يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:
نستهل اليوم بإذن الله شرح هذا الكتاب العظيم الجليل: الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية ، ونشرح مختصر الكتاب لا أصله للعلامة الشيخ محمد بن مهدي بن محمد البعلي الحنبلي .
وقبل أن نبدأ فهناك مقدمتان لابد لنا أن نقدمها بين يدي هذا الكتاب، أولاً: هناك أمر عظيم يخص أعظم البشرية وأكرم رسول، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الناس، وأعظمهم مكانة عند الله جل في علاه، وكفى فخراً لهذه الأمة أن رسولها هو أعظم الرسل على الإطلاق.
ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، والنبي صلى الله عليه وسلم أقسم الله بعمره، ولم يقسم بعمر ولا بحياة أحد على الإطلاق إلا بحياة النبي صلى الله عليه وسلم لعظم حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولعظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ يا محمد! لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]؛ إظهاراً لمكانة وعظم حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولمكانة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا فقد أمره الله على الأنبياء بأسرهم، فإنه حينما أسري به صلى إماماً بالرسل، وحين عرج به فرض عليه أفضل الفرائض ألا وهي: الصلاة، وقد أوحى إليه وحياً فيه أعظم ما يكون وهو كتاب الله، ويوم القيامة يبين الله جل وعلا ويظهر كرامته ومكانته فيجعل الناس تستشفع به يوم القيامة.
إذاً: الناس سيذهبون إليه إظهاراً من الله جل في علاه لكرامة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يبلغها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما يقول: أنا لها، أنا لها، ثم يأتي يسجد تحت العرش، فالله جل وعلا يوحي إليه بمحامد لم يكن يعلمها قبل ذلك، فيحمد الله بها ثم يقول له: (يا محمد! -بأبي هو وأمي- ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع)، إظهاراً لكرامة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غرو ولا عجب، فما من نبي أرسله الله لقومه فمنحه فضلاً أو شرفاً أو فضيلة يتفضل بها على قومه إلا ومنحها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا موسى عليه السلام أفضل ما فضل الله به موسى على البشر أجمعين أنه اصطفاه بكلامه وبرسالاته، كما قال آدم عليه السلام: (أنت موسى الذي خط الله لك التوراة بيده، واصطفاك بكلامه)، وقال الله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، فهذه من أفضل الفضائل لموسى عليه السلام، وللنبي صلى الله عليه وسلم حظ منها لمكانته عند الله جل في علاه، فإن الله كلم موسى بحجاب دون واسطة، وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم بحجاب دون واسطة أيضاً؛ لأنه لما عرج به تكلم مع الله دون واسطة ودون وحي، وفرض الله عليه خمسين صلاة، ثم تكلم مع موسى فقال موسى: أمتك لا تستطيع أن تصبر على ذلك، فرجع يعاود الكلام مع الله ويكلمه الله جل في علاه.
ويوسف عليه السلام: من أفضل ما منح الجسد فكان من أجمل الناس، حتى إن النساء قطعن أيديهن عندما رأينه، والنبي صلى الله عليه وسلم أوتي من الجمال مثل ما أوتي يوسف عليه السلام، فعندما رأى البراء النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نظرت إلى رسول الله -بأبي هو وأمي- ونظرت إلى القمر ليلة البدر، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل من القمر ليلة البدر).
ولما منح الله جل في علاه إبراهيم أبو الأنبياء الخلة، وهو أعظم الرسل على الإطلاق دون النبي صلى الله عليه وسلم -هذا عند أهل التحقيق- أيضاً منح الله جل في علاه نبينا صلى الله عليه وسلم الخلة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً من البشر خليلاً لاتخذت
أيضاً: منح عيسى عليه السلام أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله، وهذه حدثت لنبينا صلى الله عليه وسلم كما حدثت مع عيسى عليه السلام.
وإظهاراً لشرف النبي وعظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله جل في علاه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ خشبة وهزها -هذه لموسى وعيسى- فتحولت سيفاً معجزة من الله جل في علاه لنبينا صلى الله عليه وسلم فأخذها، أما موسى فلم يأخذ العصا حين تحولت إلى حية، فتحولت الخشبة سيفاً في يد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام
وأيضاً عيسى عليه السلام كان يبرئ الأكمه والأبرص والأعمى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة سقطت عين صاحب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على خده، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فوضعها مكانها، فكان يرى بها أفضل من العين الأخرى، وأيضاً في قصة قتل سلام بن أبي الحقيق اليهودي لما كسرت ركبة عبد الله بن أنيس ، أخذها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح عليها فبرئت، وهذه أيضاً لعيسى عليه السلام وحباها الله لنبينا صلى الله عليه وسلم، فكل خصال الخير كانت لرسول الله لعظم مكانته عند ربه جل في علاه.
فالأمة لها أن تفخر -ولا غرو لها- بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد هذه البشرية، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رسول هذه الأمة، فله حق عظيم على هذه الأمة.
أولاً: الاعتقاد الجازم والإيمان الراسخ بأنه مرسل من ربه جل في علاه، قال الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، فـ: (رسله) عموم يدخل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136]، وقال: وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد:28]، فهذا أمر من الله جل في علاه، أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من الرسل الذين أوحى الله إليهم وحياً عظيماً جاء به إلى البشرية.
ثانياً: من حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة بعد الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه أوحي إليه من قبل ربه: أن رسالته عامة للثقلين، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وأيضاً قال الله تعالى: كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، وقال الله تعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضلت على الأنبياء بست -وذكر من هذه الست- وكان كل نبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة)، بل لم يكتف بذلك، فلم يرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقط، بل أرسله إلى الجن أيضاً، فهو مرسل إلى الثقلين، قال الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29].
وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة عنهم، فبين له مكان نيران الجن وأخبره بأنه ذهب إلى الجن يتلو عليهم آيات الله جل في علاه)، فرسالته عامة، فهذا حق للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الرد القوي على اليهود والنصارى الذين يقولون: هو نبي، لكن للأميين، فأنت لابد أن تعتقد اعتقاداً جازماً بأن الرسول أرسل إلى الجن وإلى الإنس.
ثالثاً: من حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة: تصديقه فيما أخبر صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- ولِم لا وهو الصادق المصدوق؟ فقد أخبر من قبل ربه جل في علاه، وجبريل لم يكذبه وهو لم يكذب، قال ابن مسعود : أوصاني الصادق المصدوق، فهو صادق في قوله، وهو مصدوق فيما يأتيه، قال الله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، يعني: لا يتكلم من هوى نفسه، ولا من تلقاء نفسه، بل هو وحي من قبل الله جل في علاه.
فوجب عليك تصديق كل خبر أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم إسناداً صحيحاً، ومن تبعات ذلك أن تعمل به.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة وفي مجلسه عبد الله بن عمرو بن العاص كتب كل شيء يتكلم به النبي صلى الله عليه وسلم فلامه أهل قريش وأكابر المهاجرين فقالوا: كيف تكتب كل كلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بشر يصيب ويخطئ ويغضب ويضحك ويفرح ويحزن؟ فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بهذا الخبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب، والله ما يخرج من هنا إلا الحق، أو قال: إلا الصدق)، ما يخرج منه إلا الوحي من الله جل في علاه، حتى ولو قلنا: بأن له الاجتهاد فإن الله لا يقر رسوله صلى الله عليه وسلم على خطأ أخطأه، وليس ببعيد عنا قول الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2]، ولما اجتهد في دعوة أكابر قريش وترك ابن أم مكتوم ، فأنزل الله كلاماً يعاتبه على ذلك، عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:1-3]، فله أن يجتهد لكنه لا يقرر على خطأ، فلذلك قال له: (اكتب، والله ما يخرج من هنا إلا الصدق، أو ما يخرج إلا الحق).
ولذلك لما جاء هذا القميء البئيس وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اعدل، فهذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!)، كيف لا تأمنوني وقد استأمنني الله جل في علاه على الوحي وأنا أبلغ عن ربي جل في علاه.
ولنعم ما فعل خزيمة بن ثابت عندما جاء أعرابي فباع للنبي صلى الله عليه وسلم فرساً، ثم أعطوه فيه ثمناً أغلى من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد بعت لي؟ قال: لا ما بعت لك، عليّ بشاهدين -يعني: ائت بشهود يشهدون أنني قد بعت لك هذا الفرس- فقام
رابعاً: من حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم في وقتنا هذا، وتعظيم سنته وحملتها، إذا رأيت رجلاً يحمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم رأيت نوراً في وجهه لقوله: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، فيحترم ويعظم ويوقر يحترمه ويعظمه ويوقره توقيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن حق رسول الله على هذه الأمة: تعظيم النبي وتوقيره والأدب الجم معه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح:9]، (تسبحوه) خاصة بالله جل في علاه، (تعزروه وتوقروه)، هذه تدل على نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه ومحبته، وأن تجعل محبة النبي صلى الله عليه وسلم فوق محبتك لنفسك ولغيرك.
وفي الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين، فقام
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن)، وهذا نفي قاطع: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين) وصور المحبة وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم على النفس صور عظيمة جداً، وقد ضرب أروع الأمثلة لذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بهذا يبينون لنا التطبيق العملي لقول الله تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة:120].
وأروع من ذلك عندما رحل معه براحلته وهو يتقدم أمام رسول الله ثم يكون خلفه، ثم عن يمنيه ثم عن يساره صلى الله عليه وسلم، فمن رآه قال: هذا رجل مجنون! كيف يتقدم ثم يتأخر، ثم يأتي يساراً ثم يميناً؟ لِم يفعل ذلك؟!! وكأنه لن يجد جواباً لفعل أبي بكر إلا قولاً واحداً هو: نفس رسول الله تقدم على نفسي، فبه الإسلام وأنا ليس بي شيء، فيقدم نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه.
ثم بعد ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يصد القوم ويكون رفيقي في الجنة)، فيقوم طلحة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (اجلس، ليس الآن) حتى مات الأنصار عن بكرة أبيهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنصفنا إخواننا)، وفي رواية أخرى: (ثم قام طلحة ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحميه صلى الله عليه وسلم ويحتضنه، ويقول: لا ترفع رأسك يا رسول الله لئلا يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله! ثم قاتل حتى كسر سيفه فألقاه، وأخذ ينافح عن رسول الله، ويدفع عن رسول الله السيوف التي تنهال عليه حتى شلت يده، فقال لـأبي بكر وعمر عندما أتيا: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) أي: أوجب الجنة بما فعل، لما قدم نفس رسول الله على نفسه.
وقد ضرب لنا الصحابة أروع الأمثلة في الأدب مع رسول الله، فقبل غزوة الحديبية عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن يأتي عروة بن مسعود الثقفي ، لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عثمان ليحاور القوم أشيع بينهم أنه قد قتل، فقام النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة فبايع على الموت، فأخذ يبايع على الموت والتف الصحابة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام معقل بن يسار -انظروا إلى الأدب- وأخذ غصن الشجرة فجعلها فوق النبي صلى الله عليه وسلم ليستظل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكل ولا يمل أدباً مع رسول الله.
وهذا الذي فعله أبو بكر حتى يعلم الناس أن هذا هو رسول الله، وأن هذا هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتأدبون مع رسول الله أعظم الأدب، فعندما كان في صلح الحديبية قام عروة ينظر في الناس، وينظر في رسول الله، فيجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذ عروة بلحية النبي صلى الله عليه وسلم فيلعب بها، وهو يريد أن يترفق ويتلطف مع رسول الله، لعله يستجيب لقوله، ويقول: يا محمد! أرأيت أحداً قبلك عصف بقومه، أرأيت أحداً قتل أباه، أو قتل أخاه، أو قتل ابنه مثلما تفعل أنت، أرأيت إن كانت الأخرى، والله إني ما أرى حولك إلا أوباشاً من الناس يفرون عنك عند اللقاء، فقام المغيرة -وكان ابن أخته- فأخذ غمد السيف، وضرب بها على يديه أدباً مع رسول الله، وهو يقول له: انزع يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر لما سمع عروة وهو يقول: (أوباشاً من الناس) يعني: أخلاطاً سيفرون عنك، قال الكلمة الفظيعة التي لم ترد على لسان أبي بكر بحال من الأحوال إلا في هذا المحل أدباً وتعظيماً لمكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة، قال: نحن نفر عن رسول الله! امصص بظر اللات! وأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، وهذه مظلمة عظيمة جداً لأصحاب رسول الله، قال: نحن نفر عن رسول الله! امصص بظر اللات! فـعروة يقول من القائل بهذا القول؟! قالوا: أبو بكر ، فقال: لولا يد لك عندي -يعني: نعمة وكرامة لك عندي- لأجبتك.
فالشاهد: قال عروة بعدما رجع إلى قريش، قال: أذعنوا لهذا الرجل، والله إني قد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي وما رأيت أحداً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله -هنا الشاهد- ما تنخم نخامة فوقعت في يد أحدهم إلا دلك بها جسده ووجهه، ووالله ما توضأ إلا ورأيتهم يتقاتلون على وضوئه؛ تعظيما وأدباً وتوقيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجنابه، ووالله ما رأيته يأمر بالأمر إلا وهم يبتدرون لا يتقاعسون. يبتدرون لامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم توقيراً وتعظيماً وأدباً لمكانة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عظم حق رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة.
فكل واحد منا يسأل نفسه، من عظم رسول الله حق تعظيمه؟ هل تأدب مع رسول الله حق الأدب؟ هل وقر رسول الله حق توقيره؟ والتوقير كما قلت في زماننا يكون مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فما نرى الآن إلا أوباشاً من الناس يقدمون قول الفقيه وقول الشيخ على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يربطون الناس بالأشياخ الأحياء ولا يربطونهم بالشريعة الغراء التي تحيا إلى أبد الدهر، حتى يأذن الله جل وعلا بخراب الدنيا.
هل وقرنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل قدمنا قول النبي صلى الله عليه وسلم على قول أي أحد؟ هل عملنا بما قاله ابن القيم وما أروع ما قاله:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه
فإذا قلت لأي إنسان منهم: قال رسول الله! يقول لك قال الشيخ الفلاني كذا! وكأنه يعظم الشيخ ولا يعظم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويوقر الشيخ ولا يوقر شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فما هذا التيه والتخبط الذي عشناه؟ ما هذا إلا سوء أدب مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، وانظر ودقق النظر وتدبر في كتاب الله جل في علاه، قال: (لعلكم ترحمون) قال ابن عباس : (لعل) في القرآن قاطعة، يعني: لا بد أن تتحقق، فهي ليست للرجاء، بل هي متحققة، والله جل وعلا يبين لكم أن تحقق الرحمات يكون باتباع رسول الله، قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[آل عمران:132] يعني: إذا أطعتم الرسول صلى الله عليه وسلم سترحمون.
وأيضاً قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، يعني: ستبطلون أعمالكم إن لم تتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأناط التسديد والتوفيق والرحمات بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] يعني: بعدم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وبمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الله تعالى مبيناً أن طاعة الرسول هي طاعة الله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].
وأيضاً يقول الله جل في علاه مبيناً عظم مكانة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الدين، وقد زعم قوم أنهم أحبوا الله فاختبرهم الله بآية المحنة، كما قال الحسن : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31].
فعلامة محبة الله جل في علاه: اتباع السنة، فإذا رأيت الرجل يذكرك بربك، ويزعم أنه يعمل لله، ولم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه كاذب -ليس مطلقاً- في بعض أقواله، كيف والله جل في علاه قد أناط علامة المحبة باتباع رسول الله؟ (قل إن كنتم) شرطية قاطعة قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وهذه بالمفهوم: إن لم تتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلست محباً لله جل في علاه، وهذه الآية قاطعة للظهور، قاصمة لكل رجل يدعي محبة الله أو يدعي التدين وهو لا يتبع رسول الله، بل يعانده صلى الله صلى الله عليه وسلم ويحادده صلى الله عليه وسلم، وكثير من أهل التصوف الآن يزعمون محبة آل البيت، ويتغنون بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يخالفون النبي صلى الله عليه وسلم في أصل الأصول وهو أهم ما يكون في هذه الدنيا وفي هذه الشريعة ألا وهو صحة العقيدة في الله جل في علاه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
بل أناط الله جل في علاه الإيمان بالتحاكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ [الأحزاب:36]، فنفى الإيمان، فلا يمكن أن يكون مؤمناً من لم يعمل بهذه الآية وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فإذا قيل لك: قال رسول الله في المسألة فاضرب قول أي أحد عرض الحائط، وخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ ، وهذه الآية من أقوى ما يكون، وهي زاجر ورادع شديد لكل من لا يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يتحاكم إلى كتاب الله جل في علاه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، هذه الآية من أقوى الآيات في الحث على الاتباع والتحاكم لله ولرسوله، وفيها أمور ثلاثة:
قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ، وهو قسم فيه مؤكدات ثلاثة فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ حتى: جعلها للغاية، فالتحكيم ليس فقط هو الذي يدل على الإيمان، بل لابد من أمور أخرى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
السؤال: لقد أقسم الله بربوبيته على نفي الإيمان عمن لم يتحاكم إلى شرعه فهل لا يؤمن حتى يحكم الشرع لله أم لا يؤمن حتى تتوفر أمور أخرى؟
الجواب: هناك قاعدة قعدها شيخ الإسلام ابن تيمية : أن الحكم إذا أنيط بعلل أو بشروط لا يكون متحققاً إلا بتوفر الشروط، ولو غاب شرط واحد لا يتحقق الحكم، إذاً: قول الله تعالى: (لا يؤمنون) نفى الإيمان، حَتَّى يُحَكِّمُوكَ هذا أول شرط حتى يكون الإيمان متواجداً في القلب: (يحكموك) فلا بد أن تتحاكم لله ولرسوله، قال الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10] يعني: إلى كتابه وإذا قال (إلى الله) يتضمن ذلك إلى الرسول لأنه مبلغ عن الله، وإذا قلنا: (إلى الله) يعني: إلى كتاب الله، وكتاب الله قد أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
قال: فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، صغير أو كبير، دقيق أو جليل، وحتى في البيوت نحن نقول للمرأة مع زوجها: إن أردت الخير فاجعلي الشرع حاكماً بينك وبين زوجك، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10].
فلنعم البيت الذي يقام على الشرع! ولنعم البيت الذي يتحاكم فيه الزوج مع الزوجة بشرع الله جل في علاه، ولنعم التربية إن كانت على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان الخلل موجوداً، لكن رأس الأمر عند الرجل والمرأة والأولاد والأصدقاء والإخوان هو: أن مردنا إلى الله ورسوله فهو أهم شيء، أما الآن فالمرد إلى الأهواء أو الخبراء، والصحيح: أن المرد لابد أن يكون لله وللرسول.
قال تعالى: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]. هذا الشرط الثاني.
قال: (ثم لا يجدوا في أنفسهم) فلو وجد امرؤ وهو يتحاكم لله ولرسوله الحرج، نقول له: الإيمان قد انتفى من صدرك.
فالشرط الثالث هو: التسليم العام، فلابد بعد أن تحركم بشرع الله ألا لا تجد في صدرك حرجاً، وأن تسلم تسليماً كاملاً.
وما أروع هذا المثل وإن كان الحديث ضعيف لكن نستأنس به: فقد اختصم رجل يهودي مع منافق، فقال له اليهودي: تعال معي يفصل بيننا رسول الله، فذهبا إلى رسول الله، فحكم لليهودي؛ لأن الحق كان مع اليهودي، فلم يرضَ المنافق بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أرضى! قال اليهودي: ما ترتضي بحكم رسول الله؟ قال المنافق: لا، إلا أن أذهب إلى أبي بكر ، فذهبا إلى أبي بكر فحكم فوافق حكمه حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي فقال: والله لا أرضى، قال: ولا ترضى بـأبي بكر ؟ قال: ولا أرضى إلا أن نذهب إلى عمر بن الخطاب ، فذهبا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فقصا عليه القصة، فقال: عمر أو ترضى بحكمي؟ قال: أرضى بحكمك؟ فدخل فاستل سيفه ففصل عنقه من جسده قال: هذا حكم الله! قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، وقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، ولو صح هذا الحديث لقلت: قد اجتهد عمر ، وعلم أن من لم يرضَ بحكم رسول الله فهو كافر، لكن لابد أن تقام الحجة وترفع الشبهة، ويبدو أن عمر كان يرى أن هذا الأمر معلوم من الدين بالضرورة، قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65].
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله)، بل ارتقى إلى قول أكثر من ذلك، قال: (من أطاع أميري فقد أطاعني)، ومن أطاع رسول الله فقد أطاع الله جل في علاه، (ومن عصى أميري فقد عصاني)، ومن عصى رسول الله فقد عصى الله جل في علاه.
فهو يؤسس أصلاً لا بد من العمل به.
وأيضاً صح عنه صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد ورواية في سنن أبي داود :قوله (لا ألفين أحدكم على أريكته شبعان، يأتيه الأمر من أمري فيقول: ننظر في كتاب الله!)، فلا يحق له أن يفعل ذلك، فما علمنا كيفية الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر إلا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية الحاكم قال: (لا ألفين أحدكم شبعان على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: ننظر في كتاب الله، فما وجدناه حلالاً أحللناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله، وما أحل رسول الله كما أحل الله).
وفي المسند من حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وفي رواية للنسائي قال: (وكل بدعة في النار).
لذلك وعى الصحابة الدرس عن رسول الله، وتمسكوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فقادوا وسادوا، وكانت لهم الريادة المطلقة؛ لأنهم حكَّموا رسول الله، وقول رسول الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل دقيق وجليل، في كل صغير وكبير.
أيضاً: فرسول الله صلى الله عليه وسلم جيَّش الجيوش وجعل عليها أسامة ليرد على الروم، بل وجعل أسامة -انتصاراً لأبيه زيد رضي الله عنه وأرضاه- أميراً على هذا الجيش وهو لم يبلغ العشرين من عمره، فقام عمر بن الخطاب وقام المهاجرون والأنصار يقولون لـعمر : كيف يؤمر هذا الصبي على هذا الجيش العرمرم، فقال عمر نكلم أبا بكر ألا ينفذ جيش أسامة، فقال أبو بكر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفع لواء الجيش، فوالله! لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذت جيش أسامة؛ وهذا لأنه يرى الخير كل الخير فيما رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى الخير كل الخير في العض بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاءت الجدة تسأل أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه عن ميراثها، فقال: (لا أعرف لك في كتاب الله شيئاً، ولا أعرف في سنة النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، لكن أسأل أصحاب رسول الله، فإن كان قد أعطاك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أعطيناك إياه).
وهذا قمه الاتباع والتحري لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جهل هذه السنة، لكنه أراد أن يتعلمها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعقد مجلس الشورى، فشهد المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن رسول الله أعطى الجدة السدس، فأعطاها أبو بكر السدس، تحرياً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فكانت سنة النبي أوفق له من سنة أبي بكر، مع أن سنة أبي بكر سنة متبعة، لكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أريح لقلب عمر بن الخطاب فقال: هو في هؤلاء الستة ولم يستخلف صراحة.
وأيضاً عمر بن الخطاب لما سئل عن الجنين في بطن أمه يقتل خطأ فما فيه من دية؟ فما كان عمر يعلم، فعقد مجلس الشورى حتى قالوا له: إن رسول الله حكم في الجنين بغرة، فأخذ به وحكم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فهؤلاء قوم تحروا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسيرون يميناً ولا يساراً، ولا يتقدمون ولا يتأخرون إلا بسنة، عملاً بقول الثوري ، ولنعم ما قال الثوري ولنكتب في صدورنا هذا القول بماء الذهب: لا تحك رأسك إلا بأثر.
قال: أتحرى، ولا أتحرى إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أتكلم برأيي في هذه المسألة، فكانت السنة في المسألة حديث فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري : أنه مات عنها زوجها، فأمرها -هنا وجه الشاهد- رسول الله أن تعتد في بيتها، فأبلغ محمد بن مسلمة عثمان بن عفان ، فقال: أحكم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا غرو ولا عجب، فإن هؤلاء القوم يعلمون أن النجاة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال السيوطي : علمنا أن النجاة في التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فالهلاك كل الهلاك في التمسك بأقوال الفقهاء والضرب بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عرض الحائط.
أما موقف علي بن أبي طالب فهو عندما قال عثمان : لا متعة في الحج، يعني: لا تعتمر ثم تحل ثم تحرم بعد ذلك بالحج، فقال علي بن أبي طالب أمام البشر أجمعين، وهذه الحالة لها تأويل؛ لأن المفروض أن تنصح ولاة الأمور إذا أردت أن تنصحهم سراً أو بالكتابة لا علناً، لكن علياً بن أبي طالب له الوجاهة أمام الناس، وهو يعظم سنة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يعظمونها كما يعظمون عثمان بن عفان ، فقام في منى أمام الناس جميعاً، وقال: لا والله لا أترك سنة رسول الله لقول أحد كائناً من كان، ولو كان أمير المؤمنين، ولو كان عثمان ذا النورين.
فقال: لبيك اللهم بعمرة متمتعاً بها إلى الحج، عملاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سب علي بن أبي طالب ابن عباس ، وأغلظ له في القول، فإن ابن عباس كان يقول بالمتعة للمضطر، ويفتي بها للمضطرين، فقام علي بن أبي طالب فقال لـابن عباس : إنك رجل تائه، أمام البشر، يقول ذلك في ابن عباس حبر الأمة، وبحر العلوم والتفسير، لكن علياً بن أبي طالب جعل الفاصل بينه وبين ابن عباس ليست الخلافة، ولا لأنه أمير المؤمنين، لكنه يلقمه الحجر بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال علي بن أبي طالب : يا ابن عباس ! إنك رجل تائه، إن رسول الله قد حرم زواج المتعة. وهذا الذي فعله عبد الله بن الزبير أمام الملأ لما كان أميراً على مكة في خلافته لما بويع، فقد قال: وانظروا إلى الشدة من أجل الحفاظ على السنة، لتعلموا عظم حق سنة النبي صلى الله عليه وسلم عليكم، قام خطيباً في الناس، فقال: ما لي أرى أقواماً قد أعمى الله بصيرتهم كما أعمى أبصارهم، وكان ابن عباس قد عمي في آخر حياته، فقال له ابن عباس : ما لي أراك جلفاً أعرابياً غليظاً، فقال له ابن الزبير : افعلها إن شئت وسترى كيف أرجمك أمام الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم المتعة، فكيف تفتي أنت فتوى خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ انظروا كيف تكون الشدة والغلظة من أجل الحفاظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي اعتبر به الذهبي وكثير من المحققين في شدة مسلم على البخاري في مسألة المعاصرة؛ لأن مسألة المعاصرة ومسألة اللقيا حصل بينهما تفريق عند بعض العلماء، فاشتد مسلم جداً في مقدمة صحيحه على البخاري وعلى علي بن المديني لِم يقولون باللقيا ويتركون المعاصرة؟
فالعلماء قالوا: اشتد مسلم على البخاري مع أن البخاري شيخه بل هو أجل شيوخه.
قال الذهبي : وكان في مسلم حدة، فاحتد على البخاري ، حتى إنه لم يروِ له رواية واحدة في صحيحه.
قالوا: ويعتذر لـمسلم أنه أراد الحفاظ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان البخاري جبل الحفظ، وأمير المؤمنين في الحديث، وله المنة عليه بأن علمه علل الحديث، مع ذلك حفاظاً على السنة يقول صراحة كما قال ابن القيم : شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه.
وفي بعض الروايات: أن ابن عمر لم يكلم ابنه هذا إلى أن مات، حفاظاً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر : لعنة الله عليك، أقول لك: قال رسول الله، وتقول: نمنعهن.
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يروي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يتوضأ مما مست منه النار)، فقام ابن عباس فزعاً فقال: أنتوضأ من الحميم.
الآن: لو جاء الماء الساخن على جسدي أو شربت ماءاً ساخناً أتوضأ منه؟ أنتوضأ من الحميم؟ قال أبو هريرة : وهو أروى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن النجاة في سنة النبي، قال: يا ابن أخي! إذا رويت لك حديثاً عن النبي فلا تضرب له الأمثال. ولا تدخل عقلك بحال من الأحوال، بل قل: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
إن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم على قول أي أحد، وابن عمر حدث له نفس الأمر في مسألة المتعة، فقد راجعوه بعدما قال بها، وقالوا: إن عمر يخالفك ويقول بعدم المتعة، فقال: أمرنا باتباع النبي وما أمرنا باتباع عمر ، يعني: عند المخالفة.
فقالوا لـابن مسعود : يا أبا عبد الرحمن قد أفتى أبو موسى بكذا، قال أقول بقوله؟ قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين.
انظروا إلى شدة الإنكار على أبي موسى ، قال ابن مسعود : بل أحكم فيها بما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي للأخت تعصيباً.
ولذلك لما تعامل الصحابة مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التعامل العظيم، وحافظوا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم اقتدى بهم من جاء وراءهم، فاقتدى بهم التابعون وفعلوا ذلك.
قال: حجة واحدة هي حجة الوداع وأحرم من ذي الحليفة.
فقال رجل: أأحرم من بيتي أم من قبل ذي الحليفة؟
قال: لا تفعل.
قال: لم لا أفعل؟
قال: ترى نفسك فعلت أمراً قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أخشى عليك الفتنة.
قال: وما الفتنة؟
قال: قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، فلذلك نهاه أن يفعل فعلة يرى فيها أنه قد تقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك قال ابن عبد البر في مسألة الصرف التي خالف فيها ابن عباس وقال بجواز ربا الفضل، قال ابن عبد البر : لا حجة لـابن عباس ، بل لا حجة لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقول رسول الله يقدم على قول كل أحد.
قول النبي صلى الله عليه وسلم (وهل ترك لنا عقيل من دار)؛ لأن عقيلاً كان كافراً آنذاك وورث أباه أبا طالب ، وأخذ وامتلك هذه الدور ثم باعها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم مقراً لبيع عقيل : وهل ترك عقيل من دار، أو من ديار؟ فقال له إسحاق بن راهويه : حدثني فلان عن فلان عن فلان عن عائشة : أنها ما كانت ترى ذلك، يعني: لا ترى سكن مكة، ولا ترى أن مكة تمتلك.
ولو قلنا بهذا القول الآن، لقلنا: إن كل هذه القصور التي تدور حول مكة لا يجوز أن يأخذوا عليها فلساً، وعليه فإنك إذا ذهبت أكبر وأعظم قصر وجلست فيه فستقول: الأجرة حرام هنا؛ فقد حرمت دور مكة أن تمتلك، وهذا قول الحنابلة، وعلماء الحجاز حنابلة خالفوا جميعاً عن بكرة أبيهم؛ لأنهم قالوا: ديار مكة لا تمتلك. فقال إسحاق : رأيت عائشة تذهب إلى هذا، وحدثني فلان عن فلان عن فلان عن أبي الزبير أو قال عن ابن الزبير : أنه ما كان يرى ذلك، وحدثني فلان عن فلان عن فلان عن ابن عباس : أنه كان لا يرى ذلك، فقال له الشافعي مؤدباً: من أنت؟ فقال: إسحاق بن راهويه، قال: أنت فقيه خراسان؟ قال: يزعمون ذلك -الكلام هذا في كتب التراجم- فقال له مؤدباً: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنه، أقول لك: قال رسول الله! وتقول: قالت عائشة، وقال ابن الزبير ، لا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق لهم أن يلقبوا الشافعي بناصر السنة، ولذلك لما كان جالساً في مجلسه ودخل السائل يسأله، ويقول: يا إمام! هذه المسألة ما تقول فيها؟ فقال مجيباً أحد طلبة الشافعي قال: قال فيها رسول الله كذا، فقال له: يا إمام! وانظروا فالجهلة في كل العصور متوافرون بفضل الله! تقول له: قال رسول الله! فيقول: لكن الشيخ قال كذا، فلا يمكن أن يترك قول الشيخ بحال من الأحوال؛ فقال: يا شافعي! تقول بهذا القول؟ فقال الشافعي : ولنعم ما قال، قال: أرأيتني خرجت من كنيسة، أرأيت في وجهي زناراً، ما لي لا أقول بقول رسول الله! يقول لك قال رسول الله! فكيف لا أقول بما قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولنعم ما قال الشافعي ، ولنعم ما نصر به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فحق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة حق عظيم.
ولقد أردت أن أقدم هذه المقدمة بين يدي الصارم المسلول على شاتم الرسول لتعرفوا عظم حق النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أن حق النبي صلى الله عليه وسلم هضم من بعد قرون الخيرية الثلاثة إلى يومنا هذا، فإن الناس الآن لا يعظمون رسول الله ولا يوقرونه؛ لأنهم لا يعظمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يحاربون من يتقدم بين يدي شيوخهم فلا تكاد تجد أحداً يقول: لا آخذ إلا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
أردت أن أقدم هذه المقدمة لأبين عظم حق شريعة الله جل في علاه، وعظم حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم حق سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكتاب -كما قلت- له مختصران:
فقد اختصره الدكتور صلاح الصاوي ، واختصره أيضاً البعلي الحنبلي ، لكن اختصار البعلي أوفر حظاً وأدق من اختصار الدكتور صلاح ، وقد حظيت والحمد لله بهذه النسخة، وأصل الكتاب أكبر من ذلك، وشيخ الإسلام ابن تيمية سنقدم له مقدمة نبين فيها حقه علينا.
فقد كان في المسألة الواحدة يأتي بحوالي خمسة عشر آية، أو بسبع آيات، وبكل الأحاديث التي تخص هذه المسألة، فجاء البعلي فهذب هذه المسائل، ويأتينا مثلاً في المسألة الواحدة بحجج ثلاث من الكتاب ومن السنة؛ حتى يختصر على طلبة العلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر