قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى: كتب عليكم العدل في القصاص -أيها المؤمنون- حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى مَن قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة والنضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به، بل يفادى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية القرضي، فأمر الله بالعدل في القصاص ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين المخالفين لأحكام الله فيهم كفراً وبغياً، فقال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178]، وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم قال: حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] يعني: إذا كان عمداً الحر بالحر، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل العبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178]، منها منسوخة نسختها النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178] وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة:45] فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] ].
هنا يبين أن الآية السابقة منسوخة بقوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، والصواب أنه ليس هناك نسخ، وإنما هذه الآية مخصصة لآية المائدة: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ [المائدة:45]، وآية المائدة وإن كانت لبني إسرائيل إلا أنها مما ووافقت فيه الشريعة المحمدية الشريعة الموسوية؛ لأن الله تعالى ساقها وأقرها ولم يأت بما يخالفها، فهذه الآية : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] مخصصة لما في المائدة: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة:45] فخصصت، الحر بالحر والعبد بالعبد، وهذه الآية آية عظيمة وجه الله تعالى الخطاب فيها للمؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] والقصاص هو قتل القاتل بمثل ما قتل به.
وقال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة : (من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن خصاه خصيناه) .
وخالفهم الجمهور فقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبد سلعة لو قُتل خطأً لم يجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته؛ ولأنه لا يقاد بطرفه، ففي النفس بطريق الأولى ].
أي: لو قطع الحر يداً لعبد أو رجلاً لا يقاد، ففي النفس من باب أولى.
وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به؛ لعموم آية المائدة ].
وما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله في المسألتين ضعيف، والصواب ما ذهب إليه الجمهور، فالحر لا يقتل بالعبد؛ لأنه ليس مكافئاً له؛ لأنه سلعة يباع ويشترى، ولأنه لا يقاد بالطرف، فلا يقاد بالنفس.
وأما الحديث الذي استدل به الإمام أبو حنيفة فهو حديث ضعيف، وهو (من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن خصا عبده خصيناه)؛ لأنه من رواية الحسن عن سمرة، وهو لم يسمع من سمرة ، والحديث -أيضاً- مخالف للأحاديث الصحيحة.
وكذلك السيد إذا قتل عبده فلا يقتل به، خلافاً لـأبي حنيفة ، فهو يرى أن السيد يقتل به، ويدل على خلاف قوله حديث: (من قذف عبده فإنه يقاد به يوم القيامة)، ولم يقل: يقاد به في الدنيا. فإذا كان لا يقاد به في القذف ففي القتل من باب أولى، وكذلك المسلم لا يقتل بالكافر خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله، ودليل ذلك الحديث الذي ورد في البخاري : (لا يقتل مسلم بكافر)، وأما آية المائدة فنقول عنها: إن آية البقرة مخصصة لها.
قال الحسن وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية. وخالفهم الجمهور في آية المائدة، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، وقال الليث : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة ].
والصواب أن الرجل يقتل بالمرأة، ويدل على ذلك الأحاديث الصحيحة، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي الذي قتل جارية بسبب أوضاح لها فرض رأسها بين حجرين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، ولعموم الحديث: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، ولأن في ذلك ردعاً عن جريمة القتل.
ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع.
وحكي عن الإمام أحمد رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة، وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير وعبد الملك بن مروان والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت .
ثم قال ابن المنذر : وهذا أصح، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة، وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر ].
والصواب القول الأول، وهو أن الجماعة يقتلون بالواحد؛ لعموم الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، ولإجماع الصحابة على ذلك، ولأن ذلك ذهب إليه عمر وهو الخليفة الراشد، وقد أمرنا باتباعه، وهو كالإجماع من الصحابة، ولأن فيه درءاً للمفسدة؛ لأن الجماعة لو لم يقتلوا بالواحد لصار من أراد أن يقتل واحداً اشترك مع غيره حتى لا يقتل، وهذه مفسدة عظيمة، فالصواب أن الجماعة تقتل بالواحد.
وكذا روي عن أبي عالية وأبي الشعثاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان.
وقال الضحاك عن ابن عباس : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178] يعني: فمن ترك له من أخيه شيء، يعني: أخذ الدية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو.
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178] يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية، وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] يعني: من القاتل من غير ضرر ولا معك، يعني المدافعة ].
والمعنى أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص إلى الدية؛ فعلى الجاني أن يؤدي الدية بإحسان من غير مماطلة؛ لأن ولي القصاص أحسن إليه وعدل عن قتله إلى الدية، فعليه أن يؤدي الدية بإحسان، ويبادر بأدائها؛ ولأن تأخيرها قد يفضي إلى أن يعتدي عليه بعض الورثة فيقتله، فكونه يبادر في أداء الدية هو المطلوب، وهذا هو الذي يناسب العفو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى الحاكم من حديث سفيان عن عمرو عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: ويؤدي المطلوب بإحسان.
وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن وقتادة وعطاء الخرساني والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان .
مسألة: قال مالك رحمه الله -في رواية ابن القاسم عنه، وهو المشهور- وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل. وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض ].
والصواب أن المسألة فيها تفصيل، وهو أن ولي الدم له أن يعفو إلى دية واحدة بغير رضا القاتل، لكن إذا أراد أن يعفو عنه إلى أكثر من دية فلا بد من رضا القاتل، فإذا عفا عنه وقال: تعطيني دية واحدة، فهذا لا يحتاج معه إلى أن يرضى؛ لأن الدية في مقابلة القصاص، ولكن إذا أراد أن يعفو وقال: أنا لا أعفو إلا بديتين أو ثلاث أو أربع؛ فلا بد من رضا القاتل، فإن رضي القاتل فلا حرج.
وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو، منهم: الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي، وخالفهم الباقون ].
والصواب أن النساء لهن العفو؛ لعموم الآية: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ [البقرة:178] فهذا عام في الورثة كلهم، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين) وفي لفظ: (فأهله بخير النظرين) ، و(أهله) يشمل الذكور والإناث، فالصواب أن العفو يشمل الذكور والإناث.
هذا الحديث لا بأس بسنده، وفيه أن بني إسرائيل -وهم أهل التوراة- كان فيهم أنه يخير الواحد منهم بين القصاص والعفو، فإما أن يقتل وإما أن يعفو بغير دية، ويقال: إن شريعة النصارى هي الدية أو العفو، وليس فيها القصاص، فجاءت شريعتنا الشاملة بالتخيير بين الثلاثة الأمور: القصاص أو العفو إلى الدية أو العفو بغير دية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد وقد رواه غير واحد عن عمرو، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار
، ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس بنحوه.وقال قتادة : ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:178] رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش ]. يعني: الدية، [ وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش.
وهكذا روي عن سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس نحو هذا.
وقوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:178] يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله أليم موجع شديد.
وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية، كما قال محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالداً فيها) رواه أحمد ].
وهذا الحديث ضعيف، ففيه عنعنة ابن إسحاق، وفيه سفيان بن أبي العوجاء وهو ضعيف، لكنه -على الصحيح- يخير بين ثلاثة أمور، فإن اختار الرابعة -وهي القتل- بعد اختياره إحدى الثلاث فله عذاب أليم في الآخرة، ويستحق القتل أيضاً في الدنيا.
ولا شك في أن العفو أفضل، فكونه يأخذ الدية أولى من القصاص، وأقول: لولي الأمر والأولياء أن ينظروا في مثل هذا؛ إذ ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، فإذا كان الشخص مجرم وله سوابق فينبغي أن يقتص منه، أما إذا كان ليس معروفاً بهذا فالأولى أن يعفى عنه.
والدية محددة، وهي مائة بعير، لكن له أن يشترط عليه أكثر من دية، كأن يقول: أنا لا أعفو عنك إلا بديتين أو بثلاث أو أربع أو خمس، فله ذلك إذا وافق القاتل، وإذا لم يوافق فإنه يسلم نفسه للقصاص، أما الدية الواحدة فلا يجب فيها موافقة القاتل، ولا يؤخذ برأيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية) يعني: لا أقبل منه الدية، بل أقتله ].
وهذا ضعيف؛ لأن الحسن لم يسمع من سمرة ، وقتادة وسعيد بن أبي عروبة لم يصرحا بالتحديث.
فالقصاص هو قتل القاتل بمثل ما قتل به، وأما عبارة: (القتل أنفى للقتل) فلا تفيد هذا، والمعنى -أيضاً- غير سليم، فقد يكون القتل أنفى للقتل، وقد لا يكون أنفى، بل إذا كان القتل بظلم فإنه يزيد القتل، بخلاف معنى آية: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ(، فالقصاص قتل القاتل بمثل ما قتل به، والقصاص حياة، مع أن هذه أوجز وأخصر وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] ، تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يُقتل ].
لأنه إذا علم أنه سيقتل كف عن القتل، فسلمت نفسه ونفس من يريد قتله، ولهذا صار القصاص حياة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان، يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179] يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه، والتقوى: اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر