يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الروضة نجلس هذه الليلة مع ميراث محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، مع القرآن العظيم ومع الهداية المطلقة للبشرية الحائرة، في ظلال آيات بينات نعيش معها هذه الليلة، علّ الله أن يرحمنا ويفتح علينا بهذا القرآن.
يا منزل الآيات والقرآن بيني وبينك حرمة القرآن |
يا من سترت معايبي ومثـالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني |
والله لو علموا قبيـح سريرتي لأبى السلام عليّ من يلقاني |
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:1-8].
هذه السورة محزنة ومبكية، وفيها من اللوعة، والحرقة ما الله به عليم.
كان يقرؤها عليه الصلاة والسلام متأثراً، ويقرؤها داعية، ومربياً، ويقرؤها عليه الصلاة والسلام عالماً عاملاً بها هو وأصحابه.
هذه السورة لها أهداف جليلة ومقاصد نبيلة، هذه السورة مطلقة الأحاسيس، قوية البنيان، تهز القلب المسلم هزاً عنيفاً.
هذه السورة لها وقائع في قلوب الموحدين، ولها صدى في أنفس العابدين، ولها رجةٌ في أذهان المتوجهين إلى الله..
هذه السورة تحدد مسار العبد، وتفصل بين المسلم والكافر، وتوجه العبد توجيهاً تربوياً ربانياً.
هذه السورة تعيش بك بين جو الدنيا الآسن المتخلف العفن، وبين جو الآخرة المشرق الباهر، الرائع البديع، هذه السورة تحددأيامك ولياليك وعمرك وساعاتك وثوانيك.
ألهاكم التكاثر.. فما هو التكاثر؟
ألهاكم: شغلكم وأبعدكم وخلف بكم عن الركب والمسير، فمالكم متخلفين؟
ألهاكم التكاثر، وما هو التكاثر؟ التكاثر في منظوره التجريبي الاستقرائي على أقسام عدة عند أهل العلم منها التكاثر بالعلم، والعلم إذا لم يرزقك خشية وإنابة، فهو ضلال، أرأيت إلى الضلال.. إذا لم يقربك العلم من الله عز وجل، فليتك ثم ليتك ما علمت.
إذا ما لم يفدك العلـم شيئـاً فليتك ثم ليتك ما علمتا |
وإن ألقاك فكرك فـي مهـاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا |
فنادِ إذا اتجهت لـه اعتـرافاً بما ناداه ذو النون بن متى |
وأكثر ذكره في الأرض دأبـاً لتذكر في السماء إذا ذكرتا |
العلم -وهو علم- إذا لم ينفعك ولم يفتح بصيرتك، ولم يجعلك تحضر الصلوات الخمس متوضئاً طاهراً، وتغض بصرك عن المحارم، أو تسمع أذنك حراماً، فلا تجلس الليالي الحمراء مع أعداء الله الفجرة؛ إذا لم ينفعك العلم هذا النفع، فليتك ثم ليتك ما علمت.
لأن الأجانب يعلمون، لكن يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. علم الأكل.. علم القدور والبطون.. علم الفروج.. علم الفجور؛ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66].أمّا الدنيا فأذكياء، صنعوا الطائرة والصاروخ، وقدموا المصنع والثلاجة والبرادة والسخانة؛ لكن رسبوا في عالم الآخرة، إذا أتيت به في الآخرة فحمار، رياء وسمعة في الدنيا، وأن يكون للمواجهات فحسب، فإذا أصبح العلم في هذا المستوى فقل على صاحبه السلام، عفا عليه الدهر، إذا كان العلم علم شهادة لا يصل إلى القلوب، لا يرزق صاحبه الإخبات والاتجاه إلى الله، والاستقامة في السلوك والأدب؛ فليس بعلم بل هو كثرة، ولذلك نعى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على المتكثرين بالعلم يقول سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا [الجمعة:5].
سبحان الله:
لقد ذهب الحمار بـأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار |
حمار عليه أسفار ومجلدات لكن حمار. أينفع الحديث للحمار؟!
هل ينفع التفكير للحمار؟!
هل ينفع الفقه للحمار؟!.. لا. ولذلك ذكر صاحب " كليلة ودمنة " أن الأسد جمع الحيوانات في الغابة، فحدثهم بفكاهة فكلهم ضحكوا إلاّ الحمار ما ضحك، وفي اليوم الثاني ضحك الحمار. قال له الأسد: ما لك تضحك اليوم؟
قال: اليوم فهمت الفكاهة من أمس وأنا أتذكر وأتحفظ إلى اليوم، فالله (عز وجل) وصف بني إسرائيل بالحمار، ووصفهم بالكلب فقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوُينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176].
نحن لم نفتح الدنيا بالشهادات لقد كان ابن مسعود من علماء الدنيا، كان رحباً كأنه الميدان الواسع إذا عبئ نسيماً، أو كأنه الوادي المتسع إذا ملئ ماءً، ما كان عنده شهادة، لكنه ظل في الدنيا كالنجم من قمر محمد صلى الله عليه وسلم.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري |
ابن عباس أخذ علمه من مناجاته لله في الليل، كان يسجد ويبكي ويقول: [[يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني]] فأصبح حبر الأمة، وترجمان القرآن ولم يحمل شهادة، قال الخطيب البغدادي في كتاب اقتضاء العلم العمل: العلم كالكنز لا ينفعك إلا ما أنفقت منه، فإذا لم ينفعك العلم، فما هي الفائدة إذاً.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن بني إسرائيل جهلة العملاء الظلام: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه [المائدة:13].
والرسول عليه الصلاة والسلام نعى على الذين لا يفهمون ولا يفقهون ولا يعملون بعلمهم نسأل الله العافية والسلامة، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال كما في سنن أبي داود: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من أعراض الدنيا، لم يجد عرف الجنة، وإن عرفها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً} أو كما قال عليه الصلاة والسلام {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة}. وفي لفظ: {ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً}.
إنسان أتى يتعلم قال الله وقال رسوله للوظيفة،للشهرة، للسمعة، ثم لم يظهر عليه أثر العلم؛ حرام عليه أن يجد عرف الجنة، وهذا الحديث يبكي والله، نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يمن علينا برحمته وفضله وعطفه وكرمه.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من تعلم العلم ليجاري به العلماء، وليماري به السفهاء، فليتبوأ مقعده من النار} من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أي ليدخل في حلبة العلماء وفي صراع مع العلماء، ومشاجرةٍ، ومناظرةٍ ساخنة، ومباحثة ليكون محسوباً على العلماء.
أو ليماري به السفهاء أي: يستهتر به في المجالس، ويماري به كل سفيه؛ فليتبوأ مقعده من النار.
وصح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يسهر الليلة الكاملة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وهو يبكي ويردد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123]
فلو أنا إذا متنا تركنـا لكان الموت غاية كل حي |
ولكنا إذا متنا بعثنـا ويسأل ربنا عن كل شي |
الزاد هو العمل الصالح فهذا ثابت البناني أحد الصالحين من التابعين ذهب إلى خراسان جنوب إيران في نزهة يريد مهمة هناك، فمر بالحدائق الغناء، والبساتين الفيحاء، والأنهار المتدفقة والتلال المترعة؛ فكأنه ما رآها، فلما عاد إلى البصرة سأله أهل البصرة: كيف رأيت جمال الطبيعة؟
قال: والله ما كأني رأيت شيئاً، وما أعجبني في سفري هذا إلا أنني رأيت عجوزاً تصلي ركعتي الضحى. هذا ثابت البناني الذي يقول عنه الذهبي: كان يبكي من خشية الله حتى تكاد أضلاعه أن تختلف، في سفرته كلها ما رأى جميلاً من الأشياء إلاّ رأى عجوزاً تصلي ركعتين.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس}.
فأين أهل القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟
أين أهل البنوك؟
أين أهل الشيكات الذين ظنوا أن المستقبل لهذا الرصيد؟
لا والله لا رصيد إلا لمن له رصيد عند الله عز وجل.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا |
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا |
والتكاثر بالمال فلسفة، يعبر عنها بعض الناس بقوله: يترك كل شيء إلا المال، يسبح بحمد المال، وبعض الناس يعبد المال من دون الله، يسجد للريال، ويركع للريال، ويسبح ويحمد الريال، لو سألت بعض الناس عن اسمه ربما يغلط فيقول: الريال. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث عن هؤلاء: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة} هؤلاء عبيد. لماذا؟
لأن أكبر معنى عندهم في الدنيا هذا المال، فحديثهم في المجالس في المال، وكلامهم في المال، أخذهم وعطاؤهم ومحبتهم وبغضهم على المال.
وهذه عبودية من دون الله عز وجل. قال ابن تيمية: " أإله غير الله يعبدون" أو " لا بد لهم من معبود غير الله يعبدوه " لا بد، لأن الإنسان كما في الحديث الصحيح: همامٌ حارث؛ قلبه همام، وأعضاؤه حارثة فاعلة تتحرك وتزاول، فلا بد له من مقصود، ولذلك اسم الله لفظ الجلالة قيل معناه: أنه تأله له القلوب، فلا تسكن إلا إلى الله، ولا تطمئن إلا إلى الله، ولا تصمد إلا إلى الله، ولا ترتاح إلا إلى الله، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]
فإذا عرف هذا، فليعلم العبد أن من التكاثر، التكاثر في المال، وحدُّ المال الكثرة أن يشغلك عن طاعة الله، فإذا أشغلك عن طاعة الله، فاعلم أنه عارٌ ودمارٌ، وشنارٌ ونارٌ في الدنيا والآخرة.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16] من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها أي: نعطيهم منها كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:20-21].
والأولاد قد يكونون فتنةً، ولعنةً، وسخطاً، وغضباً، وشقاءً، قد يدخلون عليك البؤس والحسرة واللوعة والحرقة والفتنة، وفي بعض الآثار التي لا تصح مرفوعةً إلى المعصوم بل هو من كلام أحد الحكماء "في آخر الزمان لأن يربي أحدكم كلباً أوجرواً خير من أن يربي ولداً " هذا في بعض الأماكن يوم يرفع القرآن من البيت، يوم تنزك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من البيت، تتربى الأسرة على غير لا إله إلا الله، على الأغنية الماجنة، على الصورة الخليعة، وعلى السهرة الآثمة، ولذلك ينشأ النشء معوجاً غير مستقيم، الابن ضال مضل، والبنت فاتنة مفتونة؛ لأن غرساً لا يربى على نهر محمد عليه الصلاة والسلام غرس ميت.
ونحن بالخصوص في هذه البلاد بلاد تعيش على ثلاثة أمور: إيمان وطموح وحب، بلاد هواها نشأ على لا إله إلا الله، وهواها سار على لا إله إلا الله، وتدفق ماؤها على لا إله إلا الله، وعلى الإيمان بالله وبرسول الله، كتب اسمها وقدرها -هذه الجزيرة - على لا إله إلا الله، فقدرها الإسلام وهي قدر الإسلام، ولا نزري بغيرنا من البلاد، فأولياء الله عندهم ربما يكونون أكثر من عندنا؛ لكنْ القبلتان، والعقبتان، والبيعتان، والهجرتان هي من هذه الأرض:
بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا |
فيوم يأتي بيت من البيوت، أو جيل من الأجال في هذه البلاد ليخرج القرآن من البيت، ويحل مكان القرآن الأغنية، أو يخرج المصحف ويحل المجلة الخليعة، أو يخرج حلقات السيرة والسمر مع هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ليجعل لعب الورقة مكانها؛ معناه يقضي على لا إله إلا الله ويشطب على لا إله إلا الله من مسيرته.
لا حياة للأمة إلا بالإيمان يقول إقبال:
إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ ولا دنيا لمن لم يحي دينا |
ومن رضي الحياة بغير دينٍ فقد جعل الفناء له قرينا |
أمة بلا إيمان معناها قطيع من البهائم، جيش بلا إيمان هَوْشرة وهوش، فصل بلا إيمان شلة من المشاغبين، بيت بلا إيمان خراب؛ فيه غربان وبوم وعقارب، قلب بلا إيمان قطعة لحم متمزقة، كتاب بلا إيمان صحف ممزقة، قصيدة بلا إيمان أبيات مقفاة، كلمة بلا إيمان وخطبة بلا إيمان حروف مجمعة، والحب تعيش عليه الأمة، وإذا لم تعش على الحب فلا مصدر لها، وهو إكسير الحياة يحول المعدن إلى معدن آخر.
وإذا دخل الحب لغير الله ورسوله القلب فقد فسد، وظن الفنانون والفنانات، والمغنون والمغنيات، والماجنون والماجنات الأحياء منهم والأموات أن الحب عندهم.
ونحن الدعاة أو نحن أهل الدعوة وأهل قال الله وقال رسوله؛ إن كنا من أهل ذلك ما عندنا حب، بل الحب كل الحب والأصالة كل الأصالة في المصحف والسنة، أما حبهم فحب الضياع، حب العشق، حب الهيام، حب الانهزامية والفشل والبعد عن الله عز وجل، هذا أمر لا بد أن يتذكر وأن يفهم.
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2] حتى زرتم المقابر، قبل أن أنفذ إلى الآية التي تلي هذه؛ أقول: التكاثر بالأولاد تكلم الله عز وجل عن هذا في القرآن كثيراً، وذكر قصة محزنة عن رجل، ضال مضل، عميل، كفر بلا إله إلا الله، هذا الرجل هو الوليد بن المغيرة كان له عشرة أبناء، من أبنائه خالد بن الوليد سيف الله المسلول، خالد الذي قال عنه العلماء وقال هو عن نفسه أنه حضر أكثر من مائة معركة في سبيل الله وفي غير سبيل الله قبل الإسلام، ما فيه موضع شبر إلا أصابه إما طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم.
نعم:-
تسعون معركة مرت محجلةً من بعد عشرٍ بنان الفتح يُحصيها |
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها |
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها |
أبوه كافر بالله العظيم، وخرج من صلبه هذا المؤمن العظيم، سبحان الله الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
الوليد بن المغيرة كان يحضر أندية قريش، ويدخل الحرم وعن يمينه خمسة أبناء وعن يساره خمسة، فقد كانوا عشرة، كان يلبسهم الحرير، وأسورة الذهب، وتيجان اللؤلؤ، كان تاجراً، ذهبه يكسر بالفئوس في مكة، فدعاه صلى الله عليه وسلم إلى لا إله إلا الله؛ فكفر بلا إله إلا الله، قرأ عليه القرآن حتى بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13] فقام ووضع كفه على فم المصطفى عليه الصلاة والسلام وقال: أسألك بالله وبالرحم -لأنه قطع قلبه- لا تواصل في القرآن، يعلم أنه حق، يعلم أنه مبدأ، يعلم أنه صدق، فرجع إلى قريش وأراد ان يسلم قالوا: لا نتركك. يا أبا المغيرة حتى تقول، حتى تقول كلاماً، فقال: هذا القرآن سحر، فتنزل له الله بآيات وقال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر:11].
أتى وحده، وقع أعمى، أصم، أبكم، جائع، ظمآن على الأرض، والآن يتفلسف في القرآن، يحارب لا إله إلا الله.ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً [المدثر:11-13]. يشهدون معه الحفلات والمراسيم وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً [المدثر:13-14] أي: مهدت له أموره، أهذا هو الجزاء؟! وهذا رد المعروف؟! وهذا حفظ الجميل؟! تكبر علينا اليوم، اليوم يعرف شخصيته.
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً [المدثر:14-16] وجزاؤه سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر:17] صعود: جبل في جهنم يصعد فيه سبعين سنة إذا انتهى إلى أعلاه سقط على آخره وهكذا سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر:17] لماذا؟ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ [المدثر:18] تفلسف في القرآن، ما عرف لا إله إلا الله، قلبه آثم مجرم، دماغه ما فهم، ما عنده انفتاح ولا ذكاء ولا فهم إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:18-26] أي: جهنم وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ [المدثر:27-28] نعوذ بالله من النار، نعوذ بالله من سقر، نعوذ بالله من الفجور، نعوذ بالله من عدم الفهم لآيات الله عز وجل، هذا في التكاثر بالأولاد.
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] أيها الناس! ألهاكم التكاثر، أيها التجار! ألهاكم التكاثر، أيها النائمون! إلى متى والموت قد حضر؟!
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2] لأهل العلم مسلكان في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أورد ذلك ابن كثير وابن جرير منهم من قال: سبب نزول هذه الآية والسورة: أن قريشاً عددوا الأسر على كثرتهم: أسرة بني سهم، وأسرة كذا، وأسرة كذا؛ فلما عددوا الأسر قالت هذه الأسرة: نحن أكثر عدداً من تلك الأسرة، حتى قالوا: نعد أمواتنا وأمواتكم، فخرجوا يعدون الأموات في القبور، فيقول تعالى:: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2].
والمسلك الثاني: قال المفسرون: معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] أي تكثرتم بالأموال والأولاد والزينة والشهرة والعلم حتى جاءكم الموت فأشغلكم وهذا هو الراجح والظاهر إن شاء الله.
ليس في الزيارة المعروفة الشرعية للمقابر، أو الزيارة العادية الذي يفعلها بعض الناس، لا. إنها زيارة غير الزيارات، زيارة اضطرار.
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيـا وحسب المنايا أن يكن أمانيا |
زيارة لابد أن ينتقل ويفعلها ويزاولها كل إنسان، الملك والمملوك، الغني والفقير، الكبير والصغير، الأنثى والذكر.
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2]: زرتم ولكنها على منوالها وعلى ظاهرها، زيارة ولكنها ليست بزيارة، وهي الموت؛ زيارة على النعوش، زيارة في الأكفان، زيارة ونحن جثث نحمل على أكتاف الرجال.
وهذا تلطفٌ في الأسلوب وعجبٌ في الكلام.
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2]: وعلى ذكر الزيارة لا نستطرد في أحكامها؛ فلها باب آخر، إن هذه الزيارة ليست الزيارة المعروفة التي تزور فيها الأموات ثم تعود إلى بيتك، إنك إذا فعلت هذه الزيارة فلن تعود إلى بيتك مرةً ثانية، إن الله عز وجل كما في الحديث القدسي يقول: {إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون} زيارة تفقد فيها أحبابك، وأصحابك، وأترابك، وإخوانك، وأخدانك، زيارة لن تعود إلا إلى جنة أو إلى نار، زيارة لن ترى فيها بيتك مرةً ثانية، ولا طفلك الوليد الحبيب، ولا طفلتك الوديعة الهادئة، ولا زوجتك الحبيبة، ولا بيتك ولا فراشك، زيارة تنقطع فيها عن أسباب الحياة وعن معالم الحياة.
تنبهــوا يا رقود إلى متى ذا الجمود |
فهـذه الدار تبلى وما عليها يبيد |
الخير فيهـا قليـلٌ والشرُ فيها عتيد |
والبر ينقص فيها والسيئات تزيد |
فاستكثر الزاد فيها إن الطريق بعيد |
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2].
يا أيها الذين قرب رحيلهم إلى المقابر، ماذا أعدتم للمقابر؟
يا أيها الذين استبشروا بطلعاتهم، وخافوا من وهج الشمس أن تغير بشرتهم، سوف تحشرون في المقابر، يا أيها الذي تظلل في الظل الهانئ الوارف؛ سوف تطرح في المقبرة، يا من تمتع برؤية أطفاله، والجلوس على منابره وكنباته، سوف توسد التراب، يا من تلذذ بالطعام والشراب؛ سوف يأكلك الدود.
ستنقلك المنايا من ديارك ويبدلك البلى داراً بدارك |
وتسلب ما غنيت به زماناً وتنقل من غناك إلى افتقارك |
فدود القبر في عينيك يرعى وترعى عين غيرك في ديارك |
مر عمر بن عبد العزيز -كما في البداية والنهاية لـابن كثير - الخليفة الزاهد العابد، المجدد الأول بعد الصحابة؛ مرّ بالمقابر في دمشق فقال: يا موت ماذا فعلت بالأحباب؟ ماذا فعلت بالأحبة؟
ثم بكى حتى جلس، فجلس معه الأمراء والوزراء وهم يبكون قال: [[أتدرون ماذا يقول الموت؟ قالوا: لا. قال: يقول: ذهبت بالعينين، وأكلت الحدقتين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، وفصلت القدمين عن الرجلين، والرجلين عن الساقين]].
ساعة الموت -كما يقول أحد الأساتذة العصريين- يذل فيها الجبار، ويذعن فيها المتكبر، ويسلم فيها الكافر؛ لكن لا ينفعه حينها إسلامه.
فإذا أعددت لنفسك زاداً في ذاك القبر آنسك الله، فوالله الذي لا إله إلا هو لا مؤنس في القبر إلا العمل الصالح والتسبيح والذكر والصلاة والقرآن، يا عالم الدراهم والدنانير.. يا عالم الملابس والمعطيات.. يا عالم الأكل والشراب.. يا عالم العمارات والسيارات. هذه عملة لا تنفع في القبر، صيرفي القبر يقول: هذه عملة بهرجٌ زائف.
لا يدخل القبر إلا عملةٌ عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، ووقع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى بعلامتها جبريل، ورضيها الله، ودخلت بالإخلاص، ووضعت بالتواضع، وسلمت بالقبول، ورفعت إلى أبواب الجنة الثمانية.
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:99-100] (كلّا) هذه كالجبل، تتحرك كأنها القوارع أو القذائف على الرءوس.
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] أهذا صحيح؟! كلا.. هذا خطأ؛ أخطأتم في الأسلوب، وأخطأتم في العمل، وأخطأتم في الفهم، وأخطأتم في الإدراك والإرادة.
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:3] سوف تظهر، لكم أمور ما ظهرت، كان ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] فبكى حتى أغمي عليه.
وفي كتاب الزهد لـوكيع بن الجراح بسند جيد إلى ابن عمر أنه قرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1] حتى بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] فبكى حتى أغمي عليه ورش بالماء وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:3] صلوا وصاموا وحجوا؛ لكن رياءً وسمعة، وظنوا أنها رصيد عند الله، فلما حضروا وجدوها هباءً منثوراً، فبكوا وتضرّعوا ولكن حيث لا ينفع التضرع والبكاء.
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:4] وهذا تأكيد بالتثبيت والإرادة بعد المبادئ، والتفريع بعد التفصيل، وهو منهج استقرائي لأهل التفسير، بل لأهل اللغة العربية قبل أن يكون لأهل التفسير يوم تؤكد الكلام.
الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-3] الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2] هذا التأكيد يقرع القلوب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ لكن الذي ليس له قلب لا يفهم، والذي ليس له فكر لا يتفكر، والذي ليس له إرادة أو فسدت إرادته لا يعي ولا يفهم أبدا.ً
- مراتب اليقين:-
َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمّ َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [التكاثر:3-5] كيف علم اليقين؟
في القرآن حق اليقين، وعلم اليقين، وعين اليقين؛ فما هو الفرق بين عين اليقين وحق اليقين وعلم اليقين؟
يقول ابن القيم في مدارج السالكين: علم اليقين: هو أن تسمع بالشيء ولا تراه فهذا علم، ولكنك إذا تيقنت منه فهذا علم اليقين؛ فإذا علمت بشيء فتيقنت منه كان لديك علم اليقين.
وحق اليقين: هو أن يخبرك الثقاة بأمور تواترية تبلغ درجة حد التواتر، فتتيقن دوماً أن هذا الأمر صحيح، فيكون عندك درجة حق اليقين.
وعين اليقين: هو أن ترى الشيء بنفسك.
ثم ضرب على ذلك مثالاً؛ فقال: تسمع من الناس أن العسل لذيذ الطعم، وأنه طيب المساغ، وأنه سلس المذاق، فيكون عندك جزم من استقراء كلام الناس عن العسل أنه طيب فهذا علم اليقين، يخبرك أطباء ومدربون وأناسٌ كثيرون أن العسل من أحسن المطعومات فيكون عندك حق اليقين.
تأتي فتذوق العسل فيصبح عندك عين اليقين. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ثُمّ َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [التكاثر:4-5] لو كان عندكم في الدنيا علم يقين يصل إلى القلوب ما فعلتم هذه الأفاعل، بالله هل يترك الصلاة من عنده علم يقين؟
بالله! هل يستهزئ بآيات الله ويستهتر بالمبادئ الخالدة في الدين من عنده علم يقين؟!
بالله هل يقضي وقته باللعب واللهو والغناء والمجون والسفور من عنده علم يقين؟!
بالله هل يخل بفرائض الله من عنده علم يقين؟!
لم تقع هذه الأمور إلا يوم نقض علم اليقين، ومات علم اليقين في القلوب، فلو وصل علم اليقين إلى القلوب، لكنّا وصلنا إلى الله عز وجل.
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل |
أيها اللاهي بلا أدنى وجلْ اتق الله الذي عز وجل واستمع قولاً به ضرب المثل اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل |
- الوصول إلى اليقين عند غلاة الصوفية:
الوصول هو التقوى، وهو علم اليقين، إذا وصل إلى القلب وصلت إلى الله عز وجل، إذا عرفت الله عز وجل، وعملت بأوامر الله، فقد وصلت، لا كوصول الصوفية، فعند غلاة الصوفية إذا وصلوا إلى درجة اليقين بزعمهم لا يصلون ولا يصومون ولا يحجون، قيل لهم: مالكم؟
قالوا: نحن نتعبد حتى نصل إلى درجة؛ فإذا وصلنا إلى درجة أسقط الله عنّا التكاليف، فالصلاة معناها: صلة مشايخنا، قلنا: والصيام؟
قالوا: الصيام حفظ أسرارنا. قلنا: والحج؟ قالوا: زيارة أحبابنا.
قيل لـأبي علي الروذباري: يقول الصوفية الذين تركوا الفرائض: أنهم وصلوا. قال: صدقوا، وصلوا لكن إلى سقر، إلى جهنم. ما كل من وصل وصل، ولا تصل أنت إلا على طريقٍ قائده محمد عليه الصلاة والسلام، وزادك فيه القرآن -كما سلف التنويه بهذه العبارات في أول المحاضرة-.
ثُمّ َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر:3-6] -نعوذ بالله من الجحيم- وهنا أسلوب القرآن ممتع مع فواصل الآيات، وهو أسلوب المد المحزن البكائي في الفواصل التي تمد في حركات.
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر:5-6]
قال: الجحيم ولم يقل: النار؛ لأن النار تمد وهو تناسب سورة [ص] والسور التي مدت فيها الألف ثم جاءت بعدها حروف، مثل المهاد، المئآب، الثواب، العقاب، القرار، لكن هذه كانت تناسب التحزين لأن السورة سورة بكاء ثم لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر:6-7] الجحيم ترى يوم القيامة.
وصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديث أنه: {يؤتى بجهنم يوم القيامة يقودها بأزمة سبعون ألف ملك} ولها زمجرة ولها تغيظ وزفير تكاد أن تتميز وتتقطع من الغيظ، وتريد أن تغير على أهل الموقف -نعوذ بالله من ذلك- ولكنها تصبر حتى يدخل فيها المجرمون.
نعم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر:7] أتى هنا عين اليقين الرؤية، ويأتي عين اليقين هنا، وهي الدرجة التي ذكرها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى علم وعين.
خذ كل شيء، إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عوضٌ من كلِّ هذه، وليس من الله عوض، من وجد الطريق إلى الله فقد وجد كل شيء، ومن فقد الطريق إلى الله فقد فَقَدَ كل شيء، من نام على الرصيف وما وجد إلا كسرة الخبز وقطعةً يواري بها عورته، ووجد الإيمان فقد ملك الدنيا، ومن ملك الدنيا ثم فقد الإيمان، فقد أصبح في لعنة وأمسى في غضب، قال تعال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126] ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]
النعيم على أنواع، ما هو النعيم؟
قيل: الماء البارد. وهذا قول ابن عمر قال: [[تسألون عن الماء البارد]].
يوم تظمأ وتتحرق كبدك، وتريد أن تقدم كل شيء عندك لشربة ماء.
وقيل النعيم: هو السكن إلى الأهل، والرضا بالرزق مع الاستقامة. وقيل النعيم: هو المدد بالجوراح وبالحواس فلا يطرقك حدث حتى تموت، وهذا من النعيم.
وقيل النعيم: هو ألا تطرقك طوارق الأحداث، وأن يتلطف بك في القضاء والقدر -وهذا من النعيم-.
وقيل النعيم: أن تسلم من فتنة الحياة (التفكير) وفتنة الابتلاء الذي يصل ببعض الناس إلى التسخط -وهذا من النعيم- والصحيح أن كل ما أعطاك الله عز وجل مما أمدك به فهو نعيم، ولكن النعيم قد ينقلب عند من لا يحسن استخدامه واستعماله إلى جحيم.
هذا أبو تمام يقول:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم |
كتب علي بن أبي طالب أبو الحسن أمير المؤمنين إلى رجل يعزيه في ابنه قال له: [[يا فلان! إن احتسبت موت ابنك آجرك الله، وإن لم تحتسب موته سلوت بعد حين كما تسلو البهائم]].
انظر إلى العقل.. انظر إلى أستاذ الكلام، رجل العبارة، وأستاذ الكلمة الحارة (علي بن أبي طالب) يرسل الكلمات قذائف تصل إلى القلوب؛ يقول: إذا احتسبت موت ابنك كان نعيماً، وكان ثواباً لك عند الله، وإذا لم تحتسب سلوت بعد حين كما تسلو البهائم، فأخذ أبو تمام هذا المعنى وقال:
أتصبر للبلوى رجاءً وحسـبةً فتؤجر أم تسلو سلوَّ البهائم |
نعم. البهيمة بعد حين تسلو عن فصيلها وعن ولدها، وهذا مثل بعض الناس يتسخط وقت موت الأب والابن والأخ، ويبكي، ويتذمر على القضاء والقدر، ويتعدى حدود الأدب، ولكن بعد أشهر يسلو كما تسلو البهيمة، فلا احتسب أجراً ولا جعله نعمةً وذخراً عند الله، ولا سلم من الذنوب والخطايا.
والنعم متنوعة: منها نعمة الابتلاء، ونعمة الرخاء، تليت هذه الآية في مناسبة صحَّ عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] أنه قال: [[لا يرضى محمد وأحدٌ من أمته في النار]].
فأسأل الله عز وجل أن يرضي عينه، وان يقرَّ عينه بدخولنا في الجنة، لأنه رحيم يشفق على هذا الجيل، ويشفق على هذه الأمة يقول في صحيح البخاري عن أبي موسى: {آخذ بحجزكم، وتتهاوون كما تتهاوى الفراش في النار}.
يقول: لا تزنوا ولا تكذبوا ولا تغشوا ولا تخادعوا.
لكن كثيراً منا يخالفون أمره.
- حديث رسول الله: لتسألن عن النعيم:-
خرج عليه الصلاة والسلام ذات يوم جائعاً علَّه أن يجد طعاماً في أحد الأمكنة، يطلب رزق الله، فخرج أبو بكر جائعاَ، وخرج عمر الفاروق جائعاً، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أخرجك يا أبا بكر؟ قال: الجوع يا رسول الله. قال: وما أخرجك يا عمر. قال: الجوع يا رسول الله.
سبحان الله! العظماء يجوعون، نعم يجوع العظماء، والذئاب والأسود تجوع، والكلاب تشبع من لحوم الضأن.
يقول الشافعي:
تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب |
ليس الحبق والتبجح والسخط من العظمة، إنَّ الحمار يأكل ما يعادل عشرة أنفس من الرجال لكنه حمار، وهذا مقدور ومقدر، الرزق يأتي ويذهب، والأكل يأتي ويذهب.
طول الحياة إذا مشى كقصيرها والعصر للإنسان كالإعصار |
لكن العظمة في القلوب، فالعظماء يجوعون، عظماء الأمم جميعاً في المسلمين وغير المسلمين من أجوع الناس.
فخرج قال: والله ما أخرجني إلاَّ الجوع، اذهبوا بنا نلتمس طعاماً، فخرجوا إلىبيت أحد الأنصار الأبطال الأخيار الذين قدموا كل شيء للإسلام، قدَّموا عرقهم، وقدَّموا دماءهم، وقدَّموا أموالهم وأبناءهم، جزى الله الأنصار خير الجزاء! الله أكبر! يا للأنصار من مفخرة في الإسلام وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] يقول بعض المفسرين: كان الأنصاري ينام جائعاً ويذهب بطعامه ويعطيه جاره، فيشبع الجار وينام وهو جائع.
هينون لينون أيسار بنو يسرٍ صيد بهاليل حفاظون للجار |
لا ناطقون عن الفحشاء إن نطقوا ولا يمارون إن ماروا بإكثار |
فجزاؤهم عند الله خير الجزاء، قالت عائشة المربية العالمة الصديقة بنت الصديق: والله ماضرَّ أحداً من الناس أن ينزل بأهله بجانب بيت من بيوت الأنصار، بكى أبو بكر بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: يا معشر الأنصار! جزاكم الله خيراً من جيران، ما وجدنا والله مثلكم من جيران، ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغنوي في أبيات لطيفة ظريفة، يقول:
جزى الله عنَّا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلُنا في الشارفين فزلتِ |
همُ خلطونا بالنفوس وألجئــوا إلى غرفات أدفأت وأظلتِ |
أبوا أن يملونا ولـو أنَّ أمنـا تلاقي الذي يلقون منا لملَّتِ |
فخرج صلى الله عليه وسلم وصاحباه الشيخان، الكبيران، الجليلان، اللذان هما قطب الإسلام بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم ودخلوا المزرعة وما وجدوا الأنصاري، كان يذهب يأخذ ماءً من بئر له في المزرعة، فوجدوا أماً وداعيةً، ومستقبلةً، وامرأة عاقلة فهشت وبشت في وجه الوفد العظيم الذي ما دخل البيت أعظم منه، وأخذت ترحب حتى أخذت تبكي من الفرح تقول: والله ما أحسن منَّا ضيفاً هذا اليوم.
طفح السرور عليًّ حتى إنـني من عظم ما قد سرَّني أبكاني |
وأخذت ترحب ويسألها صلى الله عليه وسلم عن زوجها قالت: خرج يستعذب لنا الماء، ويأتي في هذا الوقت، فأتى الأنصاري، فلما سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته أخذ يكبر فرحاً الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر والله ما أحد أحسن منا ضيفاً هذا اليوم!!
تصور في ذهنك -أيها المسلم- يا صاحب اللوعة والحرقة على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.. تذكر أنك في بيتك وبين أطفالك ويطرق على بيتك طارق، فتفتح الباب فإذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وإذا أبو بكر وعمر ضيوفك، أيُّ مكتوب في الأذهان؟! أيُّ كنز يقدَّم إليك إن كنت مسلماً؟! ما سمع في الدهر بجائزة أعظم، ولا وسام أعظم من هذا، فيفتح ويتقدَّم ويأتي بسفرته، ويذبح الشاة وهذا الكرم العظيم:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله |
فيشبع بطن المصطفى عليه الصلاة والسلام، بطن الذي ربَّى الأجيال، بطن الذي فتح الممالك بلا إله إلاَّ الله، بطن الذي أخرج الأساتذة والدعاة والعلماء والأدباء والقواد والشهداء، بطن الذي رفع لا إله إلا الله في طاشقند وسمرقند والهند والسند وكل بقعة على الأرض، فلما شبع قال: {والله لتسألن يوم القيامة عن هذا النعيم} هذا عليه الصلاة والسلام شبع مرةً في أشهر طويلة، ويتحرَّى السؤال من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وكم نسمع في اليوم والليلة ما كأن هناك وجبة تمر إلا بلحم، والوجبة التي تمر بلا لحم وجبةٌ نحاسب أنفسنا عليها، ونستغفر من تقصيرنا فيها، ما بقي إلا أن نسجد سجدة السهو إذا فات اللحم من وجبةٍ من الوجبات، كأنه قُرِّر علينا أنه لابدَّ أن يقدَّم اللحم على الموائد؛ حتى أصبحت بطوننا فتنة للحيوانات، تذبح بأصنافها ومطعوماتها من مثلجةٍ، وطازجةٍ، ومذبوحةٍ على الطريقة الإسلامية، والدانماركية، وعلى الإنجليزية، والفرنسية، وظلمات بعضها فوق بعض، والإنسان إذا لم يعرف أنَّ هذه نعم لا يقدرها، ولا يشكر الله عليها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
- مالك بن دينار يعظ رجلاً بالنعيم:-
اللقمة يوم ترفعها يسألك الله عنها لكن سؤال تقرير، يسألك الله يوم القيامة، أما إذا أكلت فشبعت قيل: نعم. فماذا فعلت بالأكل؟
لأن كثيراً من الناس إذا أكل وشبع قام يرقص ويترك الصلاة، وإذا قيل له: لماذا لا تصلي؟ قال: إن لنفسك عليك حقاً! ألنفسك عليك حق في اللهو واللعب أما الصلاة فليس لها حق؟!
وكثير من الناس إذا أكل وشرب ذهب ليعصي الله عز وجل بطعامه وشرابه، ويمسك حدود الله، ويتجرأ على محرمات الله، ويلعب بآيات الله وقد أكل نعم الله، استظلَّ بسماء الله، ومشى على أرض الله، وشرب ماء الله، وعصى الله.
أتى رجل إلى مالك بن دينار أحد الدعاة الأذكياء.. أحد الدعاة الواجهات في الأمة الإسلامية فقال: يا مالك بن دينار! أنا تبت من كل ذنب إلا من ذنب واحد. قال: تب إلى الله. قال: جربت نفسي فما استطعت. قال: فتب. قال: فما استطعت. قال: أجل، أسألك أسئلة. قال: سل. قال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من أرضه، كيف تعصي الله في أرضه؟
رجلٌ يكرمك في بيته ويدخلك في بيته فإذا تغديت وتعشيت أخذت السوط تضرب أبناءه؛ فإذا قال لك هذا الرجل: أطعمتك وأسقيتك وأكرمتك وتضرب أبنائي؟! تقول: أنا حر أتصرف كما أشاء.
قال: اخرج من أرض الله. قال: وأين أخرج والأرض أرض الله والملك ملك الله؟! قال: وإذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله. أتأكل نعم الله وتعصي الله؟! قال: من أين آكل ولا رزق إلا رزق الله. قال: إذاً فإذا أبيت ذلك فحاول ألا يراك الله، اختفِ في مكانٍ لا يراك الله فيه، وأين يختفي الإنسان بين الجدران من الواحد الديان، بين الحيطان من الرحمن، بين البساتين والأشجار من الواحد القهار. لا والله.
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ والنفس داعيةٌ إلى الطغيان |
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
قال: لا أستطيع، الله يراني في كل مكان. قال: فإذا أصريت على ذلك عصيت الله فحاول ألا يجدك يوم القيامة، فإنه إن وجدك عذبك عذاباً عظيماً. قال: لا مفر ولا ملجأ ولا ملتجأ من الله إلى إليه، ثم أخذ يبكي وقال: أشهدك أني أتوب إلى الله.
بعض الناس إذا ابتلاه الله افتضح، فالستر الستر! ولذلك أحسن الدعاء: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]
ابتلي الصالحون فرفع الله درجاتهم بالابتلاء، وأولهم الأنبياء.
مرض أيوب عليه السلام مرضاً عظيماً سنوات عديدة، فلما أتاه الزوار قالوا: ادع الله أن يشفيك، قال: شافاني الله أربعين سنة، وأمرضي ثماني عشرة سنة؛ فإذا تساوى البلاء والعافية دعوت الله عز وجل.
ونحن يمرض الواحد منا أياماً قليلة فيقول: طوَّل بي البلاء؛ دخلت المستشفى من شهرين وأنا طريح الفراش، وأين وأنت بالعشر، عشرين، ثلاثين، أربعين سنة تأكل صحيحاً معافى، أما حسبت هذا الوقت.. أما تذكرت هذا الزمن.. أما حاسبت نفسك على هذه النعم.
وذكروا عن عمران بن الحصين: أنه مرض ثلاثين سنة، فما شكا ولا اكتوى حتى صافحته الملائكة -كما في الإصابة وغيرها- بأياديها، لأنه شكر نعمة الله.
وكثير من الصالحين عدُّوا الابتلاء نعمة.. قطعت رجل عروة بن الزبير من فخذه، ونشرت وهو في الصلاة فقال: [[اللهم لك الحمد إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة أعضاء وأخذت عضواً واحداً، وأعطيتني أربعة أبناء وأخذت ابناً واحداً، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا]].
وابتلي كثير من الناس منهم أبو ذؤيب الهذلي مات له سبعة من الأبناء فيقول:
والنفس راغبةٌ إذا رغبتها وإذا تُرد إلى قليل تقنع |
والابتلاء نعمة إذا قدرها العبد لكن إذا تسخط أصبحت نقمة. فما هي النعم إذاً؟ النعم على ثلاثة أضرب:
نعمٌ توصلك إلى رضوان الله عز وجل وهي الإيمان والعلم الصالح، وهذا لا يعادله نعمةٌ من النعم أبداً، ولا يمكن أن يرقى إليها أحدٌ من الناس، ولا يصل إلى مستواها بشرٌ من البشر إلاَّ المسلمون، وهذا تفوقنا على الأمة الكافرة وعلى أعداء الله بنعمة الإيمان، ونعمة الإيمان لا يعادلها شيء، وقد أسلفت الحديث عن هذا.
ولذلك يقول إبراهيم بن أدهم: نحن في نعمٍ لو علم بها السلاطين لجالدونا عليها بالسيوف، فما هي هذه النعمة؟ هي نعمة الرضا بالله عز وجل رَبَّاً، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب |
المعتصم الذي كان المصحف دائماً في حضنه.
ولا بأس أن أورد القصة باختصار حتى نعرف كيف كنا نغضب للا إله إلا اله إذا انتهكت، كنا نعيش للا إله إلا الله، كنا نموت من أجل لا إله إلا الله.
ذهبت امرأة مسلمة تبيع الثياب وتشتري إلى عمورية في بلاد الروم، والبلاد بلادٌ كافرة، فبسطت بضاعتها في السوق ضحى، وهي إمرأة غريبة بين قومٍ كفار؛ مثلما تذهب المرأة المسلمة اليوم إلى بريطانيا أو أمريكا أو إسرائيل، وبينما هي تبيع وتشتري أتى رجل كافر، فربط ثوبها بحجيزتها أو برأسها؛ فقامت فتكشفت عورتها فصاحت بأعلى صوتها في السوق وامعتصماه، وامعتصماه، وامعتصماه! تقول: أين الخليفة المعتصم عن هذا الأمر، أيرضى أن تنتهك حرمتي، وأن يؤخذ عرضي في السوق؟! أيرضى وهو خليفة للمسلمين أن يفعل بي هذا، فضحك الرومي الذي فعل هذا وقال: انتظري المعتصم حتى يأتي على فرسٍ أبلقٍ، وكان مستبعداً الرد، فسمع رجل مسلم في السوق هذا الصراخ العجيب الذي يدخل إلى القلوب ويقرع الأرواح.
وانطلق وركب البحر، ووصل إلى المعتصم في دار الخلافة في بغداد دار السلام، ودخل على المعتصم وكان عسكرياً قوياً متقياً لله. فأتى هذا الرجل المسلم الذي سمع المرأة الصارخة المستنجدة بـالمعتصم بعد الله، فدخل عليه وقال: كنت يوم كذا وكذا في عمورية، ووقع للمرأة المسلمة تلك كذا وكذا فقالت: وامعتصماه، فضحك منها الروم وقالوا لها: انتظريه على فرسه الأبلق حتى يأتيك ينصرك، فقام المعتصم من على مجلسه وكرسيه واقفاً. فقال: والله الذي لا إله إلا هو لا يصيب رأسي غسلٌ من جنابة حتى أطأ أرضهم بالخيل.
ثم أعلن الاستنفار في العالم الإسلامي وقال: لا بد من كل بيت من المسلمين أن يخرج منهم مجاهد ومن تخلف يضرب عنقه، ثم توجه وجعل العلماء في قيادة الجيش يفقهون الناس، ومشى حتى وصل إلى عمورية، ثم قاتلهم فكان يفتح كل مدينة بلا إله إلا الله، فإذا فتح المدينة أحرق حصونها حتى أخذت تشتكي هذه المدينة على هذه المدينة، وترى هذه المدينة نار هذه المدينة، ثم دخل عمورية فطوقها حتى استسلم قوادها، وأنزلهم وقال: عليَّ بالرجل، والله لا أغادر مكاني حتى يأتيني الرجل الذي أساء لتلك المرأة، فأتوا بالرجل يسحبونه، فأوقفه عند المرأة فقال لها: هذا الرجل رقيق لك. إن شئت أعتقتيه لوجه الله، وإن شئت فهو عبدٌ لك قالت: بل أعتقه لوجه الله. قال المعتصم وقد انتحى: أنا المعتصم، وهذا فرسي الأبلق، وقد جئت أنصرها بلا إله إلا الله.
يقول أبو ريشة.
ربَّ وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتَّمِ |
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصمِ |
ألإسرائيل تعلـو رايـةٌ في حمى المهد وظل الحرمِ |
أوما كنتِ إذا البغي اعتدى موجةً من لهبٍ أو من دمِ |
كيف أغضيت عن الظلـم ولم تنفضي عنـك غبار التهم |
ما كأننا كنَّا أمة نفتح بلا إله إلا الله، ونقدم لا إله إلا الله، ولذلك المناسبة يوم يقول أبو تمام:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب |
إلى أن يقول في القصيدة:
تدبير معتصمٍ بالله منتقم لله مرتقبٍ في الله مرتغب |
الشاهد أن هذا الخليفة لما حضرته الوفاة تذكر لقاء الله قال: أموت؟! قالوا: تموت اليوم، وهو شاب.
يظن بعض الناس أنه لا يموت حتى تنتهي فترة العمل، ويتقاعد، ثم يبدأ عملية الموت، ينظر إلى لحيته وهي سوداء. قال: لا لن أموت، ما دامت اللحية سوداء، فلا يموت الإنسان.
لكن أفتى أهل العلم بالإجماع أنه يجوز أن يموت الإنسان وهو شاب، فيقول المعتصم: أموت اليوم. قالوا: تموت فنزل من على سريره يبكي ويقول: والله لو كنت أدري أنني أموت في شبابي ما لهوت عن ذكر الله ساعة.
سبحان الله! ولا يتذكر هذا المصرع إلا عند سكرات الموت.
حضرت الوفاة هارون الرشيد الخليفة العباسي، أقوى خليفة، الخليفة الحضاري الذي قدم لخلافته وملكه ما لم يقدمه أحد من أهل عصره، والذي كان يخرج على شرفات القصر ويقول للسحابة: " أمطري أنَّى شئت، فإن خراجك سوف يأتيني " أي: أيَّ مكان أمطرت فيه فهي من بلادي.
حضرته الوفاة في طوس فخرج يبكي وقال: اجمعوا لي الجيش، فجمعوا الجيش، فأشرف على الجيش ونظر إلى السماء وهو يبكي وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه، فبكى الناس..
النعيم الثاني: ألا تجعل لك إماماً ولا قدوةً ولا هادياً إلا محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]
فمن لم يجعل الرسول عليه الصلاة السلام إمامه وأسوته وقدوته؛ فلا يزال ضالاً حقيراً لا يساوي عند الله فلساً.
ليس هناك أعظم من الرسول صلى الله عليه وسلم في المربين، ولا في المعلمين، وشريعته تؤخذ كاملة، فأما التجزئة والترقيع فهذا أمرٌ لا يرضاه الله عز وجل قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85].
والنعيم الثالث: -وهو يدخل في النعيم الأول والثاني؛ لكنه ينفصل بجزئيات- نعيم العبودية، نعيم النوافل بعد الفرائض، ولا أنعم ممن وضع وجهه في الأرض ساجداً لله عز وجل.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبـادي وأن صيرت أحمد لي نبياً |
الدنيا كلها والله لا تساوي ركعتي الضحى.
حين تخرج من عملك، من مكتبك أو من إدارتك أو من فصلك، فتتوضأ وتصلي ركعتي الضحى في أربع دقائق أو خمس دقائق، والله إن الدنيا كنوزها وذهبها وملكها لا يساوي تلك الركعتين.
النعيم أن تأخذ المصحف تتلو آيات الله، فإذا لم تبكِ فتباك.. النعيم هو أن تقوم في السحر إن وفقك الله لقيام السحر والليل، فتقوم فتبتهل إلى الله عز وجل أن يعافيك ويشفيك... النعيم: أن تعد بأناملك دائماً وأبداً وأنت في المجالس أو وأنت سائر، بالتسبيح والتهليل والتكبير.. النعيم أن يصل قلبك بالله عز وجل.. النعيم أن ترضى بما أعطاك الله عز وجل من الأرزاق، ومن الأولاد، ومن البيوت، وتعدَّ نفسك في رغدٍ من العيش.
وقل لمن أخذ الدنيا: خذها ومعها مثلها إذا بقي الدين فهو الاستقامة والفلاح والنجاح.
فهذا نعيم العبودية.. نعيم اللذة.
يقول ابن تيمية كما ثبت ذلك عنه: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
إنها لذة العبادة والذكر، ولذلك لما أدخل القلعة أغلق عليه السجان الباب قال ابن تيمية: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] ثم قال: "ماذا يفعل أعدائي بي؟!
أنا جنتي وبستاني في صدري أنَّى سرت فهي معي.. أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة"
فجنته وبستانه الذكر والعبادة والاتصال بالله عز وجل. ولذلك انظر إلى المؤمنين الذين يداومون على الصلوات الخمس في الجماعة.. أهل المصاحف.. أهل قيام الليل.. أهل صيام النوافل.. أهل التسبيح وركعتي الضحى كيف تجد عندهم من السكينة، والاطمئنان، والصلاح،والخير ما لا تجده عند أولئك الذين لا يعرفون هذه الأمور.
يبحثون عن السعادة لكن ما وجدوا طريقها.
هذا الأمريكي دايل كارنيجي في كتاب دع القلق وابدأ الحياة أتى بطرق السعادة، وفي الأخير تنبه واستفاق وسط الليل يقول: اكتشفت أن السعادة أن تجلس نصف ساعة مع الله عز وجل.
أين أنت يا عدو الله ما بحثت عن السعادة إلا في هذه النصف ساعة، نحن إن شاء الله سعادتنا ليل ونهار، أما أنت فتظن أن السعادة في الدراهم والدنانير لأنك ما عرفت السعادة.
رغم أن هذا الكتاب ترجم إلى تسع وخمسين لغة، والحكمةُ ضالةُ المؤمن يأخذها أنَّى وجدها، والشيطان علَّم أبا هريرة آية الكرسي، وهي موجودة في القرآن، ففي الصحيحين قال له الشيطان: اقرأها في كل ليلة فلا يزال عليك من الله حافظ، فقال عليه الصلاة والسلام مقرراً ذلك وهو يتبسَّم: (صدقك وهو كذوب).
صدق هذه المرَّه وقد كذب مليون مرة، ولذلك لا بأس أن نأخذ هذه الأساليب التجريبية والاستقراءات لنرى كيف وصلوا إليها، وكيف المستوى المنحط الذي وقعوا فيه.
فهو بعد أن ألَّف كتاب (دع القلق وابدأ الحياة) أخذ سكيناً ونحر نفسه في آخر المطاف.. سبحان الله! يطبب الناس وهو مريضٌ، يقتل نفسه بسكِّين.. أيُّ طبٍّ هذا؟! لأنه ما عرف المسجد.
من النعيم الثالث، نعيم المسجد، يوم تدل ابنك على المسجد معناه أنَّك تجنبه السجن، والخمارة، ودور الدعارة، والمقاهي اللاهية، والجلسات السيئة.. يوم تقوده إلى المسجد معناه أنك ترفع وتشرف رأسه في الدنيا والآخرة.. يوم تعلمه طريق المسجد معناه أنك تؤسس له مستقبلاً متيناً؛ ليس مستقبل الشهادة والمال؛ لأن الذي يعتمد على غير الله ينهار ويكسل وينهزم:
فالزم يديك بحبل الله معتصمـاً فإنه الركن إن خانتك أركانُ |
فإذا عرف ذلك فليعرف النعيم أنه القرب من الله عز وجل، والعبودية لله، أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يقرَّ عيوننا وعيونكم بالنعيم الخالد، وبعبوديته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأن يرزقنا وإياكم الاستقامة.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنَّا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر