يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سنتحدث عن قاعدة: الضرورة تقدر بقدرها، والقاعدة العامة: الضرورات تبيح المحظورات، قد شرحناها سابقاً وأتينا بالأدلة عليها.
الأدلة التي تثبت هذه القاعدة هي:
قول الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119].
وقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173].
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].
فقاعدة: الضرورة تقدر بقدرها متممة لهذه القاعدة، ومعناها: إذا أعوز المرء إلى ارتكاب شيء محرم فلا يجوز له أن يتجاوز حاجته، ودليل هذا التقييد لهذه القاعدة الكلية العامة قول الله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173].
فلا يتعدى ولا يتجاوز حدوده، فمثلاً: لو كان في صحراء وتضور جوعاً وكاد أن يهلك وليس عنده من الطعام إلا الخنزير أو الميتة، فنقول له: تأكل ما تسد به الرمق وتدفع به عن نفسك الهلاك فقط، فإن زدت فقد أثمت؛ لأنك اعتديت وبغيت.
فمن تطبيقاتها في العبادات: الجبيرة:
يعني: رجل كسرت يده، فأراد أن يضع الجبيرة على يده، فنقول: لا بد أن يضع الجبيرة على مكان الكسر فقط ولا يتعداه؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها؛ لأن الوضوء يلزم الإنسان بأن يغسل يديه إلى المرفقين، أو إلى العضد، فإذا وضع الجبيرة فإنه لن يغسل، فنقول له: القاعدة العامة الكلية: الضرورات تبيح المحظورات، فلا تغسل يدك، ولكن امسح على الجبيرة.
فجاء المقعد الآخر فقال: لابد أن نضبط هذه القاعدة الكلية ونقول له: إن الضرورة تقدر بقدرها، إن كان الكسر في الرسغ فلا يزيد إلى المرفق ولا يزيد إلى العضد، ولا يجوز بحال من الأحوال، وإن زاد قلنا: لا يصح المسح، ولو صليت بهذا المسح فإن عليك إعادة الصلاة.
إذاً: الضرورة وإن كانت تبيح المحظور تقيد بقولنا: الضرورة تقدر بقدرها.
وكان عنده دنانير ودراهم، وكذلك عنده عقارات وسيارات وأموال أخرى، فنقول: إن الضرورة تقدر بقدرها، ائت بما عندك من الدنانير والدراهم، فإن وفت الغرماء حقهم وإلا نظرنا في العقارات التي لا يكون فيها خسارة عليه؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها.
إذاً: الضرورات تبيح المحظورات، لكنها تقدر بقدرها.
وذلك بأن يكون المسلمون في حرب مع الكفار، والكفار أسروا بعض المسلمين فجعلوهم ترساً لهم، فجميع العلماء والفقهاء بأن هذه البلدة إذا لم تفتح، إلا برمي المسلمين مع الكافرين فإنهم يرمونهم وإن قتلوا المسلمين.
فقلنا لهم: إن حرمة دم المسلم معلومة وقطعية من الكتاب والسنة، قالوا: عندنا قاعدة تقول: الضرورات تبيح المحظورات.
قلنا: كيف ذلك؟
قالوا: الآن الضرورة أن ترفع كلمة لا إله إلا الله في بلاد الكفر، وأن نعبد الناس لله لا للبشر، فلا بد أن نخرجهم من الظلمات إلى النور، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) وإن كان معهم بعض المسلمين، ولا يحدث الفتح ولا النكاية في الكافرين إلا بموت بعض المسلمين معهم، فليموتوا وسيبعثون إلى ربهم على نياتهم، والضرورات تبيح المحظورات.
فنقول لهم: نعم، الضرورات تبيح المحظورات لكنها تقدر بقدرها، وذلك بأن تنظروا أولاً في جميع النواحي لعلكم تجدون ناحية ليس فيها مسلم تدخلون منها، أما إن كانت النواحي كلها فيها مسلمون فارموا، ولكن إذا رميتم وقتلتم فلابد أن تضمنوا الدية لكل مسلم قتلتموه للورثة، فإن لم يكن لهم ورثة، فلا بد أن ترجع إلى بيت مال المسلمين؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها.
نقول له: ما دام أنك أشرفت على الهلاك فلك أن تأكل، والدليل القاعدة الفقهية التي استنبطناها واستقيناها من الآيات والآثار: الضرورات تبيح المحظورات، لكن هذه القاعدة ليست على الإطلاق وإنما هي مقيدة، والتقييد هو: الضرورة تقدر بقدرها، فنقول لك: كل من الغنيمة ما يسد الرمق فقط ولا تستكثر؛ لأنك إن استكثرت فقد وقعت في السرقة من الغنيمة.
نقول: عندنا قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، وقاعدة: الضرورة تقدر بقدرها، فعندي ضرورة حياة الطفل الذي يأكل ويشرب وتعلق قلب المرأة به، والمحظور هو قتل النطفة الموجودة في بطن الأم، فنقول: هذه الضرورة تقدر بقدرها، وقدرها هو: إن لم يبلغ الحمل مائة وعشرين يوماً جاز أن تنزل الجنين ولا شيء عليها، وتبقي على الطفل، أما إن بلغ المائة والعشرين يوماً ونفخت فيه الروح، فأصبح روحاً مقابل روح فلا ضرورة هنا، ولا مجال لتطبيق هذه القاعدة؛ لأن ضرورة حياة الجنين في بطن أمه بعدما نفخت فيه الروح تساوي ضرورة حياة الطفل الذي يرضع من لبن الأم، فلا يجوز أن تنزله في حال من الأحوال.
قلنا: تركيب (اللولب) محظور من أكثر من وجه:
الوجه الأول: لا يركب اللولب لئلا تظهر العورة.
الثاني: إذا ركب اللولب فإن المرأة تضطرب عادتها، فإذا كانت العادة خمسة أيام أصبحت تسعة عشر يوماً.
الثالثة: إذا كانت الصفرة والكدرة لا تأتيها أصبحت تأتي الصفرة والكدرة.
الرابع: التي كانت تطهر بالجفاف أو إذا وجدت القصة البيضاء أصبحت مرة تجد الجفاف ومرة القصة البيضاء.
فهذه كلها محظورات بسبب تركيب (اللولب).
لكن قالت: إن الطبيبة الثقة قالت: ستموتين إن حملت.
قلنا لها: هناك ضرورة ومحظور، الضرورة المحافظة على حياتك، والمحظور تركيب (اللولب)، فقلنا لها: الضرورات تبيح المحظورات، ولك أن تركبي (اللولب)، لكن هذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ فإنها مقيدة بأن الضرورة تقدر بقدرها، وقدرها من وجهين:
الأول: ألا يقع بصر الطبيبة على ما فوق المحل، يعني: أن تعري المحل الذي يكون فيه (اللولب) فقط، والباقي لا يجوز؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها.
الوجه الثاني: ألا يكون تركيب (اللولب) على الدوام ولا على الإطلاق.
ومن هنا نقول: تحرم مسألة الربط على الدوام، وإنما تبقى حتى تسترد عافيتها، ثم تقوم بإزالة هذا (اللولب).
إذاً: الضرورات تبيح المحظورات، لكن الضرورة تقدر بقدرها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر