أخبرنا عيسى بن حماد قال: حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن حديج عن معاوية بن أبي سفيان : أنه سأل أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي كان يجامع فيه؟ قالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى) ].
معاوية بن حديج هذا صحابي صغير، وحديج بالحاء المهملة مصغر، وقد يشتبه على بعض الناس هذا بالصحابي الآخر رافع بن خديج ، فهذا معاوية بن حديج مصغر وبالحاء المهملة، وأما ذاك فـرافع بن خديج فمكبر وبالخاء المعجمة.
وفي هذا الحديث دليل على أن المني طاهر؛ لأنه أصل خلقة الإنسان، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه، ولما سئلت قالت: (نعم، إذا لم ير فيه أذى) يعني: من نجاسة أو قذر غير المني.
قوله: (إذا لم يكن فيه أذى) فيه أن المني طاهر، لأنه أصل الخلقة، لكن يستحب غسله من باب النظافة، فيغسل الرطب ويفرك اليابس، كما في الأحاديث الأخرى أن عائشة كانت تغسل المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، فيخرج إلى الصلاة وإن أثر بقع الماء في ثوبه.
وفي الحديث الآخر تقول رضي الله عنها: (كنت أفركه يابساً من ثوبه صلى الله عليه وسلم) فالمني إذاً طاهر خصوصاً إذا استنجى قبل ذلك فهو طاهر؛ لأنه أصل خلقة الإنسان، بخلاف المذي والبول الودي فهذه نجسة، فالبول يغسل منه طرف الذكر، والمذي يغسل منه الذكر والأنثيين، ونجاسته مخففه.
أخبرنا سويد بن نصر قال أخبرنا عبد الله عن عمرو بن ميمون الجزري عن سليمان بن يسار عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء لفي ثوبه) ].
وهذا الغسل من أم المؤمنين لثوبه عليه الصلاة والسلام إنما هو من باب النظافة، وإلا فالمني طاهر، ويستحب غسل رطبه وفرك يابسه.
أخبرنا قتيبة قال: حدثنا حماد عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن الحارث بن نوفل عن عائشة قالت: (كنت أفرك الجنابة -وقالت مرة أخرى- المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
أخبرنا عمرو بن يزيد قال حدثنا بهز حدثنا شعبة قال الحكم : أخبرني عن إبراهيم عن همام بن الحارث أن عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد رأيتني وما أزيد على أن أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
أخبرنا الحسين بن حريث قال: أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عائشة رضي الله عنها قال: (كنت أفركه من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم).
أخبرنا شعيب بن يوسف عن يحيى بن سعيد عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أراه في ثوب رسول صلى الله عليه وسلم فأحكه).
أخبرنا قتيبة قال: حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن أبي معشر عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت (لقد رأيتني أفرك الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
أخبرنا محمد بن كامل المروزي قال: حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد رأيتني أجده في ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحته عنه).
أخبرنا قتيبة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها: (أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله).
أخبرنا قتيبة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه إياه) ].
هذه الأحاديث فيها دليل على أن بول الصبي الذي لم يأكل الطعام يكتفي فيه بالنضح دون الغسل، وإنما يصب الماء صباً عليه. هذا إذا كان الصبي لم يأكل الطعام وإنما يكتفي باللبن، سواء أكان من أمه أم من الحليب المعلب، أما إذا أكل طعاماً فإنه لا بد من غسل بوله وفركه.
أخبرنا مجاهد بن موسى قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا يحيى بن الوليد قال: حدثني محل بن خليفة قال: حدثني أبو السمح رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) ].
الجارية لا بد من غسل بولها ولو أنها لما تأكل الطعام بعد؛ لأن حكم النضح خاص بالغلام.
وقد اختلف العلماء في حكمة التفريق بين بول الصبي وبول الجارية، فقيل: إنما ذلك لأن بول الصبي لا يكون في مكان واحد بل ينتشر، وأما بول الجارية فإنه يكون في مكان واحد، فرخص في نضح بول الغلام نظراً للمشقة.
وقيل: لأن الصبي يحمله الناس ويحبونه أكثر من الجارية.
وقيل: لأن الجارية بولها ينزل إلى الدبر، وقيل غير ذلك، والله أعلم.
والكل محتمل، وإنما المقصود: أن علينا أن نمتثل ونقول: سمعنا وأطعنا، ثم إن علمنا الحكمة فهي نور على نور، وإن لم نعلمها فنسلم لأمر الله ورسوله، ونوقن أن الشارع حكيم.
إذاً: فالجارية لا بد من غسل بولها.
ومحل بن خليفة في هذا السند ثقة لا بأس به.
والنضح هو صب الماء على المكان فقط بلا تحريك، والغسل فيه دلك وتحريك.
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد قال: حدثنا قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم: (أن أناساً أو رجالاً من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلموا بالإسلام، وقالوا: يا رسول الله! إنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف -واستوخموا المدينة-، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا -وكانوا بناحية الحرة- كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث الطلب في آثارهم فأتي بهم، فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، ثم تركوا في الحرة على حالهم حتى ماتوا) ].
هذا الحديث رواه الشيخان، وفيه: أن هؤلاء الناس جاءوا من عكل نحو النبي صلى الله عليه وسلم فتكلموا بالإسلام، فحكم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم به، ونطقوا بالشهادتين، فقالوا: يا رسول الله! إنّا أهل ضرع، يعني: عشنا في البادية والصحراء، وعندنا غنم وإبل.
ثم قالوا: ولم نكن أهل ريف، أي: ما تعودنا أن نسكن في البلد، قوله: (واستوخموا المدينة)؛ لأنهم معتادون على الهواء الطلق، فلما دخلوا المدينة أصابتهم الروائح فمرضوا، قوله: (فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع) الذود: هي الثلاث من الإبل فأكثر، قوله: (وأمرهم أن يخرجوا فيها) أي: أن يخرجوا خارج البلد مع الإبل فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحّوا؛ لأن الذود تأكل من الحشائش في البر، فخرجوا معها، وشربوا من أبوالها وألبانها.
قوله: (فلما صحوا) أي: زال ما بهم من المرض والوخم، (كفروا بعد إسلامهم) والعياذ بالله وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي اللفظ الآخر: أنهم مجموعة رعاة، فقتلوهم، وسرقوا الإبل فاستاقوها، فهؤلاء جمعوا شراً كثيراً: فكفروا بعد إسلامهم، وقتلوا، وسرقوا، وقطعوا الطريق، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم، بعث الطلب في آثارهم، أي: بعث فرساناً يطلبونهم فأتوا بهم، وفي اللفظ الآخر: أنهم أتوا بهم قبل أن يشتد النهار، فسمر النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم قصاصاً؛ لأنهم فعلوا ذلك بالرعاة أو بالراعي، فاقتص النبي صلى الله عليه وسلم منهم فسمر أعينهم، وذلك بأن يؤتى بشيء من الحديد ويحمى بالنار فيوضع على أعينهم قصاصاً كما فعلوا؛ لأنهم سمروا أعين الراعي، وقتلوه وسرقوا الإبل وكفروا بعد إسلامهم، فالنبي أمر بهم فسمرت أعينهم، وقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف كما فعلوا، وتركوا في الحرة على حالهم حتى ماتوا، وفي اللفظ الآخر: أنهم لهثوا الثرى بألسنتهم، ففعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم كما فعلوا قصاصاً.
وإنما قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؛ لأنهم قطعوا الطريق، وسرقوا الإبل، ثم تركهم، وفي اللفظ الآخر: (ولم يحسمهم)؛ لأنه أخذ من كل واحد منهم يده اليمنى ورجله اليسرى ولم يوقف نزول الدم، أي: استمر الدم ينزف منهم حتى ماتوا.
لكن السارق إذا قطعت يده فتحسم حتى يقف الدم ولا يموت، وأما هؤلاء فالمراد قتلهم؛ لأنهم مرتدون وقطاع طريق، فعاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم تركهم في الحرة حتى ماتوا، قال أنس كما في رواية مسلم : هؤلاء سرقوا وقتلوا وقطعوا الطريق وكفروا بعد إسلامهم.
والشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يشربوا من أبوال الإبل، فدل على أن البول طاهر، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسل أفواههم، ففيه دلالة على طهارة بول ما يؤكل لحمه، كما هو أصح قولي العلماء خلافاً للشافعي وجماعة، الذين يقولون: إن أبوال الإبل نجسة؛ لأن الأصل أن الأبوال نجسة، بدليل عموم الأحاديث التي فيها الأمر بالتنزه من البول، وقالوا: هذا عام يدخل فيه كل بول.
والصواب: أن المراد بتلك الأحاديث بول الآدمي أو بول ما لا يؤكل لحمه، وأما بول ما يؤكل لحمه فهو طاهر، وكذا روثه وفرثه ومنيه، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل، فلو كانت نجسة لقال: اغسلوا أفواهكم فإنها نجسة، بل كيف يأمرهم بشربها وهي نجسة؟! وهذه حجة واضحة في طهارة بول ما يؤكل لحمه؛ ولهذا بوب المؤلف بقوله: (باب بول ما يأكل لحمه) ولم يجزم بشيء، فلم يقل: باب طهارة بول ما يؤكل لحمه؛ لأن الخلاف قوي في المسألة، فقال: باب بول ما يؤكل لحمه، يعني: ما حكمه هل هو طاهر أم نجس؟ فترك الحكم للقارئ، وهو طاهر، والتقدير: باب طهارة بول ما يؤكل لحمه، لكن حذف الحكم من أجل الخلاف.
وهل ينقض الطهارة شرب أبوال الإبل وألبانها؟
الجواب: لا، لا ينقض الطهارة، وإنما ينقضها أكل اللحم، وأما إذا شرب مرقاً أو لبناً أو بولاً فلا حرج، وهذا موجود حتى الآن -أي: الشرب من أبوال الإبل وألبانها- كما في بعض المدن المجاورة للرياض، فقد وجدنا بها بعض الشيوخ الكبار يشربون من أبوال الإبل.
فالمقصود: أن أن الأبوال يرى أن فيها صحة وفائدة، وهي كذلك بلا شك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم -أي: العرنيين- فاستفادوا وصحوا.
وكذلك روث ما يؤكل لحمه طاهر، بل جميع الفضلات.
والفرس وإن كان لا يؤكل لحمه، لكن منيه وفضلاته جميعها طاهرة، وبعض العلماء يرى أنه لا ينقض الوضوء إلا اللحم الأحمر وهو الهبر، أما لو أكل من الكرش أو من لحم الرأس أو من الكبد فلا ينقض.
والصواب: أن الجميع ينقض. وفي المسألة خلاف بين أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، ولكن الصواب ما قدمناه؛ لأن الله تعالى قد قال لما حرم لحم الخنزير: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145].
ولا يقول أحد: إن شحم الخنزير وكذلك لحم رأسه أو كبده طاهرة يجوز أكلها!
ونقض الوضوء بلحم الإبل فيه خلاف، فيرى الأئمة الثلاثة أنه لا ينقض الوضوء، ويرون أن ما ورد فيه منسوخ بحديث جابر : (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مست النار).
والصواب: أن لحم الإبل مستثنى بأدلة خاصة، كحديث جابر بن سمرة وحديث البراء (توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضؤا من لحوم الغنم) وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئتم، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس عندي إشكال في وجوب الوضوء من لحم الإبل، ففيه حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولحم الإبل ينقض الوضوء سواء أكان نيئاً أم مطبوخاً، وأما حديث جابر : (كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مست النار) فهذا خاص بالذي تمسه النار، وأما لحم الإبل فينقض الوضوء ولو لم تمسه النار، فهو ينقض الوضوء مطلقاً سواء أكان في البلد أم في الصحراء.
قال أمير المؤمنين عبد الملك لـأنس وهو يحدثه هذا الحديث: بكفر أم بذنب؟ قال: بكفر.
قال أبو عبد الرحمن : لا نعلم أحداً قال عن يحيى عن أنس في هذا الحديث غير طلحة .
والصواب عندي -والله تعالى أعلم- يحيى عن سعيد بن المسيب مرسل ].
يرى المؤلف رحمه الله: أن الصواب في هذا السند أنه مرسل، أي: مرسل يحيى عن سعيد ، ولا يلزم منه عدم سماع يحيى من أنس ، فإن يحيى تابعي صغير، وأنس طالت حياته إلى زمن الحجاج فيمكن سماعه منه، والنسائي يقول: أنه من رواية يحيى عن سعيد ، لا يلزم منه عدم سماع يحيى من أنس ، وقول المؤلف معناه: أن رواية يحيى بن سعيد عن أنس منقطعة.
إذاً: فالمؤلف رحمه الله يقول: لا نعلم أحداً قال: عن يحيى عن أنس غير طلحة ، يعني: رواه طلحة بن مصرف عن يحيى بن سعيد عن أنس .
والصواب: فيه أنه عن يحيى عن سعيد بن المسيب ، فيكون مرسلاً، ومراسيل سعيد بن المسيب جيدة، بل وجد أنها من أصح المراسيل.
وتتبعها بعض العلماء فوجدوها موصولة، وهذا السند يحتاج إلى مراجعة؛ لأن النسائي رحمه الله من أهل الحديث ومن أهل الجرح والتعديل، وكانت له عناية بهذا الفن رحمه الله، وقد تكلم في هذا السند، لكن على كل حال فالحديث ثابت عند مسلم رحمه الله.
وعقاب النبي صلى الله عليه وسلم للعرنيين فيه جمع بين الحد والقصاص، فاقتص منهم بأن سمر أعينهم كما فعلوا بالراعي أو بالرعاة، وقطع أيديهم وأرجلهم حداً؛ لأنهم قطعوا الطريق، وقاطع الطريق حده أن تقطع يده ورجله من خلاف، وتركوا حتى ماتوا؛ لأنهم كفروا، ولم تحسم أيديهم وأرجلهم، فجمع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بين القصاص والحد والقتل، ولو لم يستوجبوا القتل لحسم أيديهم وأرجلهم بالدهن ونحوه، كما تحسم يد السارق بالدهن إذا قطعت، وقديماً لم يكن عندهم ما يوقف الدم، وأما الآن فقد تطور الطب الحديث فتحسم اليد بعد قطعها بأشياء تمنع الدم، فإذا قطعت يد السارق أو يد قاطع الطريق أو قطعت يده ورجله فتحسم ويقف الدم ويعيش، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما حسمها؛ لأنه أراد أن يقتلهم؛ لأنهم كفروا وارتدوا.
أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيم قال: حدثنا خالد -يعني ابن مخلد - قال: حدثنا علي -وهو ابن صالح - عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: حدثنا عبد الله في بيت المال قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت وملأ من قريش جلوس، وقد نحروا جزوراً، فقال بعضهم: أيكم يأخذ هذا الفرث بدمه ثم يمهله حتى يضع وجهه ساجداً فيضعه -يعني: على ظهره-، قال
هذا الحديث أخرجه الشيخان، وعبد الله هو: ابن مسعود رضي الله عنه.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وكان ملأ قريش يجلسون عندها، وغالباً ما يكونون أمام الحجر، ونحروا في ذلك اليوم جزوراً، وكانوا يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: أيكم يأخذ هذا الفرث -وفي لفظ: سلا الجزور- بدمه ثم يمهله حتى يضع وجه ساجداً فيضعه على ظهره، قال عبد الله : فانبعث أشقاها، فأخذ الفرث فذهب به فأمهل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خر ساجداً وضعه على ظهره، فأخبرت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت جارية- فجاءت تسعى، فأخذته عن ظهره وألقته، أقبلت على الكفرة تسبهم، فلما فرغ من صلاته، أي: النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، وكانوا يضحكون فيما بينهم، حتى يكاد أحدهم أن يسقط من الضحك، فلما فرغ من صلاته وجعل يدعو عليهم زال عنهم الضحك، وخافوا! وقال: اللهم عليك بـأبي جهل بن هشام ، وشيبة بن ربيعة , وعتبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، حتى عد سبعة من قريش، قال عبد الله : فوالذي أنزل عليه الكتاب لقد رأيتهم صرعى يوم بدر في قليب واحد، أي: قتل هؤلاء السبعة، فتقبلت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقتل هؤلاء الكفرة وسحبوا في القليب، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا الحديث استدل به المؤلف من جهة أنه وضع الفرث على النبي وهو يصلي ولم يخرج من صلاته، فصلى وعليه فرث البعير.
ومن المعلوم: أن البعير طاهر، فيكون فرثه طاهراً، لكن هذه الجزور من الذي نحرها؟ نحرها المشركون، فهي إذاً ميتة -وهكذا ما يذبحه المشركون له حكم الميتة- فتكون نجسة، فكيف يستدل المؤلف بهذا الحديث على طهارة فرث ما يؤكل لحمه؟! فقال: (باب فرث ما يؤكل لحمه يصيب الثوب)، فهل يؤكل لحم الجزور وهو ذبيحة مشرك؟ قد يقال: في ذلك الوقت كان يؤكل لحمه؛ لأن الشريعة ما استقرت في مكة، ولم تنزل الأحكام, وإنما استقرت الأحكام في المدينة، ونزل تحريم الميتة.
والنبي صلى الله عليه وسلم استمر في صلاته أي: عند أن وضع المشركون عليه الفرث ولم يقطع صلاته؛ لأن الشريعة ما استقرت والأحكام لم تنزل بعد، ثم أنزل عليه تحريم الميتة في ذلك الوقت، ولا يكون استدلال المؤلف في موضعه؛ لأمرين: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري ما ألقي عليه، وإلا فمعلوم أن الدم نجس ولو كان مما يؤكل لحمه.
ثانياً: أن الاستمرار في الصلاة غير البدء، كمثل ما مر معنا في الحديث الذي عنده أبي داود في قصة الرجلين الأنصاري وصاحبه اللذين جلسا يحرسان، فقام أحدهما يصلي فجاءه سهم، فأخذه ونزعه، ثم جاءه ثان وثالث، وجعلت الدماء تسيل منه وهو مستمر في صلاته ولم يقطعها؛ لأن الاستمرار في الصلاة غير البدء فيها، ولأن قطع الصلاة لا يفيده في هذه الحالة.
فالمقصود: أن إتيان المؤلف رحمه الله بهذا الحديث في هذه الترجمة فيه إشكال، وليس في الاستدلال شيء واضح إلا من جهة أن الجزور يؤكل لحمه، لكن قد بينا أن التشريع لما ينزل في ذلك الوقت، ولما تحرم الميتة، وإنما كان على الأصل أنه طاهر؛ ولهذا استمر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، والدم الذي في الفرث ليس دماً مسفوحاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم بذلك.
فالمقصود: أن هذا الاستدلال ليس بواضح لما أراده المؤلف رحمه الله.
والمؤلف ترك الترجمة مفتوحة ولم يجزم بحكم فيها؛ لوجود الإشكالات.
أخبرنا علي بن حجر قال: حدثنا إسماعيل عن حميد عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ طرف ردائه فبصق فيه فرد بعضه على بعض) ].
أخبرنا محمد بن بشار عن محمد قال: حدثنا شعبة قال: سمعت القاسم بن مهران يحدث عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلا يبزق بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه، وإلا: فبزق النبي صلى الله عليه وسلم هكذا في ثوبه ودلكه) ].
هذا مما أخرجه الشيخان في الصحيح، وهو يدل على طهارة البزاق؛ ولهذا أجاز النبي صلى الله عليه وسلم للإنسان أن يبزق في ثوبه، ولو كان نجساً لما أجاز له ذلك، وفيه دليل على أن الإنسان إذا صار به بزاق، فإنه يبزق في ثوبه أو في منديل إذا كان في المسجد، فإن كان في الصحراء فله أن يبزق عن يساره أو تحت قدمه وليس له أن يبزق بين يديه ولا عن يمينه.
فلا يبزق بين يديه؛ لأنه وجاء في الحديث: (إذا صلى أحدكم فإن الله قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه) وجاء في اللفظ الآخر: أن عن يمينه ملكاً، فإذا أصاب الإنسان بزاقاً وهو في المسجد فيبزق في ثوبه أو في منديل، ويرد بعضه على بعض، ولهذا قال النبي: أو يقول هكذا، أي: يرد بعضه على بعض، فكان الناس هكذا يبزقون قبل أن توجد مناديل.
والله تعالى فوق العرش، وهو وإن كان كذلك فهو أمام المصلي، ولا يبزق عن يمينه؛ لأن الملك عن يمينه، فما بقي له إلا أن يبزق عن يساره أو تحت قدمه، هذا في الصحراء، وأما في المسجد، فلا يبزق إلا في ثوبه.
وجاء في الحديث الآخر: (وهو يصلي) أي: إنما النهي في الصلاة، وقال بعضهم: النهي حتى يشمل غير الصلاة، والحديث عام، لكن جاء في بعض الأحاديث تقييده بالصلاة، كحديث: (إذا قام أحكم يصلي فإنه يناجي ربه فلا يبصقن أمامه ولا عن يمينه) والمطلق يحمل على المقيد، لكن إذا احتاط حتى في غير الصلاة فحسن.
والأقرب: أنه -أي النهي- يخص في الصلاة.
الأقرب: أنه يدفن معها في قبرها، وينبش القبر للضرورة مثلما نبش جابر قبر أبيه، لما خشي من السيل؛ لأنه كان في الوادي.
فالأقرب: أنه يوضع معها في قبرها؛ لأنه جزء منها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر