يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار, ثم أما بعد:
إن شرعنا الحنيف يهتم بجلب المصالح، ودرء كل المفاسد وتقليلها. وإن الله جل في علاه قد خلق الإنسان وعظم شأنه، حيث يقول جل في علاه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [الإسراء:70] ومن تكريم الله لبني آدم أنه حباهم هذه الفطر السليمة والعقول السديدة، فما توافقت عليه الفطر السلمية والعقول السديدة وجرى عليه عمل الناس العقلاء فإنا نجعل عرفهم وعادتهم وما جرى على أفعالهم حاكماً يخص به العموم ويقيد به المطلق، وله في الشرع اعتبار ويعمل به, والقاعدة التي نستخدمها في ذلك هي قاعدة:
العادة محكمة، وأيضاً قاعدة: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وقاعدة: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وآخر القواعد: الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته.
إن الشريعة الإسلامية جعلت لعقول الناس وأعرافهم اعتباراً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى تميم تكلم بلغتهم أو بألسنتهم، وكان دائماً يكلم كل إنسان بما يعقله, فعادات الناس وأعرافهم معتبرة إن لم تخالف الشرع، وتكون حاكماً يخص بها العموم ويقيد بها المطلق، بل في بعض الأحايين تقدم على القياس.
العادة في اللغة: مأخوذة من العود وهو: التكرار، ومعنى محكمة: أن نجعلها حاكماً في فصل النزاع.
والمعنى العام: أن العادة هي المرجع للفصل في التنازع, ولكن هذا ليس على الإطلاق، فلا بد له من تقييد، وهو أن العادة تكون مرجعاً للفصل في التنازع إن لم نجد من الشرع الأدلة التي تفصل في النزاعات.
إذاً: العادة محكمة هي المرجع للفصل بين التنازع بشرط أن لا يكون ثمة شرع هنا.
ومعنى: العادة محكمة اصطلاحاً: أن نثبت بها حكماً شرعياً.
فالعادة: ما اعتاد الناس عليه، وتكرر منهم فعله، سواءً كانت تختص بأفراد أو جماعات.
أما العرف: فهو ما اتفق عليه الناس أو جماعات منهم, وبهذا التعريف يكون كل عرف عادة ولا عكس، والعرف عرف عام, وعادة عرفية عامة، فالعرف العام هو العرف الجاري منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا، لا يتبدل ولا يتغير، قبله المجتهدون، وخصصوا به العموم، وقيدوا به المطلق، بل قدموه على القياس في أكثر الأحايين.
فحدث نزاع بين المقعد وبين الفقيه الذي يحفظ بعض الفروع ويتكلم بها أمام الناس، فلكي يفصل النزاع لا بد من الرجوع إلى قاعدة: العادة محكمة، والنظر في عادات الناس، فإذا قال الرجل: والذي نفسي بيده لا أضع قدمي في هذه الدار، فليس معناه: أنه يجوز له أن يدخل على يديه، أو يحمل على خشبة أو غير ذلك؛ لأن عرف الناس أنه لو قال: والله لا أضع قدمي أي: لا أدخل لا محمولاً ولا على يدي، فالعلماء في هذه المسألة يقولون: إن العادة محكمة، وعليه أن يكفر عن يمينه؛ لأن المقصود: هو أن لا يدخل الدار.
ومن الأمثلة على هذه القاعدة: عقد الاستصناع، فقد أجازه الأحناف، ولهم وجهتان في جوازه:
الوجهة الأولى: أن هذا مما عمت به البلوى، كما في القاعدة في الملة السمحة: تخفيف كل ما عمت به البلوى.
والثانية: أن الناس تعارفوا عليه، ومنذ الأزل وهم يتعاملون به، فيستصنعون شيئاً ويعطون جزءًا من المال، ثم يقسطون الآخر، فطبق الأحناف في هذه المسألة قاعدة: العادة محكمة، وقالوا: إن عقد الاستصناع صحيح؛ لأنها عادة محكمة معتبرة في الشرع، فهم يرون أن الاستصناع عقد مستقل، لم يتكلم الشرع عليه بالجواز أو بالمنع، فرجعوا إلى الأصل وهو أن الناس تعارفوا عليه ولم يأت دليل يمنعه.
أما الجمهور فيرون أن عقد الاستصناع لا يعمل به؛ لأن العادة إنما يعمل بها عند فقدان الدليل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فقالوا: هذا سلم ناقص الشروط، فلا يصح أن نقول هنا: إن العادة محكمة؛ لأنها صادمت الشرع.
أما من الكتاب: فقد قال الله تعالى: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]، وقال الله تعالى -بالنسبة لما تستحقه النساء-: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] فأرجع سبحانه كل هذه المعاملات إلى العرف المعروف بين الناس.
وأما من السنة ففي الحديث الصحيح أن هند زوجة أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه قالت: يا رسول! إن أبا سفيان رجل شحيح، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
فقيد الأخذ من مال الزوج بالمعروف.
وفي الموطأ قال النبي صلى الله عليه وسلم عن المملوك: (للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف) فكأن سائلاً يسأل: يا رسول! ما النفقة التي تكفي المملوك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف).
وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم -مبيناً اعتبار العادة واعتبار ما اعتادت عليه النساء لـزينب بنت جحش : (تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام)، فأرجعها إلى ما اعتادت عليه النساء؛ لأن النساء في الحيض: امرأة مبتدئة، وامرأة معتادة أي: لها عادة تتكرر فترجع إلى هذه العادة إن استمر نزول الدم.
ومن الأمثلة الفقهية التي تبين العمل بهذه القاعدة: فتوى مالك في رجل تزوج امرأة ثم تنازعا في الصداق، فقالت المرأة: لم آخذ الصداق، وقال الرجل: قد أعطيتها صداقها، فلما سئل مالك قال: القول قول الزوج.
وإذا تأملنا فتوى مالك وجدنا أنها على خلاف الأصل؛ لأن الأصل: هو أن المرأة لم تقبض الصداق، والناقل عن هذا الأصل الصحيح هو العادة, فعادة أهل المدينة في ذلك الوقت: هي أن الرجل العاقد لا يدخل على زوجه حتى يعطيها الصداق، ومصداق ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما زوج فاطمة بـعلي بن أبي طالب وقال له: (لا تدخل عليها حتى تعطيها صداقها) ولذلك قال القاضي إسماعيل من المالكية: أفتى مالك بهذه الفتوى على غرار أن العادة محكمة، فعادة أهل المدينة أنهم لا يدخلون على النساء حتى تقبض النساء الصداق، فلذلك قال القول قول الزواج، قال: أما في هذا الزمان فقد تبدلت العادة وتغيرت، فيكون القول في هذه المسألة بالأصل، وهو أن القول قول المرأة، إلا إن يأتي الرجل ببينة أنه قد أعطاها صداقها.
ومن الأمثلة التي تبين أن العادة محكمة ولها اعتبار في الشرع: صحة بيع المعاطاه، فالأصل في البيع أن يكون عن تراض، والدليل على ذلك قول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] وهذا صريح على أن البيع لا بد أن يكون عن تراض، وقوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض) وهذا أسلوب حصر، فقوله: (إنما) حصر لصحة البيع، وأنه لا يصح بأي حال من الأحوال إلا بهذا الشرط، وهو التراضي، والتراخي عمل قلبي، والعمل القلبي لا يعرف إلا عن طريق الظاهر، ولا يُعرف ما بداخل القلب, إلا عن طريق اللسان والأفعال، ولذلك لا بد من لفظ إيجاب وقبول، فيقول المشتري: اشتري هذه السيارة بخمسة آلاف، ويقول الثاني: قبلت، أو يَقول البائع: أبيعك هذه السيارة بخمسة آلاف، ويقول المشتري: قبلت، فهذا هو الإيجاب والقبول وهو دليل التراضي.
ولكن لما ظهر في عادات الناس أنه إذا أراد المشتري شيئاً أخذه ودفع الثمن، كأن يشتري الرجل رغيفاً من الخبز فيضع النقود أمام البائع ثم يذهب، ولم تجر بينهما ألفاظ البيع من الإيجاب والقبول، فكان ذلك عادة منهم، والعادة محكمة. فالمشتري يضع المال والبائع يعلم أنه يريد الشراء، فيحصل البيع بدون لفظ الإيجاب والقبول.
ومن الأمثلة على ذلك: ما تعارف عليه الناس في ركوب سيارات الأجرة، فإن الرجل يوقف السيارة ثم يركب فيها إلى المكان الذي يريد، ولم يتفق مع السائق على أجرة معلومة، فقد اعتاد الناس أن يعطى السائق أجراً معيناً، والعادة بينهم محكمة، ولا يصح أن نقول: هذه أجرة مجهولة؛ لأن العادة بين الناس جرت بذلك، وكذلك بيع المعاطاة فإنه جائز رغم أن التراضي عمل قلبي ولا بد له من أظهار البيع باللفظ، ولكن العادة هي التي جوزت هذه المعاملة، والعادة محكمة.
ومن الأمثلة على أن العادة محكمة: أن رجلاً رأى امرأة فأعجبته، ورأى منها ما يدعوه إلى نكاحها، فتقدم لها، فقبل أبوها، فتزوجها ولم يسم لها مهراً، مع أنه من أركان العقد، فلما دخل بها سألته المهر فقال: لم أسم لك مهراً، وأعطاها عشر جنيهات وقال: هذا هو مهرك، فتنازعت معه ولم ترض بما أعطاها، فرد هذا التنازع إلى صاحب الشرع، فقال الرجل: تزوجتها على مهر -وهو يعلم أنه من أركان العقد- وقالت المرأة: تزوجني على المهر ولم يسمه، فقال صاحب الشرع: يكون للمرأة مهر مثيلاتها في الجمال والحسب والنسب؛ لأن مهر المثل هو العادة, والعادة محكمة.
أيضاً من الأمثلة التي تبين اعتبار الشرع للعادة: المرأة إذا تقدم لها الرجل ورضيت به فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن حياء المرأة البكر يمنعها من الكلام، وأن معرفة قبول المرأة للرجل هو الصمت، وقال العلماء: ومن الصمت الابتسامة كذلك، أو احمرار الوجه، أما البكاء فإن البعض قال: إن كانت الدموع حارة فهي دموع الحزن، فيدل على الرفض، وإن كانت باردة فهي دموع الفرحة ومعها يكون الرضى.
لكن العادة أن المرأة إذا تقدم الرجل لخطبتها فبكت وصاحت وولولت فلا يمكن أن نقول: هذا دليل على رضاها؛ لأن العادة أن البكاء يدل على الرفض، ولا يدل على الرضى، فتحكم العادة، ولا تزوج المرأة بهذا الرجل.
ومن الأمثلة التطبيقية على أن العادة محكمة: إذا تزوج الرجل الغني امرأة غنية وبخل عليها بالطعام والشراب، فطلبت منه النفقة، وتنازعا ورفعت القضية إلى الفقيه وكان فقيهاً مقعداً، فسأل المرأة عن طعامها في بيتها، وسأل الرجل عن مقدار دخله، فوجده غنياً فقال: نطبق قاعدة العادة محكمة، يقول الله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7] فيلزم الرجل بالنفقة التي ينفقها أهله وجيرانه والمحل الذي يعيش فيه.
ومن الأمثلة على قاعدة: العادة محكمة: زينة الصلاة، فإذا كان اللباس الذي يلبسه الإنسان في الصلاة من اللباس المتعارف عليه، والذي اعتاد الناس أن يلبسوه في الصلاة، فلا ينكر عليه، أما إذا كان لباساً غير متعارف عليه، وكانت عادة الناس الإنكار على من صلح بتلك اللباس، فهذا ينكر عليه.
وأروع الأمثلة في ذلك: أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما دخل على نافع وجده يصلي بين يدي ربه بغير غطاء الرأس، فلما انتهى عنفه وقال له: أتخرج بين الناس هكذا؟ قال: لا, قال: الله أحق أن تستحي منه, فهنا حكم ابن عمر العادة.
وفي هذا الزمان لو كانت العادة بين الناس أن الذي يسير بغير غطاء الرأس مخروم المروءة، أو أن كشف الرأس ليس من الزينة في الصلاة, فلا ينبغي الصلاة إلا والرأس مغطى، أما إذا اعتاد الناس أن يسيروا دائماً مكشوفي الرأس كما في مصر مثلاً، فلا ينكر على من صلى لله منهم حاسر الرأس، بعكس بلاد الخليج، فإن العيب عندهم أن يسير الرجل مكشوف الرأس وكذلك العباءة، فإن لبسها في مصر شيء لا ينكر عليه، أما في بلاد الخليج فإن لباسها يكون للنوم فقط، ومن العيب أن تلبسها خارج البيت.
إذاً: من خرج إلى المسجد يصلي مكشوف الرأس في بلد ينكرون هذا الفعل فإنه ينكر عليه؛ لأن العادة محكمة.
ولهذه القاعدة أمثلة كثيرة في باب النكاح والطلاق، وما يتعلق بهما من المهر والشبكة وغير ذلك.
ومعنى المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً: أن العرف السائد بين الناس إذا اتفقوا عليه في شيء ما فإنه يعتبر في الشرع كالشرط، وقد ورد في بعض الآثار: أن المسلمين عند شروطهم, وهذه الشروط مقيدة بقوله صلى الله عليه وسلم: (إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شرطٍ ليس في كتاب الله باطل، ولو كان مائة شرط).
فإذا اتفق الناس على شيء أو كان بينهم عرفاً، فإنه يعتبر شرطاً، ولا بد أن يوف هذا الشرط.
أيضاً: إذا عقد الرجل على امرأة وخلا بها فلا يجوز له أن يجامعها، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (واستحللتم فروجهن بكلمة الله) وهذا قد عقد عليها، فصارت حلالاً له بعد أن كانت حراماً، ولكن العرف السائد عند الناس: أنه لا يستطيع المرء أن يبني بالمرأة العاقد عليها إلا بموافقة الولي، وبعد الإشهار بين الناس.
فالصحيح الراجح في هذه المسألة أن نقول: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فلا يجوز له جماعها إلا بعد إشهار النكاح وموافقة الولي.
ومن الأمثلة على قاعدة: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً: أن الرجل إذا أعطى زوجته الشبكة المتعارف عليها، ثم أراد أن يأخذها منها، عملاً بمذهب الشافعية القائلين بجواز الرجوع في الهبة، فأبت المرأة أن تعطيه إياها؛ لأن الهدية عند الجمهور لا ترد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه)، فتنازعا ثم رفع هذا التنازع إلى من يحكم بينهما بشرع الله، فحكم العرف السائد في بلدة الزوج والزوجة، فإن كان العرف: أن الشبكة من المهر، فهي من المهر وليست هدية، وإن كان العرف أنها هدية فهي كذلك؛ لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
ومن الأمثلة على هذه القاعدة: أن الرجل هو الذي عليه أن يجهز بيت الزوجية ويشتري الأثاث والفراش؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يطأن فرشكم أحداً تكرهونه) فأضاف الفرش إلى الرجال، فدل على أن الزوج عليه كل شيء, لكن لو أن والد الزوجة تعاون مع زوج ابنته وجهز معه بيت الزوجية، فكل منهما أتى بنصف، فلو وقع الطلاق فيما بعد وكان العرف السائد بين الناس: أن والد الزوجة إنما أعطى ما أعطاه هدية لزوج ابنته، فلا يجوز أن يسترجع والد الزوجة مما أعطاه شيئاً، وهو حق للزوج، وإذا كان العرف: أن ذلك إنما كان هدية لابنته فليس من حق الزوج، ويعود كل ما أعطاه والد الزوجة إلى ابنته.
وعليه فلا يجوز لوالد الزوجة أن يحمل الزوج ما لا يطيق؛ حتى يُبقى على ابنته ولا يطلقها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المختلف في صحته، ولكن صححه الشيخ الألباني : (أكثرهن بركة أيسرهن مئونة) وسعادة المرأة خير من تلك التكاليف التي يكلف بها الزوج، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه).
ومن الأمثلة على هذه القاعدة: أن الرجل إذا أعطى ابنته ذهباً عند زفافها، وبعد الزواج استدان الزوج من زوجته ذلك الذهب، فاعترض والد الزوجة على ذلك وقال: إن الذهب الذي أعطيته لابنتي كان عارية، فليس لها أن تتصرف فيه، فوقع النزاع بين الرجل وابنته، ورفع هذا النزاع إلى من يفصل في المسألة بشرع الله.
فكان الحكم: هو أن العادة محكمة، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فإذا كان العرف السائد بين الناس أن الرجل إنما أعطى ابنته ذلك عارية فهو عارية مؤداة، وإن كان العرف: أن ذلك هدية للبنت، فالصحيح الراجح: أنه هبة، وعند بعض العلماء: أن الوالد إذا وهب لولده شيئاً فلا يجوز أن يرجع في هبته.
إذاً: فالعرف قد قضى في المسألة أن هذه هبة، وليست عارية، ولا نأخذ بقول والد البنت أنها عارية, هذا عند من يقول: إن الوالد لا يرجع في هبته.
آخر هذه الأمثلة: لو جاء رجل واشترى سيارة من معرض السيارات، فقال البائع: هذه السيارة بخمسين ألفاً، فقال له المشتري: اشتريت، فكتبا العقد، فأخذ المشتري مفتاح السيارة وذهب بها، وأخبر البائع أنه سيعطيه قيمة السيارة بعد عشرة أيام، وأن العقد قد وقع بينهما وامتلك السيارة، وعليه دفع المال بعد عشرة أيام، فرفض البائع وقال: إنما أعطاه السيارة بقيمتها نقداً، ووقع النزاع، فقال بعض الفقهاء: إن المسألة دائرة على عرف الناس، فإن كان العرف أن من اشترى سيارة دفع قيمتها بعد أسبوع أو أسبوعين أو شهر كان الحكم هو أن يأخذ الرجل السيارة ويدفع المال في المدة المتعارف عليها، وإن كان العرف بين الناس: أن لا تستلم السيارة إلا بالثمن، فليس له أخذها إلا بعد دفع ثمنها نقداً، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
القاعدة الثالثة: قاعدة الاجتهاد لا ينتقض بالاجتهاد.
وهذه تنفع طالب العلم في الفتوى, وهي من مقاصد الشريعة في تحقيق مصالح العباد؛ حتى لا تعم الفوضى بين الناس.
قام رجل ونوى الصلاة، وبعد أن انتهى من الصلاة بمدة وجد في ثوبه نجاسة، وتأكد وتيقن أن هذا الثوب فيه نجاسة، لكنه لم يدر هل هذه النجاسة كانت في هذه الصلاةّ! أم كانت في الصلاة التي قبلها؟ وهل يقضي هذه الصلاة فقط أم يقضيها مع ما بعدها؟ فرجع إلى أهل الذكر، وسأل أحد الفقهاء، فقال له الفقيه الذي يعلم كيف يأصل المسائل ويجيب عنها بالتأصيل الصحيح: هل أنت متأكد من رؤية النجاسة على ثوبك؟ قال: نعم، قال: إذاً: نطبق هذه القاعدة وهي أن الحادث يضاف إلى أقرب الأوقات، فإذا كان آخر مرة دخلت فيها الخلاء؛ لتقضي حاجتك كانت في صلاة الظهر، وهذه النجاسة رأيتها في صلاة العشاء فأقرب الأوقات التي وقعت فيه نجاسة على ثوبك هو وقت الظهر، إذاً: من صلاة الظهر أصبح الثوب نجساً، فيجب عليك أن تصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لأننا رددنا الحادث إلى أقرب الأوقات.
المثال الثاني: رجل صلى الفجر ثم الظهر ثم العصر، وهو يصلي العصر وجد المني في ثوبه، ولم يتذكر احتلاماً، فعلم أنه على جنابة، وأن صلاته غير صحيحة، واحتار فيما عليه من الصلاة، وكم يقضي منها؟ فالواجب عليه تطبيق هذه القاعدة، فيرد الحادث إلى أقرب الأوقات، وأقرب الأوقات هو آخر نومةٍ نامها، فإذا كانت آخر نومة نامها هي قبل الفجر، فعليه أن يعيد صلاة الفجر والظهر والعصر؛ لأن الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقات.
ومن هذه الأمثلة أيضاً: أن رجلاً تزوج بنصرانية -أي: أنه لم يأخذ بمذهب ابن عمر ؛ ومذهبه -أي: ابن عمر- هو عدم جواز الزواج من الكتابية؛ لعموم قول الله تعالى: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ [البقرة:221] أي: كل المشركات، ولكن قد دل الدليل على جواز الزواج بنساء أهل الكتاب -وبعد أن تزوجها مات، فجاءت تطالب بحقها من الميراث، فمنعها الورثة؛ لأنها ليست مسلمة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) فقالت: إنها قد أسلمت، فسئلت عن إسلامها: هل كان قبل موت زوجها أم بعده؟ لأنها إن أسلمت بعد الموت فلا ميراث لها، فادعت أنها أسلمت قبل موته, فأنكر الورثة وقالوا: إنما أسلمت بعد موته، فلا حق لها في الميراث، ففي هذه المسألة تطبق هذه القاعدة، ويضاف الحادث إلى أقرب أوقاته، وأقرب وقت لإسلامها: هو بعد موت زوجها، فيكون القول قول الورثة، ولا ميراث لها.
ومثل هذه المسألة: أن زوجة ادعت أن زوجها طلقها في أثناء مرضه فطلبت الإرث، ومسألة إرث المرأة من زوجها إذا طلقها وهو مريض مسألة مختلف فيها، والراجح أن الزوج إذا كان قصده حرمانها من الميراث فالطلاق لا يعتد به، وترث، وهنا قالت المرأة: إن زوجها طلقها في مرضه، فأنكر الورثة وقالوا: إنما طلقها حال صحته، ففي هذه المسألة تطبق القاعدة ويضاف الطلاق إلى أقرب الأوقات، وأقرب الأوقات: أنه طلقها وهو مريض.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.
قام رجل ونوى الصلاة، وبعد أن انتهى من الصلاة بمدة وجد في ثوبه نجاسة، وتأكد وتيقن أن هذا الثوب فيه نجاسة، لكنه لم يدر هل هذه النجاسة كانت في هذه الصلاةّ! أم كانت في الصلاة التي قبلها؟ وهل يقضي هذه الصلاة فقط أم يقضيها مع ما بعدها؟ فرجع إلى أهل الذكر، وسأل أحد الفقهاء، فقال له الفقيه الذي يعلم كيف يأصل المسائل ويجيب عنها بالتأصيل الصحيح: هل أنت متأكد من رؤية النجاسة على ثوبك؟ قال: نعم، قال: إذاً: نطبق هذه القاعدة وهي أن الحادث يضاف إلى أقرب الأوقات، فإذا كان آخر مرة دخلت فيها الخلاء؛ لتقضي حاجتك كانت في صلاة الظهر، وهذه النجاسة رأيتها في صلاة العشاء فأقرب الأوقات التي وقعت فيه نجاسة على ثوبك هو وقت الظهر، إذاً: من صلاة الظهر أصبح الثوب نجساً، فيجب عليك أن تصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لأننا رددنا الحادث إلى أقرب الأوقات.
المثال الثاني: رجل صلى الفجر ثم الظهر ثم العصر، وهو يصلي العصر وجد المني في ثوبه، ولم يتذكر احتلاماً، فعلم أنه على جنابة، وأن صلاته غير صحيحة، واحتار فيما عليه من الصلاة، وكم يقضي منها؟ فالواجب عليه تطبيق هذه القاعدة، فيرد الحادث إلى أقرب الأوقات، وأقرب الأوقات هو آخر نومةٍ نامها، فإذا كانت آخر نومة نامها هي قبل الفجر، فعليه أن يعيد صلاة الفجر والظهر والعصر؛ لأن الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقات.
ومن هذه الأمثلة أيضاً: أن رجلاً تزوج بنصرانية -أي: أنه لم يأخذ بمذهب ابن عمر ؛ ومذهبه -أي: ابن عمر- هو عدم جواز الزواج من الكتابية؛ لعموم قول الله تعالى: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ [البقرة:221] أي: كل المشركات، ولكن قد دل الدليل على جواز الزواج بنساء أهل الكتاب -وبعد أن تزوجها مات، فجاءت تطالب بحقها من الميراث، فمنعها الورثة؛ لأنها ليست مسلمة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) فقالت: إنها قد أسلمت، فسئلت عن إسلامها: هل كان قبل موت زوجها أم بعده؟ لأنها إن أسلمت بعد الموت فلا ميراث لها، فادعت أنها أسلمت قبل موته, فأنكر الورثة وقالوا: إنما أسلمت بعد موته، فلا حق لها في الميراث، ففي هذه المسألة تطبق هذه القاعدة، ويضاف الحادث إلى أقرب أوقاته، وأقرب وقت لإسلامها: هو بعد موت زوجها، فيكون القول قول الورثة، ولا ميراث لها.
ومثل هذه المسألة: أن زوجة ادعت أن زوجها طلقها في أثناء مرضه فطلبت الإرث، ومسألة إرث المرأة من زوجها إذا طلقها وهو مريض مسألة مختلف فيها، والراجح أن الزوج إذا كان قصده حرمانها من الميراث فالطلاق لا يعتد به، وترث، وهنا قالت المرأة: إن زوجها طلقها في مرضه، فأنكر الورثة وقالوا: إنما طلقها حال صحته، ففي هذه المسألة تطبق القاعدة ويضاف الطلاق إلى أقرب الأوقات، وأقرب الأوقات: أنه طلقها وهو مريض.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر