السيد/ وزير الأوقاف والشئون الإسلامية.
إخواني الذين لبيتم دعوتنا لافتتاح المؤتمر الأول لجمعية إحياء التراث الإسلامي.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني وأخواتي! بالنيابة عن جمعية إحياء التراث الإسلامي، أود أن أشكر السيد/ وزير الأوقاف والشئون الإسلامية على تفضله بافتتاح هذا المؤتمر، وأشكر الأخوة العلماء على تلبيتهم دعوة الجمعية لإلقاء المحاضرات، وأرحب بالإخوة الذين قدموا من خارج الكويت ومن داخلها لمشاركتنا هذا الحفل.
وبعد:
فإن المتابع لأحوال المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يرى أن العالم الإسلامي قد وصل الى درجة كبيرة من الشتات والوهن والضعف، فقد تمزقت أمة الإسلام وتفرقت كلمة المسلمين، وأصبحوا فريسة لأعدائهم من شرقيين وغربيين، يسومونهم المذلة في كل مكان، وها نحن نرى ونسمع كل يوم ما يحل بالمسلمين من نكبات، ففي فلسطين يشرد اليهود البقية الباقية من الشعب الفلسطيني، وفي أفغانستان يشرد الأعداء شعباً وأمة، وفي كل مكان يلحق المسلمين الذل والهوان، ولما كان آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، وهو أن نربي جيلاً جديداً على الكتاب والسنة، وأن تسري في المسلمين روح جديدة تعيد للأمة شبابها ونظارتها، وإن كان هناك بحمد الله صحوة إسلامية مباركة في كل العالم الإسلامي، إلا أن جمعية إحياء التراث الإسلامي أيضاً قافلة جديدة تستهدف نشر تراث أمتنا الإسلامية الخالدة، وبعث علومها وأخلاقها وآدابها وعقيدتها؛ ليكون ذلك هادياً ومرشداً لشباب الأمة المتوجه نحو الدين؛ حتى لا تتفرق بهم السبل وتختلف عليهم الطرق.
وإن قيام جمعية إحياء التراث هو دليل جديد بحمد الله على أن أمتنا عازمة أن تصل حبل آخر هذه الأمة بماضيها المجيد، ليكون في الأمة أمثال خالد وأبي عبيدة وابن مسعود وابن عمر وابن عباس، الذين حملوا مشاعل النور والهداية، وراية المجد والعزة، فالإسلام لم يعد نقياً صافياً كما أنزل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد أدخل فيه كثير مما ليس منه وخاصة في مجال العقيدة، ولعل الصفة الغالبة اليوم على أغلب المسلمين عدم وضوح العقيدة في أذهانهم، هذا إن لم تكن الصفة الغالبة عليهم الانحراف العقائدي، لذا لا بد من بيان ومعرفة العقيدة السليمة الصافية، كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم معرفة العقائد والأفكار الدخيلة على الإسلام، انطلاقاً من قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
إنني ما انتدبت إلى الحديث في موضوع من الموضوعات إلا وأحسست أن من حق الذين انتدبوني والذين يسمعون لي أن أعطي الموضوع حقه، فأنا أعلم كم من الوقت يبذله الذين يحضرون لمثل هذه المؤتمرات والمحاضرات، وأعلم أن وقت الذين يحضرون هذه المحاضرات ثمين، فالوقت هو الحياة، وقد ازداد إحساسي بثقل المسئولية في هذا الموضوع الذي أتكلم فيه، إذ أنه موضوع خطير.
ولم يزل المستبدون والطغاة يتلاعبون بعقائد الناس؛ لتتيسر لهم السيطرة عليهم، فعلى الرغم من أنني كتبت في موضوع العقيدة عدة مؤلفات، إلا أن خطورة الموضوع الذي أتناوله تفرض علي أن أعود إلى التفكير فيه مرة أخرى، وأعود للنظر في التراث العقائدي وفي مصادره، ولقد نظرت في هذا التراث نظرتين:
نظرة في التراث الإنساني، ونظرة في التراث الإسلامي، وعشت مع المؤلفات التي تعرضت لعقيدة هذين التراثين وقتاً ليس بالقصير، ولقد رأيتني وأنا أجول بنظري وفكري في كتب التراث كرجل قابع فوق قمة جبل على شاطئ بحر لجي محيط، وأنا أنظر في عقائد أهل الملل والنحل في القديم والحديث، وكيف نشأت وتفرعت؟ ثم كيف تلاشت وفنيت؟.
فتخيلوا أنني ذلك الرجل الذي يشاهد أمواج البحر، فإذا هي لا تحصى كثرة، وهي تنشأ وتتلاشى، ثم تتعارض وتتصادم، وهي في ذلك كله لا تتوقف لحظة، بل كل الذي يحدث أن البحر قد يهدأ في بعض الأحيان فتكون الأمواج هادئة، وقد يثور فإذا بالأمواج كالظلل أو كالجبال، ولست مبالغاً في الوصف، بل هي الحقيقة التي أدركتها.
ومن طالع ما كتبه الكاتبون في تاريخ العقائد، وما كتبوه في تاريخ الفكر الإنساني، وما كتب في الملل والنحل يعلم صدق ما أقوله.
الفكر الإنساني لا يستطيع أن يقيم من خلال هذا الركام الهائل من التصورات والأفكار والعقائد التي يموج بها تأريخ الإنسان وواقعه أصولاً توقفه على اليقين المنافي للشك، والقضايا التي يريد أن يصل فيها إلى اليقين لا يدخل كثير منها في المجال الذي يحسن العقل الإنساني النظر فيه.
إن الروح التي تسري في نفس الإنسان هي أقرب الأشياء إليه؛ لأنها نفسه، ومع ذلك فإن الإنسان يشتد جهله بها كل ما زاد بحثه عنها، فالروح ليست من جنس الأشياء المشهودة التي يمكن للعقل الإنساني البحث فيها، فليس لها وزن ولا لون ولا حجم، ولا تدخل تحت المقاييس الإنسانية، فأنى للعقل أن يعرف كنهها وحقيقتها؟ لذلك قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] .
إذا كان هذا هو شأن الإنسان مع الروح التي تسري في كيانه، وهي سر حياته، فما بالكم في البحث العقلي المجرد عن خالق الوجود، وعن العوالم التي لا نراها ولا نشاهدها، وعن العوالم التي سيصير إليها الإنسان بعد الموت كالبرزخ واليوم الآخر؟ إن الإنسان لا يمكن أن يصل في أمرها إلى قرار، وسيبقى طيلة عمره حائراً متردداً.
ومتى لم يجد الإنسان برد اليقين في معرفة الحقائق التي يمكن أن يقيم عليها حياته، والتي يمكن أن تفسر له وجوده، وترسم له مساره في الحياة وغايته التي يرمي إليها، وتوضح له علاقته بالقوة التي أوجدته وأوجدت الكون، فإنه سيعيش في شقاء، وسيضل المسار في حين أنه يظن في بعض الأحيان أنه بلغ الغاية، وشارف المقصد، وأوشك أن يصل، ثم يكتشف أن ذلك وهم من الأوهام، ويفاجأ بالأجل وقد أدركه، ثم ينظر فلا يجد أنه قد حقق في رحلته ما كان يصبو إليه.
فهذا الرازي وهو أحد هؤلاء، وقد عانى في مسيره كثيراً من العنت، ثم يعلن أخيراً أنه لم يصل إلى شيء، وكان قد ابتعد عن المنهج القرآني النبوي، وجرى وراء نتائج العقول الإنسانية، فلم تقده الأفكار والنظريات والمقالات إلى اليقين الذي يجده الناهل من وحي السماء، ووجد في نهاية المسار أن روحه لم ترتو من المنهل الذي ورده، وأن الغاية التي سعى إليها لم يحققها، وأن ما اعتمد عليه وجمعه إنما هي أقوال تتصارع وتتضارب، إنني كلما قرأت أبياته التي أوردها في كتابه ( أقسام اللذات ) أشم منها رائحة النواح والحزن الصاعد من قلب مكلوم، فقد قال:
نهاية إقدام العقول عقـــال
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وغاية دنيانا أذى ووبــال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ فاطر:10] ، وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، ويختم حديثه قائلا: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
ويصور لنا كذلك عبد الكريم الشهرستاني ، وهو العلم الذي لا يشق له غبار في علم الملل والنحل، حال أصحاب الكلام في علوم العقائد، في مقدمة كتابه ( نهاية الإقدام في علم الكلام ) فيقول:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سـن نادم
ولا أنسى الجويني ، وهو الذي كان يدعى بـ(إمام الحرمين) وهو من هو في علم الكلام والجدال والبحث والنظر، ولما حضره الموت إذا به ينظر في مساره في الحياة، وينظر في حصيلته التي حصلها، فإذا به يبكي بكاء الثكلى، فلقد أضاع الكثير من عمره في مسار لم يصله إلى مراده، لقد كان يخوض في بحر خضم من أفكار وعقائد وموازين لا يقر قلب من خاضها على قرار، فإذا به يوصي أصحابه وهو يعالج سكرات الموت فيقول:
لقد دخلت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لي، وهأنذا أموت على عقيدة أمي.
وهذا عالم آخر من علماء الكلام، يفتش عن حصيلة العمر، وهو على فراش الموت، فلا يجد عنده من الحق شيئاً، فيعلن ذلك لمن حوله ويقول:
اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا أن الممكن مفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدمي فلم أعرف شيئاً.
فتكفل لأبينا آدم عليه السلام عندما أهبطه إلى الأرض أن يمد ذريته من بعده بالنور والهدى، وهو الوحي الذي يعرفهم بربهم، وبالحقائق الكبرى التي لا بد لهم منها، وتكفل أيضاً لمن اتبع نوره المنزل على الأنبياء بالخلاص من الضلال الذي يعيش فيه البشر، وبالنجاة من الشقاء الذي تتردى فيه القلوب والنفوس، وقد توعد الرافضين لوحيه وهداه بالحياة الضنكة الشقية في الدنيا، وفي الآخرة توعده بحياة أشد ضنكاً وشقاء.
قال تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].
وقال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].
ولقد بقيت البشرية بعد أن هبط آدم إلى الأرض، وتكاثرت ذريته على التوحيد، فكان الناس أمة واحدة، ولكن البشر فيما بعد ضلوا في إلههم ومعبودهم، فعبدوا من دونه أولياء؛ فاتخذوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، فكانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، فأرسل الله لهم أول رسله، وهو نوح عليه السلام، فأنذرهم ودعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما يعبد من دونه، فآمن له قليل واستكبر منهم الكثير، فأهلكهم الله تعالى.
ومنهم من يزعم أن الكواكب التي في الفلك ملائكة، وبنوا بيوتاً لهذه الكواكب لعبادتها، وجعلوا فيها الهياكل، وقد جادلهم إبراهيم عليه السلام فيما يعبدونه من أصنام، كما أنه ناقشهم أيضاً في عبادة الشمس والقمر والنجوم.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء:51-56].
وقال في موضع آخر: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:69-82] .
وكانت عندهم الديانة البرهمية التي تزعم أن طبقة البراهمة خلقوا من رأس الإله (براهمان)، وأن طبقة الجند خلقوا من منكبيه وذراعيه، والزراع والتجار والعمال من فخذيه، والأرقاء من قدميه، ومنعوا ارتفاع الإنسان إلى طبقة فوق طبقته، وقال فلاسفتهم بالتناسخ، وهو أن روح الإنسان بعد الموت قد تحل في ابنه أو أخته أو أخيه أو في إنسان آخر، أو حتى في خنزير أو كلب، ولهم في ذلك فلسفات يضيق الوقت عن ذكرها.
وأله هؤلاء الناس البشر وعبدوهم من دون الله عندما زعموا أن الآلهة تحل في بعض البشر، أو أن بعض الملوك من نفس الآلهة، كما كان ملوك المصريين القدامى ينصبون أنفسهم آلهة تقدم لهم الهدايا والقرابين، ويُعبدون في المعابد، وقد قال فرعون لأهل مصر: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال لهم: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38].
ولقد قامت في بلاد فارس ديانات كثيرة، ومن أقدمها عبادة (زرادتش) في القرن السابع قبل الميلاد، وقد ادعوا (زرادتش) إلهاً وضعوا حوله الأساطير.
ثم جاء (مانو ) بعد الميلاد بأكثر من مائتي عام وقال بقدم النور والظلمة وأنهما إلهان، وادعى مانو أن الجسد سجن للروح، ولا بد من تخليص الروح من سجنها وذلك بإبادة الجنس البشري، وهذه فلسفة من فلسفاتهم، فما كان من الملك -وقد سمع بدعواه- إلا أن أمر الجلاد أن يقص رأسه؛ ليخلص روحه من سجنها.
ثم جاء مزدك بالشيوعية، ونادى بأنه لا زواج، بل تباح النساء والأموال من غير ضابط، ونادى بإلغاء القوانين؛ بحجة أنها تحول بين الإنسان وبين ما يشتهي، وقال بألوهية النور والظلام، فكانت النيران لا تخبو من المعابد، وكان الفرس يسجدون لها.
ومن أبرز هؤلاء الفلاسفة: أفلاطون ، وأفلاطون هذا هو الذي قال بوجود أرباب من دون الله، وقد أراد بنظريته الشركية هذه أن يعلل ما يجري في العالم من شر وألم، فالخير عنده كله من العقل المطلق، والعدل كله من الهيولى مادة الخلق.
فالوجود عند أفلاطون طبقتان متقابلتان، فالعقل المطلق هو الخالق للخير، والهيولى مادة الخلق، وبين العقل المطلق والهيولى مخلوقات وهذه المخلوقات على درجات، تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل المطلق، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولى، وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب، وبعضها أنصاف أرباب، وبعضها نفوس بشرية، هذا هو كلام أفلاطون الفيلسوف الكبير كما يسمونه، وقد قال أفلاطون أيضاً بتناسخ الأرواح.
وادعى كثير من الفلاسفة أيضاً أن العالم قديم أزلي، ولذلك لم يستطع البشر أن يحصلوا على الهدى والنور من الفلاسفة.
إن الضلال في تاريخ البشرية كثير متشابك تشابك الطرق في صحراء ليس لها نهاية، وهو ضلال متداخل ملتو معوج، وقد استمر الوحي السماوي يواكب البشرية ويواكب الحياة الإنسانية، فما من أمة إلا خلا فيها نذير، والرسل الذين أرسلهم الله قد أوصلوا صوت الحق إلى جميع الأمم، ولكن البشر في كل العصور يرفضون الاستجابة للرسل، فنجدهم يقفون منهم موقف المعاند المكابر، ويكذبونهم ويتمردون على وحي السماء.
قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [المؤمنون:44].
لقد أنجاهم الله من فرعون فما كادت تخرج أقدامهم من البحر الذي شقه الله لهم حتى جاءوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لنبيهم: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، أي: اجعل لنا صنماً نعبده كما لهم صنم يعبدونه، وتركهم موسى تحت إمرة أخيه رسول الله هارون.
وفي التوراة المحرفة: أن الله يتعب! ونسبوا إلى الأنبياء الكبائر والفواحش! وضاعت العقيدة الصافية التي تصل الناس بربهم، وكتب علمائهم التلمود، فوجد في تلمودهم الشرك والوثنية، فلقد صوروا الله تبارك وتعالى في تلمودهم إنساناً يبكي، ويذنب فيستغفر ويكفر عن ذنبه.
وقد حدثنا الله عن تلاعب بني إسرائيل بالتوراة فقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79] .
وقال سبحانه: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78].
وقد عقد قسطنطين الذي تنصر مجمعاً اسمه: (مجمع نوقيا) عام ثلاثمائة وخمسة وعشرين للميلاد، وعلى الرغم من كون الذين قالوا بألوهية المسيح كانوا قلة إلا أنهم هم الذين غلبوا في المجمع؛ لأن الحاكم يريد هذا، وكفروا من لا يقول بذلك.
وفي عام ثلاثمائة وواحد وثمانين استمع المجمع القسطنطيني الأول، وقرر إلهية روح القدس، ولعن الذين لا يقولون بألوهيته، وصارت الألوهية عند النصارى في ثلاثة أقانيم متداخلة: الأب، والابن، والروح القدس، وما مقالتهم هذه إلا مضاهاة لقول الذين كفروا من قبل، ومضاهاة للذين ألهوا البشر والمخلوقات وعبدوها من دون الله.
فجاء رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنور المبين، والصراط المستقيم والحق الأبلج، وفتح الله به العيون العمياء، والآذان الصماء، وأنار به القلوب وأظهر الله به الحق، وعرف الناس بربهم، وأقام العبادة على الحنيفية ملة إبراهيم، وبين للناس ما اختلفوا فيه، وبين الضلال الذي وقع فيه اليهود، وقال كلمة الحق في عيسى عليه السلام.
ثم حدثت الفتنة وانقسمت الأمة، وعلى الرغم من أن الشمل قد التأم، واجتمع أمر الأمة على رجل منها، إلا أن الخلاف لم ينته، وعلى الرغم من أن الخلاف ابتدأ سياسياً، إلا أن الأطراف المتنازعة وصلت خلافها بالدين، ووجدت العقائد الكفرية والفلسفات الضالة التي كانت سائدة قبل الإسلام باباً تدخل منه إلى المسلمين في وقت الفرقة والاختلاف.
فمن أوائل من عرف عنه ذلك: الجهم بن صفوان ، والجهم أخذ مقالته من الجعد بن درهم ، وهذا أخذ مقالته كما يقول ابن تيمية عن أبان بن صنعان ، وأخذها هذا الأخير عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي ، وكان الجعد بن درهم من أرض حران، وحران موطن الصابئة، وفيها بعض فلاسفتهم، ويذكر الإمام أحمد أن الجهم أخذ مقالته أيضاً عن بعض فلاسفة الهند.
والجهم صاحب ضلالة تنسب إليه، وأتباعه يسمون بـ:(الجهمية)، وهم ينفون صفات الرب وأسماءه، وشيخه الجعد بن درهم زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، وأعملوا في النصوص التي لا توافقهم مقاييس التأويل الذي قد يصل إلى درجة التحريف.
فلقد نشأت الفرق المختلفة ومن أشهرها المعتزلة، وهي التي ابتدأ أمرها واصل بن عطاء ، وقد زعم المعتزلة أنهم يريدون أن يدافعوا عن الدين ضد الملحدين والنصارى والفلاسفة، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، بل تبنوا نظريات وآراء أحدثت فرقاً بين المسلمين.
وتبنى بعض الخلفاء العباسيين وجهة نظرهم، وابتلي المسلمون في عصور هؤلاء الخلفاء الذين تبنوا الاعتزال، وعلماء المعتزلة الذين يسميهم المستشرقون اليوم (رجال الفكر، أو الأحرار) قاموا بالحجر على فكر المخالفين، وتكفير من لم يتبن أصولهم.
وقالوا: لا يكون هناك توحيد إلا إذا نفينا صفات الخالق خشية الوقوع في التجسيم.
وزعموا بناء على ذلك أن القرآن ليس كلام الله، وهذه الفتنة هي التي حدثت في عهد المأمون والخلفاء الذين بعده، ووقف في وجهها الإمام أحمد كما هو معروف.
وزعموا أيضاً أن العدل يقتضي أن العبد هو خالق فعله ليس الله هو خالق أفعال العباد، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر في الدنيا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأما في الآخرة فهو كافر مخلد في النار، وقد وقف في وجههم العلماء الأجلاء، وقد ترك المعتزلة تراثاً ضخماً يشرح أصولهم ونظرياتهم، ومن أوسعها كتاب: المغني، للقاضي عبد الجبار المعتزلي ، وكتاب شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار أيضاً، وهما مطبوعان.
ولقد أفل نجم المعتزلة في عهد الخليفة العباسي المتوكل ، ولكنهم صبغوا الفكر الإسلامي بكثير من نظرياتهم ومعتقداتهم، ومن الذين هدموا مذهب المعتزلة بعض الذين نشئوا على الفكر المعتزلي من أمثال أبي الحسن الأشعري المتوفى في سنة ثلاثمائة وأربعة وعشرين هجرية، وقد بقي معتزلياً أربعين عاماً، ثم رجع إلى مذهب السلف، وعلى الرغم من أن أبا الحسن الأشعري اقترب إلى مذهب السلف فيما ذهبوا إليه إلى حد كبير، إلا أنه لم يتخلص من أساليب المعتزلة وقواعدهم العقلية ومصطلحاتهم، وهذه الطريقة تؤدي بصاحبها إلى نتائج مخالفة لعقائد الأوائل مهما ادعى أصحابها أنهم يسيرون على نهج السلف، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقبل المعتزلة والأشاعرة وبعدهم نشأت فرق كثيرة كالمرجئة والماتريدية والكلابية وغيرهم، وكل فرقة من هذه الفرق لها بعض المعتقدات التي تخالف بها غيرها، ووراء كل معتقد من هذه المعتقدات فلسفات وتأويلات.
ونلاحظ أن كل الفرق المخالفة لمنهج السلف قد غلت في تقدير العقل وقدمت حكمه على حكم الشرع، واستعملت الموازين والمقاييس العقلية في محاكمة القضايا الغيبية، وابتعدت هذه الفرق عن الكتاب والسنة بنسب متفاوتة، ولجأ كثير من أهل هذه الفرق إلى تأويل النصوص التي لا توافق آرائهم ومعتقداتهم، فغاب عن كثير من هذه الفرق الكثير من حقائق الإسلام.
فلقد اختلف علماء الكلام في الصفات الإلهية، وفي الصلة بينها وبين ذات الله، وفي إمكان رؤية الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة، وفي مسألة العدل والجور، ومسألة القضاء والقدر، ولم يغادروا مسألة كبيرة أو صغيرة إلا اختلفوا فيها كثيراً أو قليلاً، وقد تعامل المتكلمون مع صفات الله كما لو كانت صفات الإنسان فأنكروها.
ونحن اليوم ورثنا عن المدارس الفكرية والعقائدية شيئاً كثيراً من الأفكار والمعتقدات، وسارت في أيامنا هذه معتقدات جديدة في الشرق والغرب غزت ديارنا وعقولنا ومناهجنا، فماذا نفعل وكيف نتصرف معها؟
وقد قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) .
وقد تمثلت هذه الطائفة في سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم من العلماء الذين ساروا على دربهم، واهتدوا بهديهم أمثال الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم كـالليث بن سعد وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والبخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم كثير.
وحال سلفنا الصالح وأقوالهم وعقيدتهم محفوظة مدونة، وطريقهم ليس فيه خفاء، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وعندما سئل عن الفرقة الناجية المنصورة قال: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي اليوم) .
ومنهج هذه الفرقة الناجية المنصورة: هو المنهج الإيماني القرآني النبوي، ويقابل هذا المنهج: المنهج الفلسفي الكلامي، والمنهج الفلسفي الصوفي الاستشراقي.
إذاً: فالمنهج الإيماني القرآني يقابله منهجان: منهج الفلاسفة المتكلمين، ومنهج الفلاسفة المتصوفين.
ويختلف هذا المنهج القرآني النبوي عن المنهج الفلسفي في مصادره ومنابعه، وفي طريقه وسبيله، وفي قوة تأثيره وسيطرته، وفي الأسلوب وطريقة الاستدلال، وفي الغاية التي يرمي إليها.
وقد حارب أئمة السلف الاتجاه الفلسفي الكلامي والصوفي الذي يريد أن يأخذ الأمة بعيداً عن المنهج الإيماني القرآني النبوي، فقد حارب هذا الاتجاه الإمام الشافعي ، والإمام أحمد ، والإمام ابن خزيمة والبخاري وغيرهم من أئمة الهدى.
وفي كل عصر يظهر الله من العلماء والأئمة من يظهر هذا النهج القويم، الذي يحيي النفوس ويهدي للتي هي أقوم.
ومن أعظم الذين قيظهم الله لنصرة هذا المنهج: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد كان ذا عقل ثاقب، وفكر راجح، وقد أحاط بأقوال العلماء، ووفق للصواب، ونفع الله به البلاد والعباد، وتتلمذ على يديه علماء أعلام كـابن القيم وابن كثير وغيرهما.
ومن العلماء الذين هدوا للمنهج الإيماني القرآني النبوي في العصور الأخيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي ظهر في القرن الثاني عشر الهجري في وسط نجد، فحارب الشرك والباطل ونصر الحق، ونشر كتب العلم الأصيلة.
ومنهم أيضاً محمد بن إسماعيل الصنعاني المعروف بـالأمير الكحلاني صاحب ( سبل السلام )، ومنهم العلامة الشوكاني صاحب (نيل الأوطار) وهما من علماء اليمن الأخيار.
وقد ورثنا عن أصحاب المنهج الإيماني القرآني النبوي كثيراً من الكتب التي توضح معتقد أهل السنة والجماعة وتحارب المنهج الفلسفي الكلامي وتبين معايبه، ومن خير هذه الكتب (العقيدة الطحاوية) ومؤلفها هو أبو جعفر الأحمد بن محمد بن سلامة الأزدي المصري الحنفي المتوفى سنة ثلاثمائة وواحد وعشرين هجرية، وقد شرحها شرحاً قيماً رائعاً: صدر الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنفي.
ويجب أن يعلم أولو الرأي المفكرون أن تراثنا فيه الغث والثمين، وفيه الخير والشر، وفيه الهدى والضلال، إن تراثنا يمكن أن يكون تراثاً لمدارس مختلفة؛ فكثير من هذه المدارس لم تكن على المنهج الواضح، ولذلك فإن السبيل لنهضة صادقة أن نعود إلى ذلك المنهج القرآني النبوي الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهو واضح المعالم وكتبه ظاهرة بينة ليس فيها خفاء.
وإنني ألفت نظر رجال الفكر إلى خطورة ما يقوم به المستشرقون، وبعض الذين غرر بهم من أبناء المسلمين من إحياء الفكر المعتزلي الكلامي هنا وهناك، وخداع الناشئة من أبناء المسلمين به، وهناك فريق آخر يحاول أن يحيي الفكر الفلسفي الاستشراقي الذي ينادي بوحدة الوجود، والمتمثل في كتب ابن عربي والحلاج وابن الفارض وابن سبعين وغيرهم.
إن المنهج الفلسفي الكلامي، والمنهج الفلسفي الصوفي كلاهما لم يستطيعا أن يقيما الأمة من عثارها في الماضي، بل كانا من أسباب البلاء الذي أصاب الفكر الإسلامي، وقد أحدث شرخاً هائلاً في هذه الأمة.
فقد أحدث علماء الكلام في الماضي من الخلاف والفرقة والانقسام ما يكفي بعضه لهدم هذا المنهج، وقد أقعد المنهج الصوفي المسلمين عن الجهاد ومحاربة الشرك، وكان من أسباب الضياع الذي أصاب المسلمين.
فلم يفلح المنهجان في إصلاح حال الأمة، ولم يستطع المنهجان أن يصدا هجمات الخصوم الفكرية والعقائدية في الماضي، فأحرى بهما ألا يستطيعا إصلاح حال الأمة في الحاضر، وألا يستطيعا مواجهة العقائد التي يموج بها القرن العشرين في شرق العالم وغربه.
إن الذي يحارب المنهج الإيماني القرآني النبوي الذي يتمثل في المنهج السلفي هوأحد رجلين: إما جاهل بهذا المنهج لا يعلم حقيقته، وإما عدو حاقد لا يريد بالأمة خيراً، وبعض هذين الصنفين لجأ إلى تحريف هذا المنهج، فإذا به يكتب في هذا المنهج؛ ليحرفه ويفسده.
فظهرت كتب مكتوب عليها: بأنها كتب تتبع السلف، والحقيقة أن فيها انحرافاً وعودة بالمنهج القرآني إلى المنهج الاعتزالي، ولكن باطل هؤلاء لن يروج على من عرف المنهج الحق.
وفي الختام أقول: كما قال إمام دار الهجرة أنس بن مالك : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وأقول كما قال الله تبارك وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الجواب: لقد ذكرت أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله كان معتزلياً، ثم اقترب جداً في نهاية أمره من أهل السنة والجماعة، وفي كتابه (مقالات الإسلاميين) وكتابه (الإبانة) عقيدة إسلامية جيدة واضحة، ولكنه لم يتخلص من الاعتزال تماماً وخاصة في أسلوبه، وفي المصطلحات الفلسفية والكلامية التي تغلب على أسلوبه والمشكلة حقيقة إنما هي في أتباعه، فإن بعضهم يرفض أن يكون أبا الحسن الأشعري رجع إلى هذه العقيدة الصافية التي نجدها في (الإبانة)، فلم يلتزم هؤلاء الأتباع بما صار إليه في آخر حياته، وبقي قسم من الأشاعرة يتبنون منهجاً يخالف نوعاً ما منهج أهل السنة والجماعة.
الجواب: إن العقيدة الإسلامية كما ذكرت هي الأساس الذي يقوم عليه الدين الإسلامي، وهي في غاية البساطة والسهولة واليسر، وإن كان هناك أمران في العقيدة: أمر في غاية الصعوبة، وأمر في غاية السهولة.
فالوصول إلى العقيدة الصافية من خلال الاختلافات العقائدية صعب إلا على من وفقه الله إليه، لكن إذا وصلنا إلى الحق الذي أنزله الله، والذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في فهم العقيدة فسنجدها سهلة ميسرة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بها الناس ويتعلمونها في جلسة، ولا زال ذلك إلى اليوم سهلاً.
فيستطيع الرجل العادي أن يفهم العقيدة السليمة في جلسة واحدة أو في جلستين، لكن الإشكال كيف يصل إليها من خلال هذا الاختلاف والفلسفات وهذه الأقوال والتناقضات التي تركت لنا من ميراث المدارس المختلفة؟ أما القول بأن العقيدة الصحيحة لا نحتاج إليها في البناء فغير صحيح، بل نحن نحتاج إليها، لكننا لا نحتاج إلى عقيدة المعتزلة أو إلى عقيدة ابن عربي والحلاج والفرق المختلفة.
لكن العقيدة الصافية المأخوذة من الكتاب والسنة السهلة الفطرية فهذه لا بد منها، وأحب أن أبين هنا أن هناك فرقاً بين العقيدة وبين ضوابط العقيدة، فالعقيدة: هي الإيمان بالله تبارك وتعالى، ومعرفة صفاته من خلال النصوص، فيعرف المسلم سعة علم الله وعظمته ورحمته تبارك وتعالى من خلال تصوير القرآن لهذه الصفات، وهذا أمر لا بد منه، وهذا هو الذي يحيي النفوس والقلوب، فإننا إنما نتصل بالله ربنا من خلال صفاته ومن خلال أسمائه، فالله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا إذ هو غيب في الدنيا فكيف سنعرفه؟ لكنه في النصوص الصحيحة قد عرَّفنا بنفسه وصفاته.
إن لب القرآن هو معرفة الله، ولن نعرفه إلا من خلال أسمائه وصفاته، فكيف يحجر على المسلمين أن يعرفوا ربهم ومعبودهم وفاطرهم؟! فإن أعظم قضية هي أن تبين صفات الله تبارك وتعالى وأسمائه، وما عبث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: (إن لله تسعاً وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة) ، وليس هناك عبث عندما يختم الله كل آية من آيات القرآن بذكر أسمائه: السميع والبصير والعليم والحكيم والخبير وغيرها، فليس هذا عبثاً، بل هو من لب الدين.
فلا بد أن نعرف ربنا تبارك وتعالى، وهذه هي العقيدة.
وهناك ضوابط للعقيدة جعلها العلماء، حتى لا يضل الإنسان وهو يسير في حياته عندما تأتي فكرة خارجية أو معتزلية، فوضع علماء السلف هذه العقيدة البسيطة السهلة في صفحات قليلة، بخلاف كتب المعتزلة فإنك تجد فيها من التطويل والإغراق في التفريعات ما يتوه به المرء عند قراءتها، وانظر مثلاً إلى كتاب عبد الجبار المعتزلي المطبوع في عشرين جزءاً والجزء الواحد أحياناً يكون عدة مجلدات.
ولكن كتب العقيدة الإسلامية السليمة مكتوبة في عدة صفحات، وهي عقيدة كافية؛ لأنها ضوابط، أما معرفة الله تبارك وتعالى من خلال النصوص القرآنية، والنصوص الحديثية، وطرح صفات الله وأسمائه من خلال الآيات والأحاديث فهو لب العقيدة الإسلامية.
فعقيدتنا في معرفة الملائكة هي من خلال ما يحدثنا عنه القرآن والسنة، ومعرفة اليوم الآخر هي من خلال القرآن والأحاديث، وكذلك وصف الجنة والنار يعرف من خلال الآيات والأحاديث.
وأما الضوابط للعقيدة فإننا نحتاجها حتى لا نضل، وهذه الضوابط لا تملأ قلبك إيماناً، لكنها تمنعك من الانحراف، وهي الموجودة في بعض كتيبات العقيدة، وهي لا تملأ قلب الإنسان إيماناً، وإنما الذي يملأ قلب الإنسان إيماناً هو أن يعرف صفات الله تبارك وتعالى وأسمائه وأفعاله، فيعرف ربوبيته من خلال آيات القرآن الكريم والسنة النبوية.
قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:30-33].
فهذا الآيات تخبرنا عن الله تبارك وتعالى فتأمل معانيها، وبعد ذلك تبين كيف تشعر نفسك؟ وكيف يمتلأ قلبك إيماناً؟ وكم يزداد قربك من الله تبارك وتعالى؟.
الجواب: إن مصادر العقيدة عند أهل السنة كالإمام أحمد والإمام الشافعي وأهل الحديث هي القرآن وصحيح الحديث، ولكن المعتزلة يرفضون هذا ويقولون: المصادر هي القرآن والمتواتر من الحديث فقط، ولا يقبلون الحديث الصحيح غير المتواتر من الأحاديث لا في العقيدة ولا في غيرها، ثم جاء المتأخرون من بعض علماء الأصول وغيرهم فقالوا: العقيدة لا يحتج فيها بحديث الآحاد ولو كان صحيحاً، بل لا بد أن يكون متواتراً، وهذا الكلام غير صحيح، وكثير من المتأخرين أخذوا برأي المعتزلة في العقائد فقط، فقالوا: الأحاديث الصحيحة التي ليست متواترة تصح أن تكون حجة في الأحكام، ولا تصح أن تكون حجة في العقائد، ونسبوا هذا إلى الأئمة القدامى وهذا كذب، فإن الأئمة مثل الشافعي ، والإمام أحمد ، والإمام مالك وغيرهم لم يقولوا بهذا القول، وكل ما في الأمر أنه ثبت عنهم غيره، أو أننا قد لا نجد لهم في ذلك قولاً.
أما الصوفية فيقولون: ليست هناك حاجة إلى قرآن ولا إلى حديث، بل مصدرهم: (حدثني قلبي عن ربي)، أو (أنا أعرف ربي بقلبي).
الجواب: الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تقلب كثيراً، وفي الحقيقة: إن الإمام الغزالي رحمه الله يصلح أن يكون نموذجاً لما كان يعانيه المسلم في تلك الفترة من صراعات فكرية وعقائدية، فتجده مرة مع المعتزلة، ثم تجده مرة مع الأشاعرة، ثم تجده أخرى مع الفلاسفة، لكن ما يذكره عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه علا في الأخير إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، وكما يقال: إنه مات وصحيح البخاري على صدره.
وكثير من العلماء قد عاد إلى الحق بعد مرحلة طويلة كما رأينا ذلك في الرازي والجويني والشهرستاني وغيرهم.
ونرجو أن يكون الغزالي من طلاب الحقيقة، لكنه في مسيرته تعثر كثيراً، وهناك صفحات مشرقة في كتبه، وفي بعضها صفحات مظلمة، فنرجو للرجل أن يكون من أهل الخير، لكن نحن نحكم على العلم الخطأ أنه خطأ، وعلى الصواب أنه صواب.
الجواب: إن تأويل الصفات حكم عليه العلماء بالضلال، ثم إن هذا التأويل يتفاوت من جماعة إلى جماعة، لكنه منهج مرفوض عند العلماء من أهل السنة والجماعة.
ثم بعد ذلك يتفاوت التأويل، فالجهمية يؤولون تأويلاً كبيراً فهؤلاء قد كفرهم العلماء، ومنهم الجهم ابن صفوان ، فإنهم نفوا كل صفات الله تبارك وتعالى، وقالوا: لا يثبت التوحيد إلا إذا نسينا الصفات.
فأما هؤلاء العلماء فقد كفرهم أهل الحق، وأما بقية الفرق فالتأويل عندها هو ضلال بنسب متفاوتة، فإذا كان الإنسان مجتهداً كأمثال بعض العلماء الكبار كـابن حجر العسقلاني وغيره الذي يؤول في بعض الأمور، فمثل هذا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : نرجو أن يكون له عذر عند الله؛ لأن هذا مبلغ اجتهاده الذي يعرفه.
ولكن إذا كان التأويل كمنهج فإنه مصادم للمنهج الإيماني القرآني النبوي؛ لأنه لم يعرف عن الصحابة ولا عن السلف ولا عن الأئمة التأويل إلا في بضع مواضع يستحيل إجراؤها على ظاهرها، أما المنهج العام عند المسلمين فإنهم يفهمون النصوص كما جاءت عن الله تبارك وتعالى من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، ويؤمنون بها كما وردت عن الله تبارك وتعالى.
الجواب: هناك كتاب أصله رسالة دكتوراة قدمت للأزهر واسمه: (المدرسة السلفية ورجالها) للدكتور/ محمد عبد الستار ، وقد تعرض في مؤلفه لفكر ابن تيمية رحمه الله، وفي نهايته توصل إلى أن ابن تيمية ليس على منهج السلف وما كان عليه الإمام أحمد رحمه الله، كما يظن أهل السنة والجماعة، أو الذين يسمون أنفسهم بالسلف في هذه الأيام، ويقول: ليس هناك فرق بين المعتزلة وبين الإمام أحمد في خلق القرآن إلا في اللفظ.
وبحثه هذا لو كتب عليه عنوان آخر غير هذا العنوان لكان أفضل بكثير، أما هذا العنوان فلا.
وكتاب آخر كتبه شخص سوري وهذا الكتاب اسمه ( صفات الله بين السلف والخلف ) وما فهم صاحبه من منهج السلف شيئاً، وهناك أيضاً كتب كثيرة من هذا الصنف.
وهذا الاتجاه خطير؛ لأن هؤلاء الناس أرادوا باسم العلم والمنطق والفهم أن يقولوا: إن العقيدة الحقة ليست في ما هو معلوم عند أهل السنة، فأخطئوا كثيراً.
الجواب: إذا كان معنى المتشابه: هو أننا لا نعرف حقيقة الصفات فهذا الكلام صحيح، فنحن نعرف أن للملائكة أجنحة، ولكننا لا نعرف حقيقة أجنحة الملائكة، وأيضاً فإن الجنة فيها ثمار وعنب ورمان وفواكه ذكرها القرآن ونحن لا نعرف حقيقتها ومع ذلك فنحن نؤمن بها.
وأما إذا كان معنى المتشابه: هو أننا لا نعرف معنى الصفة، فلا نعرف معنى الرحمة، ولا معنى القدرة، ولا معنى العلم، ولا معنى الحكمة وغيرها من صفات الله فهذا غلط، بل إن صفات الرحمن نعرف معناها.
وقد قال الإمام مالك رحمه الله عندما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
فالاستواء معلوم المعنى، والمجهول كيفيته، والإيمان به واجب؛ لأن الله أخبر بذلك، والسؤال عن الكيفية بدعة.
وكذلك فالله موجود ومعنى الوجود نحن نعرفه، لكن كيفية الوجود لا نعرفها، بل نجهلها، والله سبحانه وتعالى أيضاً له سمع، ونحن نعرف معناه، لكن كيفية السمع لا نعرفها، ومع ذلك فنحن نؤمن بالمعنى؛ لأن الله خاطبنا باللغة العربية.
فإذا أراد من يقول: إن أسماء الله وصفاته من المتشابه أننا لا نعرف كيفيتها فلا بأس في ذلك، أما إذا أراد أننا لا نعرف معناها فلا، وكثير من الناس يقصدون أنها من المتشابه بمعنى أننا لا نعرف معناها، فلا فرق عندهم بين اسم الله القدير والعليم والخبير والسميع فكلها لا معنى لها، فكأنها كلمة واحدة، وهذا يعود إلى قول الجهمية القدامى الذين كانوا لا يفرقون بين صفة وصفة.
الجواب: العلماء في اليمن من الزيدية هم من الشيعة الذين لم يغلوا غلواً كبيراً في علي بن أبي طالب ، ومنهم الإمام زيد بن علي رحمه الله، فقد كان يقول: إن علياً أفضل من غيره، وتولية المفضول مع وجود الفاضل لا بأس بها، ولكنه لم يكن يسب الشيخين أبا بكر وعمر وبقية الصحابة، حتى إن كثيراً من أتباعه عندما سمعوا منه ذلك رفضوه فسموا: (الرافضة).
والزيدية في اليمن على مذهب زيد ولكن مع الأسف الشديد حصل منهم غلو في العصور الأخيرة كما يذكر الإمام الشوكاني في كتابه ( طلب العلم )، فقد ذكر أهوالاً كانت في عصره من كثير من الزيدية، ومع ذلك بقي الحق موجوداً عند بعض علماء المذهب الزيدي.
وكثير من علماء المذهب الزيدي أئمة مجتهدون وفقهاء، وقد يتأثر بهم العالم في بداية النشأة، لكن فيما قرأته من مذهب الإمام الشوكاني عندما كتب سيرته بنفسه في كتابه (أدب الطلب) فإنه كتب سيرته كلها من ألفها إلى يائها، فعلمت من خلالها أن العقيدة عنده كانت واضحة وضوحاً شديداً فيما أعلم، وهذا هو علمي، والله أعلم.
الجواب: لا بد أن يتجمع المسلمون في كل مكان وعليهم أن ينشئوا جمعيات ومكتبات لنشر التراث، ثم ينتقى من التراث على درجات متفاوتة كتب كبيرة، وكتب صغيرة، وكتب متوسطة، ثم تنشر وتقرر في الجامعات وفي المدارس ويعرف الناس بهذا التراث، وذلك بعمل نشرات لبعض الكتب وإعلانات عن بعض الكتب ونحو ذلك.
ويوجد الآن شيء غريب في هذا العصر، وهو أننا نقرأ في الصحف أحياناً نشرة أو إعلاناً عن كتاب، وأما غير الكتب فنجد الإنسان يذهب إلى صندوق بريده، وإذا به يجد إعلاناً عن سجاد وما شابهه، والمراد: أن وسائل الإعلام الآن وطرق النشر وجلب الناس لقراءة الكتب والصحف أصبحت فناً من الفنون، فينبغي للمسلمين أن يستخدموها؛ ليكون عندهم علم بكيفية إحياء هذا التراث.
وأيضاًً فإن كثيراً من الناس يريد أن ينشر الإسلام فينشر كتاباً سيئاً قد يهدم الإسلام، فيجب تبصير الناس بالأصول وبالمفاهيم وبالعقائد السليمة، وتبصيرهم بالكتب السليمة وغير السليمة، وهذا الأمر من أهم الأمور، ثم بعد ذلك يأتي دور وسائل الإعلان المختلفة، وإنشاء المؤسسات التي تعنى بالتراث، وتبصير الناس به، وكل هذه أسباب تؤدي بنا إلى نتائج طيبة إن شاء الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر