وقد بين الله لهم طريق الخير وطريق الشر، والذي سيكون من أهل الجنة سيعمل بالأعمال التي توصله إلى الجنة، والذي يكون من أهل النار سيعمل ويختار بمشيئته وإرادته الأعمال التي توصله إلى النار، وهذا جاء في عدة أحاديث، ومنها حديث علي الذي سبق أن مر بنا، وفيه أنه قيل لرسول الله: (أنعمل في أمر خلا ومضى أم في شيء يستأنف؟ قال: في شيء خلا ومضى، قيل: ففيم العمل؟ قال: إن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار)، وهذا يدلنا على أن الشقاوة والسعادة سبق بها القضاء والقدر.
ومر بنا حديث ابن مسعود الذي قبل هذا وفيه أنه يكتب: شقي أو سعيد، ومعلوم أن كتابة الشقاوة والسعادة قد حصلت قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذا تقدير بعد تقدير، وهو مطابق لذلك التقدير.
مسدد بن مسرهد ، ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ حدثنا حماد بن زيد ].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن يزيد الرشك ].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والرشك هو لقب له.
[ حدثنا مطرف ].
مطرف بن عبد الله بن الشخير ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عمران بن حصين ].
عمران بن حصين رضي الله عنهما، وهو صحابي كنيته أبو نجيد ، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
أورد أبو داود هذا الحديث في النهي عن مجالسة أهل القدر، ومثلهم عامة المبتدعة، وذلك حتى لا يتأثر المرء بهم، لكونه ضعيفاً في العلم، أو يغتر بعباراتهم أو أخلاقهم الحسنة، أو يغتر غيره به فيطمئن إليهم ونحو ذلك.
وقد جاء في حديث آخر: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كمثل حامل المسك ونافخ الكير … إلخ) وقال في جليس السوء: (فإنه إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تشم منه رائحة خبيثة)، فمجالسة الأشرار فيها مضرة على من يجالسهم، ولهذا فإن الابتعاد عنهم والحذر منهم فيه سلامة، والاتصال بهم إذا حصل لدعوة أو توجيه وإرشاد فهذا أمرٌ مقصود حسن، وشيء طيب، ولكن مجالستهم والاحتكاك بهم واستماع كلامهم، قد يجعل الإنسان يُبتلى بأن يصيبه ما أصابهم من البلاء فينتقل إليه منهم، ولهذا كان في البعد عنهم السلامة.
قوله: [ (ولا تفاتحوهم) ] فسر بأن المفاتحة ألا يتحاكم إليهم، أي لا يرجع إليهم في الحكم؛ لأنهم أهل انحراف، وليسوا أهل استقامة، وفسر بأنهم لا يفاتحون بالمناظرة والمجادلة، وإنما يعرض عنهم، ولا يجالسهم؛ لأن المجالسة قد يترتب عليها حديث وكلام ومناظرة، وأخذ ورد، وقد يكون الإنسان ليس عنده قوة علمية يفحم بها الخصم، بل قد يبتلى بأن يعلق في ذهنه شيء من الشُبه التي ابتلي بها أولئك الذين ابتلوا بالقدر، لهذا قال: [ (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم) ].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو واحد من العبادلة الأربعة الذين إذا رووا عن ابن لهيعة قبلت روايتهم؛ لأنهم سمعوا منه قبل الاختلاط وهم: عبد الله بن يزيد هذا وعبد الله بن وهب وعبد الله بن مسلمة وعبد الله بن المبارك .
[ حدثني سعيد بن أبي أيوب ].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثني عطاء بن دينار ].
وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي .
[ عن حكيم بن شريك الهذلي ].
وهو مجهول، أخرج له أبو داود .
[ عن يحيى بن ميمون الحضرمي ].
وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي .
[ عن ربيعة الجرشي ].
ربيعة الجرشي مختلف في صحبته، وثقه الدارقطني وغيره، أخرج له أصحاب السنن.
[ عن أبي هريرة ].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
[ عن عمر بن الخطاب ]
وهو الصحابي الجليل، ثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وهذا الإسناد تساعي، فهو من أنزل الأسانيد عند أبي داود ، ومعلوم أن أعلى الأسانيد عند أبي داود الرباعيات، أي: أن يكون بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة وأما مثل هذا الإسناد فهو من الأسانيد النازلة.
وهذا الحديث ضعفه الألباني ، ولعله بسبب شريك بن حكيم الهذلي .
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، المبعوث رحمة للعالمين.
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، الذين حفظ الله بهم الملة وأظهر الدين، وعلى من اتبعهم بإحسان وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فعقيدة أهل السنة والجماعة بدت وظهرت مع بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول الوحي عليه من ربه تعالى، وسار عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان، والعقائد الأخرى لا وجود لها في زمن النبوة، ولم يكن عليها الصحابة الكرام، بل قد ولد بعضها في زمانهم وبعضها بعد انقراض عصرهم، وهي من محدثات الأمور التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
وليس من المعقول ولا المقبول أن يحجب حق عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، ويدخر لأناس يجيئون بعد أزمانهم، فتلك العقائد لو كان شيء منها خيراً لسبق إليه الصحابة، ولكنها شر حفظهم الله منه، وابتلي به من بعدهم.
والحقيقة الواضحة الجلية أن الفرق بين عقيدة أهل السنة والجماعة المتلقاة من الوحي، وبين عقائد المتكلمين المبنية على آراء الرجال وعقولهم، كالفرق بين الله وخلقه، ومثل ذلك ما يكون به القضاء والحكم، فإنه يقال فيه: إن الفرق بين الشريعة الإسلامية الرفيعة المنزلة من الله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين القوانين الوضعية الوضيعة التي أحدثها البشر كالفرق بين الله وخلقه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، فما بال عقول كثير من الناس تغفل عن هذه الحقيقة الواضحة الجلية فيما يُعتقد، والحقيقة الواضحة الجلية فيما يحكم به، فيستبدلون الذين هو أدنى بالذي هو خير؟
اللهم اهد من ضل من المسلمين سُبل السلام، وأخرجه من الظلمات إلى النور، إنك سميع مجيب!
ومن أمثلة ما في هذه المقدمة من النفي المتضمن إثبات كمال لله تعالى قوله في مطلع هذه المقدمة: (إن الله إله واحد لا إله غيره، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك له)، فإن هذه المنفيات عن الله عز وجل مستمدة من الكتاب والسنة، وهذا بخلاف النفي في كلام المتكلمين، فإنه مبني على التكلف، ومتصف بالغموض، ومن أمثلة ذلك قول صاحب العقائد النسفية: (ليس بعرض، ولا جسم، ولا جوهر، ولا مصور، ولا محدود، ولا معدود، ولا متبعض، ولا متجزئٍ، ولا متركبٍ، ولا متناه)، وهذه المنفيات لم ينص على نفيها كتاب ولا سنة، والواجب السكوت والإمساك عما لم يدل عليه دليل من الوحي، واعتقاد أن الله متصف بكل كمال، ومنزه عن كل نقص.
ومثل هذه السلوب لا يفهمها العوام، ولا تطابق الفطرة التي هم عليها، وهي من تكلف المتكلمين، وفيها غموض وتلبيس، ويتضح ذلك بالإشارة إلى واحد منها وهو نفي الجسم، فإنه يحتمل أن يراد به ذات مشابهة للمخلوقات، وعلى هذا الاحتمال يرد اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
وإن أريد به ذات قائمة بنفسها، مباينة للمخلوقات، متصفة بصفات الكمال، فإن هذا المعنى حق، ولا يجوز نفيه عن الله.
وإنما يرد هذا اللفظ لاشتماله على معنى حق ومعنى باطل، وسيأتي في كلام المقريزي قوله عن الصحابة: (فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئاً من الطرق الكلامية، ولا مسائل الفلسفة).
وسيأتي أيضاً في كلام أبي المظفر السمعاني قوله في بيان فساد طريقة المتكلمين: (وكان مما أمر بتبليغه التوحيد، بل هو أصل ما أمر به، فلم يترك شيئاً من أمور الدين أصوله وقواعده وشرائعه إلا بلغه، ثم لم يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه؛ فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم، وسلكوا غير سبيلهم، لطريقٍ محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم، ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن والقدح، ونسبتهم إلى قلة المعرفة، واشتباه الطرق؛ فالحذر من الاشتغال بكلامهم، والاشتراك بمقالاتهم، فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض).
وقول أبي المظفر السمعاني هذا أورده الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري في شرح قول البخاري : (باب قوله الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67])، ونقل فيه عن الحسن البصري قال: (لو كان ما يقوله الجعد حقاً لبلغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
و الجعد بن درهم هو مؤسس مذهب الجهمية، ونسب الجهمية إلى جهم بن صفوان لأنه هو الذي أظهر هذا المذهب الباطل ونشره، وأقول كما قال الحسن البصري رحمه الله: لو كان ما يقوله الأشاعرة وغيرهم من المتكلمين حقاً، لبلغه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد رأيت أن أشرح هذه المقدمة شرحاً يزيد في جلائها ووضوحها، ويفصل المعاني التي اشتملت عليها، ورأيت أن أمهد لهذا لشرح بذكر عشر فوائد في عقيدة السلف، وقد نظم الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي المالكي المتوفى (سنة 1285هـ) مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني نظماً بديعاً سلساً، رأيت من المناسب إثباته مع نص المقدمة قبل البدء بالشرح، وقد سميت هذا الشرح: (قطف الجنى الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني).
وأسأل الله عز وجل أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يوفق المسلمين للفقه في دينهم، والسير على ما كان عليه سلفهم في العقيدة والعمل، وأن يوفقني للسلامة من الزلل، ويمنحني الصدق في القول والإخلاص في العمل، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شرح: الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل المشهور، فإنه سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) أخرجه مسلم في صحيحه، وهو أول حديث في كتاب الإيمان، الذي هو أول كتب صحيحه، وجاء في إسناده أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدث به عن أبيه للاستدلال به على الإيمان بالقدر، عندما سأله يحيى بن يعمر و حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أناس وجدوا في العراق ينكرون القدر، وأن الأمر أنف، فقال للسائل: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به
قال الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].
وأما السنة فقد عقد كل من الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما كتاباً للقدر اشتمل على أحاديث عديدة في إثبات القدر، ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
وروى مسلم بإسناده إلى طاوس أنه قال: أدركت أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز).
والعجز والكيس ضدان، فنشاط النشيط وكسل الكسول وعجزه، كل ذلك بقدر، قال النووي في شرح الحديث: ومعناه أن العاجز قد قدر عجزه، والكيس قد قدر كيسه.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل؟! فقال: اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:5-6] إلى قوله: لِلْعُسْرَى [الليل:10]) رواه البخاري ومسلم من حديث علي رضي الله عنه.
والحديث يدل على أن أعمال العباد الصالحة مقدرة، وتؤدي إلى حصول السعادة وهي مقدرة، وأعمالهم السيئة مقدرة، وتؤدي إلى الشقاوة وهي مقدرة، والله سبحانه وتعالى قدر الأسباب والمسببات، وكل شيء لا يخرج عن قضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهذا الحديث شرحه الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، وهو الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية.
المرتبة الأولى: علم الله الأزلي في كل ما هو كائن، فإن كل كائن قد سبق به علم الله أزلاً، ولا يتجدد له علم بشيء لم يكن عالماً به أزلاً، وقد سبق إيضاح هذه المرتبة عند الكلام على صفة علم الله في الفقرة رقم سبعة.
الثانية: كتابة كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
الثالثة: مشيئة الله وإرادته، فإن كل ما هو كائن إنما حصل بمشيئة الله، ولا يقع في ملك الله إلا ما أراده الله، فما شاءه الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قال الله عز وجل: َإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117]، وقال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].
الرابعة: إيجاد كل ما هو كائن وخلقه بمشيئة الله وفقاً لما علمه أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، فإن كل ما هو كائن من ذوات وأفعال هو في خلق الله وإيجاده، كما قال الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، وقال وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].
الأمر الأول: الوقوع؛ فإذا وقع شيء عُلم بأنه مقدر، لأنه لو لم يقدر لم يقع، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
الثاني: حصول الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور تقع في المستقبل، مثل إخباره عن الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، وغيرها من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فهذه الأخبار تدل على أن هذه الأمور لابد أن تقع، وأنه سبق بها قضاء الله وقدره، ومثل إخباره عن أمور تقع قرب زمانه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر و
والله سبحانه خالق كل شيء ومقدره، قال الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وقال: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، فكل ما هو كائن من خير وشر، هو بقضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته.
وأما ما جاء في حديث علي رضي الله عنه، في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطويل، وفيه: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) رواه مسلم ، فلا يدل على أن الشر لا يقع بقضائه وخلقه، وإنما معناه أن الله لا يخلق شراً محضاً لا يكون لحكمة، ولا يترتب عليه فائدة بوجه من الوجوه.
وأيضاً: الشر لا يُضاف إليه استقلالاً، بل يكون داخلاً تحت عموم كما قال الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وقال: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فيتأدب مع الله بعدم نسبة الشر وحده إلى الله، ولهذا جاء فيما ذكره الله عن الجن تأدبهم بنسبة الخير إليه، وذكر الشر على البناء للمجهول: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].
أن المشيئة لم تأت في الكتاب والسنة إلا لمعنىً كوني قدري، وأما الإرادة فإنها تأتي لمعنى كوني ومعنى ديني شرعي.
ومن مجيئها لمعنى كوني قدري قوله تعالى: وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]، وقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125].
ومن مجيء الإرادة لمعنى شرعي، قول الله عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقوله: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
والفرق بين الإرادتين: أن الإرادة الكونية تكون عامة فيما يحبه الله ويسخطه، وأما الإرادة الشرعية فلا تكون إلا فيما يحبه الله ويرضاه، والكونية لابد من وقوعها، والدينية تقع في حق من وفقه الله، وتتخلف في حق من لم يحصل له التوفيق من الله.
وهناك كلمات تأتي لمعنىً كوني وشرعي، منها: القضاء، والتحريم، والإذن، والكلمات، والأمر، وغيرها.. ذكرها ابن القيم وذكر ما يشهد لها من القرآن والسنة في كتابه شفاء العليل في الباب التاسع والعشرين منه.
وأما قول الله عز وجل: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، فقد فسر بأن ذلك يتعلق بالشرائع، فينسخ الله منها ما يشاء، ويثبت ما يشاء، حتى ختمت برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، التي نسخت جميع الشرائع قبلها. وفسر بالأقدار التي هي في غير اللوح المحفوظ، كالذي يكون بأيدي الملائكة، وانظر شفاء العليل لـابن القيم في الأبواب الثاني والرابع والخامس والسادس، فقد ذكر في كل باب تقديراً خاصاً بعد التقدير في اللوح المحفوظ.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)، أخرجه الترمذي وحسنه، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني ، فلا يدل على تغيير ما في اللوح المحفوظ، وإنما يدل على أن الله قدر السلامة من الشرور، وقدر أسباباً لتلك السلامة، والمعنى: أن الله دفع عن العبد شراً، وذلك مقدر بسببٍ يفعله وهو الدعاء، وهو مقدر، وكذلك قدر أن يطول عمر الإنسان، وقدر أن يحصل منه سبب لذلك، وهو البر وصلة الرحم.
فالأسباب والمسببات كلها بقضاء الله وقدره، وكذلك يقال في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه) رواه البخاري ومسلم .
وأجل كل إنسان مقدر في اللوح المحفوظ، لا يتقدم عنه ولا يتأخر، كما قال الله عز وجل: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11]، وقال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، وكل من مات أو قتل فهو بأجله، ولا يقال كما قالت المعتزلة : إن المقتول قطع عليه أجله، وإنه لو لم يقتل لعاش إلى أجل آخر، فإن كل إنسان قدر الله له أجلاً واحداً، وقدر لهذا الأجل أسباباً، فهذا يموت بالمرض، وهذا يموت بالغرق، وهذا يموت بالقتل، وهكذا.
وأما ما جاء في حديث محاجة آدم وموسى في القدر، فليس من قبيل الاحتجاج بالقدر على فعل معصية، وإنما هو احتجاج على المصيبة التي كانت بسبب المعصية، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (احتج آدم وموسى فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قدر عليَّ قبل أن أخلق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فحج آدم موسى مرتين).
وقد عقد ابن القيم في كتابه شفاء العليل الباب الثالث للكلام على هذا الحديث، فذكر ما قيل في معناه من أقوال باطلة، وذكر الآيات التي فيها احتجاج المشركين على شركهم بالقدر، وأن الله أكذبهم؛ لأنهم باقون على شركهم وكفرهم، وما قالوه هو من الحق الذي أريد به باطل، ثم ذكر توجيهين لمعنى الحديث، أولهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية ، والثاني من فهمه واستنباطه، فقال: (إذا عرفت هذا، فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله، فاجتباه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنما لام موسى آدم على المصيبة التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة، بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيه على سبب المصيبة، والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له: (أخرجتنا ونفسك من الجنة) وفي لفظ: (خيبتنا) فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي، والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قدرت عليَّ وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة، هذا جواب شيخنا رحمه الله.
وقد يتوجه جواب آخر: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته، كما فعل آدم فيكون في ذكر القدر من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها، ما ينتفع به الذاكر والسامع، لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه أن آدم قال لموسى: (أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً عليَّ قبل أن أخلق)؟!
فإذا أذنب الرجل ذنباً ثم تاب منه توبة وزال أمره، حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه، فحسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول: هذا أمر كان قد قدر عليَّ قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً ولا ذكر حجة له على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به.
وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً أو يترك واجباً، فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً، كما احتج المصرون على شركهم فقالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148]، وقالوا: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20]، فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه، وندم وعزم كل العزم على ألا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.
ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل.
الظاهر أن في قوله: (خالقاً لكل شيء إلا هو) سقطاً يدل عليه ما قبله، تقديره: وأن يكون خالقاً لكل شيء إلا هو، وفي هذه الجمل كلها رد على القدرية الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم، وإن الله لم يقدرها عليهم، فإن مقتضى قولهم هذا أن أفعال العباد وقعت في ملك الله، وهو لم يقدرها، وأنهم بخلقهم لأفعالهم مستغنون عن الله، وأن الله ليس خالقاً لكل شيء، بل العباد خلقوا أفعالهم.
والله سبحانه وتعالى خالق العباد وخالق أفعال العباد، فهو خالق الذوات والصفات، كما قال الله عز وجل: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16]، وقال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]، وقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].
ويقابل نفات القدر فرقة ضالة هم الجبرية الذين سلبوا عن العبد الاختيار، ولم يجعلوا لهم مشيئة وإرادة، وسووا بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية، وزعموا أن كل حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار، وأن حركة الآكل والشارب والمصلي والصائم كحركة المرتعش، ليس للإنسان فيها كسب ولا إرادة، وعلى هذا فما فائدة إرسال الرسل وإنزال الكتب؟!
ومن المعلوم قطعاً أن للعبد مشيئة وإرادة، يحمد على أفعاله الحسنة ويثاب عليها، ويذم على أفعاله السيئة ويعاقب عليها، وأفعاله الاختيارية ينسب إليه فعلها وكسبها، وأما الحركات الاضطرارية كحركة المرتعش، فلا يقال: إنها فعل له، وإنما هي صفة له، ولهذا يقول النحويون في تعريف الفاعل: هو اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث، أو قام به، ومرادهم بحصول الحدث الأفعال الاختيارية التي وقعت بمشيئة العبد وإرادته، ومرادهم بقيام الحدث ما لا يقع تحت المشيئة، كالموت والمرض والارتعاش ونحو ذلك، فإذا قيل: أكل زيد وشرب وصلى وصام، فزيد فيها فاعل حصل منه الحدث، الذي هو الأكل والشرب والصلاة والصيام، وإذا قيل: مرض زيد أو مات زيد أو ارتعشت يده، فإن الحدث ليس من فعل زيد ، وإنما هو وصف قام به.
وأهل السنة والجماعة وسط بين الجبرية الغلاة في الإثبات، والقدرية النفاة، فأهل السنة أثبتوا للعبد مشيئة، وأثبتوا للرب مشيئة عامة، وجعلوا مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، كما قال الله عز وجل: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29].
فلا يقع في ملك الله ما لم يشأه الله، بخلاف القدرية القائلين: إن العباد يخلقون أفعالهم، ولا يعاقب العباد على أشياء لا إرادة لهم فيها ولا مشيئة كما هو قول الجبرية .
وبهذا يجاب عن السؤال الذي يتكرر طرحه وهو: هل العبد مسير أو مخير؟ فلا يقال: إنه مسير بإطلاق، ولا مخير بإطلاق، بل يقال: إنه مخير باعتبار أن له مشيئة وإرادة، وأعماله كسب له يثاب على حسنها ويعاقب على سيئها، وهو مسير باعتبار أنه لا يحصل منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده.
هداية كل مهتدٍ وضلال كل ضال كل ذلك حصل بمشيئة الله وإرادته، والعباد قد بين الله لهم طريق السعادة وطريق الضلالة، وأعطاهم عقولاً يميزون بها بين النافع والضار، فمن اختار طريق السعادة فسلكه انتهى به إلى السعادة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك فضل من الله وإحسان، ومن اختار طريق الضلالة وسلكه انتهى به إلى الشقاوة، وقد حصل ذلك بمشيئة الله وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك عدل من الله سبحانه، قال الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] أي طريقي الخير والشر، وقال: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، وقال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17].
والهداية هدايتان:
هداية الدلالة والإرشاد، وهذه حاصلة لكل أحد.
وهداية التوفيق، وهي حاصلة لمن شاء الله هدايته.
ومن أدلة الهداية الأولى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] أي: إنك تدعو كل أحد إلى الصراط المستقيم.
ومن أدلة الهداية الثانية قول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
وقد جمع الله بين الهدايتين في قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، فقوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ أي كل أحد، فحذف المفعول لإرادة العموم، وهذه هي هداية الدلالة والإرشاد، وقوله: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أظهر المفعول لإرادة الخصوص، وهي هداية التوفيق.
وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنا بمشيئة العبد دون مشيئة الله؛ لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم، فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء!
فقال عبد الجبار : أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟!
فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبراً عليه؟! أأنت الرب وهو العبد؟
فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟
فقال أبو إسحاق : إن كان الذي منعك منه ملكاً لك فقد أساء، وإن كان له فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل!
فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب!
وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال: ادع الله لي أن يرد لي حمارةً سرقت مني، فقال: اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه، فقال الأعرابي: يا هذا! كف عني دعاءك الخبيث، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد!
انتهى ما يتعلق بالقدر، وهذا هو الذي كتبناه عن القدر في شرح مقدمة كتاب الرسالة لـابن أبي زيد القيرواني .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر