وبعد ذلك بين تدرج القرآن في تحدي معارضيه، وذكر أمثلة ممن حاولوا معارضة القرآن فانتقم الله منهم، وذكر أن القرآن معجز بجملته، واقتبس عبارات مناسبة للموضوع من كلام سيد قطب رحمه الله.
ثم ذكر كلاماً مطولاً عن أهل الجنة ووصف حالهم ونعيمهم، وتطرق في ثنايا الكلام لذكر مزالق أهل الأدب، والكلام عن التقوى ومعانيها في القرآن.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعـد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
من الوجوه وجوه لا تُرى إلا في الخير، لا تُرى إلا في الصلاة، وفي مجامع الخير، وفي دروس الهدى، وفي حلقات الذكر، وهذه وجوه الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، وجوه الذين قال الله فيهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16].
ومن الوجوه وجوه لا تُرى إلا في الشر، ولا تُرى إلا في مجامع الفساد، وفي الساعات الحمراء من ساعات البغي والفجور: وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [العنكبوت:23].
عمر رضي الله عنه وأرضاه نزل إلى السوق، فرأى سارقاً سرق، ورأى جمعاً من الناس يطاردونه، قال: [[مالكم! ستره الله وتفضحونه، قبح الله تلك الوجوه التي لا ترى إلا في الشر]].
وأبو هريرة دخل إلى المسجد فرأى حلقاً من الناس يتحدثون بالآيات والأحاديث، فأتى إلى تجار الدنيا وهم يبيعون الطعام والحب والزبيب والتمر في السوق، فقال: أتريدون ميراث الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
قالوا: نعم.
قال: فإنه يوزع الآن في المسجد، فتركوا تجارتهم وتسابقوا إلى أبواب مسجده صلى الله عليه وسلم، فما رأوا حباً ولا تمراً، ولا زبيباً ولا دقيقاً، وإنما رأوا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ورأوا حلقاً للذكر، ووجوهاً ناصعةً مؤمنة، وسجدات تلوح على الجباه، وقلوباً تتحرك بلا إله إلا الله:-
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسرى بها الساري |
قال التجار: يا أبا هريرة! أين الميراث؟
قال: ماذا وجدتم؟
قالوا: وجدنا حلق الذكر تفسيراً وحديثاً، قال: [[فهذا والذي نفس أبي هريرة بيده! ميراثه صلى الله عليه وسلم، ما ترك درهماً ولا ديناراً، ولا داراً ولا عقاراً، وإنما ترك العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر]].
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيت من الطين أو كهفٌ من العلم |
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم |
عرض له صلى الله عليه وسلم شباب يريدون الغزوة، فقال: (أيكم أكثر أخذاً للقرآن؟ فقال شابٌ: أنا يا رسول الله! أحفظ سورة البقرة. قال: أتحفظها؟ قال: نعم. قال: فاذهب فأنت أميرهم).
فالإمرة بمثل هذا والتصدر والتقدم في الدنيا والآخرة بمثل هذا أيضاً، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم-: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).
ومع السياق، ومع النور، ومع الروعة والجمال:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24] هاتان الآيتان جاءتا بعد أن نادى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الناس جميعاً لعبادته، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] ثم ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى نِعَمَهُ، وما أودعه في الأرض من ثمراتٍ وخيرات، فقد غمرك بالنعم من مشاش رأسك إلى أخمص قدميك. فأنت تتقلب في نعمة الله، وتمشي في ستره، وتشرب ماء الله، وتأكل رزقه، فأين تذهب من نعم الله؟!
ولذلك قالوا لبعض أهل العلم: كيف نتفكر في النعم؟ قال: تفكروا في الطعام كيف تأكلونه وكيف تخرجونه؟!
وقد قال ابن السماك لـهارون الرشيد: يا هارون! أسألك بالله لو منعت شربة، أتفتديها بنصف ملكك؟
قال: إي والله، فلما شرب، قال: يا هارون! أسألك بالله لو منعت إخراجها أتفتدي إخراج الشربة هذه من جسمك بنصف ملكك؟
قال: إي والله، قال: ملك لا يساوي شربة ليس بملك.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته) وفي لفظ مسلم: (قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) فيا من ظن أنه أكثر من الصلاة، كأنك ما صليت، ويا من ظن أنه أكثر من الصيام والجهاد والصدقة والبر والإحسان، كأنك ما تصدقت ولا وصلت ولا بررت ولا فعلت شيئاً، غمرتك نعم الله، فعملك كأنه ذرة في بحر. إذاً فهو هباء منثور.
فحاسبه الله، ولكن هذا العبد اغتر بعمله، صلاته خمسمائة سنة، وصيامه خمسمائة سنة، وذكره خمسمائة سنه، قال: بل أدخل الجنة بعملي.
ولذلك فإن لـابن القيم وقفة عجيبة عملاقة على عادته، وعلى تيقظه وذكائه، يقول: يقول الله عز وجل: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله) فكيف نجمع بين الآية والحديث؟ الله يقول: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72] بصلاتكم، بصيامكم، بجهادكم، بحجكم، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام ينفي، ويقول: لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله إلا برحمة الواحد الأحد، قال ابن القيم: ويجمع بينهما بأحد جمعين: أحدهما: أن نزول المنازل داخل الجنة وارتفاع الدرجات يكون بأعمالنا، وأما الدخول الأولي فبرحمة الله.
إذاً فالدخول لا يحصل لك إلا برحمة أرحم الراحمين، وإن لم تدركك رحمته فقد تقطعت بك الحبال، وانتهت بك الأسباب، وتدهدهت عليك الجبال، وضاعت عليك الحيل.
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان |
ولذلك ذكر ابن تيمية وغيره المكفرات العشر منها: الحسنات الماحية -أي الأعمال الصالحة- والمصائب المكفرة، ودعوات المؤمنين، وما يجده الإنسان في سكرات الموت، وما تجده في القبر، وما تجده يوم العرض الأكبر، وما تجده عند الصراط والميزان والحوض، وشفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الأخيار من الأولياء، ثم تأتي العاشرة: رحمة أرحم الراحمين، قال: فإن لم تدركك رحمة أرحم الراحمين، فقد شردت على ربك، كما يشرد البعير الشارد على أهله، فمن يرحمك إذا لم يرحمك الله؟!
فـابن القيم يرتضي هذا الجمع، قال: الدخول: برحمة الواحد الأحد، ونزول المنازل: بالأعمال، ولذلك بعض الناس يرى في الجنة كالكوكب الدري، وبعضهم في الدرجة الثانية: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران:163].
فأما أبو بكر فلا تسل عن درجته، فهو في قصر كالربابة البيضاء يراه من دخل الجنة، فهو في المنزلة الأولى من الصالحين بعد الأنبياء والرسل، ثم يتلوه عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم يأتي الناس على حسب منازلهم، والمحروم من حرم دخول الجنة: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
وبعض الناس يجمع بجمع آخر، فيقول: عمله من رحمة الله، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لن يدخل أحد منكم الجنة إلا برحمة الله) يقول: عمل الناس من رحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيرحمهم فيعملون صالحاً، ثم ينـزلون منازلهم ويدخلون الجنة بعملهم، هذا جمع آخر.
أما تعلمون أنه حق؟!
أما تدرون أنه صدق كالفجر؟!
إن كنتم شاكين، فائتوا بسورة من مثله، وقيل: إن كنتم في اتهام لهذا القرآن، يقول جميل بثينة في إحلال التهمة محل الريبة:
تقول بثين يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب |
تقول: اتهمتني، فيقول هو: وأنت متهمة، فكلنا متهمون، وهذا جميل أذكره، ومجنون ليلى وكثير عزة والشريف الرضي وأبا نواس، وأمثالهم من شعراء المرأة؛ للاستشهاد بشعرهم، وإلا فليست حياة المؤمن كحياة هؤلاء، حياة ستين سنة في حب امرأة، يحبها ويولول بصوتها، وبشعرها وأسنانها، إنها ليست بحياة حياة الذين لا يعقلون، ولا يعلمون، فليست الدنيا حياة مسرح وأغنية وفن، وقد قيل لأحدهم: كم عمرك في الفن؟
قال: أربعون سنة، بل أربعون صفراً، أربعون في ظلام، وأربعون وأنت ضائع، وأربعون وأنت ما رأيت النور أبداً، وميلادك إنما يكون يوم تتوب توبة نصوحاً.
قيل لأحد الصالحين وهو في الستين: كم عمرك؟ قال: سنتان، قالوا: سبحان الله! أنت في الستين، قال: ما تبت إلا قبل سنتين، أما ثمان وخمسون فكانت في ضياع، فميلادنا يبدأ من يوم نتوب توبة نصوحاً.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا |
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا |
ولذلك كررت -وسوف أكرر- كلام ابن تيمية في مختصر الفتاوى، قال: "للإنسان ميلادان: الميلاد الأول: يوم أتت به أمه، والميلاد الثاني: يوم تاب إلى الله وأقبل عليه، فأما الميلاد الأول فالخلق كلهم مشتركون فيه، فالثور تَلدُهُ أُمه، والنعجة، والدجاجة، والحمامة، والإنسان، فالإنسان سواء هنا أو هناك؛ الخواجة، الأشقر، الأسود، الأحمر. فهذا ميلاد. لكن الميلاد الثاني لا يولده إلا المؤمن: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
عمر كم عمره؟ ثلاث وستون سنة، أسلم وهو شاب! لكنه ألغى عمره الأول، فكان ميلاده يوم قال: لا إله إلا الله.
سعد بن معاذ أسلم وعمره ثلاثون سنة، فشطب على الثلاثين، وألغاها من الحساب، وبقيت له سبع سنوات، وهي عند الله خيرٌ من سبعة قرون.
عمر بن عبد العزيز عاش أربعين سنة، أما ثلاثون شهراً فتولى أمر الأمة، وما قبلها لم يحتسب من عمره.
وقد قال أبو تمام في محمد بن حميد الطوسي وقد مات شهيداً:
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيتُ الكريمَ الحرَّ ليس له عمر |
ولذلك بعض الناس يعيش في الإسلام سنة، وهي خيرٌ عند الله من ثلاثين قرناً، وبعضهم يعيش مائة سنة، وهي لا تساوي لحظة واحدة.
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر |
(يا أيها الناس) قال أهل التفسير: الخطاب للناس عامة.
(مِمَّا نَزَّلْنَا) في القرآن تأتي أنزلنا، وتأتي نزلنا، وللسيوطي وأمثاله لطائف في هذا، يقول: إذا قال: (نزلنا) فهو على التفصيل، أي: (نزلناها) آية آية، سورة سورة، مقطعاً مقطعاً، وإذا قال: أنزلنا، فمعناها: أنزلنا القرآن مرة واحدة من السماء السابعة أو من اللوح المحفوظ -وهو الصحيح- إلى سماء الدنيا.
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] أي: جملة، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وإذا قال: نزلنا، فمعناه: آية آية، منجماً مقطعاً.
فالله عز وجل يتحدى الناس والأجيال بما أجادوا فيه من العلم، كل علم يجيدون فيه أو فن يتحداهم به.
فموسى عليه السلام أتى إلى قوم معهم السحر، فقد بلغوا في السحر الذروة، فأعطاه الله العصا، فتلقفت ما صنعوا، وأخذت حتى عصيهم وحبالهم، فأكلتها جميعاً في بطنها، فتغلب عليهم.
وإبراهيم عليه السلام أتى إلى قوم بلغوا الذروة في علم الفلك والنجوم، فتحداهم بذلك، فأعجزهم وأربى عليهم.
وعيسى عليه السلام أتى إلى قوم أهل طب، وتخصص، فأعطاه الله إحياء الميت بإذنه، وإبراء الأكمه بإذنه فيبصر، وإبراء الأبرص بإذنه فيذهب مرضه.
ومحمد عليه الصلاة والسلام أتى إلى العرب العرباء، وهي أفصح أمه أخرجت للناس، العربي البدوي في خيمته تخرجه فيلقي خطبة طنانة رنانة، لا يلحن فيها، ولا يتلعثم، ولا يخطئ، ولا ينسى، فيأتي من عند شاته وناقته، فيلقي قصيدة تقارب مائتي بيت أو مائة بيت، كلها على نسج رفيع، وليس عنده قلم ولا ورقة، يحفظها في ذهنه كأنها قذائف، فأتى صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع من أفصح المجتمعات، فأعطاه الله القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: تعالوا، هذا القرآن، وأنتم أفصح العرب وأفصح الناس، وأنتم أفصح أهل الدنيا، هذا هو القرآن فأين شعراؤكم؟
هذا هو القرآن فأين خطباؤكم؟
هذا هو القرآن فأين فصحاؤكم؟
ولذلك لم يسمع أنهم أرادوا أن يتحدوا القرآن، لكن بهتوا!!
يقول جبير بن مطعم بن عدي -أبوه المطعم بن عدي هو الذي أجار الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وقد مات كافراً- حتى يقول عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر: {والذي نفسي بيده! لو كان
فلذلك أقسم ألا يؤمن، ولا يسلم، ولا يشهد أن لا إله إلا الله!! والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة يصلي بالناس صلاة المغرب، فأتى بناقته، فسمع صوت الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان في صوته صحالة، وفيه قوة ونبرة تصل إلى القلوب مباشرة، يقرأ: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:1-4] قال: [[فو الله لقد كاد قلبي أن يطير]].
الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني الذي أبو هريرة حسنة من حسناته، وتلميذ من مدرسته، سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث، فارتحل بناقته من بلاد زهران، سبحانك يا رب! تأتي بـسلمان من بلاد فارس، ومن كرمان، وتأتي بـالطفيل من زهران، وتأتي بـصهيب من بلاد الرومان، وتأتي بـبلال من الحبشة السودان، ويسلمون ويؤمنون ويدخلون الجنة، وأبو لهب وأبو طالب عند الركن والحطيم يتردون في نار الجحيم.
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم |
فأتى الطفيل بن عمرو الدوسي وكان شاعراً مجيداً خطيباً يعرف الكلام، عاقلاً، داهية، فركبت ناقتي وسمعت بمبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فو الله ما إن نزلت مكة، إلا وتعلقت قريش بناقتي.
كلما أتى إنسان من خارج قريش تعلقوا بناقته، يقولون له: انتبه عندنا رجلٌ مجنون! معنا ساحر في هذا المكان! رجلٌ جالس في الحرم معتوه، يتكلم بلا عقل، فانتبه واحذر!!
قال: فوالله ما زالوا بي حتى أخذت القطن، فوضعته في أذني. لكن القرآن أقوى من القطن، فهو يدخل ولو كان في الأذن قطن، فيصل إلى القلوب، قال: فدخلت؛ فرأيته في الحرم ما أراه إلا ساحراً أو كاهناً، وهذا الفعل من الدعايات الرخيصة، والشائعات المغرضة، جعلت من الرسول عليه الصلاة والسلام ساحراً وشاعراً، والله يقول: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:22].
ويقول: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:4-8] فكان ينظر إليه، فقال: فكنت أسمعه يقرأ فلا أسمع شيئاً، فالقطن في الأذن ولكن الله يهدي من يشاء، قال: فما زلت أقترب، فقلت في نفسي: -أراد الله هدايته- لماذا لا أضع القطن، وأنا رجل، لبيب، فاهم، شاعر، أعرف جد الكلام من هزله، فإن سمعت شيئاً أعجبني اتبعته، وإلا تركته! قال: فوضعت القطن، ويوم وضع القطن في تلك اللحظة وإذا بالقرآن يصل إلى أذنه، ويدخل إلى قلبه، فينتفض ويأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ويضع يده ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. فهو القرآن الذي يريد الله أن يوصله إلى الناس.
السبب الأول كما يقول أهل العلم: بأن الله نادى الناس في أول المقطع بعبادته، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] فكأنه يقول:
مثل محمد عبدنا، ولم يقل رسولنا، والله إذا أراد أن ينبه الرسول عليه الصلاة والسلام على قضية في بيته قال: يا أيها النبي.
وإذا أراد أن يخبره بقضية من قضايا الرسالة قال: يا أيها الرسول، واسمع إلى قضايا الرسالة: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس [المائدة:67].. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1] ثم يتحدث عن الزوجات: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب:59] فهو يناديه في هذه القضايا الاجتماعية بالنبي، ويناديه بالرسالة للعالمين، ويناديه بالعبودية في موطن التشريف، فيقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] مثلما فعل عبدنا صلى الله عليه وسلم فهو أعبد الناس وأعرفهم.
وإذا أراد الله أن يتحدث عن التوحيد والشرك قال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] وفي صحيح البخاري في كتاب العلم، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث} ولم يقل: أرسلني، وإنما قال: بعثني؛ لأنه بعث بالتوحيد، فكأنه بعث في أموات، وأحمد شوقي -أمير الشعراء كما يسمونه- يقول:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم |
يقول: إن كان عيسى عليه السلام يبرئ ويحيي الموتى بإذن الله، فأنت أحييت شعباً وجيلاً وملايين من الناس، فالناس الذين يحيون الآن، وآلاف مؤلفة ممن ماتوا، وآلاف وملايين ممن سوف يأتون كلهم يحيون بالحياة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم.
قال: والسبب الثاني في موطن التشريف له صلى الله عليه وسلم، يقول: أنت عبدنا، فإذا زكاه الله قال: عبدنا، ولذلك يأبى الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يرفعه أحد عن درجته: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171].
وقال له رجل آخر: {ما شاء الله وشئت، قال: قل: ما شاء الله وحده} وجاء وفد بني عامر بن صعصعة -والحديث صحيح- فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: {أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، وأطولنا طولاً، قال: يا أيها الناس! قولوا ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان}.
إذاً: فالكمال لله، والعظمة لله، والإنسان له الفقر والعوز، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله} وأما إطراء المخرفين من الصوفية، ليرفعوه عن منـزلته، ويقولون: نحن نحبه، ويقول أحدهم: يا جلاء همومي! يا جلاء غمومي! يا جلاء بصري! يا ذهاب بصري! ويا بقاء سمعي! فهذا ليس بكلام شرعي.
وهذا البرعي شاعر اليمن، وهو شاعر مجيد ظريف في الذروة، ولكنه مخرف متخلف في النهاية، يقول:
يا رسول الله يا ذا الفضل يا بهجة المحشر جاهاً ومقاما |
فأقل لي عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاماً |
- من يقيل العثرات؟
- الله.
- من يغفر الذنوب؟
- الله.
- من يكشف الكروب؟
- الله.
وهو صلى الله عليه وسلم ميت في قبره، مات ولكنه حي بحياة الله أعلم بها، حياة برزخية لا تأكل جسمه الأرض، ولكنه لا يرفع الحوائج في قبره إلى الله، ولا يغيث الناس، ولا يشفي المرضى، ولا ينجح الراسبين، ولا يقضي الدين عن المدينين، ولا يقرب بين المتباعدين، وإنما يفعل ذلك الواحد الأحد، والله يقول عن المشركين: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3].
والبوصيري له قصيدة البردة، وهي من أحسن القصائد إي والله، لكنه كدرها، وأساء في آخرها إساءة بليغة، وإلا فقد بدأها بمطلع عجيب، وأتى بأبيات مليحة جد مليحة، يقول:
أمن تذكر جيرانٍ بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم |
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من إضم |
إلى أن يقول:
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم |
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم |
وليته استمر على هذا الحسن والإشراق والإبداع! لكنه في الأخير قال:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم |
سبحان الله! يقول: من جودك الدنيا والآخرة، ومن علمك علم اللوح المحفوظ والقلم.
إن لم تكن في مقامي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم |
وهي إساءة، فلا يغفر الذنوب إلا الله، ولا يكشف الكروب إلا الله.
إذاً: هو عبد يجوع كما يجوع الناس، ويظمأ كما يظمأ الناس، لكن شرفه الله بالنبوة، فلا ينطق عن الهوى فهو معصوم، ولذلك هناك فرق بين أن نقول: عبد وبين أن نظن أنه كبعض الناس يخطئ ويذنب كما يخطئ الناس ويذنبون، فهو معصوم، ثم لا نقول: إنه رسول كذلك ليس فيه بشرية، ولذلك لم يجعل الله الرسول صلى الله عليه وسلم ملكاً، لماذا لم يجعله ملكاً؟ لأنه لو كان ملكاً لما اقتدى به الناس، فلو كان رسولنا ملكاً، وقلت للناس: افعلوا مثلما يفعل الرسول، لقالوا: هو ملك، فإذا قلت لهم: لماذا لا تصومون كما يصوم؟ قالوا: هو ملك، لماذا لا تصدقون كما يصدق؟ قالوا: هو ملك، فجعله الله بشراً، ومع بشريته إلا أنك تقول لأحدهم: لماذا لا تفعل كذا؟
فيقول: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! نعم أين نحن؟! لكنه قدوتك: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
وأعود إلى قصة الإسرائيلي في أول الكلام، فقال الله عز وجل: {تدخل الجنة برحمتي أو بعملك} قال: بعملي، قال: حاسبوه، فالحساب قبل الدخول: لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] فأتى الملائكة فحسبوا النعم التي أعطاه الله، والعبادة التي عبد في كفة الميزان، فوجدوا عبادته في خمسمائة عام لا تعادل نعمة البصر، قال الله: خذوه إلى النار، قال: لا. برحمتك يا رب.
فالآن عرف، فأدخله عز وجل الجنة برحمته.
إذاً: فلا يدخل الجنة أحدٌ إلا برحمة الواحد الأحد.
بالقرآن كله فما استطاعوا!
قال: بعَشْر سور فما استطاعوا!
قال: بسورة فما استطاعوا! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [القصص:49] فهذه بالقرآن، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88] وهذه بالقرآن، فأخفقوا وفشلوا، فما سمعنا أن جاهلياً أتى ليعارض القرآن.
فقال الله عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [هود:13] فما استطاعوا.
فانتقل بهم في سورة يونس: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس:38] فما استطاعوا.
أحد الناس يذكر عنه ابن تيمية أنه قيل له: مالك لا تصدق بالقرآن؟ قال: قلبي ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، قال: عليك أن تصلي وأن تتقي الله، وأن تستغفر عسى الله أن يتوب عليك، قال: لا أستطيع: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [سبأ:54].
فأتى ابن كندة الفيلسوف، وقيل الفيلسوف الكندي، وبعضهم يخلط هذا بغيره، لكن تمييزه أنه الفيلسوف الكندي، فقال له تلاميذه: ماذا تفعل يا شيخنا؟ -هو شيخهم وليس بشيخنا- شيخنا نحن مثل الإمام أحمد، ومالك، والشافعي، وابن تيمية، وابن القيم، فأحمدنا أحمد بن حنبل وأحمد أهل البدعة أحمد بن أبي دؤاد.
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم |
فقالوا: ما لك يا شيخنا اعتزلت؟ فقال: أريد أن أكتب كتاباً أبلغ من القرآن؛ ففتح المصحف وهو وحده في الغرفة، فوقعت عينه على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في أول سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1] فتوقف ورفع القلم، وضرب رأسه، وقال: نادى، وأمر، ونهى، واستثنى، وبين، وختم في آية، فأتى ليرد جسمه فوجد نصف جسمه قد يبس وشل: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:16].
وابن الراوندي الكلب كما سماه ابن كثير، أتى وألف كتاب الدامغ على القرآن؛ لأنه يهودي ابن يهودي، وتدسس على الإسلام في لباس الإسلامية مثلما يفعل بعض الناس، يتظاهر أنه مسلم ويريد الخير، لكن تراه يطعن في كلامه بالرسول عليه الصلاة والسلام، كنافخ الشمس: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8] أتى الخبيث الملعون، فكتب كتاب الدامغ، يقول: أدمغ به القرآن، فدمغه الله في الدنيا والآخرة وأخزاه، حتى لما أتته الوفاة أخذ الدود يتناثر من عينيه وأنفه ولسانه، وأخذ يزوره بعض أهل السنة، قالوا: ما زرناك عواداً لكن زرناك شامتين، نشمت بك، ونرى نَصَف الله فيك.
يا غارة الله جدي السير مسرعة في سحق أعدائنا يا غارة الله |
أحد الصالحين ضربه سلطان على وجهه، فدمعت عيناه، قال: لأشكونك إلى من لا يظلم عنده أحد، قال: ومن تشكو في الدنيا؟ قال: أشكوك إلى الله الواحد الأحد، قال: متى تشكوني، أئذا مت؟! قال: بل أشكوك في الثلث الأخير، يوم تذهب الدعوات في الثلث الأخير إلى الواحد الأحد.
قيل لـعلي بن أبي طالب: كم بين التراب والعرش؟ قال: دعوة مستجابة، التراب والعرش لا يقدر بالكيلو مترات ولا بالأميال، فآل البرمكي أسرة سفكوا الدماء، وتبجحوا في الأموال، وظلموا الناس؛ فأتى شيخ كبير السن أخذوا ولده وذبحوه، فرفع يديه في السحر في الثلث الأخير: اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر.
فأصبحوا في اليوم الثاني، فغضب عليهم هارون الرشيد حبيبهم وصاحبهم فقتل شبابهم وأخذ كبارهم فجعلهم في السجون حتى جعل كبيرهم في السجن سبع سنوات، يقولون: طال شعر لحيته، وأظفاره، وشعر رأسه، حتى دخلوا عليه، قالوا: أين أنت؟ قال: لست في الدنيا ولا في الآخرة، قالوا: مالك؟!
قال: ما رأيت الشمس ولا الهواء سبع سنوات، قالوا: من الذي وضعك في هذا المكان بدل الرفاهية وبدل النعيم؟ -بلغ من نعيمهم أنهم أخذوا يطلون قصورهم بماء الذهب- فقالوا: فمن الذي وضعك هنا؟ قال: دعوة ذاك الشيخ في الثلث الأخير.
فهؤلاء الثلاثة الذين دعا عليهم الإمام أحمد استجاب الله فيهم، قال لـأحمد بن أبي دؤاد: اللهم اسجنه في جسمه؛ فشل جسمه حتى عاده تلاميذ الإمام أحمد، قالوا: ياأحمد بن أبي دؤاد! ما أتيناك عواداً؛ بل أتيناك شامتين، فكيف أنت؟ قال: أما نصفي هذا فلو وقفت عليه ذبابة، فكأن القيامة قامت، وأما نصفي هذا فلوا قرض بالمقاريض ما أحسست به أبداً.
وأما ابن الزيات الوزير، فغضب عليه الخليفة؛ فجعله في فرن مطبق، ثم ضرب المسامير في رأسه حتى خرج نخاعه ودماغه من أنفه، وأما ذاك فتردى وقطعت يداه ورجلاه، فقد غضب عليه سلطان آخر، وهذا في الدنيا.
ولذلك لا يطلب العون إلا من الواحد الأحد.
فالمقصود أنني أتكلم عن أهل الهوى وأهل البدعة ممن يريد معارضة السنة أو القرآن.
تقول المعتزلة: السور التي تحصل بها الإعجاز هي الطويلة، أما مثل: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] والتي هي من ثلاث آيات فلا، وكذبوا. بل أي سورة، معنى الإطلاق لا يستطيع العرب ولا غيرهم من الفصحاء أن يأتوا بسورة من مثله، وحقق ذلك ابن كثير وغيره من أهل العلم رحمهم الله أن أي سورة مثل: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1].. إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1].. قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فلا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا أبداً.
وانظر الآن إلى إعجاز القرآن، فالقصيدة تسمعها ستين بيتاً، لا يكون فيها إلا بيت أو بيتان من أحسن ما يكون، وأما غيرها فكذب ودجل وخداع.
وتعال الآن إلى موازنة، ولله المثل الأعلى، ولكلامه المثل الأعلى، فنأتي إلى الوصف، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20] أليس هذا وصفاً حقيقياً، ثابتاً لا فيه عوج ولا كذب ولا تمويه، إي والله!
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الوصف الآخر: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10] لكنه جمال في الأسلوب، ما قال: طويلات، بل قال: (بَاسِقَاتٍ). (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) ولم يقل: جيد ولا طيب، بل قال: نضيد.
وتعالوا الآن إلى الشعراء، يقول بشار بن برد يصف الجيش:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه |
كذب على الله! ما كان هذا، ذلك الأعرابي يصف المرأة بالنخلة، ويصف وجهها بالقمر، ويصفها لرشاقتها بالغزال، ويصف الكف بشيء من اللجين، وهذا كذب وخداع، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:224-227].
والله عز وجل إذا أراد التهديد في القرآن اقشعرت الأبدان، وإذا أتى بالنعيم ووصف النعيم ارتاحت القلوب إلى نعيم الواحد الديان، وإذا ذكر الموت أبكى العيون، وإذا ذكر الدنيا وآياتها أتى بالعجب العجاب، وإذا وصف الحدائق والبساتين أتى بشيء تسيل له المقل عجباً، وتندهش له العقول، فسبحان من أنزل هذا القرآن.
قال: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ [البقرة:23] من الشهداء؟
قال ابن عباس: آلهتكم، تعالوا بالأصنام والحجارة، تعالوا بالأوثان وادعوها لتعاونكم في الإتيان بمثل هذه الآيات.
وسبق في أول جلسة من جلسات التفسير أن ذكرت كلاماً جيداً لـسيد قطب حيث، يقول: القرآن كلام، وكلامنا نحن كلام، وكلها من حروف، أنت تقول: محمد.. علي.. سعيد.. والقرآن فيه هذه الألفاظ، فكلها من هذه الحروف، قال: ولكن الفارق مثل هذا التراب، خلق الله من هذا التراب الإنسان، فالإنسان يشابه القرآن؛ لأن القرآن من الكلام الموجود والإنسان من التراب الموجود، والإنسان لا يستطيع أن يصيغ من التراب إنساناً فيأتي فيصنع الخزف والأواني والصحاف والأباريق، فهذه الأباريق والأواني والخزف مثل كلامنا نحن، والإنسان مثل كلام الله عز وجل، وأصل المادة واحدة، ولذلك يتحدى الله فيقول: الم [البقرة:1] هذه الحروف تعالوا بمثلها، هذه المادة الخام موجودة، اصنعوا مثل القرآن، لكن ما استطاعوا.
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ [البقرة:23] قيل: آلهتكم، وقيل: شهداؤكم أعوانكم، وأذنابكم، وأقزامكم، وعملاؤكم، ومن يسير في مسيرتكم، ومن يجلس معكم في ظلام الليل، ومن يؤزكم بالكلام، تعالوا أنتم وكل عميل على وجه الأرض، وكل ذنب، وملحد، وائتوا بسورة من مثل هذا القرآن.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23] قيل وهو الصحيح: إن كنتم صادقين أنه ليس من عند الله فتعالوا بمثله: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23] وقيل: إن كنتم صادقين أنكم تستطيعون أن تأتوا بمثله، فالمادة معكم والكلام موجود، فتعالوا بمثله، وخسئوا، وخسروا، وخابوا، وما استطاعوا وما فعلوا.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] معجزتان اثنتان:
المعجزة الأولى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) تحداهم الله أن يأتوا بمثل القرآن، فلم يستطيعوا.
المعجزة الثانية: قال: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) قال أهل العلم: تحداهم الله بالقرآن أن يأتوا بمثله، أو بسورة، أو بعشر سور، ثم قال لهم في نفس القرآن: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) وبالفعل قال هذا الكلام بقوة، وورد هذا بغير خوف، وبغير جزع وهلع، وفي الحقيقة ما مر في التاريخ تحدٍّ للقرآن والحمد لله، ولا استطاع أحد أن يتحداه ولا أن يأتي بمثله، وهذا معجزة أخرى أن يقول الله: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فما فعلوا.
والمعتزلة يقولون: إن التحدي في القرآن والإعجاز، أن الله كتب على الناس ألا يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولو لم يكتب عليهم لاستطاعوا، وقد كذبوا، بل لا يستطيعون، ما استطاعوا أبداً، يقولون: إنه في القدر أن الله منعهم أن يأتوا بمثله، ولو لم يمنعهم لكان باستطاعتهم أن يأتوا بمثله، ولا والله! لا يستطيعون أن يأتوا بمثله أبداً.
يقول الأصمعي: خرجت في البادية فرأيت أعرابية فأخذت أقرأ، وفي بعض روايات هذا القصة أن أعرابية سمعت قارئاً يقرأ يقول: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] وهي لا تدري أهو قرآن أم لا، فهي عجوز أعرابية بدوية، قالت: سبحان الله! كلام من هذا؟ قالوا: وماذا تريدين؟ قالت: أتى بأمرين، وبنهيين، وبشارتين، كلام من؟ قالوا: كلام الله.
قال سيد قطب: فأخبرت الترجمان أنه كلام الله، فاندهشت وزاد بكاؤها، قال: ولم تمكنا الفرصة أن نوصل لها الدعوة، وأن نخبرها بالإسلام، فانظر إليها، فهي يوغسلافية لا تجيد حرفاً واحداً، وسرى القرآن إلى شرايينها، ووصل إلى قلبها.
أما الجسم موجود، وأما الروح فسافرت إلى بارئها: {دعها فإن معها سقاءها وحذاءها، ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها} قال: ثم أتاني التأثر، وقد رفع القارئ صوته، فحاولت أن أحبس عن زملائي التأثر فبكيت، قال: فلما بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [النجم:57-58] قال: والله لقد تحول البكاء إلى هزة عضلية في جسمي، ولم أقدر أن أمسك جسمي أبداً.
ولذلك انظر إلى هذا الكلام في الظلال، كأنه كلام رجل دخل الجنة، ثم أتى يكتب من الجنة، ولو أن لنا كطلبة علم ملاحظات على الظلال -والعصمة لكتاب الله عز وجل- في بعض الصفات وبعض المواقف، لكن الكتاب عجيب، وفيه دفعة قوية وفهم وعمق وأصالة، فرحمه الله رحمة واسعة، ولا يعفيه من أن ينتقد من كثير من العلماء خاصة في بعض المسائل، وهذا أمر له مجال وبسط آخر.
والتقوى هي: أن تجعل بينك وبين الشيء وقاية، يقول النابغة الذبياني:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد |
فهذه حياة الجاهلية، حياة الربابة والعزف على الموسيقى، لم يكن فيها قرآن، ولا كان فيها أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا صحيح البخاري، ولا صحيح مسلم، بل حياة الضياع والهيام، ولا بأس بالاستشهاد بهذه، فإن فيها ملاحة، وظرفاً، وشيئاً عجيباً من شعر العرب يقول:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد |
فاتقتنا: جعلت بيننا وبينها وقاية، ولذلك تعريف التقوى: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.
وعرفها بعض أهل السنة كـابن تيمية قال: هي أن تؤدي المأمور، وتجتنب المحذور وتصدق الخبر، وقال بعضهم ونسب إلى علي بن أبي طالب، وكلماته لها طريق إلى القلوب، قال: [[هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل]] وقال ابن مسعود: [[التقوى هي: أن يطاع سُبحَانَهُ وَتَعَالى فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر]] وقال بعضهم: التقوى أن تعمل الحسنة على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك السيئة على نور من الله، تخاف عقاب الله، إلى غير تلك التعريفات.
لكن هنا من نوع آخر قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ [البقرة:24] انجوا بأنفسكم، وخافوا من الله، وادخلوا في الدين، وأسلموا لله، مادمتم قد عجزتم عن معارضة القرآن؛ فلماذا لا تسلمون؟ ومعجزة رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن.
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها |
فأعوذ بالله من نار وقودها الناس والحجارة، حتى يقول بعض المفسرين: سبحان الله! يقرن الناس وهم لحم ودم وعصب وجلد وعين وسمع وبصر، وهم مضغة بحجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تعي، وهذا من أشد الإهانات، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24] قيل: يوقدها الناس والحجارة، وقيل: يدخل الحجارة مع الناس من قلة المبالاة بهؤلاء الكفرة.
فرجل أعطاه الله سمعاً وبصراً وقلباً، ثم لا ينقذ نفسه من النار، أليس كالحجر؟ بلى. رجل لم يعرف طريق الخير فهو مثل الحجر؛ لأنه لا حياة له، له سمع لا يسمع به، وله بصر لا يبصر به، وله قلب لا يفقه به، ولذلك جعل الله منزلته كمنزلة الحجارة: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] لأن الأنعام لا عقول لها تكليفية، وأما هم فأوتوا العقول، ثم تردوا أشد من الحيوان والبهائم.. نسأل الله العافية والسلامة.
فيا من أعدها للكفار! يا واحد يا قهار! نشهد أن لا إله إلا أنت، ونشهد أن محمداً عبدك ورسولك، نلقاك بهذه الكلمة تنجينا من نار أعددتها للكفار
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار |
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار |
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] فيها بشرى لنا أننا مسلمون، مع أننا خطاءون، مذنبون، مسيئون، لكن معنا كلمة نتعلق بها، لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومعنا الصلوات الخمس، والفرائض، ولكننا مرة علينا ومرة لنا، ونحن في الأخير أهل فرائض.
حضرت الوفاة عمرو بن العاص كما في صحيح مسلم، فبكى وكان ابنه يُرجِّيه ويُحسِّن ظنه بالله، فقال: [[يا بني! كنت على أطباق ثلاث، كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام، فلو مت لكنت من أهل جهنم، وأتيت في الإسلام مهاجراً، واستقبلني صلى الله عليه وسلم، فلما أسلمت كان أحب الناس إلي، فلو مت لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم لعبت بي الدنيا ظهراً لبطن وتخلفت بعده، فليت شعري هل يؤمر بي إلى النار أو إلى الجنة، ولكن عندي كلمة أحاج لنفسي بها عند الله. لا إله إلا الله محمد رسول الله]].
وهذه الكلمة لا تكفي إلا بالصلاة والفرائض، وإلا فقد يقولها المنافق والكافر، لكن ليس مخلصاً من قلبه، أعني ليس مصلياً صادقاً مع الله.
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] فالحمد لله الذي أعدها للكفار، والحمد لله الذي جعل المسلم ينجو برحمة الله عز وجل من النار؛ فإنه الواحد الغفار.
ذكر ابن تيمية في الفرقان، أن الأحنف بن قيس كان إذا قام من الليل يصلي يضع أصابعه على النار، فيحرقها ويقول: ذوقي قبل نار الآخرة ويبكي، وهي نار سهلة، فهي جزء من سبعين جزء من نار جهنم، غمست في البحر حتى أطفئت وأصبحت ناراً يوقد عليها، فأنقذوا أنفسكم من النار بالفرائض، وأنقذوها بالتوبة النصوح، وأنقذوها بإصلاح قلوبكم وبيوتكم عل الله أن يرحمنا وإياكم.
إنه محمد عليه الصلاة والسلام، يقول: قم بشر هذه الأمة، وبشر المصلين في جنح الليل، والعابدين الصادقين، وبشر الناصحين، والذي رأى الحرام فغض بصره، وبشر الذي سمع الخنى فأعرض بسمعه، وبشر الذي وجد الحرام فرفض أكله، ورفض شربه ولبسه، بشره بجنات تجري من تحتها الأنهار.
فالرسول عليه الصلاة والسلام مبشر ومنذر، لكن إذا أتى التخويف قال له الله: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد:7] وإذا أتى النعيم قال: (وَبَشِّرِ) وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب:45] فيقول: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد:7] وهنا يقول: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25] في هذه الآية رد على المرجئة وهي: طائفة ابتداعية تقول: يكفي الإيمان بلا عمل، وهذا خطأ وكذبوا على الله، يقولون: يكفي النطق والاعتقاد بدون أن يعمل الإنسان ولو لم يصل فهو مؤمن، لا: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البقرة:25] وعمل الصالحات كثير يحتاج إلى بسط وعرض طويل، لكن من الصالحات ألا تتقاصر عن كل فعل صالح أن تفعله.
تبسمك في وجه أخيك على قلته صدقة، وإماطتك الأذى عن الطريق صدقة، صلح وإصلاح، نيتك أن تقوم الليل ثم لم تقم عمل صالح يكتب لك، وأن تصب من إنائك في إناء المستقي صدقة.
سابق، ومقتصد، وظالم لنفسه، وسبق بيان ذلك.
فالسابق: مثل الصحابة رضوان الله عليهم، وهم الذين فعلوا الفرائض والنوافل، وتركوا الكبائر والصغائر.
والمقتصد: هو الذي فعل الفرائض ولكنه لم يأت بالمستحبات، وترك الكبائر ولكنه يأتي بالصغائر.
والظالم لنفسه: من ترك بعض الواجبات، وارتكب بعض الكبائر، فالظالم قد يدخل النار، ولكنه يخرج برحمة الله لأنه موحد، فقد تدركه شفاعة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، أو رحمة أرحم الراحمين.
لواحد منهم بدا أساوره أضاءت الدنيا له أو ظفره |
لهم من الحرير أعلى ملبس إستبرق فيها وخضر السندس |
صفوفهم عشرون بعد المائة أما ثمانون فمن ذي الأمة |
الشجرة الواحدة كما في صحيح مسلم، { يطوف الراكب المجد بها مائة عام لا يقطعها}.
وفي الجنة أربعة أنهار ثجاجة، نسأل الله أن يرينا تلك الأنهار، ولا يحرمنا الشرب من تلك الأنهار، وأن يدخلنا برحمته وهو الواحد الغفار لا بعملنا؛ فإننا مسيئون، بعيدون عن أعمال تلك الدار.
نهر من ماء غير آسِنٍ لم يتغير، بل هو ثجاج يثج حلاوةً وخيراً وبراً، ونهر من عسل مصفى لا تشوبه شائبة، ونهر من لبن لم يخالطه شيء، ونهر من خمر لذة للشاربين ليس فيها صداع ولا ذهاب للعقل كخمر الدنيا، قال أهل العلم: هذه الأنهار الأربعة تطوف في الجنة جميعاً، ولكل إنسان في الجنة أنهار خاصة، وهذه الأنهار العامة، أما الأنهار الخاصة فهي لكل إنسان، وأدنى أهل الجنة منـزلة يملك -كما في صحيح مسلم - عشرة أمثال الدنيا من ذهب وفضة وقصور وبساتين، ففي الجنة له عشرة أمثال الدنيا: {ولموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها}.
أما شجرها فيتدلى، إن كنت قائماً ارتفع الغصن حتى تناله وأنت قائم: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:23] وإن كنت جالساً أتاك الغصن وأنت جالس، وإذا اضطجعت أتاك الغصن وأنت مضطجع، لا تهتم، ولا تحزن، ولا تغتم، ولا تنصب، ولا تجوع، ولا يأتيك مما يأتي الناس في الدنيا من الغائط والبول والأذى والقذى، هل فيها شمس؟ قال بعض أهل العلم: أما جوها فكالجو الصحو الصافي قبل طلوع الشمس في الفجر، فهذا الجو الزاهي البهي هو جو الجنة.
أما لحمها فهو طير مشوي مما يشتهيه الناس، وفواكهها متعددة الأنواع، أما أسرتها فحدث ولا حرج، للإنسان المسلم المؤمن اثنتان وسبعون حورية، وقال بعض أهل العلم في الأحاديث: زوجتان، وكل حورية وجارية يرى مخ ساقها من وراء العظم.
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها |
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها |
والطير تهفو على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في نواحيها |
ولذلك لا نعيم في الدنيا أبداً بالمقارنة مع تلك، وهذه الحقائق لا بد أن تفهم اليوم، قال رجل للحسن البصري: أشكو إليك بطني، قال: ماذا فعل بطنك؟
قال: إن شبعت كظني، وإن جعت آلمني، قال: التمس لك أرضاً غير هذه الأرض، أي: الجنة، وقال الحسن البصري: [[فضح الموت الدنيا، فلم يدع لذي لب فرحاً، لقد بقي المؤمن مهموماً مغموماً، ولا فرج له إلا دخول الجنة]].
ولذلك رئي الصالحون في الجنة، ولا بأس أن نذكر بعض ذلك، ذكر ابن كثير أن الإمام أحمد رئي على كرسي من زبرجد، فقالوا: بم نلت هذا؟
فقال: بآية من القرآن، ورئي مالك كذلك، فيقول الذهبي: على ناقة من نور، وهو يطير بها في سماء الجنة، ولكن الشهداء أعظم وأعظم، وأحسن وأحسن.
فيا أخي: اجعل لك منـزلاً هناك، وإذا أتاك الفقر والعوز ولم تجد سعة في هذه الدنيا فاعلم أن السعة هناك، واعلم أن ما فاتك في الدنيا سهل، بيت الدنيا يخرب، وزوجة الدنيا تفارق، ومال الدنيا يذهب، وصحة الدنيا بعدها السقم، فو الله لا راحة فيها، والمغرور والمخذول والذي لا يملك مسكة من عقل هو الذي قدمها على الآخرة نعوذ بالله من الخذلان.
قال: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البقرة:25] كيف تجري؟
قالوا: تجري من تحت قصورها، ولأنهار الجنة حفيف في الآذان عجيب، ويخرج أهل الجنة كما حقق ابن القيم إلى سوق من أسواقها، فتثور رياح تهب بكثبان المسك، فتدخل في ثياب أهل الجنة، فيعودون إلى زوجاتهم فيقولن: والله لقد ازددتم حسناً إلى حسنكم ونعيماً إلى نعيمكم، ويلتقي أهل الجنة يوم الجمعة يوم المزيد، فيرون الله الواحد الأحد رؤية حقيقة، وهي أعظم المنازل، نسأل الله ألا يحرمنا تلك النظرة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23-23] فأول ما توضع الكراسي للأنبياء والرسل، ثم للشهداء، ثم للصالحين، ثم يجلس الناس على كثبان المسك والزبرجد، ويتجلى الله لهم ويكلمهم ويكلمونه.
فهناك قم طرباً بحبك منشداً إذ سوف تكشف دوننا الأستار |
فنسأل الله أن يرينا وجهه، وأن يذيقنا لذة النظر إلى وجهه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي الجنة زيارة الصالحين، فتزور محمداً صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وحمزة، وأضرابهم، وأشرابهم، فاجعل لنفسك منـزلاً هناك، لأنك إن لم تفعل ذلك في الدنيا، فإننا نخاف أن يحال بيننا وبين تلك المنازل نسأل الله العافية.
كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة:25] في هذا المقطع مسائل:
قوله: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنها) أي: من الجنة.
(مِنْ ثَمَرَةٍ) يقولون: من طلع الشجرة الذي يؤكل وكل ما في الجنة يستفاد منه: رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ من قبل ماذا؟ لأهل العلم رأيان:
الرأي الأول: يقولون: رزقنا هذا في الدنيا، هذا الثمر الذي أعطيتمونا في الجنة قد رزقنا مثله في الدنيا! فتقول الملائكة: ذوقوا فإن اللون والطعم غير الطعم.
الرأي الثاني: وهو الصحيح (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) يقولون: قبل قليل أعطيتمونا هذا أكلناه، فكيف تعيدون لنا هذا؟ قالوا: اللون واحد ولكن الطعم مختلف، من كثرة ما جعل الله فيها من العجائب والألوان؛ ومن العجب أن جعل اللون واحداً، ولكن يذوقونه فإذا الطعم مختلف تماماً، (قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً) متشابهاً أي: يشبه هذا هذا، ولكنه يختلف في الطعم ولو اتفق في اللون، والمشبه يتفق مع المشبه به في بعض الوجوه، ولكن يختلف من وجوه أخرى؛ فلله الحكمة البالغة.
وورد عن ابن عباس أنه قال: [[ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء]] فالرمان: ذكر في الجنة وهو في الدنيا، لكن والله ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء فحسب: الرسول صلى الله عليه وسلم {صلى بالناس صلاة الكسوف، فتأخر خطوة ثم تقدم خطوة، فقالوا: مالك يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة، ورأيت عنقود عنب فيها فأردت أن آخذه، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، ورأيت
والنار والجنة حق وهما موجودتان لا فناء لهما |
وهذا قول أهل العلم، وهو قول مستند إلى الكتاب والسنة، فلا تفنى الجنة ولا النار، فنسأل الله أن يجعلنا من سكان الجنة.
سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (( كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً)) [البقرة:25] أي: من قبل قليل في الجنة لا في الدنيا، هذا هو الراجح، (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً) أي: أعطوا هذه الثمار متشابهة: (( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [البقرة:25] أزواج مطهرة، ولم يقل (أزواجٌ) وسكت، وإنما قال: مطهرة، قال قتادة: [[من الحيض والنفاس، والبول والغائط والبصاق وغير ذلك]].
أقول: المرأة المؤمنة لها نعيم كنعيم المؤمن في الجنة: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195] والمرأة الصالحة يتزوجها زوجها الصالح الذي تحبه في الحياة الدنيا، ولكن أهل العلم اختلفوا في مسألة من تزوج زوجات ثم فارق بعضهن، فهل يخير يوم القيامة في من يحب من زوجاته، وإن أخذهن جميعاً فله ذلك، والتي ليس لها زوج لم تتزوج في الحياة الدنيا، أو مات زوجها عنها، أو فارقها، إما أن ينشئ الله زوجاً لها، وهو الصحيح من الجنة لتتنعم كما يتنعم الرجل: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] وهذا هو النعيم، فإن أي نعيم تشعر أن وراءه انتهاء ليس بنعيم، لو قيل لك: اجلس في هذا البيت عشر سنوات متنعماً، ثم يضرب رأسك في السوق وتقتل، فلن تحس بالنعيم!! لو قيل لك: اجلس منعماً سعيداً سنة، ثم تقطع تقطيعاً، ليس هذا بنعيم، وإنما يقال لك: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
فيا من سعى لستين سنة وسبعين وثمانين ومائة ما هي الحياة؟!!
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجات من راح لا تنقضي |
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي |
وقالوا للحسن البصري: سبقنا التجار بأموالهم وقصورهم، قال: [[نأكل ويأكلون، ونشرب ويشربون، وننظر وينظرون -أي: ينظرون في قصورهم وننظر نحن في قصورهم- ثم نترك ويحاسبون]] يقصد في المال، وإلا فالحساب على الناس جميعاً.
وهذا إبراهيم بن أدهم جلس يأكل خبزاً على رصيف في ليلة شاتية، قالوا: أنت زاهد الدنيا إبراهيم بن أدهم، وأنت في هذا؟ قال: والله إنا في عيش لو علم به السلاطين لجالدونا عليه بالسيوف.
ويقول ابن تيمية: أنها تمر بالقلب خطرة أو فرصة أو لحظة، أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
فسجدة في مجلس واحد أفضل من مُلْك ملوك الملوك |
سجدة أو تسبيحه، أو ركعتان واطمئنان القلب، والوصول إلى الله الواحد الأحد، ومعرفة الطريق إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هو المُلْك الذي ما بعده ملك أبداً، وهذه لها قصص، ولو طال الوقت لكنا عرضنا لبعض قصص الصحابة والسلف الصالح، وإنما نقول: وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] إذا قيل خالدون، فهو خلود أبدي سرمدي، ليس له منتهى، وهذا هو النعيم الذي لا يدرك غوره.
والمرض ذكر في القرآن على ثلاثة أضرب:
1- مرض الجسم: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [النساء:43].
2- مرض القلب وهو على قسمين: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في مرض الشك والشبهة والنفاق، ومرض التكذيب بالرسول عليه الصلاة والسلام: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] وقال في مرض الشهوة، وحب الفاحشة: وَ لا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32].
إذاً: فما هو العلاج؟ العلاج القرآن والدعاء والذكر والتسبيح، والعلاج الصلوات الخمس جماعة، والتوبة النصوح، فلو خرجنا -وهذا معلوم- نستسقي وندعو ونرفع أكفنا، لكن أما أكلنا الربا؟! أما فشا الزنا؟ أما انتشر الغناء؟! أما كثر الكذب؟! أما عق الوالدان؟ أما قطعت الأرحام؟! فنعود من المصلى ولم تنـزل قطرة، جفت الآبار، وانقطعت الأمطار، وذبلت الأشجار، وذهبت الأزهار، ونشكو حالنا إلى الواحد القهار.
لكن علينا أن نقوم بالإصلاح: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] لا نقل في الدنيا: نفسي نفسي! بل نقول نفسي نفسي في الآخرة، لو قام كل منا بحكمة وبعقل وبروية وبنية وحسن خلق وأرشد، وقدم إلى المجتمع كلمة نصح، لكنا والله في أحسن حال، كم في هذا المسجد في هذه الجلسة، لو تبرع كل واحد منا إذا مر بالسوق أن يقول كلمة حسنة، يرى امرأة متبرجة فينهاها، يرى رجلاً يروج لشريط الأغنية الماجنة الخليعة، فينهاه وينصحه بتقوى الله، يرى مجلة خليعة تباع في الأسواق فينصح صاحبها، يرى المرابين فينصحهم، يرى من يروج للزنا، من يعق والديه، من يقطع رحمه.
ولكان النصح قد تكرر كثيراً، فيتكرر عليه في اليوم الواحد عشر مرات فيتنبه، تمر به أنت فتنصحه، وأمر به أنا فأنصحه، والثالث والرابع والخامس فسوف ينتبه، لكن رضينا بكثير من المنكرات وسكتنا، وقلنا: للدعوة أناس، وأهل العلم مسئولون عن هذا، وأنت والله لا تبرأ ذمتك حتى تقدم كلمة وتنصح وتوجه! ونحن لا نقول: قاتل الناس أو شاتمهم أو سبهم، أو هدِّم بيوتهم، ولكن نقول لك: قُدِ الناس إلى الجنة، وأنقذ الناس من النار، بصر الناس بطريق الواحد الديان سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهم سوف يستمعون لك إذا علموا منك الإخلاص والصدق، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (بلغوا عني ولو آية) ويقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان،) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79].
فيا أيها الإخوة: لا يفوتني في هذه المناسبة التنبيه بأن نستفيد من هذه الدروس ومن سماع آيات الله عز جل، وأتوجه إلى الحي القيوم بأسمائه الحسنى، وأتعلق بكل اسم له، وبكل صفة مثلى له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أن يرحمني وإياكم وكل مسلم رحمة عامة، ورحمة خاصة، وأن يملأ قلوبنا إيماناً ويقيناً ومحبة له ولرسوله، وأن يطهر قلوبنا من الشك والريبة، والنفاق والكفر، والمعصية والفاحشة، ونسأله فتحاً مجيداً، وتوفيقاً، وحظاً سعيداً، وبصيرةً وفقهاً في الدين.
ونسأله رحمةً عامةً وخاصة، ونسأله أن يجعلنا من المؤمنين الذين عملوا الصالحات، الذين تجري من تحتهم الأنهار: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25].
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر