يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة في النار.
إنَّ من القواعد الفقهية قاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، أو كما قيل: القديم يترك على قدمه.
والمعنى العام لهذه القاعدة العظيمة: أن ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد بديل على خلافه، يعني: إذا ثبت بزمان في وقت معين أمر معين، فهذا لا يمكن أن يتغير عما هو عليه إلا إذا طرأ عليه طارئ أو دل الدليل، وهذا يسمى عند الأصوليين استصحاب الأصل، وهناك معترك دام بينهم، هل استصحاب الأصل يكون دليلاً أم لا؟ والصحيح الراجح: أنه دليل.
إن هذه القاعدة -أي: أن الأصل بقاء ما كان على ما كان- يتفرع منها أمور وأصول كثيرة، إذا ضبطها المرء فلا يحتاج إلى دليل معها في فعله، وكذا لا يحتاج إلى دليل في عمله بها.
قال الله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، فجعل التأصيل العام في الماء الطهورية، وأيضاً لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته).
فإذاً: كل ماء هو باق على أصل خلقته، ما لم يدل الدليل على انتقاله من هذه الأصلية، فإذا وجد مكلف ماء وغاب عنه مدة ثم رجع إليه فشك هل تغير هذا الماء أم لا؟ وهل وقع عليه طاهر أم لا؟ فإننا نقول له: الأصل بقاء ما كان على ما كان، يعني: هذا المكلف بعدما وجد الماء وشك في تغيره، وأراد أن يتوضأ ويصلي، فتوضأ وصلى، فما حكم صلاته؟ تقول: الصلاة صحيحة.
رجل شك في تغير الماء، كأن يكون وقع فيه صابون، فإننا نقول له: إن تحققت من التغيير وأن الجزئيات تتغير فلك أن تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان.
مر عمر بن الخطاب ومعه عمرو بن العاص على رجل من الأعراب فأرادا أن يذهبا إلى حوض له ليتوضأ منه، فسأله أحدهما: أترد السباع هذا الحوض؟ فقال الآخر: لا تجبه؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالحوض فيه ماء طهور، فنحن نقوله بطهوريته، حتى يدل الدليل القطعي أو غالب الظن على عدم طهوريته.
إذاً: فالأصل في المعاملات الحل، ما لم يأت دليل أو يطرأ طارئ يبين تغيير هذا الحل، أو انتقاله من هذه الأصلية.
وهذا التأصيل العام اتفق عليه العلماء؛ لقول الله تعالى: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168].
إذاً: الأصل في الذبائح الحرمة، ويستثنى من ذلك ذبائح أهل الكتاب، فلا يشكل على الاسم، ومن العلماء من قال: لا يصح أن يؤكل من ذبائح أهل الكتاب، إلا ما تأكدنا أنه ذبحه وسمى الله عليه، وهذا خطأ، فالراجح أنه يستثنى من هذا التأصيل العام ذبائح أهل الكتاب، أي: الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل؛ لقول الله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة:5] ولا يقصد بالطعام في هذه الآية إلا الذبيحة، يعني: وذبائح أهل الكتاب حل لكم، إذاً: فالتأصيل العام هنا: أن الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل.
إذاً: فالأصل في الأبضاع الحرمة، ويستثنى من ذلك إذا دخل الرجل على امرأته بنكاح صحيح، فالأصل هنا الحل لا الحرمة، فلا يمكن أن تنحل هذه العقدة إلا بطريق صحيح أو بيقين تام، ولا تستحل إلا بعقد صحيح، بولي وشهود عدول وأيضاً مع المهر، وإن لم يسم، فهذه الجزئية الثانية، ويستثنى من ذلك إذا تزوج زواجاً صحيحاً فلا يزول عقد النكاح إلا بيقين؛ لأنه أصبح اليقين أن امرأته حلال، فلا تحرم عليه إلا بيقين مثله، كأن تأتي امرأة فتقول لزوجها: أنت طلقتني، ويقول: ما طلقتك، فالأصل أن نكاحه صحيح، ولا ينزع يداً من ذلك حتى يتبين.
إذاً: فالأصل في العادات الحل، إلا ما دل الدليل على الحرمة؛ لأنها لا تخالف الشرع.
إذاً: فهذه أصول سبعة، وهي تحت هذه القاعدة العظيمة: الأصل بقاء ما كان على ما كان.
إنَّ هذه المسألة تجاذبها الاختلاف الكثير: فبعض العلماء يقولون: لا تلزمه، حيث إن عمر بن الخطاب هو الذي جعل هذا الخلاف، وذلك لمَّا كان في زمن عمر بن الخطاب إذ جاءت سحابة، فأفطروا، فلم يلزمهم بقضاء هذا اليوم، بل أمسكوا حتى سقط حاجب الشمس وأكلوا بعد ذلك.
لكنَّ عروة بن الزبير يروي حديثاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أسماء: أن السحابة غطت الشمس فأكلوا، فلم يرد تصريحاً من الحديث قضوا أم لم يقضوا، فقال عروة بن الزبير لما سألوه: قضوا، وقال: لا بد، يعني: القضاء لازم؛ لأنهم أكلوا قبل دخول الليل، وبذلك أصبح إشكالاً عظيماً بين العلماء.
ونحن لو طبقنا القاعدة الفقهية فنقول: الأصل بقاء النهار على ما كان عليه، فعليه القضاء، لكن حديث عمر بن الخطاب دليل واضح جداً على عدم القضاء، مما جعلنا نخالف ونغاير القاعدة بأنه حدث الغيم فأفطروا جميعاً، ولم يلزمهم بالقضاء، وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ما ألزموا بالقضاء.
فالصحيح الراجح في ذلك: أنه لا يقضي هذا اليوم إن كان مجتهداً، أما إن كان مقلداًلغير مجتهد أو سمع رجلاً يؤذن من غير أن ينظر إلى السماء، فهذا عليه القضاء؛ لقول الفقهاء وقول المحدثين: الأصل بقاء ما كان على ما كان.
وهناك صورة أخرى لهذه القاعدة: وهي رجل قام من الليل بعد بزوغ الفجر، وكان قد بيت النية بالصيام، فأكل وشرب، وبعد ذلك سمع رجلاً يقيم الصلاة، أما الأذان فقد ولى وفات من مدة، فماذا نقول؟ أنقول: أكمل صومك، أم قد أفطرت فأمسك ثم اقض عن نفسك هذا اليوم؟ فإذا طبقنا القاعدة نقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، إذاً: فالأصل بقاء الليل، وهذا الذي قام يأكل ويشرب إنما فعله في الليل، وهذا يعضده قول ابن عباس كل ما شككت حتى تستيقن طلوع الفجر، وهذا قد أكل وهو شاك.
فالصحيح الراجح في ذلك أن نقول له: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فعليك أن تتم صومك، حتى لو أكلت بعد الفجر.
أما الذي جعلنا نستثني من هذه القاعدة مسألة الأكل بالنهار، فهو حديث عمر بن الخطاب وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا قضاء عليه، ويدلنا على ذلك: حديث عدي بن حاتم عندما قرأ قول الله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] فأخذ خيطين أسود وأبيض تحت الوسادة، فيأكل وينظر إليها، فإن لم يفرق بينهما استمر في الأكل حتى يشبع، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبين له ذلك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن وسادك لعريض)، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد أن يسب أصحابه بهذه الطريقة، ولا يصح أن نقول ذلك ولا يظن في النبي صلى الله عليه وسلم أنه تكلم على أصحاب بدر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد بقوله: (إن وسادك لعريض)، أي: الوسادة التي أنت نائم عليها هل ستأخذ حجم السماء بأسرها؛ حيث إن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما بياض النهار من سواد الليل، فلو أن هذا الخيط الأسود غطى السماء كلها فإن وساده هذا لعريض.
وهذا هو الصحيح الراجح الذي لا نحيد عنه، ولا يصح أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يتهم عدي بن حاتم بالغباوة، حاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك مع أصحابه.
فهذا أكل بعدما طلع النهار والنبي صلى الله عليه وسلم قد أقره على ذلك طالما كان مجتهداً، فالصحيح الراجح: أنه لا بد أن نستثني هذه القاعدة، وهي أن المجتهد الذي عنده آلة الاجتهاد لا نلزمه بقضاء شيء، بحال من الأحوال، إذا أدى العبادة على غرار اجتهاده مع وجود الآلة، وقيده: وجود آلة الاجتهاد، فمع وجودها فلا قضاء عليه.
فالصحيح: أن عقد النكاح يكون صحيحاً؛ لأن الإحرام مؤقت.
ولو قلنا: إنه تزوج وأحرم، فالأصل أن يكون حلالاً وليس بحرام، ويكون النكاح صحيحاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلِّ اللهم وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر