أما بعد:
فإن هذا الكون الذي نعيش فيه بأرضه وسمائه معبد يتجاوب بالتسبيح والخضوع لله سبحانه وتعالى، وليس هناك شيء في هذا الكون إلا وهو خاضع لعظمة الله وجبروته، ثم هو ينطق بالتسبيح والتحميد لخالقه سبحانه وتعالى.
وقد خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون وسخره لأمر، فلا يتمرد على طاعة ربه سبحانه وتعالى بحال من الأحوال، بل يقوم بهذا الأمر بلا عناء ولا جهد، كالآلة التي تعمل بدون تفكير وبدون وعي وبدون عقل، بل بطبيعتها.
وخلق في هذا الكون مخلوقاً فريداً هو هذا الإنسان، فقد خلقه الله سبحانه وتعالى بصفات فذة ليس لها شبيه أو مثيل، وليس لها نظير في المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، خلقه ليتحمل شيئاً لا تحمله الأرض أو السماء، ولا تحمله الجبال، وليقوم بهمة فذة تتناسب مع خلقته وصفاته، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].
فالحمل الذي تحملناه -معشر البشر- عرضه الله على السماء الواسعة الشاسعة القوية المتينة، وعلى هذه الأرض التي ندب عليها، وعلى تلك الجبال الراسيات، فأشفقت كلها من حمل هذه الأمانة وقالت: ربنا! لا نستطيع أن نتحملها، وخفن من النتيجة، وتحملناها نحن بني آدم!
ثم عقب الله سبحانه وتعالى على هذا التحمل الإنساني الآدمي بقوله: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]؛ لأنه لا يعلم عظم الأمانة التي تحملها، ولا يعلم ثقلها، ولذلك يفرط فيها ويهملها كثيراً.
إن القرآن الكريم يصور تاريخ البشرية تصويراً حقيقياً يتمثل في الاستجابة لما أنزل الله من كتب، ولما أرسل الله من رسل، ويتمثل في الانحراف والبعد عن هذا المنهج، ويتمثل في أولئك الأفذاذ من الرسل وأتباع الرسل الذين حملوا الأمانة وأوفوا بالعهود لربهم سبحانه وتعالى، والذين تمردوا على الله عز وجل وعلى كتبه ورسله.
هذا هو تاريخ البشرية، يعرضه الله سبحانه وتعالى من خلال رسله، وما قالوا لأقوامهم، وما قال لهم أقوامهم، وما حدث من صراع بين الرسل وأتباع الرسل وبين المعارضين لهم، وكيف جرى قدر الله سبحانه وتعالى لتكون العاقبة للمتقين، والنصر لحزب الله في الدنيا، ثم في الآخرة يعرض الله مصير المؤمنين ومصير الكافرين، مصير الذين حملوا الأمانة، والذين تخلوا عن حمل الأمانة.
وتحملناها وليس هناك خيار في أن يتحملها المسلم أو يرفضها، فليس لنا خيار في ذلك، بل إن رفضناها خسرنا كل شيء، وإن قبلناها ربحنا كل شيء، ولكن هذه الأمانة لا يكفي أن نحققها في قرارة أنفسنا، وأن نحققها بسلوكنا وعملنا، بل ينبغي أن نقررها في واقع الحياة.
فالله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يسود في عالم عباده دين يهيمن على الحياة في مختلف نواحيها إلا دينه الذي رضيه هو سبحانه وتعالى، أليست الأرض أرضه، والسماء سماؤه، والعباد عباده، وهو أعلم بما يصلحهم وما يفسدهم؟! فلماذا لا يحكم دينه؟ ولماذا لا يهيمن في واقع الحياة؟ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33].
إذاً: مهمة الذين آمنوا بدعوة الحق وتحملوا أمانة الله سبحانه وتعالى أن يقرروا الحق في واقع البشرية، وأن يصلوا به إلى الناس جميعاً؛ حتى يهيمن على الحياة وعلى الأحياء، وهذا لا يتأتى بأفراد يرفع كل منهم الراية وحده، ويسير في الطريق وحده، بل يحتاج هذا إلى تكاتف وتعاون، ولا يمكن لبناء الإسلام أن يقوم بأفراد متناثرين متباعدين كل منهم يسعى في سبيل ويضرب في طريق، بل إن هذا لا يتم به عمل دنيوي، فلو أردنا أن نبني عمارة وليس هناك مهندس ولا مخطط ولا مشرف، وجاء مائة شخص ليبنوا العمارة، وكان كل واحد منهم يتصرف كما يشاء، ويتصرف كما يريد، فكيف سيكون شكل هذه العمارة؟ وكيف سيكون بناؤها؟
إنني أجزم بأنها لن تصلح لشيء؛ لأن كل إنسان سيتصرف كما يشاء وكما يحلو له، فلن يستقيم أمرها.
وبناء الإسلام كذلك يحتاج أن يجتمع عليه المؤمنون، وأن يعيش الذين آمنوا بهذه الدعوة وحدة فيما بينهم، فبعد ذلك يصبح لهم في واقع الحياة وزن، ويصبح لهم في واقع الحياة ثقل، ويستطيعون أن يؤثروا بما لهم من مكانة وبما لهم من قوة وما يبذلونه من جهد في واقع البشر، وهذا مأخوذ بجلاء من سيرة الأنبياء والمرسلين لا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم فرد آمن به رجال، فكون جمعاً استطاع أن يؤثر به في الحياة، ولو بقي فرداً فكيف سيتحقق الإسلام واقعاً؟! ولذلك قال الله تعالى له: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:62-63].
وموسى عليه السلام عندما كلفه الله بحمل الرسالة وحمل الأمانة قال: رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي [القصص:33-34]، فهو يطلب على الحق أنصاراً وأعواناً، يطلب من الله أن يؤيده بأخيه ليعينه ويناصره في واقع الأمر، ولذلك فالله عز وجل يقول لرسوله صلوات الله وسلامه عليه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28]، فهذه فئتك، ومقامك في وسط هذه الطائفة الطيبة الخيرة، فاصبر نفسك مع هؤلاء.
فهذه الأمور حبيبة إلى نفس الإنسان مزينة له، ولا يمكن للإنسان أن يستعلي عليها إلا إذا فهم قيمة الحياة ووزنها في ميزان الله، وقارنها بما عند الله سبحانه وتعالى، فعند ذلك يستعلي عليها، يقول تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص:60-61].
فالله تعالى يقول: إن كل شيء أوتيتموه إنما هو متاع يُتمتع به ثم يزول، وهو زينة، والزينة لا تدوم، أما الباقي الدائم مما عند الله فهو خير مما في الدنيا في النوعية والكيفية، وهو أبقى، فمتاع الدنيا زائل، والآخرة باقية لا تنتهي مسراتها ولا أفراحها، ولا يزول شبابها ولا تنتهي أيامها، أكلها دائم وظلها، تلك الحياة الآخرة، فأين عقولكم؟
قال تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص:61].
ونفس الإنسان تتطلع إلى الدنيا، وذلك مرض قاتل يصيب الناس في الصميم، ومنهم الذين يحملون دعوة الله فيتعثرون فيسقطون فيخسرون أنفسهم وتخسرهم دعوتهم.
وليس هذا دعوة إلى الرهبانية والتصوف، وإنما هي دعوة إلى أن نقدم الآخرة على الدنيا، كما قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77]، فهي دعوة إلى ما دعا الله إليه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى له: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132].
فليقاتل المسلمون اليوم هذه الدنيا، خاصة في الخليج والبلاد التي فتحت عليها الدنيا، فكثير من الناس قتلوا وهم أحياء، وماتوا وهم في عالم الأحياء، قتلتهم هذه الدنيا، وقتلتهم الشهوات، فضاعوا وضيعوا، وصدق فيهم قول الله: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [الأعلى:16].
وما قام الصحابة والمسلمون بما قاموا به إلا عندما استعلوا على دنياهم وآثروا أخراهم، عند ذلك اختلت الموازين عند أعدائهم، فقد كانوا لا يعرفون كيف يقومون هؤلاء الذين يقاتلونهم، فإن وزنوهم بموازين الدنيا فلا تنطبق عليهم؛ إذ أن عشرة آلاف يغلبون خمسين ألفاً، وهذا الأمر في موازين الدنيا أمر بعيد، ولكن قلبت الموازين؛ لأن هؤلاء العشرة الآلاف حريصون على الموت حقيقة، ويتمنونه حقيقة، ويرون سعادتهم في أن يأتي الواحد سهم أو ضربة سيف تأخذ روحه ليصبح من الأحياء الذين هم عند ربهم يرزقون، فاختلت الموازين عند أعدائهم لأنهم يقيسون بمقاييس الدنيا.
ونحن اليوم نحمل أمانة الله، ونريد أن نحققها في واقع الحياة، وهذا يقتضي منا أن نفهم هذه الأمانة والرسالة، ثم نعرف العوائق التي تقف حجر عثرة في طريقنا، وقد ذكرت واحدة منها، ألا وهي هذه الدنيا بزينتها وشهواتها، والتي كثيراً ما غرق فيها الصالحون ورجال عملوا للإسلام كثيراً، تأخذهم الدنيا فتسأل عنهم فإذا بهم لم يبق بينهم وبين الإسلام ألا شعرة واحدة، وقد تنقطع هذه الشعرة.
فالواحد منهم غرق في دنياه بعد أن كان مثال الحيوية والنشاط والشباب والقوة والعزيمة، ثم ملأت عليه دنياه نفسه فإذا به يغرق.
ولذا كانت النتيجة المنطقية أن يكونوا إخوة فيما بينهم، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة تشبيهات رائعة، حيث جعلها كالجسد الواحد، وإذا نظرت إلى خلايا الجسد فستجدها مترابطة مع بعضها، فخلايا الجسد متماسكة فيما بينها من قمة رأس الإنسان إلى أخمص قدميه، وأجزاء الجسد مترابطة فيما بينها، فاليد بعيدة عن الرجل ولكنها تشعر بشعورها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) وشبههم النبي صلى الله عليه وسلم ببنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً، ويصفهم ربهم سبحانه وتعالى في كتابه بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
فالمسلمون تجمعهم أخوة، والأخوة لها حقوق فيما بين المسلمين، أما أن ينتسب المسلمون إلى الإسلام ثم يأكل بعضهم بعضاً، ويطعن بعضهم في بعض، ويجرح بعضهم بعضاً، ويغتاب بعضهم بعضاً ويقولون: نحن الذين نرفع راية الإسلام فهذا الانتساب دعوى لا برهان عليها.
واليوم نحتاج إلى أن يعيد المسلمون النظر فيما هم عليه، فالمسلم ليس بمغتاب ولا نمام ولا مفسد ولا قاطع لما أمر الله به أن يوصل، وإنما هو ناصح كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وهكذا المسلمون فيما بينهم، ينصح بعضهم بعضاً، ويحققون أمر الله في أنفسهم وفي إخوانهم، فصحيح أننا نحارب الباطل، وهذا أمر مطلوب، لكن بالتي هي أقوم وأحسن، فلا أكتم الحق، وفي نفس الوقت أحافظ على كرامة أخي المسلم، وأحافظ على عرضه، وأحفظه في غيبته، وقد أختلف معه في أمر ما، وقد أختلف معه في حكم ما، ولكن تبقى له حرمته، فحرمة المسلم عظيمة، والكثير منا يستهين بحرمة أخيه المسلم.
وأنا أقول -ولعلي لا أجاوز الحقيقة-: إن الأخوة تذبح بين المسلمين في هذه الأيام ذبحاً وتهدر، وقد يلاقي المسلم اليوم من إخوانه عنتاً أكثر مما يلاقيه الكفار من المسلمين، وقد لا يتصدى المسلم للكفار بمقدار ما يتصدى للمسلمين، وهذا من سوء التصرف، والعياذ بالله.
فينبغي للمسلمين أن يراجعوا أنفسهم في هذا الأمر، وأن يحسنوا التعامل فيما بينهم، وقد يخطئ المسلم وقد يؤذي، وهذه أمور تعالج فيما بين الاثنين، لكن أن يصل الحال بين المسلمين إلى قطيعة وهجران، وأن يصل بين المسلمين إلى عداوة وبغضاء فذلك ما لا يجوز.
فلكي يستطيع المسلمون حمل الأمانة لابد من أن يحيوا معاني الأخوة فيما بينهم، وأن يحيوا حقوق الأخوة فيما بينهم، وأن يتجنبوا ما يقطع جذور الأخوة ويهدمها، وينبغي أن يحيوا معاني الإخاء الكريم الذي عاشه المسلمون في الماضي، ينبغي أن يحيوه من جديد، وأن يطهروا أنفسهم من الخيلاء والغرور والكبرياء، فهذه أمراض قاتلة تهدم الإسلام في نفوسهم وتقطع ما بين المسلمين من صلات، وتهدم بناء الأخوة، وتجلب العداوة والبغضاء.
وهناك حقوق للأخوة بينها الإسلام، ومنها: أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وأن تكره لأخيك ما تكرهه لنفسك، وأن تكون حريصاً على أخيك وعلى ماله وأهله كما تكون حريصاً على ذلك بالنسبة لك.
ومنها أن تسلم عليه، وتزوره، وتشاركه أفراحه وأحزانه، وتعينه، وتتجنب ما يقطع الأخوة معه من الحسد والتكبر عليه وغيبته، وما أشبه ذلك مما بينه الإسلام.
إن هذا يحتاج إلى رجال أطهار أخيار أبرار، ويحضرني في هذا المقام أنه روي أن رجلاً قال لـعلي بن أبي طالب : يا علي ! إن الدنيا خربت في خلافتك، فأين أيام أبي بكر وأيام عمر ؟! فقال له علي بن أبي طالب : إن أبا بكر وعمر كانا أميرين على أمثالي، وأنا اليوم أمير على أمثالك. يعني: قلة الرجال.
فينبغي أن نحسن الحديث في ندواتنا ومحاضراتنا، وينبغي أولاً أن نسعى إلى تحقيق الإيمان في أنفسنا، وأن نسعى لتطهير مجتمعاتنا، وأن نعيد معاني الإسلام حية في النفوس، وأن تحيا النفوس بروح الله وبنوره وبوحيه، وأن تتمثل المعاني التي أنزلها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وأن تحارب الباطل وتجتثه من جذوره؛ فإن الباطل اليوم يملأ نفوسنا وبيوتنا وشوارعنا، ويعشعش في أفكار شبابنا وفتياتنا، فهناك دعوات تسود وأفكار تطرح يتغذى بها فريق من أبنائنا، فالباطل كثير وكثير، فافتح الراديو لتسمعه، وافتح التلفزيون لتسمعه، وافتح الصحيفة لتسمع الباطل، واذهب إلى النوادي وشواطئ البحر، واذهب إلى أي مكان لتسمع وترى الباطل.
وهذه أقذار ونجاسات نحتاج إلى أن نزكي وأن نطهر أنفسنا منها ومن هذا الباطل وهذا الفساد حتى نستطيع أن نقيم جماعة يرضى عنها الله سبحانه وتعالى، ويبارك في أقوالها وفي أعمالها.
فنصر الله تعالى إنما يتنزل على الأخيار، وثقوا -معاشر المسلمين- من أننا -والله- لا نستطيع أن نكون شيئاً في الحياة ما لم يكن بيننا وبين الله صلة، وما لم يكن بيننا وبين الله عمار، فقد قضي بالحكم على هذه الأمة أنه لا يكون لها شأن ولا مجد ولا عز إلا بهذا الدين.
وقد نودي من قبل بالاشتراكية وبالقومية ولم تحصل فائدة، وأتى أولئك بمذاهب الدنيا إلى بلاد المسلمين فلم يزدد المسلمون إلا فرقة، ففي كل فترة تزداد الدول، وفي كل يوم تزداد المشاكل، وفي كل يوم يقتص الأعداء جزءاً من أرضنا، وتقوم إسرائيل في وسطنا، ويطحن النصارى من جانب آخر المسلمين في بعض البلاد، والبوذيون كذلك، ولا يكاد يعرف المسلمون من أين تأتي الضربات، ففي كل ساعة نسمع حدثاً تدمع له العين ويحزن له القلب، فبالله عليكم! كيف سيتنزل نصر الله سبحانه وتعالى على أمة لم تطهر نفسها، ولم تزك نفسها، ولم تجاهد لإقرار الحق في ديار الإسلام؟!
فلو كنا نحن أهل بدر فهل سيتنزل علينا نصر الله، وهل ستتنزل علينا ملائكة الله، وما الذي يعيق ملائكة الله عن أن تنزل على المحاربين المقاتلين عندما خاضوا حرباً في عام ثمانية وأربعين، وفي عام ستة وخمسين، وفي عام سبعة وستين، وفي عام ثلاثة وسبعين؟!
إنهم ليسوا أهلاً لأن تتنزل عليهم الملائكة، فيكفينا أنه في ليلة المعركة في سنة سبع وستين كان ضباط الجيش يسكرون ويعربدون، فضُربت الطائرات وهي جاثمة على الأرض، والضباط سكارى! فهل هؤلاء يستحقون نصراً؟!
وفي وقتها أرسل إلى الجنود ثمانون ألف صورة للمغنيين والممثلين عليها توقيعاتهم ليتباركوا بها! وأما اليهود فكان الواحد منهم يدخل سيناء والتوراة على ركبتيه، بل عندما دخل جنود اليهود سيناء كانوا يقبلون تراب سيناء! فهل نصر الله رخيص إلى هذه الدرجة؟! وهل الملائكة تقاتل مع أناس لا يعرفون الله، وإنما يعرفون شادية وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ؟! وهل هؤلاء يستحقون أن تتنزل الملائكة عليهم ويتنزل نصر الله عليهم؟!
ولقد زارنا في الكويت الشيخ محمد يونس من أفغانستان من المجاهدين فقال: همنا الأول أن نحارب الفساد في أنفسنا، وأن نحسن صلتنا بالله سبحانه وتعالى؛ لأننا نرجو من الله ما لا نرجوه بأسلحتنا، وما لا نرجوه بأسلحة أمريكا وفرنسا.
وقد حصلت مقابلة في التلفزيون الفرنسي مع مراسل صحفي زار أفغانستان وشهد معركة، فقالوا له: ماذا رأيت؟
فقال: رأيت شيئاً لن تصدقونني فيه، لقد رأيت الطائرات الروسية تضرب معاقل الفدائيين، فكنت أرى طيوراً تأخذ هذه القنابل فتبعدها فتنفجر بعيداً عن مرابط الفدائيين أو المقاتلين المسلمين المجاهدين.
ولم يصدقه الفرنسيون؛ لأنهم لا يفهمون مثل هذه الأمور ولا يصدقونها.
ونحن نعلم أن المسلمين إذا جاهدوا في سبيل الله سبحانه وتعالى فسينصرهم الله ويؤيدهم، فلله جنود السماوات والأرض، وبيده الأمر كله سبحانه وتعالى.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقي ذلك من درنه شيئاً؟ فقالوا: لا. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحوا الله بهن الخطايا).
فالذنوب والمعاصي تؤثر في الأرواح فتفسدها، وإذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل القلب، وإن لم يتب وأذنب ثانية وثالثة ورابعة عند ذلك يكون حاله كما قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
فالقلوب تحتاج إلى تزكية، والرسول صلى الله عليه وسلم سمى الذنوب والمعاصي قاذورات، وأعظم القاذورات الشرك، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]؛ لأن النجاسة الشركية لا تزول، ولو جلس صاحبها في النار مليون سنة لبقيت النجاسة تلازمه.
فالقلوب تحتاج إلى عملية تطهير بالإيمان والعمل الصالح، فالإيمان يغسل هذه الذنوب، وهذه الأوساخ، فعندما جاء عمرو بن العاص مهاجراً هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (بايعوا)فبايع خالد وعثمان ، وقبض عمرو يده، فقال: (ما لك يا
فعندما يهاجر المسلم مفارقاً أهله ودياره ووطنه لله وفي الله تغسل ذنوبه، (فإن التوبة تجب ما قبلها) ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وفي الحديث: (الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهن، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
فالنفوس تحتاج إلى تطهير دائم، ولا بد من تجديد الإيمان في النفوس؛ لأن الإيمان يخلق كما يخلق الثوب فيحتاج إلى تجديد، وقد كان الصحابة يقول بعضهم لبعض: تعال نؤمن ساعة. فيجلسون يذكرون نعمة الإسلام، ويقرءون آيات القرآن، ويتفكرون في آلاء الله ليتجدد إيمانهم.
إخواني! لابد من أن نحسن صلتنا بربنا سبحانه وتعالى، فنحن بحاجة إلى أن نجدد هذا الإيمان مرة بعد مرة حتى لا تقسو قلوبنا فيذهب الخير عنا، فقد ذم الله بني إسرائيل بهذا، فقال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، فقد تقسوا القلوب أحياناً ولا تتأثر بكلام الله جل في علاه، وعندئذٍ نحتاج إلى أن نجدد إيماننا.
والذي يحدد الإيمان: الأعمال الصالحة، فالصلاة تجدد إيماننا، والصيام يجدد إيماننا، وذكرنا لربنا سبحانه وتعالى وتفكرنا في آلائه ونعمه كل هذا يبني أرواحنا من داخلها، فنحس أن للحياة طعماً، وأن للإيمان أهمية، ونحس بأهمية الرسالة التي نتحملها، وبالتالي لا نكون عبئاً على دعوتنا، ولا تكون دعوتنا عبئاً علينا.
وتصبح معاني الإيمان والإسلام لها طعم خاص في نفوسنا، وندرك كلام الرسول صلى الله عليه وسلم: في حلاوة الإيمان، فللإيمان حلاوته في نفوس المؤمنين، حلاوة يشعر بها الذين عانوا في سبيل الإسلام، والذين جاهدوا في سبيل الإسلام، والذين حققوا ما أمر الله سبحانه وتعالى به.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يذكر ثلاث علامات يجد الإنسان بها (حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ نجاه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) .
فإذا نحن حققنا الإيمان في أنفسنا، وحققنا الأخوة فيما بيننا، وتحملنا الأمانة نريد بها وجه الله ولنجاهد بها الباطل، فعند ذلك سنجد طريقنا ونحن نمضي في مسيرتنا، وعند ذلك سينصرنا الله سبحانه وتعالى، وعند ذلك سترتفع راية الإسلام من جديد، وعند ذلك سيعلم الناس أن هناك ديناً غير الشيوعية، وغير الرأسمالية، وسيتحقق للناس الأمن والرخاء، والسعادة والهناء.
وها قد بدأت الحضارة الأوروبية اليوم في الانهيار، فأمراضها تفتك بها، وما يحدث في بريطانيا في أيامنا هذه دليل كالشمس في رابعة النهار واضح للعيان، فهم يدمرون بيوتهم، ويهلكون أنفسهم، ويخربون متاجرهم، ويحرقون العمارات التي بنوها بأيديهم.
وهذه بداية الانهيار، وهذه علامة واحدة من علامات كثيرة، وأنا لا أقول هذا من عندي، بل فلاسفتهم وكتابهم ومفكروهم يقولون هذا، فهم يتوقعون سقوط الحضارة الأوروبية، فستنهار الحضارة الرأسمالية، وقد يكون في انهيارها دمار لكثير من الأقطار؛ لأنها قامت على دعامات فاسدة، فتجاهلت روح الإنسان وحقيقته، وأرضت الجسد، اعتنت بالجسم وأهملت الروح؛ ولذلك فلا يمكن لها أن تثبت.
فهي لم تعرف من الدنيا إلا عالم المادة ونسيت عالم الروح، فلا يمكن أن تقوم، لأن الإنسان روح وجسد.
فإذا فهمنا، ديننا وجددنا الإيمان في نفوسنا، وأحسنا صلتنا بربنا سبحانه وتعالى، وحققنا الأخوة فيما بيننا، وكونا عالم الإسلام في ديارنا، فسيتحقق لنا النصر بإذن الله تعالى.
فقد أنزل الله الإسلام لينتصر، وإن لم ينتصر بأيدينا فسيقيظ الله له أقواماً ينصرونه ويرفعون لواءه، ولكن الخاسر هو من ترك هذا الدين.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضى، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وتولنا برعايتك، وتقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وتجاوز عن زلاتنا وخطايانا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر