قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في النهي عن التجسس.
حدثنا عيسى بن محمد الرملي وابن عوف وهذا لفظه قالا: حدثنا الفريابي عن سفيان عن ثور عن راشد بن سعد عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها ].
أورد أبو داود باب النهي عن التجسس، والتجسس: هو البحث والتنقيب عن العورات، أو عن معايب الناس وعيوبهم.
وقد أورد أبو داود حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)؛ لأن ذلك يحصل بسوء الظن، وكل ما حصل بسوء الظن فإنه يحصل منهم أيضاً إساءة الظن، وقد يحصل منهم أشياء يكونون قد أفسدوا فيها وقد يكون السبب في ذلك هو ظن السوء بهم.
وقوله: [ قال أبو الدرداء : سمع معاوية رضي الله عنه كلمة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها ]، أي: أنه طبقها، ولم يحصل منه سوء الظن بالناس، فهذا الذي رواه نفعه الله به، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يروون السنن ويطبقونها وينفذونها، وكانوا أسبق الناس إلى تطبيق ما يتلقونه من رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
والتجسس معناه: التفتيش عن بواطن الأمور في الشر غالباً، وقيل: هو البحث عن العورات، وقوله: (إن اتبعت ..) إلى آخره، قال في فتح الودود: أي: إذا بحثت عن معايبهم وجاهرتهم بذلك فإنه يؤدي إلى قلة حيائهم عنك، فيجترئون على ارتكاب أمثالها مجاهرة.
قوله: [ حدثنا عيسى بن محمد الرملي ].
عيسى بن محمد الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ وابن عوف ].
هو محمد بن عوف ، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي .
[ قالا: حدثنا الفريابي ].
هو محمد بن يوسف الفريابي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن سفيان ].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ثور ].
هو ثور بن يزيد ، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[ عن راشد بن سعد ].
راشد بن سعد ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[ عن معاوية ].
هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ قال أبو الدرداء ].
أبو الدرداء اسمه عويمر رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير وكثير بن مرة وعمرو بن الأسود والمقدام بن معد يكرب رضي الله عنه وأبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) ].
أورد أبو داود حديث أبي أمامة والمقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) وهو مثل حديث معاوية الذي تقدم.
وجاء التخصيص بالأمير لأنه هو المرجع وهو المسئول، فإذا ابتغى الريبة فيهم فإنه يترتب على ذلك فسادهم، كما مر في الحديث السابق، ويقل حياؤهم أو أنهم يتجرءون، أو أنه قد يحصل منهم الإقدام على تلك الأشياء التي كانت تظن فيهم.
قوله: [ حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي ].
سعيد بن عمرو الحضرمي مقبول، أخرج له أبو داود .
[ حدثنا إسماعيل بن عياش ].
إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[ حدثنا ضمضم بن زرعة ].
هو ضمضم بن زرعة الحمصي ، وهو صدوق يهم، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[ عن شريح بن عبيد ].
هو شريح بن عبيد الحمصي ، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن جبير بن نفير ].
جبير بن نفير تابعي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[ وكثير بن مرة ].
كثير بن مرة أيضاً تابعي ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[ وعمرو بن الأسود ].
عمرو بن الأسود أيضاً تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .
[ والمقدام بن معد يكرب ].
المقدام بن معد يكرب صحابي، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[ وأبي أمامة ].
هو أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث يروى عن ثلاثة من التابعين واثنين من الصحابة، وهو بالنسبة لروية الثلاثة الأولين الذين هم من التابعين مرسل، ومتصل بالنسبة لرواية الصحابيين.
والحديث أيضاً فيه المقبول الذي مر، ولكن الحديث الأول شاهد له.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب قال: أتى ابن مسعود رضي الله عنه فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال عبد الله : (إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) ].
أورد أبو داود هذا الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو أنه قيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال: (إنا نهينا عن التجسس)، والصحابي إذا قال: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، فله حكم الرفع؛ لأنه مضاف إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وأما رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا قال: أمرت بكذا أو نهيت عن كذا، فالآمر له والناهي هو الله عز وجل.
وهنا قول ابن مسعود : (نهينا)، يعني: أن الذي نهاهم هو رسول الله، فهو مرفوع بهذا الاعتبار؛ لأن هذا له حكم الرفع.
وقوله: (إن يظهر لنا شيء نأخذ به)، أي: أنه إذا ظهر شيء وتبين وثبت فإنه يؤخذ به.
قوله: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .
[ حدثنا أبو معاوية ].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الأعمش ].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن زيد بن وهب ].
زيد بن وهب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن مسعود ].
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه صحابي جليل، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الستر على المسلم.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن نشيط عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة) ].
أورد أبو داود باباً في الستر على المسلم، أي: الستر على المسلمين وعلى عورات المسلمين، والستر ينقسم الناس فيه إلى قسمين:
القسم الأول: من كان لا يعرف بريبة ولا يعرف بشر، وإنما حصل منه الشيء لأول مرة فإنه يستر عليه.
القسم الثاني: من كان معروفاً بالسوء معروفاً بالشر، فإنه يرفع أمره إلى الوالي من أجل أن يعاقبه؛ لأنه تجرأ واستمر في الوقوع في المحرمات.
إذاً: هناك فرق بين من حصل منه زلة أو حصل منه خطأ، وبين إنسان قد اعتاد هذا الأمر المحرم والوقوع فيه.
وقد أورد أبو داود حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة) والموءودة: هي التي تدفن حية، والمقصود من ذلك: أنه رأى أهلها ذهبوا ليدفنوها فحال بينهم وبين ذلك، فكان سبباً في إحيائها؛ لأن فعلهم الذي أقدموا عليه يؤدي إلى إماتتها ودفنها حية، فعمل على تخليصها من ذلك، فكان في ذلك إحياؤها، هذا هو المقصود بالإحياء، أي: أنه سعى في بقاء حياتها، وليس معنى ذلك إحياءها بعد الموت، وإنما المعنى أنه حصل دفنها وأنه عمل على استخراجها قبل أن تخرج منها الروح.
فالمقصود من ذلك: أنه عمل على بقاء حياتها قبل الموت، وليس المقصود أنها ماتت وأنه أحياها، وإنما عمل على إبقاء حياتها وذلك بالمبادرة إلى تخليصها قبل أن تخرج منها الروح وقبل أن يحصل الموت.
والحديث يدل على فضل الستر على عورات الناس، ولكن هذا الحديث ضعيف، ولكن الأمر بالستر والحث على الستر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى، كما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً: (من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).
قوله: [ حدثنا مسلم بن إبراهيم ].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن نشيط ].
ابن المبارك مر ذكره، وإبراهيم بن نشيط ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن كعب بن علقمة ].
كعب بن علقمة صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ عن أبي الهيثم ].
أبو الهيثم مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي ، وهذا هو علة الحديث.
[ عن عقبة بن عامر ].
هو عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن يحيى حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا الليث قال: حدثني إبراهيم بن نشيط عن كعب بن علقمة أنه سمع أبا الهيثم يذكر أنه سمع دخيناً كاتب عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: كان لنا جيران يشربون الخمر، فنهيتهم فلم ينتهوا، فقلت لـعقبة بن عامر رضي الله عنه: إن جيراننا هؤلاء يشربون الخمر، وإني نهيتهم فلم ينتهوا، فأنا داعٍ لهم الشرط، فقال: دعهم، ثم رجعت إلى عقبة مرة أخرى فقلت: إن جيراننا قد أبوا أن ينتهوا عن شرب الخمر، وأنا داعٍ لهم الشرط، قال: ويحك! دعهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكر معنى حديث مسلم ].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي تقدم، فهناك أبو الهيثم يروي عن عقبة ، وهنا أبو الهيثم يروي عن دخين عن عقبة ، أي: أن في هذا الإسناد واسطة بينه وبين عقبة بن عامر ، فمدار الحديث على أبي الهيثم في الإسنادين، فالعلة التي في الأول هي العلة التي في الثاني.
قوله: [ حدثنا محمد بن يحيى ].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[ حدثنا ابن أبي مريم ].
ابن أبي مريم مر ذكره.
[ أخبرنا الليث قال: حدثني إبراهيم بن نشيط ].
الليث وإبراهيم بن نشيط قد مر ذكرهما.
[ عن كعب بن علقمة أنه سمع أبا الهيثم يذكر أنه سمع دخيناً ].
دخين ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ كاتب عقبة بن عامر ].
عقبة بن عامر هو الصحابي الذي مر في الإسناد الأول.
[ قال أبو داود : قال هاشم بن القاسم عن ليث في هذا الحديث قال: (لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم) ].
هذه طريق أخرى، وهو نفس الإسناد.
وهاشم بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وكما قلنا: المسألة فيها تفصيل: فالناس الذين عرفوا بالفساد وبتكرار الفساد لا يسكت عنهم، ومن حصل منه زلة فهذا هو الذي يستر، قال الإمام النووي في قوله: (ومن ستر مسلماً) أي: بدنه أو عيبه بعدم الغيبة له، والذب عن معايبه، وهذا بالنسبة إلى من ليس معروفاً بالفساد، وإلا فيستحب أن ترفع قصته إلى الوالي، فإذا رآه في معصية فينكرها بحسب القدرة، وإن عجز يرفعها إلى الحاكم إذا لم يترتب عليه مفسدة. ا.هـ.
وإذا كان هناك جماعة في بلد ليس فيه النهي عن المنكر فليس لهم أن يهجموا على بيوت أصحاب الخمور المجاهرين؛ لأنهم لا يستطيعون هذا، وقد يكونون بذلك سعوا إلى القضاء على أنفسهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب المؤاخاة.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه فإن الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) ].
أورد أبو داود باب المؤاخاة، والمؤاخاة: هي التآخي بين المسلمين، والأخوة بين المسلمين تقتضي أن ينصح بعضهم لبعض، وألا يسيء بعضهم إلى بعض.
وأورد أبو داود حديث ابن عمر مرفوعاً: (المسلم أخو المسلم) وإذا كان المسلم أخا المسلم فإن هذا يقتضي ألا يظلمه، ولا يلصق الظلم به، وكذلك لا يسلمه، أي: لا يتركه عندما يظلم وهو يقدر على تخليصه من الظلم، وذلك بأن يسلمه، وألا يساعده ولا يعينه، بل عليه أن يساعده ويعينه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال: أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم).
قوله: (من كان في حاجة أخيه فإن الله في حاجته)، أي: من سعى في حاجة أخيه فإن الله تعالى يحقق له حاجته، ويوفقه بأن تحصل حاجته أو ييسر ويسخر من يسعى في حاجته جزاءً وفاقاً.
وقوله: (من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة)، والجزاء من جنس العمل، فالعمل تفريج كربة في الدنيا، والجزاء تفريج كربة في الآخرة.
وقوله: (ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)، هذا شاهد للباب الذي قبله وهو الستر على المسلم.
قوله: [ حدثنا قتيبة بن سعيد ].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
الليث مر ذكره، وعقيل بن خالد بن عقيل المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الزهري ].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن سالم ].
هو سالم بن عبد الله بن عمر ، وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم.
[ عن أبيه ].
هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، أحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب المستبان.
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد - عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم) ].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب المستبان، يعني: اللذين يتسابان، وكل منهما يسب الآخر، هذا يسب هذا، وهذا يسب هذا.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم) ومعنى ذلك: أن من حصل منه البدء بالسب، فإن كان الذي أجابه لم يزد ولم يتجاوز، فإن الإثم على الأول منهما، والثاني ليس عليه إثم؛ لأنه عاقب بمثل ما عوقب به، وقد أُذن له بذلك، كما قال الله عز وجل: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126] ثم قال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126]، أي: أن الصبر أفضل من المعاقبة، لكن إذا زاد الثاني الذي حصل له السب، فإنه يكون له نصيب من الإثم من أجل زيادته في السب؛ لأن كونه يجازي بمثل ما حصل له ليس عليه إثم، وإنما عليه إثم إذا زاد.
إذاً: إثم السب على البادئ منهما؛ لأنه هو السبب، والثاني ليس عليه إثم إذا كان لم يزد، ولكنه إذا زاد فإنه يكون له نصيب من الإثم بالزيادة، وهذا الذي في الحديث قريب من الحديث الذي سبق أن مر وفيه: (والسبتان بالسبة) أي: كون الإنسان يحصل له سبة ثم يأتي بسبتين.
قوله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة ].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .
[ حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد ].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن العلاء ].
هو العلاء بن عبد الرحمن الحرقي، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن أبيه ].
أبوه ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن أبي هريرة ].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وقد مر ذكره.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في التواضع.
حدثنا أحمد بن حفص قال: حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن الحجاج عن قتادة عن يزيد بن عبد الله عن عياض بن حمار رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد) ].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة بعنوان: باب في التواضع، والتواضع: هو ضد التكبر، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)، وذلك أن التواضع فيه سلامة من البغي، والتعدي على الغير، وكذلك التفاخر، وبعكس ذلك التكبر، فإنه يؤدي إلى البغي، ويؤدي إلى الفخر، والتواضع يحصل منه السلامة من ذلك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي -أي: بسبب التواضع - أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)، وبعكس ذلك يحصل البغي، ويحصل التكبر، ويحصل الفخر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي)، هذا يدلنا على أن السنة وحي من الله، وأن ما يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم من السنة هو وحي من الله، كما أن ما في الكتاب وحي من الله، فالكتاب وحي والسنة وحي، إلا أن الكتاب متعبد بتلاوته والعمل به، وأما السنة فإنه يتعبد بالعمل بها كما يتعبد بالكتاب، ولهذا أطلق عليها أنها وحي، والله عز وجل يقول: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وجاء في عدة أحاديث ما يدل على ذلك، ومنها الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشهيد يغفر له كل شيء) ثم قال: (إلا الدين، سارني به جبريل آنفاً)، أي: أن هذا العموم حصل فيه استثناء بالوحي من جبريل، ولذا قال: (سارني به) أي: بهذا الاستثناء الذي هو الدين، فهذا يدل على أن السنة وحي، وأنها من الله عز وجل، فالقرآن وحي والسنة وحي، والكل يجب العمل به، والعمل بالسنة كما هو معلوم عمل بالقرآن؛ لأن الله يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
وبعض العوام يقولون: (الكبر على المتكبر صدقة)، وهذا غير صحيح، فالإنسان لا يتكبر لا على المتكبر ولا على غيره، والإنسان لا يعود نفسه التكبر؛ لأن الإنسان إذا عود نفسه التكبر ألف التكبر، ولذا لا يتكبر على المتكبر ولا على غيره.
قوله: [ حدثنا أحمد بن حفص ].
أحمد بن حفص صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود وابن ماجة.
[ قال: حدثني أبي ].
أبوه هو حفص بن عبد الله ، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[ حدثني إبراهيم بن طهمان ].
إبراهيم بن طهمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الحجاج ].
هو الحجاج بن الحجاج وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[ عن قتادة عن يزيد بن عبد الله ].
قتادة بن دعامة مر ذكره، ويزيد بن عبد الله هو ابن الشخير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عياض بن حمار ].
عياض بن حمار رضي الله عنه صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
السؤال: هل يجوز استعمال الفوائد الربوية في شراء كتب لطلبة العلم؟
الجواب: لا يجوز أن يأخذ الإنسان الربا، ولا يجوز تعاطيه، بل يجب على الإنسان أن يسلم منه، وأن يبتعد عنه، وإذا وقع في حوزته وبحث عن الخلاص منه فإنه لا يصرفه في الكتب، وإنما يصرفه في أمور ممتهنة، مثل تعبيد طرق، أو بناء حمامات، أو ما إلى ذلك من الأمور الممتهنة.
السؤال: إذا اغتاب رجل رجلاً آخر وتاب، فهل تكفيه التوبة أو يجب أن يعتذر إلى من اغتابه؟
الجواب: هذا حق للغير لا بد من التخلص منه، ولهذا جاء في الحديث: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع)، لكن ذلك مفلس في الدنيا، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد مفلس الآخرة، فقال: (المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم وطرح عليه، ثم طرح في النار).
السؤال: هل تجوز غيبة أهل البدع والاستهزاء بهم؟
الجواب: إذا كان المراد بيان بدعهم والتحذير منهم، فهذا أمر مطلوب وواجب، وأما الاستهزاء فالمسلم لا يستهزئ.
السؤال: هل الكلام على أقوام أو أهل بلد معين بما يكرهونه يعتبر غيبة؟
الجواب: هو غيبة ولا شك؛ لأن الإنسان نفسه لا يحب أن يتكلم أحد في أهل بلده، أو يذم أهل بلده؛ لأنه واحد منهم.
السؤال: من نصح أخاه، ثم نقل إلى غيره أنه نصحه، هل يعتبر هذا غيبة؟
الجواب: كونه يخبر بأنه نصحه من غير أمر يقتضيه هذا لا يسوغ، وأما إذا جاء كلام وقيل له: لو نصحت فلاناً أو فلاناً فإن فيه كذا وكذا، فقال: قد نصحته وقلت له كذا وكذا، وأراد أن يبين أنه قد فعل، فلا بأس بذلك.
السؤال: قد يذكر البعض قصة حصلت لبعض أصحابه المقربين فيها غيبة له، ولكنه يقول: إن صاحبي لا يكره ذلك، ولا يغضب مني خاصة، والأمر كذلك، فما الحكم؟
الجواب: معنى هذا: أن الإنسان ليس لنفسه عنده قيمة، وما دام أنه لا يهمه ذلك فهذا وصف ذميم في الإنسان، وهذا كما قيل: ما لجرح بميت إيلام، فالإنسان ليس له أن يتكلم حتى على من كان بهذا الوصف الذميم.
السؤال: هل يجوز استئجار النساء اللاتي يضربن بالدف في الأعراس لإعلان النكاح؟ وهل يجوز للمرأة أن تمتهن هذه المهنة؟ وما حكم إعطاء الأجرة على مثل هذا العمل؟
الجواب: هذا من التكلف، والنساء اللاتي يستأجرن ألا يستطعن أن يضربن بالدف؟ فيضربن بالدف، ولا حاجة للاستئجار، ولا حاجة إلى إضاعة المال، ولا حاجة إلى المباهاة وإلى صرف الأموال في غير طائل، فالنساء يعرفن ضرب الدف، ولا حاجة إلى مثل هذه الأمور التي فيها تكلف، وفيها تبذير وإضاعة الأموال في غير طائل.
السؤال: حديث الرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة) ألا يدل على ما ذكر عن أبي ضمضم حيث إنه قال: إني أبيت وليس في قلبي غش أو غل لأحد من الناس؟
الجواب: هو لم يقل: إني بذلت عرضي أو وضعت عرضي، فهذا أكثر من هذا، فكأنه قال للناس: تكلموا فيَّ وأنتم مسامحون، والإنسان لا يصلح أن يقول: تكلموا فيَّ، ولكن كونه يسامح في شيء قد حصل فهذا أمر سهل، لكن كونه يقول: عرضي مباح، فمعناه: أن لكل أحد أن يتكلم فيه، وهذا ليس بجيد، وفرق بين إنسان ليس في نفسه غلٌ على أحد، وبين إنسان يقول مثل هذه المقالة: عرضي حلال.
السؤال: كيف يجعل الإنسان من اغتابه في حل وقد حرم الله الغيبة؟
الجواب: حرم الله الغيبة، ولكن لم يحرم المسامحة والتجاوز، فالإنسان إذا كان له حق يجوز له أن يتنازل عن حقه، وأولياء المقتول لهم أن يسامحوا القاتل، فالناس لهم أن يأخذوا حقهم ولهم أن يسامحوا فيه، فالنهي إنما هو عن الغيبة، وأما التجاوز والمسامحة فهذا أمر طيب، ولهذا جاء أن الإنسان عليه أن يتخلص من حقوق الناس، إما بأداء الحقوق عليه إن كانت مالية، وإما بطلب المسامحة منهم إن كانت غير مالية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر