إسلام ويب

شرح ألفية ابن مالك [41]للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تأتي حروف الجر لمعان كثيرة، فمن هذه المعاني الاستعلاء والتبعيض والظرفية والسببية والمجاوزة والإلصاق وغيرها، وقد بين العلماء تفاصيل ذلك. وقد تدخل (ما) على بعض حروف الجر فلا تكفها عن العمل، وقد تكفها أحياناً.

    1.   

    تابع معاني حروف الجر

    معاني اللام غير الانتهاء

    قال المصنف رحمه الله تعالى:

    [ واللام للملك وشبهه وفي تعدية أيضاً وتعليل قفي

    وزيد والظرفية استبن ببا وفي وقد يبينان السببا]

    قوله: (واللام للملك وشبهه) أي: أن اللام تفيد التمليك وشبه التمليك، فالتمليك أن يكون مدخولها مالكاً لما سبق، أو إن شئت فقل: أن تقع بين شيئين الثاني منهما مالك للأول.

    مثاله: الكتاب للطالب، أي: ملك للطالب، فالثاني مالك للأول، أي: أن مدخولها مالك لما قبله، وقد يتأخر عنه مثل: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ [آل عمران:189]، فهنا تأخر الأول عنها وعن الثاني؛ لكن الحكم لا يتغير، فاللام هنا للملك.

    قوله: (وشبهه) وهو ما يسمى بالاختصاص، وهو: أن يكون مدخولها مختصاً بالأول لا مالكاً، مثاله: العلف للدابة، أو الزمام للجمل، فليس هو ملكه، لكنه اختصاص، وقوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ[التوبة:60] اللام هنا للملك.

    قال: (وفي تعدية أيضاً) يعني: أن اللام تأتي للتعدية.

    ومعنى التعدية: أن تدخل على مفعول عامله ضعيف ليتعدى إلى المفعول، مثل اسم الفاعل إذا تأخر فضعف عمله، تقول مثلاً: أنا ضاربٌ لزيد، أصلها: أنا ضاربٌ زيداً، وكذلك: أنا لزيد ضارب، فاللام هنا لا تصلح للملك ولا لشبه الملك، لكنها للتعدية.

    قال: (وتعليل قفي) أي: وتأتي اللام للتعليل كثيراً: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56]، وكأني بكم تقولون: إن (يعبدون) فعل وليست اسماً، لكنني أقول: إنه فعل مؤول بمصدر، والتقدير: إلا لعبادتي، فاللام للتعليل.

    وكذلك أيضاً قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، أي: لأجلكم.

    وتقول: (جئت لأقرأ) أي لأجل القراءة.

    وكذلك كل أفعال الله تعالى التي تتعدى باللام هي للتعليل : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا[الإسراء:1]، فاللام للتعليل.

    قال المؤلف:

    [وزيد والظرفية استبن ببا

    وفي وقد يبينان السببا]

    (وزيد): أي: أن اللام تأتي زائدة، أي أنها تأتي لا لمعنى كقوله تعالى: إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ[يوسف:43].

    وهذا المثال فيه نظر، ووجه النظر: أن اللام في قوله: (للرؤيا تعبرون) يظهر أنها للتعدية؛ لأنها دخلت على المفعول لضعف العامل بتأخره.

    ومثلوا في الزائدة بما يقال كثيراً: لا أبا لك، ومنه:

    سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

    ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

    قالوا: إن اللام هنا زائدة، والدليل على زيادتها: أن (أبا) أعربت بالألف، ومن شرط إعرابها بالألف أن تضاف، ولو قلنا: إن اللام غير زائدة لكان يقول: لا أباً لك، أو: لا أب لك، بدون ألف، فلما أعربت بالألف دل هذا على أن اللام زائدة، وأصلها: لا أباك، وهذا أحد الوجوه في قوله: لا أبا لك.

    وفي وجه آخر: أنها على لغة من يلزم الأسماء الخمسة الألف مطلقاً، وعلى هذا فلا يكون فيها شاهد.

    مجيء الباء وفي للظرفية والسببية

    قوله: (والظرفية استبن ببا وفي).

    الظرفية: مفعول مقدم لقوله: (واستبن) يعني: استظهر، أي: أنه تأتي الباء وفي للظرفية، أما الباء فمثالها قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ [الصافات:137] يعني: وفي الليل، وهي كثيرة في الكلام العربي، تقول مثلاً: سكنت بعنيزة.. سكنت ببريدة.. سكنت بالبدائع.. سكنت بمكة.. سكنت بالرياض.. وهكذا.

    أما (في) فمثالها: دخلت في المسجد، سكنت في البلد الفلاني، وهي في القرآن أيضاً كثيرة: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات:20-22]، إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهاهمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ [آل عمران:107]، وهكذا تكون للظرفية كثيرة جداً.

    قوله: (قد يبينان السببا) يعني: أن الباء وفي قد تأتيان للسببية بأن يدخلا على السبب.

    مجيء الباء للاستعانة والإلصاق

    قال المؤلف:

    [بالبا استعن وعد عوض ألصق ومثل مع ومن وعن بها انطق]

    أي: أن الباء تأتي للاستعانة.

    والاستعانة طلب العون، فمعنى الاستعانة: أن الباء تدخل على ما تطلب الإعانة منه مثل: أستعين بالله.

    فالباء للاستعانة، أي: أنه سبحانه وتعالى يطلب العون منه.

    قوله: (وعدِّ) يعني: أنه يعدى بها الفعل اللازم، مثال ذلك قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]، أصل (ذهب) فعل لازم، يقال: ذهب الرجل، فإذا أردنا أن تتعدى إلى مفعول فإما أن ندخل عليها الهمزة أو نأتي بالباء، ولذا قال تعالى: ذََهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]، ويصح في غير القرآن أن يقال: أذهب الله نورهم.

    قوله: (عوض) معناها: أن الباء تأتي للتعويض؛ بأن يكون مدخولها عوضاً عن غيره، وهذا كثير جداً، فالباء التي تدخل في البيع والشراء تكون للتعويض، تقول: اشتريت كتاباً بدرهم، الباء للتعويض، وهل مدخولها هو العوض، أو ما سبقها هو العوض؟

    الحقيقة أن كل واحد منهما عوض عن الثاني، لكنها دائماً تدخل على الثمن، ولهذا قال الفقهاء: يتميز الثمن عن المثمن بالباء، فما دخلت عليه الباء فهو الثمن، فإذا قلت: بعت الثوب بدرهم، فالثمن هو الدرهم.

    وإذا قلت: بعت الدرهم بثوب. فالثمن الثوب.

    وقول المؤلف: (ألصق).

    الإلصاق هو مباشرة الشيء بشيء، وقد يراد بالإلصاق مجاورة الشيء للشيء.

    مثال الإلصاق المباشر: مسحت رأسي بيدي، أمسكت ثوبي بيدي، امسحوا برءوسكم.

    ومثال غير المباشر: مررت بزيد.

    وقد زعم بعض النحويين أن جميع معانيها تعود إلى الإلصاق، ولكن لو سلكنا هذا المسلك لوجدنا أنها لا تكون للإلصاق في بعض المواضع إلا بتكلف شديد، ولا حاجة إلى هذا التكلف، فالأولى أن نقول كما قال ابن مالك : إن الإلصاق من بعض معانيها.

    مجيء الباء بمعنى مع ومن وعن

    قوله: (ومثل مع ومن وعن بها انطق).

    يعني: أن الباء تأتي بمعنى: مع، وتأتي بمعنى: من، وتأتي بمعنى: عن.

    تأتي بمعنى (مع) كما لو قلت: بعتك الفرس بلجامه، أي: مع لجامه.

    وتقول: بعتك السيارة بمفاتيحها. أي: مع المفاتيح.

    وتأتي أيضاً بمعنى (من)، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6]، أي: يشرب منها؛ لأن العين يشرب منها لا بها، وقد سبق لنا أن الصحيح في هذه الآية أن الباء للسببية لا بمعنى (من)، وأن (يشرب) مضمنة معنى (يروى).

    وذكرنا: أن الأصح أن يضمن الفعل لا أن يجعل الحرف بمعنى حرف آخر، وأن تضمين الفعل يستلزم معنى أصل الفعل وزيادة، فقولك: (يشرب بها عباد الله) قلنا: إن (يشرب) مضمن معنى: (يروى)، فتضمن الشرب والري.

    كذلك تأتي الباء بمعنى (عن)، كما لو قلت مثلاً: سألتك بعلمك، أي: عن علمك.

    وتقول: رضيت بالله رباً، أي: رضيت عن الله رباً.

    وقال تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج:1]، أي: عن عذاب.

    وقال بعض أهل العلم: إن الباء هنا على بابه، وإن المعنى: سأل سائل وأجيب بعذاب واقع للكافرين، وإن السؤال هنا ضمن معنى الجواب، فيكون هذا أبلغ؛ لأنه لو قرأنا: (سأل سائل عن عذاب واقع لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [المعارج:2-3] فأين الجواب؟

    والواقع أن الآيات تجيب عن هذا السؤال، ولهذا قال بعض العلماء: إن الباء هنا على أصلها، وإن السؤال هنا ضمن معنى الجواب، كأنه قال: سأل سائل فأجيب بعذاب واقع للكافرين.. إلى آخره.

    وبهذا تبين أن للباء تسع معان: الظرفية، والسببية، والاستعانة، والتعدية، والتعويض، والإلصاق، ومثل مع، ومن، وعن.

    ويذكر بعضهم من معانيها المصاحبة، وهي لا تخرج عن الإلصاق، ولكنها إما أن تكون حسياً أو معنوياً.

    وقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) الباء هنا للإلصاق، وقيل: إن الباء للاستعانة، أي: سبحتك بحمدك، فعلى المعنى الأول تكون جملة جامعة بين التنزيه والثناء، أي: تسبيح ثم حمد.

    وعلى قول الذي يقولون: إن الباء للاستعانة، تكون الجملة مشتملة على التسبيح لكنه بمعونتك التي تحمد عليها، وعلى هذا فكونها للمصاحبة أولى، لكن بعضهم لم يعدها، قال: لأن المصاحبة داخلة في الإلصاق.

    إعراب: ذهب الله بنورهم:

    ذهب: فعل ماض مبني على الفتحة.

    لفظ الجلالة فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.

    بنورهم: جار ومجرور ومضاف إليه.

    مجيء على للاستعلاء ومعنى في وعن

    قال المؤلف: [على للاستعلاء ومعنى في وعن بعن تجاوزاً عنى من قد فطن]

    على: مبتدأ. لأن المقصود ولفظها، بخلاف ما إذا قلت: الماء على السطح، فلا تقول: على: مبتدأ.

    للاستعلاء: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ.

    وبعضهم يقول: إن الجار والمجرور نفسه هو الخبر.

    قوله: (على للاستعلاء) الاستعلاء هو: علو شيء على شيء، ولهذا كانت حروف (على) نفسها هي حروف العلو، ففيها العين واللام والألف.

    مثال ذلك قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .. فعلى هنا للعلو.

    وتقول مثلاً: الماء على السطح، وتقول: السماء على الأرض.

    والعلو لا تلزم منه المباشرة، بل قد تكون معه مباشرة، وقد لا تكون معه مباشرة.

    ثم العلو قد يكون حسياً، وقد يكون معنوياً، تقول مثلاً: من على هؤلاء الجماعة؟ يعني: من هو الوالي عليهم، فهذا العلو معنوي.

    وتقول: ركبت على البهيمة أو على السيارة، وهذا علو حسي.

    قال: (ومعنى في وعن)

    قوله: (ومعنى) معطوفة على قوله: (للاستعلاء) يعني: و(على) تأتي لمعنى (في)، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا [القصص:15]، أي: في حين غفلة من أهلها.

    قوله: (وعن) يعني: أن (على) تأتي لمعنى (عن)، ومنه قول الشاعر:

    إذا رضيت علي بنو قشير

    المعنى: إذا رضيت عني بنو قشير.

    معاني عن

    ثم قال: (بعن تجاوزاً عنى من قد فطن).

    إعراب الشطر:

    بعن: جار ومجرور متعلق بعنى.

    تجاوزاً: مفعول مقدم بعنى.

    عنى: فعل ماض.

    من: اسم موصول فاعل.

    قد فطن: جملة فعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، وترتيب البيت: عنى من قد فطن تجاوزاً بعن..

    ومعنى (عنى) قصد وأراد، يعني: أن (عن) من معانيها المجاوزة، والمجاوزة معناها: مرور شيء بشيء وانفصاله عنه، مثاله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ [الكهف:82]، ويقولون: رميت السهم عن القوس، يعني: مجاوزاً القوس.

    قال المؤلف:

    [وقد تجي موضع بعد وعلـى كما على موضع عن قد جعلا]

    قوله: (قد تجي موضع بعد) يعني: قد تأتي (عن) بمعنى (بعد)، فتكون للترتيب، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19]، أي: طبقاً بعد طبق.

    ويمكن أن نقول: إن هذا المعنى يرجع إلى المجاوزة؛ لأن معناه: تنتقلون من حال إلى حال، وتجاوزون الحال الأولى إلى الحال الثانية، ولهذا فالأصل في (عن) أن تأتي للمجاوزة؛ لكن في بعض الأحيان تكون واضحة، وفي بعض الأحيان تحتاج إلى تأمل.

    قوله: (وعلى) يعني: تأتي عن بمعنى (على)، ومثلوا له بقول الشاعر:

    لاه ابن عمك ما أفضلت في حسب عني

    أي: ما أفضلت عليَّ.

    أفضل: فعل ماض، والتاء ضمير مخاطب فاعل.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    (وقد تجي موضع بعد وعلـى كما على موضع عن قد جعلا)

    يعني: كما أن (على) تأتي بمعنى (عن)، فإذا قال قائل: أليس هذا تكراراً؛ لأنه قد تقدم قوله:

    (على للاستعلاء ومعنى في وعن)؟

    والجواب: هو في الحقيقة من حيث المعنى تكرار، لكنه تكرار لفائدة، وفائدته: أن هذين الحرفين وهما (عن وعلى) يتناوبان المعنى، فكأن ابن مالك في الشطر الأخير يقول: إن هذا من باب تناوب الحروف.

    معاني الكاف

    ثم قال المؤلف:

    [شبه بكاف وبها التعليل قـد يعنى وزائداً لتوكيد ود]

    شبه بكاف: يعني: ائت بها للتشبيه، وعلى هذا فيكون المعنى أن الكاف للتشبيه، مثاله: زيد كالبدر في الجمال وكالبحر في العلم.

    وأمثلتها كثيرة في القرآن وفي غير القرآن: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:40] .. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19] .. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17].

    قوله: (وبها التعليل قد يعنى).

    بها: جار ومجرور متعلق بيعنى.

    التعليل: مبتدأ، وجملة (قد يعنى) خبره، ومعنى يعنى: يقصد، أي: وقد يقصد بها التعليل، و(قد) هنا تفيد التقليل، وهو كذلك بالنسبة للتشبيه، أعني أن معنى التعليل في الكاف قليل بالنسبة لمعنى التشبيه، مثاله قوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة:198]، ليس المراد تشبيه الذكر بالهداية، بل المراد تعليل الأمر بالذكر بالهداية، أي: اذكروه لهدايته إياكم.

    ومنه على القول الصحيح: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، يعني: أنت صاحب الكرم أولاً وآخراً، ومن أجل أنك صليت على هذا فصل على هذا، وبهذا المعنى يزول الإشكال الذي أورده كثير من أهل العلم على هذا الحديث، وقال: المعروف أن المشبه به أقوى من المشبه، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم، فكيف يشبه الأفضل بالمفضول؟

    ولكن إذا قلنا: إن الكاف هنا للتعليل، وإن ذكرها من باب التوسل بنعم الله السابقة على نعمه اللاحقة، فإنه يزول الإشكال نهائياً.

    قوله: (وزائداً لتوكيد ورد) يعني: وورد زائداً للتوكيد.

    ولما كان يخشى أن يقال: إن الزائد لا فائدة له، قال: (لتوكيد).

    فإذا قيل: لماذا لم يقلها فيما سبق؛ لأنه قال: فيما سبق: وزيد؟

    قلنا: لأنه يشير إلى آية من القرآن اشتهرت بين الناس، وهي قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فلهذا نص على أنه للتوكيد؛ لأن الآية تدل على امتناع مشابهة المخلوقين للخالق.

    فمن أجل هذا اختلفت أقوال الناس فيها كيف يخرجونها:

    فقال بعضهم: بأن الكاف زائدة، وهذا الذي مشى عليه ابن مالك ، وهو مشهور، وعلى هذا فيكون تقدير الكلام: ليس مثله شيئاً، يعني: ليس شيء يماثل الله، وهذا معنى واضح وبسيط، وتكون الكاف للتوكيد فكأن المثل نفي مرتين؛ لأن الكاف للتشبيه ومثل للتمثيل، أو كأنه نفي المماثل والمشابه معاً.

    وهناك فرق بين التشبيه والتمثيل:

    فالتمثيل: المطابقة من كل وجه.

    والتشبيه: المقاربة، يعني: المماثلة بأكثر الصفات، ولهذا يقال: فلان شبيه بفلان، أي: مقارب له في أكثر الصفات، لكن: فلان مثل فلان، أي: مطابق له. هذا وجه.

    الوجه الثاني: إن الزائد كلمة (مثل) يعني: ليس كهو شيء، وهذا كما قلت لكم قبل قليل عند قوله: بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137]، خلاف الأولى؛ لأن زيادة الحروف أهون من زيادة الأسماء.

    والقول الثالث: أن مثل بمعنى صفة، أي: ليس كصفته شيء من الصفات.

    والقول الرابع: أن مثل بمعنى ذات، أي: ليس كذاته شيء.

    وهذان القولان الأخيران إنما لجأ إليهما القائل فراراً من إثبات الزيادة، وإلا فهما بعيدان من ظاهر اللفظ، لكن قال: بدل ما أقول: الكاف زائدة ومثل زائدة أقول: ليس كذاته شيء، أو ليس كصفته شيء.

    ولكننا نقول: ما دامت اللغة العربية فيها مثل هذا الأسلوب وتزاد فيها الكاف تأكيداً، فلا مانع، والله تعالى نزَّل القرآن بلسان عربي مبين، والعرب إذا قالوا: ليس كمثل فلان، فمعناه: أنه لا يمكن أن يكون أحد يماثله أو يقاربه، وأنشدوا على ذلك:

    "ليس كمثل الفتى زهير".

    والخلاصة: أن الكاف تأتي زائدة لكن للتوكيد، وأن ابن مالك رحمه الله إنما قال (لتوكيد) في هذه المسألة ولم يقلها فيما سبق؛ لأنها اشتهر فيها هذا المثال الذي يتعلق بصفات الله تبارك وتعالى.

    1.   

    ما يستعمل اسماً من حروف الجر

    قال المؤلف: [واستعمل اسماً وكذا عن وعلى

    من أجل ذا عليهما من دخلا]

    أي: تستعمل الكاف اسماً بمعنى مثل: ومن أمثلة ذلك: ما رأيت كاليوم قط، أي: ما رأيت مثل اليوم قط.

    وهل هذا قياس أو سماع؟ الظاهر أنه قياس، وأن كل شيء تدخل عليه الكاف يصلح أن تكون في معنى (مثل) ما لم يوجد مانع، حتى قولنا: زيد كالبحر، يصلح أن نقول: الكاف اسم بمعنى مثل، وحينئذ تكون مبنية على الفتح في محل رفع أو نصب أو جر حسب الحال.

    فزيد كالبحر، نقول: زيد: مبتدأ، وكالبحر: الكاف اسم بمعنى مثل، وهي مضافة إلى البحر، والبحر مضاف إليه.

    وظاهر كلام ابن مالك في قوله: (واستعمل اسماً) أن ذلك سماعي، يعني: استعمل عند العرب ولكن لا تستعمله أنت، فيقتضي أن يكون ذلك سماعياً، وأما أنت فلا تستعمله.

    قوله: (وكذا عن وعلى) يعني: واستعمل كذلك (عن) اسماً، وكذلك (على) استعمل اسماً.

    يقول المؤلف: (من أجل ذا عليهما مِنْ دخلا)

    يعني: من أجل استعمال عن وعلى اسمين صح أن يدخل عليهما (مِنْ).

    وإعراب البيت:

    استعمل: فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر يعود على الكاف.

    اسماً: حال من نائب الفاعل.

    وكذا عن: مبتدأ وخبر.

    وعلى: معطوف على ما قبله.

    من أجل ذا: متعلق بقوله (دخلا).

    عليهما: متعلق بقوله (دخلا) أيضاً، يعني: من أجل كونهما اسمين صح دخول (مِنْ) عليهما.

    وهنا الشارح خالف، فإن الشارح يقول: لا يستعملان اسماً إلا إذا دخل عليهما (مِنْ)، وليس كذلك، فإن ظاهر كلام ابن مالك هو الحق، وهو أنهما يستعملان اسمين مطلقاً، وأن الدليل على أنهما يستعملان اسمين دخول مِنْ.

    والمعنى: أنَّ (عن) يجوز أن تكون اسماً، تقول مثلاً: مررت مِنْ عن يمينه، و(مِنْ) مِنْ حروف الجر وهي لا تدخل إلا على اسم.

    فتكون (عن) هنا بمعنى (جانب)، أي: مررت من جانب يمينه، وكذا: مررت من عن شماله، أي: من جانب شماله.

    والإعراب:

    مررت: فعل وفاعل.

    من: حرف جر.

    عن: اسم مبني على السكون في محل جر.

    وعن مضاف، ويمين مضاف إليه، والهاء مضاف إليه أيضاً.

    وكذلك (على) تقول: مررت إليه من على السطح، فيكون معناها: فوق، وإعرابها أن تقول:

    من: حرف جر.

    على: اسم مبني على السكون في محل جر بمن، وعلى مضاف، والسطح مضاف إليه مجرور وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره.

    وتأتي (على) فعلاً، لكن الرسم يختلف، أما اللفظ فهو واحد، تقول: علا الماء على العتبة.

    علا: فعل ماض.

    الماء: فاعل.

    على العتبة: جار ومجرور.

    فصارت (على) تأتي اسماً وفعلاً وحرفاً، و(عن) تأتي حرفاً وتأتي اسماً، و(من) تأتي حرفاً وتأتي فعل أمر من: مان يمين، بمعنى: كذب يكذب.

    وهذا وأمثاله كثير مما يؤيد ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، من أنه لا مجاز في اللغة العربية، وأن الكلمات ليس لها معنى ذاتي، وأن الذي يحدد معنى الكلمة هو سياق الكلام.

    وإذا تدبرت كلامه وجدته حقيقة، وأهم شيء عندي باعتبار كلامه هو أن نوصد الباب أمام أهل التحريف في الأمور العلمية وفي الأمور العملية؛ أفلا ترون إلى أولئك الذين يستغيثون بالرسول عليه الصلاة والسلام ويقولون: هو أكرم الناس جاهاً، فهؤلاء حرفوا في أمور عملية، وهناك أيضاً مسائل عملية في باب المعاملات وغيرها حرف بعض العلماء فيها النصوص ارتكاباً للمجاز، فنحن إذا قلنا: المجاز في اللغة العربية معدوم والكلمات يعينها سياقها وأحوال من تكلم بها، سلمنا من التحريف.

    معاني مذ ومنذ

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [ومذ ومنذ اسمان حيث رفعا أو أوليا الفعل كجئت مذ دعا]

    (مذ ومنذ) تقدم أنهما من حروف الجر، لكنهما يستعملان اسمين أيضاً، ففي بعض السياق يكونان اسمين، وفي بعض السياق يكونان حرفين، ومتى يكونان اسمين؟

    قال: (حيث رفعا أو أوليا الفعل):

    (حيث رفعا): يعني: حيث كان الذي بعدهما مرفوعاً، مثل: جئت مذ يومان، أو منذ يومان.

    (أو أوليا الفعل) أي: جيء بهما بعد الفعل، (كجئت مذ دعا).

    إعراب: مذ يومان:

    مذ: مبتدأ مبني على السكون في محل رفع.

    يومان: خبر المبتدأ مرفوع بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين.

    ونقول في: منذ: إنه مبني على الضم في محل رفع مبتدأ.

    يومان: خبر المبتدأ.

    قوله: (أو أوليا الفعل) أي: كذلك إذا جاء بعدهما الفعل، يعني: إذا جعل الفعل والياً لهما.

    جئت مذ دعا:

    جئت: فعل وفاعل.

    مذ: ظرف مبني على السكون في محل نصب.

    ودعا فعل ماض مبني على السكون، وفاعله مستتر جوازاً تقديره هو.

    إذاً: مذ ومنذ يقعان حرفي جر إذا وليهما اسم مجرور، ويقعان اسمين إذا وليهما اسم مرفوع أو وليهما فعل، فالأول مثل قولك: جئت مذ يومان، وقولك: جئت مذ دعا.

    فإذا قلت: جئت مذ يومين، فهما حرفا جر.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [ وإن يجرا في مضي فكمـن هما وفي الحضور معنى في استبن]

    لما تكلم رحمه الله عن عملهما وأنهما يأتيان اسمين، تكلم عن معناهما في حالة الجر، فقال:

    (وإن يجرا في مضي فكمن هما) أي: فهما بمعنى (مِنْ)، فإذا قلت: جئت مذ يومين، فالمعنى: من يومين.

    قوله: (وفي الحضور معنى في) أي: إذا جرا في الحضور فهما بمعنى (في)، فإذا قلت: جئتك منذ الآن، فالمعنى: في هذا الوقت.

    والحاصل: منذ ومذ إذا كانا حرفي جر، فإن جرا في ماض فهما بمعنى (من)، وإن جرا في حاضر فهما بمعنى (في).

    وهل يجران في المستقبل؟

    الجواب: لا يجران في المستقبل، ولذلك لم يتكلم عليه ابن مالك ، فلا يمكن أن تقول: لا آتيك منذ يومين؛ لأنهما إما في الحاضر وإما في الماضي. والله أعلم.

    1.   

    زيادة (ما) بعد بعض حروف الجر

    قال المؤلف: [واستعمل اسماً وكذا عن وعلى من أجل ذا عليهما من دخلا]

    أي: تستعمل الكاف اسماً بمعنى مثل: ومن أمثلة ذلك: ما رأيت كاليوم قط، أي: ما رأيت مثل اليوم قط.

    وهل هذا قياس أو سماع؟ الظاهر أنه قياس، وأن كل شيء تدخل عليه الكاف يصلح أن تكون في معنى (مثل) ما لم يوجد مانع، حتى قولنا: زيد كالبحر، يصلح أن نقول: الكاف اسم بمعنى مثل، وحينئذ تكون مبنية على الفتح في محل رفع أو نصب أو جر حسب الحال.

    فزيد كالبحر، نقول: زيد: مبتدأ، وكالبحر: الكاف اسم بمعنى مثل، وهي مضافة إلى البحر، والبحر مضاف إليه.

    وظاهر كلام ابن مالك في قوله: (واستعمل اسماً) أن ذلك سماعي، يعني: استعمل عند العرب ولكن لا تستعمله أنت، فيقتضي أن يكون ذلك سماعياً، وأما أنت فلا تستعمله.

    قوله: (وكذا عن وعلى) يعني: واستعمل كذلك (عن) اسماً، وكذلك (على) استعمل اسماً.

    يقول المؤلف: (من أجل ذا عليهما مِنْ دخلا).

    يعني: من أجل استعمال عن وعلى اسمين صح أن يدخل عليهما (مِنْ).

    وإعراب البيت:

    استعمل: فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر يعود على الكاف.

    اسماً: حال من نائب الفاعل.

    وكذا عن: مبتدأ وخبر.

    وعلى: معطوف على ما قبله.

    من أجل ذا: متعلق بقوله (دخلا).

    عليهما: متعلق بقوله (دخلا) أيضاً، يعني: من أجل كونهما اسمين صح دخول (مِنْ) عليهما.

    وهنا الشارح خالف، فإن الشارح يقول: لا يستعملان اسماً إلا إذا دخل عليهما (مِنْ)، وليس كذلك، فإن ظاهر كلام ابن مالك هو الحق، وهو أنهما يستعملان اسمين مطلقاً، وأن الدليل على أنهما يستعملان اسمين دخول مِنْ.

    والمعنى: أنَّ (عن) يجوز أن تكون اسماً، تقول مثلاً: مررت مِنْ عن يمينه، و(مِنْ) مِنْ حروف الجر وهي لا تدخل إلا على اسم.

    فتكون (عن) هنا بمعنى (جانب)، أي: مررت من جانب يمينه، وكذا: مررت من عن شماله، أي: من جانب شماله.

    والإعراب:

    مررت: فعل وفاعل.

    من: حرف جر.

    عن: اسم مبني على السكون في محل جر.

    وعن مضاف، ويمين مضاف إليه، والهاء مضاف إليه أيضاً.

    وكذلك (على) تقول: مررت إليه من على السطح، فيكون معناها: فوق، وإعرابها أن تقول:

    من: حرف جر.

    على: اسم مبني على السكون في محل جر بمن، وعلى مضاف، والسطح مضاف إليه مجرور وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره.

    وتأتي (على) فعلاً، لكن الرسم يختلف، أما اللفظ فهو واحد، تقول: علا الماء على العتبة.

    علا: فعل ماض.

    الماء: فاعل.

    على العتبة: جار ومجرور.

    فصارت (على) تأتي اسماً وفعلاً وحرفاً، و(عن) تأتي حرفاً وتأتي اسماً، و(من) تأتي حرفاً وتأتي فعل أمر من: مان يمين، بمعنى: كذب يكذب.

    وهذا وأمثاله كثير مما يؤيد ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، من أنه لا مجاز في اللغة العربية، وأن الكلمات ليس لها معنى ذاتي، وأن الذي يحدد معنى الكلمة هو سياق الكلام.

    وإذا تدبرت كلامه وجدته حقيقة، وأهم شيء عندي باعتبار كلامه هو أن نوصد الباب أمام أهل التحريف في الأمور العلمية وفي الأمور العملية؛ أفلا ترون إلى أولئك الذين يستغيثون بالرسول عليه الصلاة والسلام ويقولون: هو أكرم الناس جاهاً، فهؤلاء حرفوا في أمور عملية، وهناك أيضاً مسائل عملية في باب المعاملات وغيرها حرف بعض العلماء فيها النصوص ارتكاباً للمجاز، فنحن إذا قلنا: المجاز في اللغة العربية معدوم والكلمات يعينها سياقها وأحوال من تكلم بها، سلمنا من التحريف.

    زيادة (ما) بعد الباء ومن وعن

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [وبعد من وعن وباء زيد ما فلم يعق عن عمل قد علما]

    وبعد من: (بعد) هذه ظرف منصوب على الظرفية وعامله قوله: (زيد).

    و(بعد) مضاف، و(من) مضاف إليه باعتبار لفظها.

    وعن: معطوفة على من.

    وباء: معطوفة على من أيضاً.

    زيد: فعل ماض مبني للمفعول.

    ما: نائب فاعل مبني على السكون في محل رفع.

    فلم يعق: أي: هذه الزيادة، أي: أو دخول ما، والمعنى: أنها تزاد (ما) بعد من وعن والباء، ولا تبطل العمل، بل يبقى العمل على ما هو عليه، مثال (من) قول الله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح:25]، من: حرف جر، وما: زائدة.

    خطيئاتهم: خطيئات: اسم مجرور بمن وعلامة جره كسر ظاهر في آخره.

    وكذلك تزاد (ما) بعدها (عن) ويبقى عملها، قال الله تعالى: قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ [المؤمنون:40].

    (عما قليل): عن: حرف جر، وما: زائدة، وقليل: اسم مجرور بعن وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره، فهنا لم يتغير العمل

    (خطيئاتهم) معرفة، و(قليل) نكرة، إذاً: لا فرق بين أن يكون المجرور معرفة أو نكرة، فالعمل باق.

    كذلك الباء تزاد بعدها (ما) ويبقى عملها، قال الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] الباء حرف جر، وما: زائدة، ورحمة: اسم مجرور بالباء وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره.

    فتبين أن (ما) تزاد بعد عن ومن والباء فلا يبطل العمل بهذه الزيادة.

    زيادة (ما) بعد الكاف ورُبَّ

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [وزيد بعد رب والكاف فكف وقد يليهما وجر لم يكف]

    قوله: (زيد) الضمير يعود على (ما) أي: زيد (ما) بعد رُبَّ والكاف فكفهما عن العمل، (وقد يليهما وجر لم يكف).

    والمعنى: أن (ما) تزاد بعد (رُبَّ) فتكفها عن العمل، وإذا كفتها عن العمل سلبت اختصاصها بالاسم، فتدخل على الفعل، قال الله تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2].

    ومثالها إذا داخلت على الاسم أن تقول: رُبما رجلٌ لقيته، بينما لو حذفت (ما) لقلت: رُبَّ رجلٍ لقيته، لكن لما جاءت (ما) بطل عملها، فوجب أن يقال: ربما رجلٌ لقيته، وإعرابها:

    رُبَّ: حرف جر ملغى.

    وما: زائدة.

    ورجل: مبتدأ.

    ولقيته: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل رفع خبر.

    قوله: (والكاف):

    أي: ما الزائدة تلي الكاف وتكفها عن العمل، ودخولها على (ما) كثير في كلام العامة، يقولون: فلان كما البحر، لكن في اللغة العربية إنما تدخل عليها فتكفها عن العمل، ويكون ما بعدها مبتدأ، ويحتاج إلى خبر، تقول مثلاً: كما الناس مؤمن وكافر، فالكاف: هنا حرف جر ملغى، وما: زائدة تكف الكاف عن العمل، والناس: مبتدأ، ومؤمن: خبر المبتدأ، وكافر: معطوف على مؤمن.

    قوله: (وقد يليهما) يعني: أن رُبَّ والكاف قد تليهما (ما) الزائدة (وجر لم يكف) أي: مع بقاء عملهما، فتقول مثلاً: زيد كما البحرِ، أي: كالبحر.

    فالكاف: حرف جر، وما: زائدة، والبحر: اسم مجرور بالكاف وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره.

    وكذلك أيضاً: رُبَّ، تقول: ربما رجلٍ لقيته، بجر (رجل).

    فالحاصل أن (ما) تزاد بعد خمسة من حروف الجر، ثلاثة منها لا تبطل عملها وهي: من وعن والباء، واثنان الأصل أن تبطل عملهما وقد لا تبطله، وهما الكاف ورُبَّ.

    إذا قال لنا قائل: هل نحن بالخيار في هذه الأمور؟

    نقول: أما ما ورد عن العرب فبالإعمال أو الإهمال، فليس لنا فيه خيار؛ لأنه سمع هكذا، وأما ما ننشئه نحن من الكلام فلنا فيه الخيار، وعلى هذا فالواحد منكم إذا قرأ في كتاب، وقال: ربما رجلٌ لقيته، وآخر قال: ربما رجلٍ لقيته، فكلاهما صحيح.

    1.   

    الحروف التي تعمل مذكورة ومحذوفة

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [وحذفت رُبَّ فجرت بعد بل والفا وبعد الواو شاع ذا العمل]

    قوله: (وحذفت رُبَّ)، أي: حذفت من الكلام، فتجر وهي محذوفة لكن بعد ثلاثة حروف: بل والفاء والواو، لكنها بعد الواو أكثر، ولهذا قال: (وبعد الواو شاع ذا العمل) بمعنى: كثر.

    مثالها بعد بل أن تقول: ما رأيت رجلاً فاسقاً بل رجلٍ صالحٍ لقيته، أي: بل رُبَّ رجلٍ صالحٍ لقيته.

    ومثالها بعد الفاء قول الشاعر:

    فمثلكِ حبلى قد طرقت ومرضعٍ فألهيتها عن ذي تمائم محول

    الشاهد قوله: (فمِثلك)، أي: فرب مِثلك حبلى، بجر (مثل)، فهنا عملت رُبَّ وهي محذوفة.

    ومثالها بعد الواو قول الشاعر:

    وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله

    عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي

    أي: ورُبَّ ليلٍ كموج البحر ..

    وتقدم أن (رُبَّ) تدخل عليها (ما) فتكف عملها، وربما لا تكف، وذكر هنا أنها تعمل مذكورة وتعمل محذوفة بعد ثلاثة حروف.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [وقد يجر بسوى رب لدى حذف وبعضه يرى مطردا]

    المعنى: قد يُجَرُّ الاسم بحرف محذوف سوى رُبَّ؛ وقد سبق لنا في تعدي الفعل ولزومه قوله:

    وعدِّ لازماً بحرف جر وإن حذف فالنصب للمنجر

    نقلاً وفي أن وأن يطرد مع أمن لبس كعجبت أن يدوا

    المهم أن الأصل إذا حذف حرف الجر أن ينصب المجرور، وقد يحذف ويبقى الجر، وذلك في (رُبَّ) بعد الفاء والواو وبل كما تقدم، وقد يجر بسوى (رُبَّ) مع الحذف، لكنه قليل، فإن قوله: (قد يجر) للتقليل، يعني أنه أحياناً يجر، والأصل عند حذف حرف الجر أنه ينصب.

    مثاله يقال: أن رؤبة بن العجاج قيل له: كيف أصبحت؟ قال: خيرٍ والحمد لله.

    أي: أصبحت بخيرٍ والحمد لله، فجر الاسم بالباء المحذوفة.

    وليس لنا نحن أن نفعل ذلك؛ لأنه قليل في اللغة العربية، والقليل يقتصر به على السماع.

    قال: (وبعضه يرى مطرداً) أي: بعض هذا الذي يحذف فيه الحرف ويبقى عمل الجر مطرد، أي قياسي، ومثل ذلك: تمييز كم الخبرية، يقولون إنه مجرور بحرف جر محذوف هو (من)، مثل أن أقول: كم درهمٍ أفنيته في الكرم! أي: دراهم كثيرة أفنيتها في الكرم! ويسميها بعضهم تكثيرية، وتمييزها مجرور بمن محذوفة، والدليل على أنه مجرور بمن المحذوفة أن (مِنْ) تدخل كثيراً على مجرورها: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [الأعراف:4]، (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً [البقرة:249]، وأمثال ذلك، قالوا: فهذا دليل على أن ما بعدها مجرور بمن المحذوفة، وهو مطرد.

    وقال بعض النحويين: إن المجرور بعدها مجرور بالإضافة، كم: مضاف، والذي بعدها مضاف إليه مجرور بالإضافة، وحينئذ لا يكون فيه شاهد لما قاله ابن مالك ، لكن ابن مالك رحمه الله يرى رأي سيبويه في هذه المسألة وأن تمييز (كم الخبرية) مجرور بمن محذوفة.

    وقال: إن الدليل على ذلك أنها تأتي مذكورة في مواضع كثيرة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768031411