الشيخ: أولاً أشكر صاحب السمو الأمير نايف بن ممدوح وهو داعية قبل أن يكون (مسئولاً)، وأشكره على جهوده وعلى طرحه وعلى محاضراته وندواته التي يقوم بها، وفكرته في القناة فكرة رائدة، وأنا أريد أن تضم جهود هذه القنوات مع بعضها مثل المجد وغيرها، وإذا خرجت لنا القنوات الإسلامية تحمل هذا المفهوم وهذه الفكرة الرائدة في إصدار الصوت الإسلامي المعتدل الصحيح للناس فهو خير إلى خير.
وأيضاً أنا أضم صوتي لأنني لست مع العواطف السلبية التي قد تثمر ردات فعل لا يحمد عقباها؛ لأن الله سبحانه يقول: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] كل حركات طائشة وعابثة غير مسئولة لا تنصر الإسلام، إنما ينصره العقل في محله والقوة في مكانها، وينصره الموقف المشرف، وأن تتخذ الإجراءات المناسبة.
ثانياً: أشكر رجل الأعمال الأخ حسن المهدي على مواقفه، وليست بأول مواقف أبي محمد ، فله سابقة في الإنترنت والمواقع، وقاد حملة ضد أهل الإلحاد والزندقة والذين يقدحون الثوابت، ونشكره على موقفه هذا في مسألة الدفاع عن حبيبه وحبيب الكل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
وأحب أن أشكر رجال الأعمال الذين قاموا بمبادرات المقاطعة، فاليوم كلمت بعد الظهر رجل الأعمال عبد الله العثيم وشكرته؛ لأنه قاطع وأكد ذلك، فلله الحمد والشكر.
وفي الطريق أناس وعدوا، وقد كلمهم بعض المشايخ والعلماء فوعدوا أن تكون منهم مقاطعة، وأنا أتمنى أن تكون المقاطعة رسمية وشعبية.
الشيخ: كلنا يقاطع فيما يستطيع وفيما يقدر عليه وما وهبه الله سبحانه وتعالى، الإنسان العادي من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أن يقوم بحقوقه الشرعية، من كثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، واتباعه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في الصلاة وفي العبادة، وفي الخلق الكريم وصلة الرحم وحقوق الجار، وذكر فضائله في المجالس على حسب القدرة والطاقة، وإدخال حبه في البيت على الزوجة والأبناء، وتعليم سيرته وسنته صلى الله عليه وسلم، وذكر قصصه.
مجالسنا لابد أن يكون فيها الشيء الكثير من حياته صلى الله عليه وسلم، ولا نتشاغل بحياة غيره أكثر من حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إمام؛ ولأن دخولنا الجنة مرهون باتباع هذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام، ثم أقول لأهل المواهب: اتقوا الله، فموهبة لا ينصر بها الحق لا بارك الله فيها!
صاحب الأدب ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم بمقالة أو بمقامة أو قصيدة، الصحفي المثقف الذي يصبح فيقول: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً، يجب عليه أن ينصر هاديه.
ثم نتساءل: ما هو سر فخرنا وسؤددنا وعزتنا وعظمتنا إلا هذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام، نحن قبل رسالته صلى الله عليه وسلم كنا أعراباً ليس لنا تاريخ ولا مجد كما يقوله الأئمة.
بعض القوميون الغلاة يقولون: مجدنا قديم نشأ قبل الرسالة. والصحيح أن مجدنا بدأ من محمد صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] فحق الرسول صلى الله عليه وسلم علينا أن نعترف، بهذه الحقية بالدفاع عنه والذب عن عرضه عليه الصلاة والسلام ونشر سيرته وفضائله في الناس، وأن نعلن غضبتنا.
إذا لم نغضب للرسول صلى الله عليه وسلم فلا خير فينا، بل تصير هذه الأمة جثة محنطة، ونعترف أنها أمة مهزومة إذا لم تنتصر لرسولها العظيم صلى الله عليه وسلم.
أقرأ هنا نصاً قصيراً للأديب الإنجليزي برنارد شو في كتابه (محمد)، هذا الكتاب الذي أحرقته السلطة البريطانية؛ يقول: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد. وهنا أيضاً عدد من المقولات لبعض المنصفين.
ألا ينبغي أن نكون أكثر حكمة وأكثر هدوءاً في دعوتنا حتى نستهدف بها هؤلاء المنصفين كي نستميلهم إلى ديننا.
الشيخ: بلا شك أن مثل هذه الأقوال تثبت للعالم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح -حتى عند من يخالفه عليه الصلاة والسلام أو يعاديه- هو رجل الإنسانية وهو الإمام الأفضل عليه الصلاة والسلام وهو القدوة، حتى أن مايكل هارت الذي ألف كتاب العظماء المائة جعل العظيم الأول محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أعرف وأعلم أن الأمريكان سوف يغضبهم هذا، لكن ماذا أفعل؟ هي الحقيقة تفرض نفسها.
وغيره كثير ممن اعترفوا بهذا كـغوستاف لوبون وكـكريسي ميرسون وغيرهم.
ولكن ماذا فعلنا نحن أمام هذا الميراث الخالد الذي ورثه لنا عليه الصلاة والسلام، فإنه أعطانا أمانة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقال: (بلغوا عني ولو آية)، وقال: (وبشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)، وقال: (إنما بعثتم ميسرين)، فدل على أنا بعثنا بمبعثه صلى الله عليه وسلم، يعني: نحن تكلفنا حمل هذه الرسالة ولنا الشرف، فماذا فعلنا في هذا الميراث يجب أن الذي ننشره للناس.
الآن اليهودي يدعو لليهودية مع العلم أنها محرفة وملغاة ومنسوخة برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، والنصراني يدعو للنصرانية مع العلم أنها منسوخة ومحرفة وملغاة برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك البوذي، فكيف بالمسلم الذي هو على الحق والدين الخاتم والدين الوسط، حتى يقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
الشيخ: ببساطة ويسر أقول للمربي: إذا لم تحبب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى طلابك فاعلم أنك فاشل في أداء هذه المهمة الملقاة عليك، فإذا كنت تدرس هذه المواد فأول ما يجب عليك أن تحببهم في الإمام القدوة عليه الصلاة والسلام، وإذا لم تستطع أن تقول كلاماً فعليك أن تتمثل بصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طلابك من الصبر والحكمة والتواضع وحسن الخلق؛ لأنك إذا فعلت ذلك نصرت الرسول عليه الصلاة والسلام بكيانك وشخصك.
أيضاً: أنا أتساءل: إلى أي وقت يدخر الكتاب والصحفيون ورجال الإعلام أقلامهم وبلاغتهم وأدبياتهم؟ إذا لم يبهرهم محمد صلى الله عليه وسلم ويستول على قلوبهم، وإذا لم يحز على حبهم، فمن هو الشخص البديل؟
سيد الخلق عليه الصلاة والسلام نبي خاتم ومعصوم ورسول من عند الله، ثم هو سبب نجاتك الآن.
في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل على الغلام اليهودي فأسلم اليهودي قال: (الحمد لله الذي أنقذه الله بي من النار)، فدل هذا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم سبب في إخراجنا من الظلمات إلى النور، وفي إنقاذنا من النار ودخولنا الجنة، فهذا السبب الأعظم، فاجعل بينك وبينه علاقة بأن تعلم سيرته وسنته وأن تكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
اقرأ كيف كان يصلي وحاول أن تقتدي بكيفية صلاته صلى الله عليه وسلم، حقق أخلاقه، وحدث إخوانك وزملاءك وطلابك عن هذا الإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم.
الشيخ: لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول للإنس والجن، رسول للرجال والنساء، رسول للكبار والصغار، رسول للأغنياء والفقراء، رسول العرب والعجم والفرس والروم وغيرهم من الأمم في الأرض، فهو رسول للناس كافة صلى الله عليه وسلم، فهذا يقتضي أن على المرأة أن تقتدي به صلى الله عليه وسلم وأن تدعو بنات جنسها لحبه صلى الله عليه وسلم، وأن تكون هي مقتدية برسولنا صلى الله عليه وسلم في عباداته وأخلاقه وصفاته.
أتت امرأة إليه الله عليه وسلم فقالت: اجعل لنا يوماً من نفسك يا رسول الله، فأعطاهن صلى الله عليه وسلم يوماً، حتى إنه صلى الله عليه وسلم علم المرأة شئونها الخاصة من مسائل الطهارة ومسائل الحيض والغسل من الجنابة، المسائل التي تتعلق بالأخلاق مثل تبرج المرأة وكالنكاح وأموره والطلاق والحضانة وغير ذلك.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أعطى المرأة من حياته وقتاً طويلاً، واحتفى صلى الله عليه وسلم واهتم بالمرأة، وهو الذي نادى بحقوقها عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أثبت لها الحق الكامل صلى الله عليه وسلم.
الشيخ: من هذا المنبر الرائد في إصدار الفكرة الإسلامية والدعوة أقول: ينبغي أن نقوم بأعمال. في النصرة، أنا أطلب من إخواني أئمة وخطباء المساجد في مساجد المملكة أن يخصصوا الخطبة غداً للدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعذر أحد، هل يحدثنا الخطيب غداً عن حق الجار أو آداب المشي إلى الصلاة، أو عن مسألة من المسائل الاجتماعية، أو عن ظاهرة الطلاق، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يتعرض للاستهزاء أمام العالم والسخرية ولا يغضب، غداً سوف تكون الخطبة عنه صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أرى أنه يجب على كل كاتب مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويجيب الأذان إذا أذن، أن يخصص مقالة للدفاع عنه صلى الله عليه وسلم.
وأرى أن على القنوات أن تخصص أوقاتاً لاستثارة الهمم.
وأرى أن على رجال الأعمال والغرفة التجارية أن يكون لها قرار، وقبل ذلك هيئة كبار العلماء يكون لهم قرار مسموع ومقروء من الاستنكار وينشر في الناس.
أرى أيضاً أن تكون هناك مراسلة إلى سفارات هذه البلدان، والكتابة عبر الإنترنت والإبراق والاتصال بالمسئولين، وإخبارهم بمشاعر الناس وغضب الناس واستياء الناس بما حصل، حتى يجتمع الجهد الدبلوماسي الرسمي من الدولة مع الجهود الشعبية.
أنا أدعو رجال الأعمال والتجار الذين يخافون أن يغضب عليهم سبحانه وتعالى إذا رآهم يتعاملون مع هذه الأمة التي أهانت رسولهم واستهزأت بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ أدعوهم أن يعلنوا المقاطعة وسوف يغنيهم الله من فضله.
أحد المقاطعين يقول: الآن المقاطعة تبلغ ما يقارب المليار في المنتجات الدنماركية، فأقول للبقية: وأنتم ماذا تنتظرون، أفبعد أن أهين الرسول صلى الله عليه وسلم ويستهزأ به يفرح بمال ويفرح بثروة! لا بارك الله في ثروة تأتي بذلة عن طريق الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم وعدم الغضب لسيرته وسنته وشخصه الكريم صلى الله عليه وسلم.
إن الإنسان إذا أدرك يقيناً أنه عبد لربه تبارك وتعالى وابن عبد وابن أمة، انتصب لما أمره الله جل وعلا به وأذعن لما بلغه الله جل وعلا إياه على ألسنة رسله.
وإن مما أفاءه الله علينا -معشر المسلمين- أن جعلنا حظاً لهذا النبي عليه الصلاة والسلام من الأمم، كما جعله صلوات الله وسلامه عليه حظنا من النبيين، وهو عليه الصلاة والسلام بشارة أخيه عيسى، ودعوة أبيه إبراهيم من قبل، ورؤيا أمه التي رأت حين وضعته أن نوراً خرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام، فصلوات الله وسلامه عليه.
والحديث عنه ليس كالحديث عن كل أحد من الخلق وإن كان صلى الله عليه وسلم من جملة الخلق، كما قال: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)، فلا نتعدى به ما وضعه الله جل وعلا فيه من المقام الرفيع والمنزلة الجليلة، إلا من رحمة الله جل وعلا بنا أن جعلنا من أمته، نسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات، وأن يحشرنا الله جل وعلا يوم القيامة في زمرته.
نسمع المؤذن كثيراً يقول: (أشهد أن محمداً رسول الله) فتتعلق قلوبنا وتهفو أفئدتنا إلى ذلك المعنى الجليل الذي ينطوي تحت هذه الشهادة المباركة، وإن أعظم ما يفيء إلينا أن الإنسان يتمنى لو قدر له أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا أمر قد مضى بقدر الله جل وعلا، ونحن دائماً وأبداً مذعنون لقضاء الله جل وعلا وقدره، فقد فاتنا شرف الصحبة وبقي لنا شرف الاتباع.
أقول: إن قول المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله) يضع المؤمن أمام تاريخ مجيد وشخصية فريدة، وعبد أثنى الله جل وعلا عليه في الملأ الأعلى، بل جعله الله جل وعلا أمنة لأهل الأرض من العذاب، قال الله جل وعلا عن طغاة الأرض يومئذ وهم كفار قريش: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33] صلوات الله وسلامه عليه، مع أن تعذيب الأمم السابقة سنة ماضية لم تتغير إلا بعد مبعثه صلوات الله وسلامه عليه.
كما أنه عليه الصلاة والسلام عرج به ربه بواسطة جبريل إلى الملأ الأعلى والمحل الأسمى، وتجاوز مقاماً يسمع فيه صريف الأقلام، كل ذلك من احتفاء الله وإظهار كرامة هذا النبي عند ربه جل وعلا، ولقد قال الله على لسان الخليل إبراهيم أنه قال لأبيه: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47] فكيف الاحتفاء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان خليل الله إبراهيم لا يبعد كثيراً عن منزلة نبينا صلوات الله وسلامه عليه؟
أنه كان عليه الصلاة والسلام سبط الشعر بمعنى: أن شعره لم يكن مسترسلاً ولم يكن ناعماً.
كما أنه كان صلى الله عليه وسلم أقنى الأنف أجلى الأجبهة، في جبينه صلى الله عليه وسلم عرق يدره الغضب، فإذا غضب في ذات الله امتلأ هذا العرق دماً.
وكان أزج الحواجب في غير قرن، أشم الأنف، طويل أشفار العينين، ضليع الفم -أي: كبير الفم- مهذب الأسنان، كث اللحية، الشيب فيه ندرة صلوات الله وسلامه عليه، وأكثر شيبه في صدغيه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه أسفل شفته السفلى في عنفقته هنا صلوات الله وسلامه عليه.
وكان عريض المنكبين كأن عنقه إبريق فضة، من وهدة نحره عليه الصلاة والسلام إلى أسفل سرته شعر ممتد ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره.
إذا أشار أشار بيده كلها، وإذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال: سبحان الله، وعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح أنه كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه صلوات الله وسلامه عليه! من رآه من بعيد هابه، ومن رآه من قريب أحبه، يقول علي رضي الله عنه: لم أر قبله ولا بعده أفضل منه صلوات الله وسلامه عليه. ونحن على ما قال علي من المصدقين المؤملين.
فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد
ضخم الكراديس -أي: عظام المفاصل- إذا مشى يتكفأ تكفؤاً كأنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكئ على كعبيه.
عاش عليه الصلاة والسلام ثلاثة وستين عاماً، أربعون عاماً منها قبل أن ينبأ، ثم نبئ بإقرأ، وأرسل بالمدثر، وتوفي على رأس ثلاث وستين سنة من عمره الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه، عاش منها ثلاثة عشر عاماً نبياً ورسولاً في مكة يدعو إلى الله ويجاهد في الله حق جهاده، وضع على ظهره عليه الصلاة والسلام وهو ساجد سلا الجزور وهو أفضل الخلق عند الله جل وعلا، ومع ذلك بقي ساجداً حتى علمت فاطمة وحملت سلا الجزور عن أبيها.
وهو عند الله في المنزلة العالية والدرجة الرفيعة والمقام الجليل صلوات الله وسلامه عليه.
أنزل الله عليه القرآن منجماً في ثلاثة وعشرين عاماً، لم يخاطبه الله جل وعلا في القرآن كله باسمه الصريح، فليس في القرآن (يا محمد) إنما في القرآن: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، كل ذلك من دلائل عظيم مقامه وجليل شرفه وعلو منزلته عند ربه تبارك وتعالى.
عرج به كما بينا إلى سدرة المنتهى ثم عاد في نفس الليلة، ثم بعد ثلاث سنين أو أكثر أو أقل هاجر إلى المدينة، فمكن الله له هناك وأقام دولة الإسلام.
مكث صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنين جاهد في الله تبارك وتعالى حق جهاده، شج رأسه يوم أحد وسال الدم على وجهه وكسرت رباعيته وهو ينظر إلى قريش ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وهو يدعوهم إلى الله)!.
في العام العاشر أذن في الناس أنه عليه الصلاة والسلام عازم على الحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، فأنزل الله عليه في يوم عرفة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فعلم أن الأجل قد قاربه فأخذ يودع الناس ويقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
ثم رجع إلى المدينة بعد أن أكمل نسكه وأتم حجه، وفي أوائل شهر ربيع من ذلك العام أصيب صلى الله عليه وسلم بصداع ودخل على عائشة وهي تقول: وارأساه، فقال: (بل أنا وارأساه!)، ثم أخذ يشكو المرض حتى حانت ساعة الوفاة في يوم الإثنين من شهر ربيع الأول.
دخل عليه أسامة بن زيد يسأله أن يدعو له فرفع يديه يدعو دون أن يظهر صوتاً وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء، ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر في الساعات الأخيرة وفي يد عبد الرحمن سواك فأخذ يحدق النظر في السواك كأنه يريده، ففهمت عائشة الصديقة بنت الصديق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت السواك وقضمته وطيبته وأعطته لنبي الله عليه الصلاة والسلام، فاستاك في الساعات الأخيرة قبل أن تفيض روحه إلى ربه تبارك وتعالى.
ثم جاءه الملك يخيره فسمعته عائشة وهو يقول: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى! قالها ثلاثاً)، ثم مالت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.
هذه على وجه الإجمال سيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم ونبذة عن وصفه ممن علق الله جل وعلا قلوبنا بحبه بعد حب الله تبارك وتعالى، فنحن نحبه لأن الله اختاره واصطفاه واجتباه، والله جل وعلا يقول: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68].
فهو عليه الصلاة والسلام رسول رب العالمين، ونبي الأميين، وأفضل أهل الأرض وأهل السماء، صلوات الله وسلامه عليه، قال شوقي ونعم ما قال:
ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم
لما رنا حدثتني النفس قائلة يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي
جحدتها وكتمت السهم في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي ألم
يا لائمي في هواه والهوى قدر لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم
إلى أن قال:
يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم
إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعم
الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسم
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيال من الرمم
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر