وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يحدثنا أحد الصحابة رضوان الله عليهم وهو أسيد بن حضير أنه كان في ليلة من الليالي يقرأ القرآن، وكانت فرسه قريباً منه، قال: فقرأت فجالت الفرس، فلما سكت سكنت، ثم قرأت فجالت أي: تحركت حركة شديدة، ثم سكت فسكنت، قال: وكان ابني يحيى قريباً منها، فخشيت أن تطأه، فلما أبعدته نظرت إلى السماء فإذا ظلة فيها كأمثال المصابيح، ثم صعدت في السماء حتى اختفت، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان منه وما رأى، فقال: (اقرأ يا
هذا الكتاب كلام الله تبارك وتعالى، أنزله إلى البشرية هدى ونوراً وفرقاناً وضياءً، فيه خيرهم، وفيه سعادتهم إذا هم أخذوه، وفيه شقاؤهم وهلاكهم إذا هم تركوه.
خير كتاب على وجه الأرض هذا الكتاب، خير كتاب منذ خلق الله الأرض، وإلى أن يرث الله الأرض، لم يوجد كتاب كهذا الكتاب قط، ولو اجتمع علماء الغرب وعلماء الشرق، وعباقرة الجن والإنس على أن يخرجوا كتاباً كهذا الكتاب لا يستطيعون أبداً، فما تخرجه المطابع، وما تنتجه القرائح لا يمكن أن يساوي شيئاً من هذا الكتاب.
(فَلا أُقْسِمُ) يقسم رب العزة بمواقع النجوم أي: منازلها في السماء ثم يقول: إن هذا القسم لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ أي: هذا الذي أقسم الله تبارك وتعالى به وهو مواقع النجوم قسم عظيم.
اليوم نحن نعرف شيئاً من عظمة هذا القسم، بعد أن اخترعت هذه المكبرات والمناظير التي نرى بها نجوم السماء، ونعرف أبعادها، فقد تبين للعلماء أن في هذا الفضاء الشاسع مجرات لا تعد ولا تحصى، وكل مجرة فيها مئات الملايين من النجوم تسبح في هذا الفضاء الواسع الشاسع وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:76].
على ماذا يقسم رب العزة؟
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ لا كما يقول أهل الإفك والضلال: إنه سحر وكهانة وافتراء وكذب واختراع.
فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ أصله في كتاب عند الله تبارك وتعالى أنزله منه.
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لم تتنزل به الشياطين، ولم تأت به الجن، وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء:210-212].
قال: (هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله)، يعني: الجبابرة الذين يتمردون على دين الله وشرعه يمد الله لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. (ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله) أي: الذي يريد الهدى من عند روسيا، ويريد منهجاً شيوعياً هادياً للبشرية، والذي يريد الهدى من عند أمريكا من نظرياتها وفلسفاتها، أضله الله.
قال: (وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم)، فمن استمسك به لا ينقطع به أبداً، فالقرآن كما جاء في بعض الأحاديث: (حبل طرفه بيدك، وآخره عند الله تبارك وتعالى)، إذا استمسكت به رضي الله عنك، وأدخلك جنته.
وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، فمن سار عليه كان على الصراط المستقيم، ولم يذهب يميناً ولا شمالاً حتى يصل إلى جنة الله تبارك وتعالى.
قوله: (هو الفصل ليس بالهزل) أي: أنه كلام لا هزل فيه بل هو جد كله. (لا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).
هذا وصف كتاب ربنا ممن فقه ما في هذا الكتاب، والغاية من إنزاله، وكيف يعمل به، ولذلك كان تقويم الرجال في ديننا ليس بأجسامهم، وطولهم وعرضهم، ولا بما يعرفون من أمور الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) هكذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولو كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه يحفظ كتاب الله، ويرتله آناء الليل وأطراف النهار ويعلمه الناس، فهذا هو خير الناس.
ولذلك يقال يوم القيامة للذي كان يرتل القرآن بعد أن يدخل الجنة: (اصعد في درجات الجنة، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت ترتلها)، كم ترتل القرآن في الدنيا: مائة مرة، ألف مرة، مائة ألف مرة، بمقدار ما رتلته في الدنيا تصعد وتصعد وتصعد ثم تكون منزلتك عند آخر آية كنت ترتلها.
(خيركم من تعلم القرآن وعلمه) .
الذي يفهم هذا الكتاب ويحفظه فقد جمع النبوة في صدره، هذا هو الوحي الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الحياة التي أحيا الله بها قلوب عباده، وهذا هو الريح الطيب الذي كان ينشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، هذا قوام الأمة وحياة الأمة وعز الأمة وخيرها.
ولذلك عنيت الأمة بهذا الكتاب، فدرسوه، وفقهوه، وحكموه في أنفسهم، وتخلقوا بأخلاقه، وتأدبوا بآدابه، ونشأت أمة الإسلام على هذا الكتاب؛ فصنع أفرادها رجالها ونساءها وأطفالها وشبابها وشيوخها وحكامها، وكان إطاراً لحياتهم، فكانت هذه الأمة هي أمة القرآن.
هذه الأمة كانت تنظر بكتاب الله، وتنظر من خلال آياته، وتحقق الأهداف التي رسمها كتاب الله تبارك وتعالى، وتتعلم عقيدة الإسلام من هذا الكتاب، فقد كان حياتها ونورها، فكانت هذه الأمة أمة القرآن، هذا الكتاب حياتك وعزك وخيرك إن أنت أخذت به، وهذا الكتاب هو كتاب الأمة الأول ونورها الهادي، إن أخذت به عزت، وإن تركته ذلت.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
مما حدثنا الله تبارك وتعالى به أن رسولنا صلى الله عليه وسلم يشكو أمته إلى ربه: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، وهذا حصل في كثير من فترات التاريخ، ومنها أيامنا هذه حيث هجرت الأمة كتاب الله تبارك وتعالى، وأصبح القرآن لوحات تعلق على الجدران، وزينة تزين بها المكاتب، وملصقات توضع على السيارات، أما أن يكون القرآن دستوراً، وشريعة، وإطاراً لحياتنا فقد تركنا ذلك وهجرناه.
هذه شكوى قائمة في أيامنا من كثير من المسلمين، أصبح القرآن يقرأ في المآتم وفي المقابر، أما أن يكون القرآن حياة للقلوب، وحكماً في الوزارة وفي الدائرة وفي السوق وفي كل مكان، ويكون منهجاً في التربية والتعليم، وضابطاً لمختلف العلوم؛ فهذا بعيد إلا من رحم الله.
هذه شكوى من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحدث رب العزة تبارك وتعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، وتلك جريمة. فإذا كان الذي يؤتى آية من كتاب الله ثم ينساها تعد هذه جريمة في ميزان الله تبارك وتعالى فكيف بالأمة إذا تركت هذا الكتاب؟!
يقول رب العزة تبارك وتعالى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [طه:99] أي: القرآن، مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا [طه:100] أي: يأتي مثقلاً بآثامه وأوزاره يحملها فوق ظهره، ثم تكون النتيجة أن هذا الوزر يلقيه في نار جهنم فيخلد فيها، خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:101-102].
ويقول رب العزة في الذي يعرض عن الهدى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]، وذكر الله فينا هو كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ [طه:124-127] أي: مثل هذا الجزاء نجازي به من أسرف على نفسه بالكفر والشرك والذنوب والمعاصي.
هذه نتيجة الإعراض عن كتاب الله في الدنيا: معيشة ضنك، يشقى بنفسه وبأهله وبولده وبماله، كثير من الناس النعمة تتحول النعمة في حقه إلى نقمة؛ لأنه نسي الله فأنساه الله تبارك وتعالى نفسه، وحاله يوم القيامة كما قال الله: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى [طه:124-125] بصيرتك عميت في الدنيا عن كتاب الله ونور الله وهدى الله، فيحشره ربه تبارك وتعالى أعمى، فالجزاء من جنس العمل.
أما الذين اهتدوا فزادهم الله هدى، أما الذين استناروا فلهم النور التام يوم القيامة، يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12]، الذين استناروا في الدنيا بهذا الكتاب، اطمأنت نفوسهم، وهدأت قلوبهم، وتوكلوا على ربهم تبارك وتعالى، وعاشوا في الدنيا بقلوب متعلقة بالله، وبما عند الله تبارك وتعالى، فيكون قدومهم على الله تبارك وتعالى هو يوم الفرح الأكبر، والحظ العظيم، والبشرى التي لا بشرى بعدها.
جعلني الله وإياكم من الذين يفقهون هذا الكتاب، ويتدارسونه بينهم، ويعنون به علماً وعملاً وفقهاً وتعليماً.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر