تمكن المسلمون من فتح الأندلس، ثم خرجوا منها وليس ذلك بسبب قوة أعدائهم، وإنما بتفرق كلمتهم وتجزئهم وانقسامهم، فأزال الله سبحانه وتعالى دولتهم، وخرجوا من تلك الديار بعد أن عمروها مئات السنين، وبعد أن كان يرتفع فيها صوت الأذان، ويحكم فيها بشرع الله سبحانه وتعالى، فلما تفرقوا وتجزءوا وأصبحوا دولاً؛ أزال الله سبحانه وتعالى دولتهم، وتخلى نصر الله سبحانه وتعالى عنهم، وهذه حال كل من فعل هذا الفعل وسار في هذا الطريق.
واليوم في وسط بلاد المسلمين تقوم دولة لليهود اغتصبت جزءاً من ديار المسلمين في أول الأمر، ثم زادت عليه فأخذت فلسطين كلها، وأخذت أجزاء أخرى من بلاد المسلمين، وهي تطمع غداً في احتلال الأردن وسوريا ومصر والعراق، وتصل إلى منابع النفط، وإلى المدينة المنورة، وإلى خيبر حيث كان يقيم آباؤهم وأجدادهم في الماضي.
فهذه مطامعهم ولا يخفونها، وهذه خارطتهم يوزعونها على أبنائهم في مدارسهم، ورفعوها شعاراً لهم فوق مجلس الأمة الذي يسمى بالكنيست، وينادون بها في محافلهم ويكتبونها في كتبهم، ثم بعد ذلك نجد الذين يحكمون بلاد المسلمين يمدون أيديهم إلى اليهود يريدون أن يفاوضوهم، ويريدون أن يجتمعوا بهم، ويرضوا بأن يتقاسموا معهم فلسطين!
والمنظمة التي قاتلت أكثر من خمسة عشر عاماً يقول زعماؤها اليوم: إننا نرضى بشبر من فلسطين نقيم عليه دولة الفلسطينيين! يريدون قطعة أرض يقيمون عليها دولة فلسطين، وليس هناك حاكم من حكام الدول العربية إلا وقد صرح بأنه إذا قبل اليهود بالتقسيم ورضوا بأن تقام دولة للفلسطينيين في جزء من فلسطين فإنهم سيسالمون اليهود وسيعقدون معهم صلحاً.
فهذه قضية خطيرة نأمل ألا تسري إلى نفوس المسلمين، فالعداء بيننا وبين اليهود ليس على شبر أرض، فمنذ أن قامت دولة الإسلام نصب اليهود أنفسهم معادين لهذه الدولة، ومكروا ودبروا وخططوا حتى يقضوا على دولة الإسلام في أرضه وفي مهده، وانتصر الإسلام؛ لأنه منزل من عند الله، واستمر الكيد اليهودي إلى اليوم، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن اليهود لا عهود لهم ولا مواثيق، والواحد منهم لا يؤمن جانبه، واليهود كما أخبرنا الله -ومن أصدق من الله قيلا- أنهم يعلمون أن ديننا حق، وأن محمداً مرسل من عند ربه، وأن هذا الكتاب هو كتاب الله، بل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك يعادون الإسلام، والمسلمين، ويكفرون بالقرآن، ويكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وأخبرنا الله بأن قلوبهم قست، وأن نفوسهم جفت فيها منابع الخير، وأنهم نقضوا عهودهم ومواثيقهم مع ربهم سبحانه وتعالى، فغضب عليهم ولعنهم، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، فكيف بعد ذلك يُؤمن جانبهم ويؤمن مكرهم؟
فالقضية عند اليهود واضحة، وهدفهم واضح محدد لا يرضون به بديلاً، وإنما يلاينون ويجاملون في بعض المراحل حتى يتمكنوا، ثم بعد ذلك يقفزون قفزات أخرى حتى يحققوا أهدافهم.
وهذا غباء من المسلمين الذين يظنون أنهم يستطيعون أن يهادنوا اليهود ويسالموهم، أو أن يعيشوا وإياهم في دولة واحدة يجمعها سلطان واحد، أو أن يكون لكل منهما دولته وجيشه وسلطانه، فكل هذا لا يمكن أن يتحقق في واقع الأمر أو واقع الحياة.
ثم إن المسألة مسألة دين، وإرضاء لله سبحانه وتعالى قبل أن تكون مسألة أرض، فالأرض تعود، ولكن إذا أغضبنا الله سبحانه وتعالى فمن ينجينا من غضبه وعقابه؟ فالله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يذل المسلمون وأن تنتهك حرمات الإسلام، فلا يجوز أن يرضى المسلمون بالدنية في دينهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى ذلك أبداً، بل إنه يريد للإسلام العزة، ويريد للمسلمين النصر على فئة لا يبلغ تعدادها بضعة ملايين، فما أشبه الحال هنا بالحال في الأندلس!
لو كان تعداد دولة الإسلام ثمانمائة مليون مسلم فإنهم يستطيعون أن يشكلوا جيشاً يبلغ تعداده عشرون مليوناً، وعندهم هذه المالية الضخمة، والإمكانات الواسعة، والعقيدة الواحدة التي تؤلف نفوسهم وقلوبهم، وعندهم هدف واحد إما النصر وإما الشهادة، فكيف يستطيع أحد أن يعتدي على حماهم؟ وكيف يستهين بهم أعداؤهم؟ لا يمكن أن يتحقق ذلك.
وكنا نأمل من لقاء زعماء المسلمين في مكة، في مؤتمر إسلامي كبير يضم رؤساء الدول الإسلامية أن يقرروا أول خطوة في الطريق نحو النصر، وهي: أن يشكلوا خلافة إسلامية، أو حكومة إسلامية تجمع شتات الدول الإسلامية، وتوحد أمة الإسلام، وتحكمها شريعة القرآن، ويحكمها كتاب الله سبحانه وتعالى، وأن يكون لها جيش واحد، عند ذلك ستحل مشكلات المسلمين في بلاد الإسلام، ويزول ما يعانيه المسلمون، كل ذلك سينهي مشكلاتهم ومعضلاتهم، والأعداء الذين يناوشونهم من كل جانب، والذين يريدون بهم شراً، كل ذلك سيتوقف؛ لأنهم أصبحوا قوة يحسب لها ألف حساب، فتخطب ودها أمريكا، ولن ترضى أن تساوم اليهود لتكسب عداء دولة كبيرة عظمى كهذه الدولة.
عند ذلك تعود للمسلمين عزتهم ويعود لهم مجدهم، وعندها سيسير المسلم في أرض الله الواسعة، ويتنقل في بلاد المسلمين رافع الرأس، فلا يطأطئ رأسه إلا لربه سبحانه وتعالى، عند ذلك سنجد جموع الإسلام تتجه إلى القدس لتحرير مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك تنتهي مشكلة الفلبين، ومشكلة أرتيريا، وتنتهي مشاكل المسلمين الاقتصادية، وكل ذلك سيتلاشى وينتهي.
كانت تلك أول خطوة على الطريق نحو النصر، ونحو العزة والكرامة، ونحو دولة تحقق للمسلمين خيراً كبيراً، وتحقق لهم العزة في الدنيا والخير عندما يلاقون ربهم سبحانه وتعالى.
هذه أول خطوة في الطريق، وهي: أن لا يتجزأ المسلمون، وألا يبقوا منقسمين، وإلا فسيسهل الانتصار عليهم، ويسهل أن تمتص دماؤهم وخيراتهم.
لقد بكى الباكون على فلسطين دهراً طويلاً، جعلوها مثل قميص عثمان ، وذلك أن بعض الناس شارك في قتل عثمان ثم تباكى طويلاً عليه.
وكذا قضية فلسطين، فقد تباكى عليها المتباكون طويلاً، وكتبوا، وخطبوا، وتكلموا في مجلس الأمن، ولكن الحالة تزداد كل يوم سوءاً، واليهود يبنون دولتهم ويعدون عدتهم ويهيئون أنفسهم، ويشترون السلاح من كل مكان، ويبنون المصانع، بل صاروا يبيعون السلاح في هذه الأيام، ونحن لم نزل بعيدين عن الطريق، لا نصنع شيئاً ولا نجهز شيئاً بل لا نعمل شيئاً!
وقد جربنا معارك خضناها بعيداً عن إسلامنا وعن عقيدتنا فما جنينا منها إلا العلقم كما يقولون، لم نجن خيراً؛ لأننا لم نقاتل كما يريد الله سبحانه وتعالى، قاتلنا في سبيل أهداف قريبة سطحية، أو قاتلنا ونحن لا نعرف ما الهدف من القتال، وقاتل الضابط وهو مخمور، ومعارك قامت ورجال الجو فيها -أي: الذين يقودون الطائرات- سكارى، والمعركة مشتعلة في عام 1967م!
فليس هناك إلا الحل الذي يبينه الله سبحانه وتعالى، ولا نصر إلا بعودة إسلامية صحيحة طال الأمد أم قصر، فلابد أن يعود المسلمون إلى دينهم، ولابد أن تجتمع كلمتهم، وأن تتوحد دولتهم، وأن يعودوا مرة أخرى أمة واحدة لها دولتها ولها تشريعها، وليكن تشريعها هو قرآنها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولتكن دولة تقوم على سواعد أبنائها، لا يؤتى لها بالخبراء من أمريكا، ولا من فرنسا، ولا من روسيا، لا تميل نحو الشرق ولا نحو الغرب، دولة تقوم على الإسلام باسم الإسلام، وباسم الله، تتبع منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقق ما يصبو إليه المسلمون من خير.
فإن تقاعس المسلمون، فسيهز اليهود عروش حكام المسلمين، كما هو الحال، فاجتاح الكفار بلاد المسلمين، وامتصوا خيراتهم، فمن كان يصدق بأن الأقصى سيفرط فيه المسلمون، وأنه سيضيع من أيديهم، فعمَّان ليست بأغلى من الأقصى، والكويت ليست بأغلى من الأقصى، واليهود يحلمون بالكويت، وبالمدينة المنورة، ويحلمون بالقاهرة، ويحلمون بعمان، ويحلمون بالدول العربية كلها، فأين نخوة المسلمين؟! ألا تذكرون عندما كان يصفق اليهود طرباً عندما دخلوا القدس وهم يقولون: محمد مات وخلف بنات؟!
أين رجال المسلمين عندما فعل اليهود ذلك؟!
إنها أيام مريرة ورثناها في عصرنا هذا، حال المسلمين في مثل هذه الأيام لا يسر أبداً، فلابد للمسلمين من عودة مرة أخرى إلى هذا الدين، وإلى هذا الكتاب، وبدون ذلك لن ينتصروا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه.
نحن نؤمن بما أخبرنا الله به، وبما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم: من أن المسلمين أمرهم باق منتصر إلى أن تقوم الساعة، وتمر على المسلمين لحظات وسنوات يضعفون فيها، ولكن الله سبحانه وتعالى يحفظ دينه وييسر له من يقوم به، ويرفع لواءه ويعلي مناره، نؤمن بذلك كله، ولكن لكل أمر سبب.
هناك أسباب لكل ما يقدر الله، فالله يقدر النتيجة ويقدر السبب الذي يوصل إليها، ونحن نريد المسلمين اليوم أن يعودوا ليكونوا هم السبب في عزة الإسلام وأهله، فإذا ما تخلف أمثالنا عن نصرة الإسلام فسيرفع الله لواء الإسلام في الهند، وقد يرفعه في أمريكا، أو في أي دولة.
فمن كان يظن أن المدينة التي استعصت على الصحابة، أي: لم يستطع الصحابة أن يفتحوها، وهي: (القسطنطينية) ستصبح عاصمة الإسلام مئات السنين؟! من كان يظن أن دولة الإسلام ستكون عاصمتها هناك في تركيا، التي كانت يوماً ما عاصمة تحارب الإسلام؟!
فقد كانت جيوش الأعداء تنطلق منها لتحارب الإسلام، فإذا براية الإسلام ترتفع في سمائها مئات السنين، وتحمل راية الإسلام مشرقة ومغربة، وتحكم العالم الإسلامي وتحكم بغداد، التي كانت عاصمة للدولة الإسلامية في الخلافة العباسية، وتحكم دمشق التي كانت عاصمة للدولة الأموية، وتحكم المدينة ومكة، من هناك في تركيا من القسطنطينية! فالله سبحانه وتعالى قادر أن يرفع راية الإسلام في عاصمة أخرى، وفي دولة أخرى تحارب الإسلام وتعاديه، ولكننا سنخسر القضية ونحن نريد أن نربحها، ونريد عزة الدنيا ورفعة الآخرة ورضوان الله سبحانه وتعالى، وأن يتحول المسلمون مرة أخرى إلى قوم يعملون لهذا الدين ويحرصون عليه، وعلى رضوان الله سبحانه وتعالى، وينبذون الشرك والكفر عن أنفسهم وعن إخوانهم، ويبصرون الناس بدينهم، ويدعون إلى الإسلام، ويبينون للناس هذا الدين، ويأخذون بأنفسهم وبإخوانهم كي يصلوا إلى الهدف الذي يريده الله سبحانه وتعالى، عند ذلك يتحقق للمسلمين عزهم، يكون لهم النصر.
اللهم! اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا.
اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم! اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب سميع مجيب الدعوات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر