والصلاة والسلام على رسول الله؛ أفصح من بلغ عن الله، وأصدق الناس مع الناس، وأنصح الناس للناس، صلى الله على لسان الصدق الذي بلغ الدعوة العالمية إلى الناس، وأذن الخير التي وعت وحي السماء فبلغته بأمانة، صلى الله عليه وسلم ما اتصلت أذن بخبر، وما تعلقت عينٌ بنظر، وما غرد قمريٌ على شجر، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ شهادةً أدخرها لي ولكم ليوم العرض على الله.
أمَّا بَعْد: فيا أيها الناس! إن سير الصالحين مدرسةٌ أسسها القرآن، ووعتها السنة، ومعنا في هذا اليوم صالح من الصالحين، بل إمام الدنيا، وحافظ العصر، أحفظ أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحديث، وعت الدنيا اسمه، وحفظت القلوب رسمه، ما أظن هناك مسلماً يصلي خمس صلوات في اليوم والليلة إلا ويعرف هذا الإمام، حتى أعداؤه من الكفار والمنافقين يعرفونه إلى قيام الساعة؛ هو الإمام أحمد بن حنبل، إمام السنة.. الواقف يوم المحنة.. الزاهد فيما سوى الله، المتقن للحديث، فمن هو الإمام أحمد؟! علنا نقتدي بشيء من سيرته، فإن لم نستطع فلنحبه في الله، فإن المؤمن يحشر مع من أحب، والخليل على دين خليله، والله عزوجل يقرن الأصناف مع أصنافهم، والأنواع مع أنواعهم، والأشباه مع أشباههم:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة |
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة |
قال أحمد رحمه الله: فحفظتني أمي القرآن وعمري عشر سنوات، فحفظ كتاب الله واستوعاه في صدره، ففرت الوساوس والشياطين من صدره، فأصبح عابداً لله.
وفي الأثر: {من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه}.
لقد عاش في هذا الجو، وفي هذا البيت، وكان كل همه أن يعبد الله بكلام الله، وأن يكون عبداً خالصاً لله.
قال: فأعطتني متاع السفر.
أتدرون ماذا أعطته من الزاد؟! كم أعطته من الألوف؟! كم أعطته من الدراهم والدنانير؟! ما كانت تملك شيئاً، وإنما صنعت له ما يقارب عشرةً من أرغفة الشعير، ووضعتها في بقشية من قماش معه، ووضعت معها صرة ملح، وقالت: يا بني! إن الله إذا استُودع شيئاً لا يضيعه أبداً، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
فذهب من عند أمه من بغداد، عاصمة الدنيا، دار السلام، لماذا ذهب؟! أذهب للسياحة كما يفعل اللاهون اللاغون اللعابون؟! أم ذهب إلى التفرجة كما يذهب السادرون المخمورون المسرفون؟! أم ذهب إلى تزجية الأوقات والتدحرج على الثلج كما يذهب الذين رفعت عنهم أقلام التكليف؟! لا، بل ذهب يبحث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جانب المصطفى عليه الصلاة والسلام، إلى مكة والمدينة:
من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من منن |
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن |
فذهب رضي الله عنه وأرضاه. قال: مضيت من بغداد على رجلي إلى مكة، فضعت في الطريق ثلاث مرات، فكنت كلما ضعت استغفرت الله، ودعوته، وقلت: يا دليل الحائرين! دلني، فوالله ما أنتهي من كلامي إلا ويدلني دليل الحائرين على الطريق.
من هو دليل الحائرين؟ إنه الله، من هو ملجأ الخائفين؟ إنه الله، من هو مناص العارفين؟ إنه الله.
فكان كلما ضاع في الصحراء التجأ إلى الله، ليس عنده علامات، ولا هناك مواصلات، ولا نقلٌ ولا خطوط، صحراء يبيد فيها اللبيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، فضاع الإمام أحمد ولكن رد اتجاهه إلى الله: {احفظ الله يحفظك} فلما حفظ الله؛ حفظه الله في سمعه وجوارحه ودينه ومستقبله وسمعته إلى يوم القيامة، وحفظ الله اسمه للملايين، عند مسلمي الصين واليابان والملايو والعراق والجزيرة وسوريا والجزائر، ومسلمي أمريكا، كلهم يسمعون بـأحمد بن حنبل؛ لأنه حفظ الله.
ثم وصل إلى مكة وأخذ الحديث من أهل مكة، وبعدها سافر إلى اليمن.. إلى صنعاء، إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني يطلب الحديث، وبينما هو في طريقه ضاع مرة رابعة، قال: وانتهت نفقتي من الخبز، أما الدراهم فما كان عندي دراهم، فماذا فعل؟ قال: نزلت إلى قوم أهل مزارع يحصدون ويصرمون، فأجرت منهم نفسي ثلاثة أيام.
يا سبحان الله! إمام الأئمة الذي يحفظ ألف ألف حديث كما يقول الذهبي وابن كثير، يحفظ مليون حديث، بل ما حفظ أحدٌ من الأمة أبداً كحفظ أحمد، يؤجر نفسه من الحصادين فيحصد معهم!! ووصل بحفظ الله إلى صنعاء، وأخذ الأحاديث النبوية وكتبها.
انظروا في تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء للذهبي والبداية والنهاية لـابن كثير وتاريخ بغداد وتاريخ دمشق، ففيها روايات متواترة على أنه كان يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة.
وكان يسرد الصوم إلا في بعض الأيام، ووصل إلى صنعاء فوهبت له جوائز من السلطان ومن بعض الأغنياء، فرفضها، وقال: أعمل بيدي، فاشتغل في بعض الصناعات بيده حتى أعطاه الله بعض الأموال، ثم عاد إلى بغداد.
أما علمه رحمه الله فهو البحر وحدث عن البحر ولا حرج! وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] العلم ليس بالمؤسسات ولا بالشهادات ولا بالجامعات، العلم تقوى الله، العلم من الحي القيوم.
يقول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] وقال الله لإبراهيم: وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف:65] ويقول لداود وسليمان: وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79] ويقول لسليمان: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79] فالفَهمُ والعلمُ والفقهُ والذكاءُ من الله.
فيا من اغتر بشهادته أو بمستواه أو بمنصبه، والله ما تغني عند الله جناح بعوضة، العلم أن تتعلم وتعمل وتعلم الناس، ليس إلا، سواءٌ كان عندك شهادة أو لم يكن عندك، سواءٌ تعلمت في مدرسة أو لم تتعلم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].
فعلم الله الإمام أحمد فحفظ ألف ألف حديث مع القرآن، مليون حديث يستحضرها كما يستحضر الفاتحة، حتى أنه كتب المسند من حفظه وهو أربعون ألف حديث.
أكبر مسند في الدنيا وفي المعمورة وعلى البسيطة هو بين أيدينا، لكن من يقرأ المسند؟ ومن يطالع المسند؟ ومن يتفقه في المسند؟
أأهل الصحف اليومية والخزعبلات، أم أهل الملاهي والملاغي إلا من رحم الله؟ لكن في الناس بقية، أصبح المسندمطبوعاً لنا طبعةً فاخرة، وأصبح معروضاً لنا عرضاً جيداً، وأصبح محققاً في الدواليب لكننا وضعناه ديكوراً وزينة، فيا أمة محمد من يقرأ مسند أحمد؟
إن من يقرأه يجد فيه التقوى والزهد والرفعة، والخوف من الله والخشية.
أفتى الإمام أحمد في ستين ألف مسألة بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ذم المنطق، وذم الرأي، وذم الفلسفة والجدل، وقال للناس: نحن قومٌ مساكين اجتمعنا لندرس حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
والعجيب في الإسلام أن العبد كلما ازداد تواضعاً لله، زاده الله رفعة، وكلما تكبر زاده الله حقارة ومهانة ومذلة جَزَاءً وِفَاقاً [النبأ:26].
قال أبو بكر الصديق لـخالد بن الوليد لما أرسله إلى اليرموك، أخذه بتلابيب ثوبه وهزه، وقال: [[يا
أتى رجل يمدح الإمام أحمد، فقال له الإمام أحمد: أشهد الله أني أمقتك على هذا الكلام، والله لو علمتَ ما عندي من الذنوب والخطايا لحثوتَ على رأسي بالتراب.
انظر إلى الإمام العابد! جاءه قوم فقالوا: يا أحمد بن حنبل! إن الله قد نشر لك الثناء الحسن، والله إنَّا نسمع ثناءك في كل مكان، حتى في الثغور مع الجيش وهم يقاتلون العدو يدعون لك حينما يرمون بالمنجنيق. فدمعت عيناه، وقال: أظنه استدراجاً من الله عز وجل.
يقول الذهبي وابن كثير: إن دخل الإمام أحمد كان في الشهر سبعة عشر درهماً، قال: هذه تكفينا، يقول أبناؤه: يا أبتاه! لا تكفينا هذه. قال: أيامٌ قلائل، وطعام دون طعام، ولباس دون لباس، حتى نلقى الله الواحد الأحد.
يقول ابنه عبد الله بسند صحيح إليه: "بقيت حذاء أبي في رجله ثماني عشرة سنة، كلما خرمت خصفها بيده"، وهو إمام الدنيا.
أرسل إليه المتوكل ثمانية أكياس من الذهب والفضة، حملها الوزراء على أكتافهم مع سرية من الجيش بعد المحنة، فردها، وقال: والله لا يدخل بيتي منها درهم ولا دينار.
يقول الإمام أحمد: رحم الله أم صالح -يعني: زوجته وكانت قد توفيت- صاحبتني ثلاثين سنة، والله ما اختلفت أنا وإياها في كلمة واحدة.
زوجته في بيته صاحبته ثلاثين سنة ما اختلف معها في كلمة واحدة.
أتاه رجل من أتباع المعتصم، فسب الإمام أحمد أمام الناس، وجدعه، وشتمه، وأخزاه بالكلام ولكن ليس بمخزي إن شاء الله، فقال الناس: يا أبا عبد الله! رد على هذا السفيه؟ قال: لا والله فأين القرآن إذاً؟! يقول الله عز من قائل: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63]. هذا هو القرآن الذي يمشي على الأرض.
كان يجلس للناس رضي الله عنه وأرضاه، فيتعلمون منه، وينظر إليهم.
دخل عليه الأديب الكبير ثعلب، فقال له الإمام أحمد: ماذا تحفظ من الأدب والشعر؟ قال: أحفظ بيتين. قال: ما هما؟ قال: قول الأول:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ |
فوضع الإمام أحمد الكتاب من يده وقام وأغلق على نفسه باباً وبقي في الغرفة، قال تلاميذه: والله لقد سمعنا بكاءه من وراء الباب، وهو يردد البيت:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ |
ولا تحسبن الله يغفل طرفةً ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ |
ورحم الله القائل:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان |
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
كانت أكبر أمنية في حياته أن يحمل السيف مجاهداً في سبيل الله.
نظر إلى قدميه وقت الوفاة فبكى، وقال: يا ليتها جاهدت في سبيل الله! لكنه -والله- جاهد أعظم الجهاد، فقد بذل علمه، وخلقه، وجاهه، وبذل ماله، وكل ما يملك في رفع لا إله إلا الله؛ فكان إمام الدنيا بحق.
وقال علي بن المديني: "لو كان الإمام أحمد في بني إسرائيل كان نبياً من الأنبياء".
وقال إسحاق بن راهوية: إذا رأيت الإمام أحمد رأيت كأن الله بارزاً على عرشه، وكأنه يحاسب الناس، فيذكرني بالآخرة.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: خرجت من بغداد، وسكانها ألفا ألف -مليونين اثنين- فوالله ما خلفت رجلاً أتقى لله، وأعلم بالله، وأزهد لله، وأورع عن محرمات الله، ولا أجود من أحمد بن حنبل.
رحم الله الإمام أحمد، وأسكنه فسيح جناته، وحشرنا في زمرته، يوم يوفى الصادقون بصدقهم، يوم يتقبل عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
أمَّا بَعْد: فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] ويقول عز من قائل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] لما قرأ الفضيل بن عياض رحمه الله هذه الآية بكى، وقال: اللهم إن بلوتنا فضحتنا!
فنحن في ستر الله، نسأل الله ألا يفضحنا وألا يفتننا، وأن يجعلنا في عافية وستر حتى نلقاه، لكن للفتنة نتائج طيبة يجعلها الله للصابرين، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
والمحنة والفتنة التي تعرَّض لها الإمام أحمد رواها أهل التاريخ جميعاً، وسمعت بها الدنيا شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فهي مسطرة إلى قيام الساعة، وهي محنة خلق القرآن التي أورثها المأمون في الأمة.
يقول ابن تيمية رحمه الله: إن الله لا يغفل عن المأمون، لما أدخله من علم المنطق على المسلمين.
يقول المأمون الخليفة العباسي ابن هارون الرشيد: إن القرآن مخلوق، وكذب على الله، فالقرآن كلام الله عزوجل، والله يتكلم بما شاء متى شاء، لم يزل متكلماً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول عز من قائل: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فالأمر هنا: القرآن، فقال هذا الخليفة: إن القرآن مخلوق.
واستخدم السيف ليثبت هذه القضية في الأمة، وقتل ما يقارب ألفاً من من علماء الأمة.. من زملاء الإمام أحمد، وملأ بهم السجون، فبعضهم أجاب خوفاً من السيف، وبعضهم رفض، وقال: لا أجيب؛ فقتل في الحال، ومنع التدريس في المساجد، ومنعت الخطابة إلا للمعتزلة، وانتشر الشر الكثير، فنصر الله الإسلام بالإمام أحمد بن حنبل.
وقف وحده، وقال: لا والله، القرآن كلام الله، فاستدعي إلى الخليفة.
انظر إلى حفظ الله، حتى في الساعات الحرجة لا ينسى ربه تبارك وتعالى، لأنه العون تبارك وتعالى:
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ |
قال: فلما أصبح الصباح، حملت على الفرس ثانية، وما طعمت طعاماً، وكدت أسقط من الجوع، فأدخلت على المعتصم الخليفة العسكري الثاني، صاحب عمورية بعد المأمون. قال: فلما دخلت عليه هز السيف في وجهي، وقال: يا أحمد! والله إني أحبك كابني هارون، فلا تعرض دمك لنا. فقال الإمام أحمد: ائتوني بكتاب الله أو بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!
حاول المعتصم معه ليجيب ويقول: القرآن مخلوق، فرفض، فدعا بالجلادين، ودُعي بجبار من الجبابرة؛ رأس الحرس الذي يتكون من خمسين ألفاً، يرأسه عجيف. فقال المعتصم لـعجيف: اضرب هذا الرجل -أي: الإمام أحمد- قال: فجلده مائة وستين سوطاً حتى غشي عليه، ثم استفاق، وكان يقول: لا إله إلا الله حسبي الله ونعم الوكيل؛ لأنها أقوى الكلمات، إنها قوة هائلة! إنها قوة فتاكة! حسبي الله ونعم الوكيل!
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[قالها إبراهيم فنجاه الله من النار، وقالها محمد فنجاه الله من كيد الكفار]] صلى الله على رسوله وسلم تسليماً كثيراً.
ورفض أن يجيب حتى تملغ وتجلد ظهره من كثرة الجلد، فرفع على الفرس وأعيد، وبقي في السجن ثمانية وعشرين شهراً، وسرد الصيام وهو في السجن في هذه الفترة كما قال ابنه عبد الله، فما أفطر يوماً واحداً، يعرض عليه الإفطار، وكان الخليفة يحبه، يقول: لا تأتوني بالعشاء حتى تعرضوه على الإمام أحمد.
فيعرضون له المائدة ليأكل، فيقول: والله لا آكل لهم لقمة، ولا أشرب لهم شربة.
على ماذا كان يتغذى الإمام أحمد؟ كان عنده جراب فيه سويق، فإذا اقترب وقت المغرب أخرج كفاً منه، ثم وضعه على الماء وشربه، هذا غذاؤه في ثمانية وعشرين شهراً.
ثم في الأخير عرض على السيف مرات ورفض، فلما أعجزهم وأكلَّهم وأملَّهم أعادوه إلى بيته، فأنزلوه وهو جريح. يقول ابنه عبد الله: دخل أبونا علينا في الليل بعدما أُطلق من السجن، فأنزلناه من على الفرس، فوقع من التعب ومن الإعياء ومن الضعف والهزال والمرض على وجهه، قال: فبقي أياماً، ثم تولى الخلافة المتوكل فنصر السنة، وأتى بالمال والذهب إلى الإمام أحمد، فبكى الإمام أحمد وقال: والله إني أخاف من فتنة النعمة أكثر من فتنة المصيبة والمحنة، فرفض وما أخذ شيئاً، وبقي على هذا الحال.
وكان يقول: يا ليتني ما عرفت الشهرة! يا ليتني في شعب من شعاب مكة لا يعرفني الناس!
قال أبناؤه: والله لقد أغلقت المتاجر حول بيوتنا، وتوقف الباعة، وتوقف حرس المتوكل من ممر الثكنات إلى بيتنا من كثرة الناس، فرفض الإمام أحمد أن يدخل عليه إلا الصبيان والمساكين، فأدخلوا الأطفال عليه، فأخذ يبكي ويقبلهم، ويمسح على رءوسهم، ويدعو لهم، ثم أدخل عليه الفقراء فأخذ ينظر إليهم، ويقول: اصبروا فإنها أيامٌ قلائل، لباس دون لباس، وطعامٌ دون طعام، حتى نلقى الله.
وفي سكرات الموت التفت إلى طرف غرفته، وقال: لا! بعدُ، لا! بعدُ، لا! بعدُ فقالوا: مالك؟! قال: تصور لي الشيطان، ورأيته يعض على إصبعه، ويقول: فتني يا أحمد، فتني يا أحمد! أي: هربت مني، فقد فتنت الناس إلا أنت، فيقول الإمام أحمد: لا! بعدُ، أي: انتظر إني أخاف على نفسي.
فقبضه الله عز وجل، واستودع أبناءه، وأوصاهم بوصية إبراهيم عليه السلام لأبنائه؛ ألا يشركوا بالله شيئاً، وأن يقيموا فرائض الإسلام، وأن يتخلقوا بالخلق الحسن.
أتدرون ماذا كان آخر كلماته؟!
قال: اللهم اعف عمن ظلمني، اللهم اعف عمن شتمني، اللهم سامح من ضربني، اللهم سامح من سجنني إلا صاحب بدعة يكيد بها دينك فلا تسامحه.. أي: عدو الإسلام لا تسامحه، أما عدوي لنفسي فسامحه.
وقبضت روحه رضي الله عنه وأرضاه، فماذا كان؟
طوى الجزيرة حتى جاءني خبـرٌ فزعت منه إلى آمالي الكذب |
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي |
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر |
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها القبر |
شيَّعه -كما يقول أهل العلم- مليون وثلاثمائة ألف، وستون ألف امرأة؛ كما أثبت ذلك أصحاب التواريخ، وتوقف اليهود والنصارى من بيعهم ذاك اليوم، وهبت رياح على بغداد حتى قال بعض الجهلة: قامت القيامة وخرج الجيش وقوامه تسعون ألف في مقدمة الناس يرتبون الصفوف، وتراددت بغداد بالبكاء من أولها إلى آخرها، ووصلت جنازته، حتى قال بعض أهل التاريخ: كانت تذهب الجنازة على رءوس الناس تحمل بالأصابع، وتعود إلى المؤخرة وتذهب وتأتي.
فلما وضعت ارتفع البكاء، وقام الناس يصلون عليها: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي [الفجر:27-29].
قال ابن كثير: رآه كثير من الصالحين تلك الليلة، قالوا: ما فعل الله بك؟ -بعد أن توفي- قال: ناداني فقال: يا أبا عبد الله، إلحق بـأبي عبد الله وبـأبي عبد الله وبـأبي عبد الله قلت: من هم؟ قال: بـالشافعي وسفيان الثوري والإمام مالك؛ كلهم أبو عبد الله أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16].
الأمر الثاني: أن الدنيا لا تساوي جناح بعوضة، لعنها الله وقد خلقها، وما التفت إليها منذ خلقها.
الأمر الثالث: أن العلم النافع والعلم الصحيح والعلم القويم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الرابع: أن من أراد الرفعة، ومن أراد المنـزلة، والمكانة عند الله؛ فعليه أن يتواضع وينـزل نفسه، ويلغي اعتباراته ليرفعه الله.
الأمر الخامس: أنك كلما سجدت لله سجدة رفعك الله بها درجة، وهذا الإمام يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة؛ لأن كل سجدة بدرجة عند الواحد الأحد.
الأمر السادس: أن في سير هؤلاء أثراً في القلب، وتربية للروح، وهداية إلى الواحد الأحد، فطالعوا أخبارهم، وتلمحوا سيرهم، وكونوا متشبهين بهم، علَّ الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً) اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفي فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم ثبت أقدامهم، اللهم أنزل السكينة على قلوبهم، اللهم أيدهم بروح منك، وأيدهم بنصرك يا رب العالمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بكيد؛ فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره، وحطمه ومزقه، والعنه كل ملعنة، وخذه أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر