أي الحكم في الاستدامة يصح ولا يصح في الابتداء، وهذا مأخوذ من حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (طيبت النبي صلى الله عليه وسلم لحله ولإحرامه).
أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم يرتدي رداء تطيبه عائشة حتى قالت: كنت أرى الطيب في مفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
ومعلوم أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يتطيب المحرم، والدليل على ذلك قصة الرجل الذي وقصته ناقته فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمسوه طيباً) وحديث ابن عمر ظاهر جداً في أن المحرم لا يرتدي ثياباً مسها طيب أو زعفران، فهذه أدلة واضحة جداً على أن المحرم لا يجوز له أن يتطيب.
وجاء في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تطيب قبل أن يحرم، فلما أحرم وقال: لبيك اللهم بعمرة، وجد الطيب في مفرق رأسه صلى الله عليه وسلم، فهل يجب عليه أن يغسل هذا الطيب؟
الجواب: لا؛ لأنه يجوز في الاستدامة ما لا يجوز في الابتداء, فلو تطيب قبل أن يحرم ودام الطيب معه، فإننا لا نلزمه بالغسل؛ لأنه استدامه فقط، ولم يبتدئه ابتداءً.
أقول: إن أتقن مسألة الفتح أو الغلق بالدربة والممارسة، وعرف كيف يعالج المريض، فهذا يغرم عند ولي الأمر، أما شرعاً فلا جرم عليه؛ لأن الطب ليس حكراً على كليات الطب، بل يمكن للإنسان أن يتدرب ويتعلم الطب بدون أن يدرس في هذه الكليات النظامية.
وهذا الواقع في القانون الأوربي، فإن أي إنسان يريد أن يتخصص، وعنده مهارة في تخصص معين، فيمكن أن يذهب إلى جامعات خاصة أو إلى طبيب ماهر يعلمه هذا، فإذا كان هذا الرجل قد أتقن هذه العملية فلا ضمان عليه، وإن لم يتقن فالضمان عليه، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تطبب بغير طب فهو ضامن).
مثال ذلك أيضاً: إذا كان هناك رجل يعمل في إصلاح السيارات، وجاءته سيارة لا يعرف عنها شيئاً، وأخذ يعمل فيها فأتلف فيها أشياء، فهو هنا ضامن؛ لأنه غير متقن لهذا العمل.
ولها صور خفية وصور جلية:
أما الصور الجلية فكأن يعطيه مائة، وبعد عام أو شهر أو غير ذلك يأخذ مائة وعشرين مثلاً، فهذا قرض جر نفعاً جلياً.
وكذلك إذا أعطاه شيئاً رديئاً بشرط أن يرد له شيئاً جيداً، فهذا أيضاً قرض جر نفعاً جلياً فيدخل تحت القاعدة.
أما الخفي: فكأن يذهب ليشتري من الصائغ ذهباً، ومن شروط صحة بيع الذهب التقابض في المجلس، فإذا لم يجد المشتري كامل المبلغ، فقال له البائع: خذ هذا المبلغ قرضاً ثم اشتر به الذهب، وفيما بعد سدد إلي القرض، فإن هذه المعاملة لا تصح؛ لأن هذا قرض يجر نفعاً خفياً، وهذا النفع صورته أن المشتري لو ذهب إلى البيت ليأتي بالمال، فإنه يمكن أن يشتري من محل آخر، ولا يشتري من هذا المحل، فلما أعطاه البائع المال فإنه ضمن أنه سيشتري منه، فيكون هذا القرض قد جر نفعاً، فلا يصح، ويقع في الربا.
من أمثلة ذلك أيضاً: رجل ليس عنده عمل وهو غني، لكن يريد أن يعمل ويكسب بيده، فما وجد عملاً حتى جاءه رجل فقير عنده وجاهة بين الناس، ويمكن أن يشفع له في عمل، والرجل الفقير هذا يحتاج مالاً، فأعطاه الغني مالاً قرضاً -أي: يعيده بدون زيادة ولا نقصان- على أن يشفع له في عمل، فلما أخذ الرجل القرض فرح به جداً، واشتدت همته بالشفاعة حتى يعمل هذا الرجل الغني.
فهذه المعاملة يلام عليها؛ لأن هذا القرض جر نفعاً، فقد شفع ازدادت همته في الشفاعة له عندما أقرضه هذا القرض، مع أنه سيقضي القرض بدون زيادة ولا نقصان، ولكنه قرض جر نفعاً خفياً.
فإذاً (كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، فلا يصح القرض الذي يجر منفعة، سواء كانت هذه المنفعة جلية أم خفية، والمنفعة الخفية قد تدخل في التحليل على شرع الله، كما قال صلى الله عليه وسلم عن اليهود: (قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحم فجملوه ثم أذابوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه).
المسألة فيها أقوال ثلاثة:
الجواز مطلقاً.
والمنع مطلقاً.
و التفصيل.
أما المنع مطلقاً فقال به بعض العلماء؛ وذلك لعموم هذه القاعدة: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، فسواء كان مشروطاً أو غير مشروط.
قالوا: ولأن هذا قد يكون ذريعة إلى الربا، فإنه إذا اشتهر عن رجل ما أنه جواد كريم لا يقترض قرضاً إلا ويرده بزيادة، فالناس سوف يسارعون إلى إقراضه للنفع الذي سيأتي منه، فهو ذريعة إذاً إلى الربا. وهذا القول من القوة بمكان.
القول الثاني: الجواز مطلقاً، أي: كماً أو كيفا،ًوهذا القول قول الجماهير من الفقهاء، كالشافعية والأحناف، واستدلوا على ذلك بحديث أبي رافع: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر
وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا يدل على الجواز، وهذا مخصص لعموم القاعدة: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا).
ومن الأدلة: حديث جابر رضي الله عنه، حيث قال: (فقضاني النبي وزادني) يعني: أعطاني الثمن الذي قاله لي وزادني عليه، فهذا فيه دلالة أيضاً على أن الزيادة جائزة.
وفي السنن بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله فاستسلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه، فجاء الرجل يتقاضاه فأعطاه وسقاً، وقال: نصف لك قضاء، ونصف لك نائل من عندي).
فهذه الأدلة فيها دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى زيادة كماً وكيفاً، أما كيفاً فكما في حديث أبي رافع ، وأما كماً فكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
القول الثالث: التفصيل: وهو قول المالكية حيث قالوا: نقول بالتفريق والتفصيل، أي: أنه تجوز الزيادة كيفاً ولا كماً، والسبب أن حديث الجمل -حديث أبي رافع- الذي في الصحيح، واقعة حال لا تعمم.
والرد عليهم أن هذه الأدلة قد غابت عنكم، فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى زيادة في الكم وزيادة في الكيف.
لكن إذا كانت هذه ذريعة وعلمنا أن الرجل الذي يعطي القرض يريد الزيادة فلابد أن يمنع، لقاعدة ستأتينا فيما بعد وسنختم بها إن شاء الله تعالى، وهي شبيهة بهذه.
هذه القاعدة مشتقة من نص كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء .....)، وقال في بعض الروايات: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) .
واختلاف الأصناف يعني اختلاف الأجناس وإن اتحدت العلة، كأن يبيع ذهباً بفضة، فهنا اختلفا في الجنس واتحدا في العلة -الثمنية والنقدية- ففي هذه الحالة نقول له: بع كيفما شئت من حيث القلة والكثرة لكن يداً بيد.
أما إذا اختلفا في الجنس والعلة معاً، كذهب وتمر، فهذا لا يدخل معنا في هذا الباب؛ لأن مثل هذا البيع لا يشترط فيه التقابض ولا الحلول ولا التماثل، إنما القاعدة التي معنا كأن يبيع قمحاً بشعير، أو براً بتمر، أو براً بملح، أو ذهباً بفضة، فهذه الأصناف متفقة علتها.
فهذه القاعدة ليست على الإطلاق، وإنما يجب أن تقيد باتحاد العلة، فتصبح القاعدة كما يلي: إذا اختلفت الأصناف المتفقة في العلة فبيعوا كيف شئتم، ولكن بشرط وحيد هو التقابض في المجلس، ولا يشترط أن يكونا سواء بسواء.
من القواعد الفقهية المشهورة في البيع والربا كذلك قاعدة (الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل).
وتمثيل هذه القاعدة كأن يكون مع رجل كومة من تمر وأراد تبديلها بكومة أخرى من التمر غير معلومة الكمية، فهذا لا يجوز؛ لأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.
فنحن لا نعلم هل هذه الكومة تساوي الكومة الأخرى، فإنه لو زادت حتى تمرة واحدة فقد وقع في الربا.
وبهذا المثال اتضح معنى قاعدتنا (الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل)، والعلم بالتفاضل حرام -كما هو معلوم- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سواء بسواء)، وهذا كله بشرط أن يتحد كل من العلة والجنس.
ويدخل في هذا كذلك القلائد التي فيها ذهب وفضة ولا يعلم مقدار كل منهما، فلا يجوز تبديل بعضها ببعض أو حتى تبديلها بذهب أو فضة.
وكذلك لا يجوز تبديل الذهب عيار ثمانية عشر بعيار أربعة وعشرين؛ لأن الشوائب تقلل من الذهب، فالذهب الذي عياره أربعة وعشرون أكثر من الذهب الذي عياره ثمانية عشر، ولكن لا يعلم مقدار الفرق، فلا يجوز مثل هذا التبادل؛ لأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، فلا يجوز مبادلة العيار بالعيار المختلف.
وبهذا انتهينا من القواعد في المعاملات.
هنا نتكلم عن بعض القواعد في النكاح، أول هذه القواعد وأهمها قاعدة: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل).
فهذه القاعدة مهمة جداً، ومتعين على كل إنسان أن يتعلمها، وهي مشتقة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة بريرة ، وذلك عندما أرادت عائشة أن تشتري بريرة من الذين كاتبوها، فقالوا: نشترط أن الولاء يكون لنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بذلك غضب غضباً شديداً ثم قال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط).
ومثال ذلك: أن تشترط المرأة على زوجها في العقد عدم الزواج من غيرها، وهذا هو الأصل الأصيل في هذه القاعدة، وقبل أن نتحدث على هذه المسألة نذكر أقسام الشروط، حيث قسم العلماء الشروط إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: شروط متفق على صحتها، وعلى جوازها، وعلى العمل بها.
القسم الثاني: شروط متفق على منعها وتحريمها وعدم العمل بها.
القسم الثالث: وسط بين الطرفين: شروط اختلف العلماء فيها: هل تجوز أو لا تجوز؟
أما الشروط التي اتفق العلماء على جوازها فهي مثل أن تشترط المرأة على زوجها أن يعطيها المهر كاملاً لها، إذ إن المهر يجب لها.
أو يشترط الزوج أن تمكنه من نفسها، فهذا أيضاً شرط يوافق العقد، أو تشترط أن يطعمها حيث أكل، وأن يسكنها من حيث سكن، فهذا كله موافق للعقد، وهذه شروط صحيحة بالإجماع.
وكذلك مثل أن تشترط عليه ألا يبعد عنها، فهذا أيضاً يوافق العقد وهذه شروط لابد من الوفاء بها بالإجماع؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عند شروطهم)، وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، ومن علامة الإيمان أن تفي بهذه العهود والشروط.
الصنف الثاني: شروط اتفق العلماء على حرمتها، وعلى عدم جواز العمل بها:
كأن تشترط عليه أن العصمة في يدها، فهذا لا يجوز بالإجماع، إذ إن الطلاق بيد الزوج، أما إن قال لها: أمرك بيدك، فهذه مسألة أخرى ليست أصلاً أصيلاً.
وكذلك كأن تشترط ألا يجامعها، فهذا شرط محرم كذلك، بل إنه لا يدفع المهر إلا أن تمكنه من نفسها، فإذا اشترطت ألا تمكنه من نفسها فهذا شرط محرم، ولا يجوز العمل به بالإجماع.
وهكذا حكم كل الشروط التي على نفس هذا السياق، كأن تقول: لا تدخل بي حتى تطلق امرأتك الثانية، فهذا أيضاً من الشروط المحرمة، والدليل على أنه إذا طلبت منه طلاق أختها فهي آثمة ولا يحل لها ذلك حديث في الصحيح، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تطلب طلاق أختها حتى تكفأ صحفتها وتأخذ ما في إنائها)، فيحرم عليها أن تطلب طلاق أختها.
الصنف الثالث: الشروط التي اختلف العلماء فيها:
وأشهرها: أن تشترط المرأة على زوجها ألا يتزوج عليها، فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: قول جماهير أهل العلم، قالوا: هذا شرط محرم، فيترتب على ذلك أن تأثم المرأة بهذا الشرط.
يعني: لو كتبت في العقد أن لا يتزوج عليها، فهي آثمة بذلك، قالوا: هذا شرط محرم ولا وفاء به.
والدليل على أنه لا يجب الوفاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لـعائشة : (اشترطي لهم الولاء)، مع أن الولاء أصبح بعد ذلك لـعائشة، فهي لم توف بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك كالمنكل بهم، فلذلك قال الجماهير من العلماء: إن اشترطت فالشرط لا عبرة به والعقد صحيح، واستدلوا على ذلك بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)، قالوا: وهذا الشرط يمنعه من الحلال، فهو يحرم عليه أن يتزوج أكثر من واحدة، إذاً هذا شرط قد حرم حلالاً، فلا يجوز لها أن تشترط ذلك؛ لأنها تكون قد حرمت عليه الحلال، فالله جل وعلا قال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، فالصحيح أن هذا الشرط محرم؛ لأنه يمنع حلالاً على الرجل، فلا عبرة به.
القول الثاني: وهو قول الحنابلة، حيث قالوا: هذا الشرط صحيح، ويجب الوفاء به، وللمرأة أن تطلب الطلاق إن لم يوف بالشرط، فإذا كتبت: لا يتزوج غيري، فتزوج غيرها، فلها أن تفسخ العقد.
واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج).
واستدلوا كذلك بما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أن امرأة كانت قد اشترطت على زوجها ألا ينتقل بها، فأراد أن ينتقل بها، فقال: مقاطع الحقوق عند الشروط، ففسخ العقد أو طلق المرأة من الرجل.
والراجح من القولين هو قول الجماهير، أي: أن هذا الشرط شرط غير معتبر؛ لأنه يحرم حلالاً، فلا يجوز للمرأة أن تشترط هذا الشرط، فإن اشترطت فهي آثمة، وعلى الرجل أن يلغي هذا الشرط ولا يعتبره، وله أن يتزوج على امرأته.
وعلى المسلم أن يذكر امرأته بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ويقول لها إنها ليست بأفضل من عائشة ، ولا أغير من عائشة على النبي صلى الله عليه وسلم، وليست بأفضل من أم سلمة التي رفضت الزواج بالنبي في بادئ الأمر بسبب أنها امرأة لها شدة في الغيرة، ومع ذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم لها أن يذهب عنها غيرتها.
وأصلها استنبط من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، ومعروف أن من الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها حفظ العرض.
وهذه المسألة مسألة شائكة ومهمة جداً، ولها فروع منها لو كان هناك رجل وامرأة، وادعى الرجل أنه زوجها، وهي ادعت أنه ليس بزوج لها، فنقول: الأصل في الأبضاع الحرمة ما لم يدل دليل قوي صريح صحيح ينقلنا من الأصل إلى غيره، والأصل هو عدم الزواج، وما دام لا يوجد دليل فنقول: الأقوى هو الموافق للأصل لا الناقل عن الأصل، فإذا أراد أن يقوي حجته فعليه بالدليل الذي ينقل الحكم عن الأصل، وهذا الدليل هو وجود شاهدي عدل.
فإذاً: إذا ادعى رجل أنه تزوج امرأة، والمرأة أنكرت ذلك، فالقول قولها تطبيقاً لقاعدة (الأصل في الأبضاع الحرمة).
ومن فروع هذه القاعدة: إذا اختلطت زوجة بأكثر من امرأة شبيهات بها، ولم يميز الزوج امرأته من بينهن، ففي هذه الحالة نقول له: الأصل في الأبضاع الحرمة، فلا يجوز أن تجامع أي امرأة منهن حتى تميز زوجتك من غيرها.
ومن فروع هذه القاعدة أيضاً: إذا ادعت امرأة أنها أرضعت رجلاً وامرأته -عندما كانا صغيرين- خمس رضعات مشبعات، ففي هذه الحالة نقول للرجل: هذا فرج محرم عليك، ولا يجوز أن تبقى معه، وينفسخ العقد بذلك، ونأخذ بقول المرأة تطبيقاً لقاعدة: (الأصل في الأبضاع الحرمة).
وهذه القاعدة مهمة جداً في استلحاق الولد، وقد أصل النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً عظيماً في النسب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من انتسب إلى غير أبيه فقد كفر)، أي: وهو يعلم ذلك.
فهذا يدل على أنه لا يجوز أن تختلط الأنساب، فقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وزاده قوة بقوله: (الولد للفراش وللعاهر الحجر).
فإذا زنى رجل بامرأة فولدت، فهل الولد ينسب لهذا الزاني أم لا؟ نقول: لا، تطبيقاً لقاعدة: (الولد للفراش وللعاهر الحجر).
وقد اختلف العلماء في معنى الفراش، فقال الشافعية والأحناف والمالكية وأحمد: الفراش هو العقد، وهنا كلام الأئمة الأربعة يبين أن المعقود عليها يجوز وطؤها، فمن قال: بأن العاقد عليها لو قبلها وقع في الزنا، أو لو سلم عليها فقد وقع في الحرام، فهذا افترى حراماً على الله جل في علاه، فهو بالعقد قد استحل منها ما كان حراماً، غير أن العرف يقف صاداً له.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -وكلامهما أرجح- فقد قالا: الفراش هنا المقصود به الدخول.
والعجب كل العجب أن ابن تيمية رجح ذلك، مع أنه يرجح قول الحنابلة في مسألة: إذا ألقي الستر فقد وجب المهر، يعني: الحكم هنا حكم بالدخول، وهنا شدد في الأمر وقال: الفراش لا يكون فراشاً إلا بالدخول، وهذا هو الراجح الصحيح، فالمرأة التي دخل بها بعقد صحيح هي الفراش، فكل ولد ولدته بعد ذلك ينسب لأبيه، لكن هناك بعض الشروط والقيود منها: ألا يولد في أقل من ستة أشهر، لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، وفي الآية الأخرى قال سبحانه: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233] فالفرق بينهما ستة أشهر.
إذاً: الشرط الأول هو ألا يولد في أقل من ستة أشهر؛ لأن الشبهة تكون موجودة إذا ولد في أقل من ستة أشهر.
لكن هل يحل له أن يستلحق الولد، أي: أن ينسب الولد له؟ فهذا فيه خلاف بين الفقهاء، فالأئمة الأربعة قالوا: لا يجوز أن يستلحقه، عملاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وهذا قاطع عام.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد رجح الاستلحاق، فقال: يجوز أن ينسب لأبيه إن تاب وتابت وتزوجها، واستدل على ذلك بالنظر، فإن الولد من مائه، وهو قد تاب عن معصيته فيستلحق.
أقول: قول شيخ الإسلام ابن تيمية فيه نظر -مع أنه أرحم ما يكون في عصرنا هذا- لكن لا أدين الله بذلك، إذ النظر لو خالف الأثر فإننا لا نأخذ به، ولا بأي شيء يصادم الأثر حتى ولو كان من القوة بمكان؛ لأننا نتعبد لله بقال الله قال رسوله، ونحن نأخذ بالمعاني ونأخذ بالنظر، لكن هذا النظر سيلغي لنا كل الأثر، فلا يجعلنا نعمل بظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فلا يجوز استلحاقه، بل يسمى تسمية مطلقة مثل: صالح بن عبد الله، أو زيد بن عبد الرحمن، أو نحو ذلك، أما الاستلحاق فلا يجوز لهذه القاعدة العظيمة: (الولد للفراش وللعاهر الحجر).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر