معاشر المؤمنين: معاشر المتقين .. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله.. اتقوا الله تعالى حق التقوى فلا نجاة إلا بها قولاً وعملاً ومعاملة وظاهراً وباطناً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أيها الأحبة في الله.. يخطئ كثير من المثقفين ويخطئ كثير من العوام في إصدار الأحكام وتكوين التصورات حول كثير من القضايا والمتغيرات والأحداث التي هي صورة طبيعية من صور السنن الاجتماعي، ومصدر الخطأ عند كثير من الناس في تصوراتهم وأحكامهم، مصدر خطئهم هذا أنهم يقيسون الأمور بعضها على بعض قياساً متنافراً أو قياساً مع الفوارق، أو قياس أمور لا يصح أن يقاس بعضها على بعض، فترى الكثير منهم يقيس الصريح على المؤول والمؤتلف على المختلف، والمحكم على المتشابه، وكل هذه من الأقيسة الفاسدة، أولئك الذين يلوون أعناق النصوص ويجرون التصورات والأفكار إلى قياس فاسد، وتطبيق وقائع داخلية على أحداث خارجية هم الذين ينشرون في أذهان كافة أفراد المجتمع تصوراً وأفكاراً كلها إرجاف وتثبيط وتخويف.
معاشر المؤمنين.. إن ما نراه من جهود علمائنا ودعاتنا، وولاة أمرنا، ينبغي أن نحرص على أن نجعل الهدف والغاية منه هو قصد الإصلاح، وقصد توجيه المجتمع إلى ما فيه كل خير، وما شذ أو خرج عن هذا القصد فلا حرج أن يقيم ويقوم، وأن يركز ويوجه ما دامت غاية الجميع الصغير والكبير والرفيع والوضيع والمسئول وغير المسئول، ما دامت الغاية هي إصلاح المجتمع والإبحار بسفينته إلى شاطئ الأمان وبر النجاة، يقول الله جل وعلا على شأن ذلك النبي الصالح الذي تناوشته ألسنة قومه بالتجريح، وتناولته أبصارهم حتى كادوا أن يزلقوه بها: يقول على لسانه: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] والمصلح شأنه وغاية همه وتقييم سعيه إنما هو بهدفه، ذلك الهدف النبيل المنبعث من الإخلاص ومن صميم الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم).
وما دام الأمر كذلك فكل سعي يراد به الإصلاح فمحله المُقَل، ومكانه الرءوس، وخطابه يلقى أسماعاً صاغية وأفئدة مستجيبة متأثرة، هكذا ينبغي أن يقابل خطاب الإصلاح، وهكذا ينبغي أن يستمع إلى خطاب المصلحين الغيورين، إن الله جل وعلا يقول في محكم كتابه: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ [النساء:114] والنجوى قد نهي عنها إلا بأحوال وشروط، ومع ذلك فالله جل وعلا يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] فالمصلح قد يسلك هذا الطريق، وقد يسلك غيره من أجل المسارعة في إنقاذ المجتمع وإنقاذ أبنائه وبذل ما في وسعه من جهد وتضحية بكل ما يملك، حتى لا تهوي السفينة في بحار الظلمات.
من أجل هذا -يا عباد الله- لما قيست هذه الأمور قياساً فاسداً أنتج ذلك تخويفاً، وأنتج ذلك إرجافاً، وأنتج ذلك شعوراً مخيفاً عند عند بعض الناس؛ والسبب في ذلك: هو ذلك القياس الفاسد، فما أن يرى جماعة من الدعاة أو يرى مجموعة من المصلحين يتبادر إلى ذهنه أن هؤلاء مثل أولئك الذين في تلك البلد الفلانية، ولست هنا أريد أن أطعن في الدعاة خارج هذه البلاد، ومعاذ الله أن تكون المنابر منزلاً أو مكاناً للطعن في الدعاة، بل إن المنابر من مهماتها الدعاء لهم، وسؤال الله أن يسدد خطاهم وأن يحقن دماءهم وأن يفك أسراهم، وأن يجبر كسيرهم، وأن يهدي ضالهم، وأن يجمع شملهم.
ليس الحديث هنا مقصود به تجريح الدعاة هناك، ولكن الذي نريد أن نبينه هو ألا يقاس أمر في الخارج على أمر في الداخل، لماذا؟ لأن أولئك ونحن بيننا وبين أوضاعهم الفرق الواسع والبون الشاسع الذي لا يمكن معه قياس أحوالهم على أحوالنا، نحن في بلد مسلمة، نحن في دولة مسلمة، نحن في حكومة مسلمة، ندين الله جل وعلا بهذا، ونلقى الله به ولا ننـزع يداً من طاعة، ونعتقد ما يعتقده أهل السنة والجماعة، ومن معتقدهم: أنهم يرون الجهاد وإقامة الصلوات والجمعة والأعياد مع الأئمة أبراراً كانوا أم فجاراً .. هذا هو معتقد أهل السنة، وهذا معتقد أئمة الدعوة، وهذا معتقدنا، وعليه قام الأمر، واستتب الحكم، ومضت شئون الأمة.
وإذا صرخت بوجه من أحببتهم فلكي يعيش الحب والأحباب |
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأبدان بالعلل |
ويبقى الود ما بقي العتاب |
إن العتاب والنصيحة والخطاب، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مجتمع كفار قريش يتلقفون الأفواه، ويتلقفون الزلة ويتلقفون الخطأ من صحابته، أو من سلوكه صلى الله عليه وسلم، وحاشاه وهو المعصوم ولكن بتفسيرهم الخاطئ، ومع ذلك إن الله جل وعلا لم يقل هذا نبي، ولا يمكن أن ينزل قرآن يتلى إلى يوم القيامة فيه العتاب للنبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تستغله قريش، ويستغله الأكاسرة والقياصرة فسكت عن عتابه صلى الله عليه وسلم، بل ورد العتاب وجاء الخطاب بألذ صوره! بألذ أساليبه وألين عباراته! قال الله جل وعلا يعاتب نبيه: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة:43] وهذا من ألذ وألين أساليب العتاب، فبشره بالعفو وبشره بالمغفرة قبل العتاب معه في شأن أسرى بدر : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة:43].
ويقول الله جل وعلا معاتباً الصحابة: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152] ويقول الله جل وعلا: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] خطاب من الله لصحابة رسول الله، ولم يكن سبباً في منع نزول هذا الخطاب أو لم يمتنع أن تنزل هذه الآيات التي فيها خطاب العتاب على الرسول والصحابة حتى لا تقول قريش أو يقول الكفار أو يقول المرجفون: إن الله عاتب نبيه أو عاتب أصحاب نبيه، بل جاء الخطاب وجاء العتاب: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس:1-10] كلها آيات مليئة بألين العتاب وأجمل الخطاب! وكله صواب من كلام رب الأرباب جل وعلا.
ومع ذلك لم يمتنع أن تنزل هذه الآيات خشية أن يقال على الرسول أو على صحابته: إن هذا مما يرجف بالصحابة أو مما يضر بمجتمع الدولة الإسلامية في المدينة، ما دام الأمر كذلك -أيها الأحبة- فلنعود أنفسنا على سماع كلمة الحق مع وضوح منهجنا.
إن الذين يقيسون مجتمعنا هنا على المجتمعات الخارجية قياسهم فاسد، ومن أفسد التصور أفسد الحكم والعمل، وما دامت تلك البلاد في مجتمعات أحوالها إما كافرة أو جاهلية أو ظلمات بعضها فوق بعض، فإننا ندين الله ونعتقد بأن هذا المجتمع مجتمع مسلم، ولا يعني المجتمع المسلم ألا توجد فيه خطيئة، ولا يعني المجتمع المسلم ألا توجد فيه معصية، وليس بالضرورة ألا يوجد في المجتمع المسلم منافقون.
فيا معاشر المؤمنين.. ينبغي أن نفهم جيداً أننا في مجتمع يختلف عن سائر المجتمعات، وهذا المجتمع من أول خصائصه أن العالم الإسلامي ينظر إليه نظرة تختلف عن النظرة لسائر الدول والبلدان، إذا قلنا: المملكة العربية السعودية هل سيتبادر إلى أذهان السامعين المجوسية؟ أو النصرانية؟ أو اليهودية؟ أو يتبادر إلى أذهان الناس القاديانية والباباوية والنصيرية والدرزية ..؟ لا. لا يمكن أن يتبادر إلى ذهن من سمع اسم هذا البلاد إلا دين الإسلام، وإذا ذكر الإسلام فأول بلاد تتبادر إلى الذهن هي هذه البلاد، وليس غروراً ولا إطراءً ولا إسرافاً في المديح، إن الإسلام والبلاد هذه وجهان لعملة واحدة، إن الإسلام وهذه البلاد هما وجهان لعملة واحدة، ولا يعني ذلك سلامة مجتمعنا من الأخطاء والنقائص أو انعدام وجود المنافقين في المجتمع، فهذه أمور قد وجدت في عصور الخلافات الراشدة، وفي عهد النبوة صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وفي سائر عصور التاريخ.
إذاً فما واجبنا؟ واجبنا أن نبدأ بكل صدق وبكل حق لإصلاح مجتمعنا، نحن في بيت قد أسس بنيانه وأقيمت أركانه واستتب نظامه، فما شأننا إلا أن نصلح الخلل في نوافذه، وأن نصحح الخلل في أبوابه، وأن نتتبع ثغرات النقص في جوانبه، هذه صرخات الدعاة، وصرخات المصلحين، وهذه صرخات الغيورين التي فسرها الفجار وفسرها الفساق بأن وراءها ما وراءها، وبأنها تريد الضلالة وتريد الفساد، وتريد أن ينفرط نظام عقد هذا المجتمع أو أن تنقلب طمأنينته قلقاً وفزعاً.. لا والله، ما هكذا شأن الدعاة، ولا شأن الأبرار، وما هكذا شأن الأخيار، مع أننا وفي قرارة علمنا أن هذا لم يدر بخلد أحد إلا بخلد المنافقين.
المرجفون منهجهم في هذه المسألة وإمامهم في هذا المنهج هو منهج الشيطان، ما يرون من خير إلا ويفسر بضده، ويفسر بأسوأ التفسير والاعتبار، وإذا ظهر في المجتمع ضلالة أو بداية انحراف أو جنوح إلى الفساد والغواية أو تخللاً ودخولاً في قلب أبناء المجتمع وفي جسده الذي هو يصارع أنواع العدوى الوافدة والمستوردة والمحلية، إذا رأى الغيورون فساداً حل بالمجتمع ماذا يقولون؟ لماذا تفسرون الأمور تفسيراً عكسياً؟ لماذا أنتم -أيها الدعاة- تفسرون الأمور تفسيراً عكسياً؟ لماذا لا يظن بالدعاة إلا فساد الأمور؟ لماذا لا يظن بالدعاة إلا كل تصور فاسد... قد قيل هذا على ألسنة كثير من المخدوعين أو الجاهلين أو المغرضين، لما ظهرت دعوات مستوردة ووافدة تدعو إلى اختلاط المرأة بالرجل، ماذا قالوا يوم أن وقف الدعاة ووقف الأخيار والمخلصون أمام هذه الدعوات؟
يقول العلمانيون وأذنابهم: لماذا أنتم -يا معاشر الدعاة- لا تفسرون الأمور إلا بكل فاحشة، وبكل رذيلة وبكل فساد؟ ونقول لهم أيضاً، نقول للمرجفين: لماذا تفسرون كل خطوة وكل صرخة وكل تضحية بغال ونفيس من أجل إصلاح المجتمع، مع اعتقاد كاعتقادنا بأهم شئون ديننا أن مجتمعنا مسلم، نقول لهم: لماذا تفسرون هذه الاتجاهات الإصلاحية والدعوات نحو الإصلاح بإثارة الفزع والقلاقل والفتن وتقليب شأن المجتمع بعد طمأنينته؟
نعم. نرد عليهم في باب مقام خطابهم بمثله، وإلا فالحجة فوق رءوسهم دامغة، والحق أبلج والباطل لجلج. وحسبنا -يا معاشر المسلمين والمؤمنين- أننا نؤمن بسلامة موقف كل أبناء هذه الأمة في اتجاهها لعقيدتها ودينها، واقتدائها بنهج نبيها في شتى مجالات حياتها.
أما أولئك فيؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، نعم. يريدون الدين في جانب ولكن لا حاجة إلى الدين في جانب آخر، لا تقال صراحة وإنما مغلفة مزيفة، أولئك ليسوا من أهل هذه البلاد، ليسوا من أهل هذا المجتمع، إلا أن يدينوا بما يدين به المؤمنون لله بأن الحكم لله: أَلا لَهُ الْحُكْمُ [الأنعام:62].. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40] إلا أن يدينوا بهذه في كل صغيرة وكبيرة.
الداعية من السلف الصالح يقول: قطعوا جسمي بالمقاريض -أي: بالمقص- قطعة قطعة في سبيل أن يعود الناس إلى الله، والإمام العابد المجاهد/ عبد الله بن المبارك يقول: وددت أني أكون فداءً لأمة محمد.
ووالله إن الدعاة والمخلصين يودون أن يكونوا فداءً لهذه الأمة في سلامة دينها ونقاء عقائدها، واجتماع شملها ووحدة صفها واجتماع كلمتها، ولو كانوا هم الفداء بذلك، ولكن كما قال القائل:
نسجت لكم غزلاً رفيعاً فلم أجد لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي |
بعض الناس لا يرى إلا أن كل صيحة وكل كلمة وكل صرخة وراءها ما وراءها، ووراء الأكمة ما وراءها، إنا لا نعني بذلك أن تعطل العقول، ولا أن نلغي سبر الأقوال والمقاصد والكلمات، ولكن ما أسر عبد سريرة إلا أظهرها الله على لمحات وجهه وفلتات لسانه، إنك لترى وتفرق بين خطاب المخلصين والمنافقين، وتفرق بين الذين يدّعون حقيقة الإخلاص دعوى زور وبين الذين هم يمثلون حقيقة الإخلاص لهذه الأمة.
فلو قبل مبكاها بكيت صبابـة بسعدى شفيت النفس قبل التكلم |
ولكن بكت قبلي فهيج للبكا بكاها فقلت الفضل للمتقدم |
ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، نعم. إن الدعاة حينما يذرف أحدهم دمعة خرجت من قلبه قبل أن تخرج من عينه، وحينما يقول كلمة تلجلجت في صدره وتفاعلت في سويداء فؤاده قبل أن تخرج على لسانه، أما أولئك الذين يريدون بالكلمات أي مصلحة من مصالح الدنيا فنقول لنا ولهم ولأنفسنا ولغيرنا: سيجمع الله الأولين والآخرين في مقام واحد، ويقول سبحانه: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8] حتى الصدق أنت مسئول عن الصدق فيه: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8] وسينكشف غداً الذين كانوا على حقيقة الإخلاص والولاء لله ولرسوله ولكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم، سينكشف أولئك وينكشف الذين يدّعون هذا.
ولست هنا أفرق مجتمعنا لكني أقول: إن المجتمع لا يخلو من المنافقين، لا يخلو من المرجفين، لا يخلو من المثبطين الذين منهجهم عدة الشيطان الأمر بالفحشاء والتخويف من الفقر.
نسأل الله أن يحفظنا وأن يجمع شملنا وشمل ولاة أمرنا وحكامنا وعلمائنا على ما يرضيه، إنه سميع مجيب.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله.. اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله.. إن الدعاة إلى الله، إن الآمرين بالمعروف، إن الناهين عن المنكر، من فرط غيرتهم على دينهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم وعلمائهم وولاة أمرهم وعامة المسلمين أجمعين، صغيرهم وكبيرهم، صالحهم وفاسقهم طالحهم وبرهم، إن أولئك من فرط غيرتهم على المجتمع تجد الواحد منهم يحترق ليل نهار، ويسعى ذهاباً وإياباً، ويصبح ويمسي ويحل ويرتحل، يستبشر بشارة عظيمة، يوم أن يرى ضالاً هداه الله، أو منحرفاً عاد إلى المسجد، أو عاقاً بر بوالديه، أو قاطعاً وصل رحمه، أو مجرماً تاب وآب إلى الله جل وعلا، أما أعداء الدين وأعداء الأمة وأعداء المجتمع فيفرحون بما نشر من الفساد وشاع من الفاحشة في المجتمع، فأي هذين أحب إلى القلوب؟ إن قلوب البهائم ليست قلوب البشر تميل مع من أحسن إليها وداوى جراحها، وجبر كسورها وأصلح شأنها وأطعمها نصيحة صادقة، وسقاها وداً خالصاً، أما الذين يدعون الإخلاص دعوى لا حقيقة لها، فإن ابتسمت الوجوه أمامهم ابتسامة صفراء أو هزت الرءوس أمامهم هز المنافقة والمداهنة، فليس أولئك لهم مكان في قلوب الناس.
حينما نتكلم عن إصلاح البنوك أو عن التخلص من الربا، لا يعني ذلك أن ينتهي الربا في يوم وليلة، وإن كنا نسأل الله صباح مساء ألا يبقي للربا بقية في دينار ولا درهم، لكن التدرج أمر طبيعي مطلوب، وكذلك في إصلاح الإعلام، أو في إصلاح التعليم أو في إصلاح كثير من المجالات، واضرب لما شئت من كل مثل تصل به إلى فائدة التدرج حتى في إصلاح الفرد، إنك يوم أن تدعو شاباً وهو لم يرتبط بأجهزة ولا بمؤسسات ولا بدوائر عدة، لا يعقل أن تبدأ في إصلاحه في أموره كلها، أو أن تبدأ بصغير ذنوبه قبل أن تلاحظ كبيرها، فخذ على سبيل المثال رجلاً لا يصلي ويدخن ويسبل ويسمع الغناء ويشرب المسكرات، فهل من العقل أن تبدأ بإصلاح إسبال ثوبه أو بتوفير لحيته؟ هذا جنون، تبدأ فيه بأن يصلي مع المسلمين، بأن يحضر الصلاة مع الجماعة، ثم تبدأ به في إصلاح كثير من أحواله، ثم يأتي الحديث عن تدخينه ويأتي الحديث عن سماع الأغاني واللهو، ويأتي الحديث عن شربه للدخان بعد حديثه عن المسكرات وغيرها.
إن الدعاة ليسوا أغبياء، ويفهمون أمور التدرج فهماً طبيعياً، وأيضاً خطابهم مع كل فرد في إصلاحه بأن يتدرج، وليس بالضرورة إما أن نصر على عشرة ذنوب أو أن نقلع عنها فوراً، نعم. نتمنى ونود ونشتهي وندعو أن يتوب العبد من كل ذنب في ساعة واحدة، وأن يعود إلى الله جل وعلا عوداً سريعاً حميداً، ولكن -يا معاشر المسلمين- إذا لم يتحقق ذلك إما أن نقول: تب منها جميعاً أو ابق عليها جميعاً.. لا. فلئن قال: أتوب من خمسة وأسأل الله الذي فتح علي بالتوبة من الخمسة أن يتوب علي في ما بقي منها.. فهذا أمر مطلوب، وهذا أمر مشروع، وهذا أمر مقبول، الذي أردناه أن نفهم أننا لن نفرط بمجتمعنا، ولن نتساهل بأمر مجتمعنا، وسنظل نصرخ ونتكلم ونقول ما نعتقد أنه يرضي الله جل وعلا، وتبرأ به الذمة نصيحة لولاة الأمر ولعامة المسلمين وإلا فستشهد المنابر علينا يوم القيامة أننا ارتقيناها فداهنا ونافقنا فيها، ستحاسبنا المنابر يوم القيامة أننا وقفنا عليها ولم نؤدِ صميم الكلمة بصدق وإخلاص إلى عامة المسلمين وصغيرهم وكبيرهم.
فيا معاشر المؤمنين.. هذا تعقيب على الجمعة الماضية يوم أن نقول: إن الإسلام قد أمرنا بأن نتحمل مسئولياتنا، ومن أهم مسئولياتنا المحافظة على المرأة حتى لا تقع في التفلت والتسيب، وإن جوانب التفلت والتسيب قد تبدو موجودة في بعض الثغرات الموجودة، في بعض المجالات الموجودة فإنها دعوة إلى الإصلاح، دعوة إلى أن نمضي خطوة إلى الأمام، ولأن نوقد شمعة في الظلام خير من أن نلعن الظلام ألف مرة، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.. هذا لمن جمع الهمة وعزم القصد وأخلص النصيحة للمسلمين أجمعين.
اللهم لا تفرق جمعنا، اللهم لا تشتت شملنا، اللهم لا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً.
لم جمع الله لنا هذا كله؟ أمن المعقول أن نتساهل بهذا الخير، الذي نعرف أن سببه هو دين الله جل وعلا، الذي نعرف أن سببه هو التمسك بالعقيدة، الذي نعرف أن سببه إقامة الصلوات في المساجد، الذي نعرف أن سببه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل سوق وفي كل طريق، تلك الشعيرة والركن العظيم الذي لم يسلم من ألسنة الناس في المجالس، ولم يسلم من افتراءات الكذبة واختلاف المزيفين، تجد كل يفتري ويؤلف ويختلق فسقة يتفكه بها ويتندر بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وما علم أولئك السفلة وأولئك الجهلة الذين يتندرون بالهيئات والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ما علموا أن أمنهم في بيوتهم، وأن الناقلات التي تجلب خيرات البلدان إلى أسواقهم وأن حدودهم الآمنة، وأن استتباب الأمن في مجتمعهم إنما هو بأسباب من أهمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ [هود:116].
المترفون والفاسقون والمنافقون يتبعون ملذات الانحراف، ولتهلك السفينة، وليهلك المجتمع، وليهلك كل من في المجتمع من أجل غانية لا توقف في السوق، ومن أجل فاجر لا يساءل حينما يشتبه فيه، هكذا يريدون: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116-117].
تذكروا دائماً: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] وتذكروا دائماً أن البلدان التي تشتعل فيها الحروب الآن، ويشكو أصحابها من المجاعات ويتضوعون من الأسى والعطش، ويتقلبون في الكهوف من البرد والزمهرير، كانوا يوماً مثل حالكم هذه، كانت الأمم قبلكم فيما أنتم فيه الآن، من كل خير يجبى إليهم ثمرات الدول إلى أسواقهم، والآن غيروا فغير الله عليهم، غيروا أحوالهم فغير عليهم من الأمن إلى الخوف، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الاجتماع إلى التشرد.
هكذا فلنكن غيورين على هذه النعمة، أليس عندكم أطفال؟ أما عندكم بنيات صغيرات؟ تمشي البنية في ثوبها فتتعثر وتسقط؟ أليس عندك ولد صغير يغاغي بأبيه وأمه حينما يلقاك قادماً من عملك؟ أما تخشى الله في هذا الطفل؟ أما تخشى الله في بنيتك؟ أما تخشى الله في أخواتك وإخوانك: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9] والله إني لأجلس أحياناً فيمر أولادي أمامي الصغار هذا يحبو وهذا يمشي ويتعثر وهذه تبكي فآتي إلى الصغير وأضمه، وإلى الذي يحبو فأشمه، وإلى الذي يرضع فأعطيه حليبه، وأقول: ها أنا اليوم عندهم، قد بكوا فدنوت لأعالج جراحهم، قد بكوا فدنوت لأسكت بكاءهم، لكن يا ترى ما ذا يخبئ المستقبل..؟ ماذا يخبئ المستقبل؟
والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب |
يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً |
نعم.. نعد شيئاً واحداً يحفظ هؤلاء الأطفال الصغار ويحفظنا ونشكر به نعم ربنا: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9] إن نتق الله جل وعلا، وتقوى الله هي خير ضمان لهؤلاء الأطفال الذين نراهم، إياك أن تفكر فقط بنفسك، فكر بالجيل الذي بعدك، تصور حال أبنائك وأبناء أبناك وأطفالك وأحفادك، تصور حالهم هل يدومون على هذه النعم التي أنت فيها؟ فإن أردت ذلك لهم فكن غيوراً على دين الله، حتى يتفيئوا النعم التي تنعمت بظلالها وأرضها وسمائها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه،واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم لا تفرّح علينا عدواً، اللهم لا تشمت بنا حاسداً، اللهم اجمع شملنا في هذه البلاد، اللهم اجمع شملنا في هذه البلاد خاصة، اللهم اجمع شملنا في هذه البلاد خاصة وحكامنا وعلماءنا وولاة أمرنا، اللهم اهدهم، اللهم اهدهم، اللهم اهدهم، اللهم أصلح قلوبهم، اللهم قرب من علمت فيه خيراً لهم، وأبعد عنهم من علمت فيه شراً لهم، اللهم قرب لهم من يبشرهم بالخير ولا يخوفهم منه، اللهم قرب لهم من يعينهم على الخير ولا يعينهم على ضده، اللهم قرب لهم من يعينهم على ما يرضيك يا رب العالمين.
اللهم اهد شباب المسلمين ونساء المسلمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم لا تحرمنا بذنوبنا فضلك، اللهم لا تحجب عنا بمعاصينا رحمتك، اللهم إن كثرت ذنوبنا فإن فضلك أكثر، وإن كثرت معاصينا فإن رحمتك أكبر، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم إن بالعباد والبهائم والبلاد من الجوع والعطش واللاؤاء ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم اكشفه عنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر