وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد خلق الله تبارك وتعالى العباد لعبادته، وعبادة الله تبارك وتعالى باقية في عنق العبد ما بقيت فيه حياة تتردد، وما دامت الروح في هذا الجسد ولم تسل منه بعد، ولم يتحول إلى ميت هامد لا حركة فيه ولا فكر ولا حواس، فما دام أنه حي فهو يعبد الله تبارك وتعالى، وهو مطالب بأن يعرف ربه، وأن يعرف منهجه، وأن يستقيم على أمر الله تبارك وتعالى، فشعار المسلم: أن يعبد الله حتى يتوفاه الله تبارك وتعالى كما أمر بذلك رب العزة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، واليقين هو: الموت، أي: واعبد ربك دائماً، وكن مواظباً على ذلك حريصاً عليه حتى يأتيك الموت، وهذا شعار ينبغي للمسلم أن يرفعه، وينبغي للأمة الإسلامية أن ترفعه، وأن يجعله الإنسان نصب عينيه دائماً وأبداً، أن يكون عبداً لله في كل أحواله، وفي كل شئونه، وأن يمضي رافعاً راية العبودية إلى أن يلقى الله تبارك وتعالى وهو مستمسك بهذا الدين، ومستمسك بالإيمان، مستعلٍ على الباطل.
فينبغي للمسلم أن يكون عبداً لله مادام حياً، فليس هناك تقاعد في حياة المسلم تجاه إسلامه، وليس هناك وقت يأتي فيه ويقول: قد توقفت ويكفي ما عملت، فقد قدمت ما فيه الكفاية، فإن هذا منطق مرفوض بالنسبة للمسلم والمسلمين، بل هي عبودية، وحمل للراية، واستمساك بالحق إلى أن نلقى الله تبارك وتعالى.
ولقد فهم بعض المسلمين من أوائل هذه الدعوة أنه يمكن أن يتقاعدوا ويتوقفوا كما في الحديث الصحيح أن الأنصار عندما انتصر الإسلام وأعز الله دينه، وأعلى كلمته، وأذل الشرك والباطل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، قالوا: آن الأوان لنرجع إلى أموالنا وأعمالنا، لأنهم كانوا قد تركوا بساتينهم وأعمالهم، ففسدت بسبب انشغالهم بالجهاد في سبيل الله، والعمل لرفع راية الإسلام.
فقالوا: نحن قد قدمنا ما علينا، والآن جاء الدور لنلتفت إلى أعمالنا، فأنزل الحق تبارك وتعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فالجهاد والإنفاق في سبيل الله والبذل لهذا الدين لا يتوقف عندما يكبر الإنسان، أو عندما ترتفع راية الإسلام، وإنما هو شعار مستمر، وعبودية حتى الموت.
ولذلك فقه الصحابة معنى هذا القول الإلهي الكريم، ونفذوه، فقد استمر الصحابة يجاهدون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وتوفي أكثرهم في أقاصي الأرض بعيداً عن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقبور الصحابة متناثرة في أرجاء هذا العالم، فعندما تزور القسطنطينية فستجد هناك قبر أبي أيوب الأنصاري ، فقد مات وهو يجاهد في سبيل الله على أسوار عاصمة دولة الروم الشرقية بيزنطا، ودفن هناك.
ولقد وعى المسلمون هذا الدرس، فاستمروا في عطائهم، واستمروا في جهادهم، ولم يمنوا على ربهم ولم يتوقفوا، ذلك أن المسلم ما دامت فيه روح وما دام حياً، فهو عبد لله تبارك وتعالى، فلا تتوقف العبودية والاستمساك بهذا الحق وهذا الدين.
إن الإسلام منهج لحياة الإنسان في تفكيره وعقيدته وتصوره وأعماله، فعليه أن يذوب في هذا المنهج، وأن يقضي حياته كلها ملتزماً بهذا الدين، وملتزماً بهذا المنهج، فإن نقض هذا اعتبر مرتداً عن هذا المنهج وهذا العطاء.
فالله تبارك وتعالى أخذ على الإنسان المواثيق، فالرسل جميعاً وأتباع الرسل وأنت في كل صلاة تقطع لله عهداً، وتقول له: يا رب! إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، في كل ركعة تقطع لله عهداً، فكيف تتحلل من عهودك ومواثيقك التي تعقدها مع الله تبارك وتعالى؟!
وقد يحصل مني ومنك قصور، فينبغي أن تعالج هذا القصور بالتوبة والاستغفار، والإنابة إلى الله تبارك وتعالى، ولكن أن تترك المنهج وأن تتقاعد وتتخلى، ثم تصبح في بقية حياتك تتفاخر بما قدمت، وبما عملت، وأنك عملت كذا وعندما كنت في كذا عملت كذا وكذا؛ فهذا أسلوب لا يرضاه الإسلام، فهذه مواثيق سيسألك الله تبارك وتعالى عنها.
والإسلام يصور القضية بيعاً وشراء، فأنت تبيع نفسك لله، وتبذل مالك لله، وتشتري رضوان الله وجنته، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، ماذا يفعلون؟ (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:111]، أي: يبذلون أنفسهم وأموالهم.
فأنت تقدم النفس والمال لتحصل على رضوان الله تبارك وتعالى وجنة الله عز وجل، وهذا ما وعد الله تبارك وتعالى به، ولا يتم بذلنا إلا إذا انقضت الأيام والسنون ونحن كذلك.
فالمال يشد الإنسان في كثير من الأحيان ويعمي ناظريه، فتتلجلج الدروب.
والزوجة والأولاد كذلك؛ ولذلك فقد أخبر الحق أن الزوجة والأولاد -في بعض الأحيان وليس دائماً- يكونون أعداء للإنسان؛ لأن الله يدعوك إلى جنته ورضوانه، وتلك بالنسبة لك قضية كبرى، فليست قضية صغرى أن تدخل جنة الله وأن يرضى الله عنك، بل هي قضية خطيرة، فإذا وجد من يصرفك عن هذه القضية الخطيرة إلى قضية جزئية هامشية فهذا ليس بمحب لك، بل هو عدو لك، فقال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [التغابن:14]، فقال: (من) وليس كل الأزواج، بل بعضهم وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] فبعض الأزواج والأولاد عدو، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الولد: (مجبنة مبخلة) فالولد يجعل الإنسان جباناً، ويجعل الإنسان بخيلاً، فيخشى الأب على ابنه ألا يجد له طعاماً، وألا يجد له كساءً، وألا يجد له مسكناً، فيقبض يده عن البذل في سبيل الله، ويقبض يده عن العطاء، فلا يبذل في سبيل دينه، ولا يبذل في المجالات التي أمر الله بالبذل فيها، فيجبن ويبخل.
ففي بعض الأحيان يكون الأولاد والزوجة أعداءً؛ ولذلك أمرنا الله تبارك وتعالى أن نحذر من هذا الصنف الذي يصرفنا عن طاعة الله تبارك وتعالى، وليس معنى ذلك أن تقتلهم لأنهم أعداء، أو أن تطردهم فالعداوة هنا في قضية جزئية، فهم يحبونك ويحبون لك الخير، ولكنهم يجهلون سبيل الخير ودروبه، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا [التغابن:14] فينبغي لك أن تستمسك بإسلامك، وأن تمضي على منهجك، وأن تقوم هؤلاء لا أن تنحرف معهم، وليس السبيل أن تعاقبهم، ولكن السبيل أن تفقههم، وأن تمضي بهم إلى الجنة، لا أن تجعلهم يمضون بك إلى النار.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] أي: ابتلاء واختبار، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:15].
فإذا كنت مؤمناً فلابد أن تستخدم عقلك، فأنت خيرة الله في الكون، ففي الإنسان خصائص تميزه عن الحمار والبقرة والجماد والنبات، فهو شيء متميز في الكون، يعرف ويعلم ويرضى ويكره ويرفض، فأنت كيان خاص في هذا الكون، ولذلك أسجد الله الملائكة لأبينا آدم عليه الصلاة والسلام.
فلا تخطئ لأن الناس مخطئون، ولا تزل لأن الناس قد زلوا، ولا تبتعد عن المنهج لأن الناس قد ابتعدوا، ففعل الناس ليس هو الصواب دائماً، وإنما الحق في موافقة الحق، وفي موافقة الله تبارك وتعالى.
ولذلك عندما كتب معاوية بن أبي سفيان إلى عائشة يطلب وصيتها، أوصته بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) فيجب أن تطلب رضوان الله تبارك وتعالى وإن سخط الناس عليك، فإن الله يوشك أن يرضيهم عنك ما دمت ترضي ربك تبارك وتعالى.
وخلاصة القول: أن منهج المسلم عبودية دائمة إلى أن يلقى الله تبارك وتعالى، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
فاثبت على المبدأ، وإن ابتعد الناس عن المنهج والسبيل، وإن أخطأ الناس وزلوا، وإن حاول الأصدقاء والأعداء أن يبعدوك عن المنهج، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
ففي بعض الأحيان يكون حرصك على أن تبقى إلى اللحظات الأخيرة ثابتاً على الحق هو الذي يرجح دخولك الجنة، فإن حرص الإنسان على أن يبقى ثابتاً إلى أن يتوفاه الله تبارك وتعالى فلابد أن يكون دائماً في عمليتين: عملية الاغتسال من الذنوب والآثام وهي: (التوبة)، وعملية التقدم للأمام لتحصيل مزيد من الأجر والثواب، ولتحقيق مزيد من العبودية لله تبارك وتعالى، فقد تكون الساعات والأيام الأخيرة هي التي ترجح ميزان أعمالك فتدخل بها الجنة.
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار! ولو بشق تمرة) وربنا يحاسب على الذرة، فكم في نصف التمرة من ذرات؟
فالموازين عند الله تبارك وتعالى ليست كموازين البشر، فالتمرة عند البشر لا قيمة لها، لكنها في ميزان الله تبارك وتعالى لها قيمة كبيرة، فالاستمساك بالحق، والاستعلاء على الباطل، والمسير إلى الأمام إلى أن يلقى الإنسان ربه؛ هو السبيل إلى أن تحقق لنفسك عند الله مكانة ومكاناً في جنة الله تبارك وتعالى.
اللهم! اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا.
اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم! اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر