فهذه الحلقة الثانية من درس "آداب تربوية" ولعلها تكون بضابط (كيف يُربَّى الشباب؟) ويوم نعرف كيف نربي الشباب، وندعوهم ونوجههم؛ نعرف كيف نكون دعاة، وفي هذا الدرس أمور:
الأول: الاهتمام بجانب الإيمان في حياة الشاب.
الثاني: الاعتناء بالفرائض قبل النوافل.
الثالث: إحياء روح الاقتداء في نفس الشاب، بإيجاد القدوة الحقة التي تعمل بما تقول.
الرابع: ترسيخ معنى الأخوة الإسلامية على ضوابطها.
الخامس: تجنيب الشاب السب والشتم والتجريح والتشهير.
السادس: موقف الشاب من الخلاف، وما هي ضوابط الخلاف؟
السابع: الفتيا، متى يكون مفتياً؟ ومتى يحمل تبعة الفتيا؟ وما هو موقفه منها؟
الثامن: أدبه في دعوة الناس.
أما تربية الشباب فإنه أمر ليس بالسهل، وإن من أعظم مهماته عليه الصلاة والسلام في الحياة أنه كان مربياً، فكانت تربيته صلى الله عليه وسلم أكثر من كلامه، وكان عمله مع الصحابة أكثر من قوله صلى الله عليه وسلم، فكان يربي بحركاته وسماته وصفاته عليه الصلاة والسلام أكثر من خطبه ومحاضراته.
ولذلك فكلامه في المناسبات قليل، لكنه كان صلى الله عليه وسلم يأخذ من الموقف درساً ونتيجة، فجعل ليله ونهاره وقفاً على التربية.
صحيح أنه يوجد في الساحة اليوم دعاة، ولكننا نفتقر إلى مربين، إلى من يأخذون بالشاب إلى طريق الله المستقيم، إلى من يهدونه ويربونه في سلوكه، وفي أخلاقه، وسماته وصفاته، ولذلك تلحظ حماساً عند بعض الناس، ولكنه يفتقر إلى الأدب، وإلى التوجيه والتربية.
لهذا كان لزاماً علينا أن نعود إلى أصول التربية التي أتى بها صلى الله عليه وسلم، فنستعرض كيف ربى أصحابه، وكيف دلهم على الطريق المستقيم.
انظر إلى مواقف أستعرضها معك من تربيته عليه الصلاة والسلام:
كل بطاح من الناس له يوم بطوح |
والبطح معروف عند بعض الناس، وقد يستخدمه في الدعوة فلا ينتج شيئاً، وبعضهم قد يستخدم الضرب، أو السب والتجريح، فلا يكسب إلا صفراً بيده، تراه يجهد عشر سنوات فما كسب مخلوقاً، ولا رد عاصياً إلى الطاعة، ولا كسب شاباً في حياته، عنده كلمات محفوظة لو وضعت على صخر لفلقه، أو على شعر لحلقه!! فقام الصحابة لضربه، قال صلى الله عليه وسلم: {لا تزرموه -اتركوه- فجلسوا، فتركه صلى الله عليه وسلم حتى انتهى، فقال: علي بذنوب من ماء -المسألة سهلة، ولكن المقاصد أعظم- فأتوا بذنوب، قال: ضعوه على بوله، فصبوا الماء على البول وقال: عليَّ بالرجل فأتى ووضع يده عليه -هذه يد الرتابة والرحمة، يد الأنس، واللطف، يد وضعها هنا لِدرسٍ معناه: تسكين صاحب الخطأ، ما كأنه أخطأ- فقال له: إن هذه المساجد لا يصلح شيء منها للأذى والقذر وإنما هي للصلاة ولذكر الله وللتسبيح والتكبير والتهليل} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وقام الرجل، وقال بعض العلماء في الرواية: صلى قبل أن يفعل ما فعل، فقال في آخر التحيات: "اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً" وسلم عليه الصلاة والسلام وهو يدري من الرجل، ولكن أليس من الحكمة أن يعمي السؤال؟ كان بإمكانه أن يقول: "لماذا قلت ما قلت؟" لكنه قال: {من القائل آنفاً: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: لقد حجرت واسعاً} والمعنى: لقد ضيقت رحمة الله التي وسعت كل شيء: ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] وانتهى الجدل والمشكلة التي وقعت في المسجد بفوائد:
أولاً: استفدنا حكم النجاسة، فإنها إذا وقعت على الأرض، أو على التراب فتطهر بإراقة الماء عليها.
ثانياً: أن المساجد إنما هي للذكر ولتلاوة القرآن وللصلاة.
ثالثاً: وهو المقصد العظيم: كيف نتعامل مع المخالفين، ومع العصاة، ومع الذين قللوا من الأدب، أو لم يعرفوا الأدب الحق؟
فالمسألة سهلة كان بإمكان غيره عليه الصلاة والسلام في مثل هذا الموقف أن يقول: يا قليل الأدب! لم تفعل هكذا؟ قاطعتنا قطعك الله! وفعلت بنا فعل الله بك! لكنه سوف يخسر بهذه الكلمة جمهوراً هائلاً من المسلمين.
فإن النفوس تغار، وإنها تغضب إذا لم تنزل منازلها.
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]- قال: أعطني من مال الله الذي عندك -وليته سكت هنا لكنه أضاف قائلاً- فليس من مالك، ولا من مال أبيك، فقام الصحابة يريدون تأديبه وتلقينه درساً لا ينساه، فأسكتهم عليه الصلاة والسلام وأخذه، وذهب به إلى البيت فأعطاه زبيباً وتمراً وثياباً، قال: {هل أحسنت إليك؟، قال: نعم. جزاك الله من أهلٍِ وعشيرةٍ خير الجزاء، قال: إذا خرجت لأصحابي فقل هذا الكلام، فإنهم قد وجدوا عليك، فلما أخرجه أمامهم، قال: يا أعرابي! هل أحسنت إليك؟، قال: نعم! جزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خير الجزاء، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال للصحابة: أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الرجل؟ قالوا: لا ندري يا رسول الله! قال: مثلنا كرجلٍ كانت له دابة فرت منه -دابة: إما بغل، أو فرس، أو جمل- فأخذ يلحقها ويلحقها الناس، فما زادوها إلا فراراً}.
والدابة إذا رأت الناس يجرون خلفها أعلنت فيهم حالة الاستنفار وطارت، بدلاً من أن تمشي على الأرض، وتصبح في سرعة لا يعلمها إلا الله، قال: {فقال الرجل: دعوني ودعوا دابتي، ثم أخذ شيئاً من خشاش الأرض وخضارها، فأشار به للدابة فأتت فأمسكها، ولو تركتكم وهذا الأعرابي لضربتموه فكفر فدخل النار}.
أتدرون ماذا فعل الأعرابي بعد هذا الموقف؟ عاد ينادي قومه، وهم قبائل من قبائل العرب، يقول: يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فأسلموا ودخلوا في دين الله أفواجاً.
والفيافي حالمات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير |
والرمال العفر صارت حللاً عجباً من قلبك الفذ الكبير |
إن التحدث في السلوك قبل الإيمان لا يجدي، وقد يتأدب الكافر، ولذلك -أنا أقول هذا-: قد تجد الكافر أحياناً في باب السلوكيات أكثر تأدباً من المسلم الذي يصوم ويصلي، وتجد الآن بعض الأعراب لا يعرفون من السلوكيات شيئاً، لكنك لو تعاملت مع الأمريكي والفرنسي لوجدته في باب الأدب عنده شيء عجيب، عندهم من أصول الأدب أن يتبسم في وجهك، هذا موجود ومعلومٌ من سيرتهم، ومن رؤيتهم، ومن معاشرتهم، عندهم من الأدب مثلاً: ألا ينظر إليك نظر استغراب، لأنهم يرون في العرف ألا ينظر الإنسان بنظر غير نظر حاجة، فإن هذا يتركك وشأنك، لكن تعال إلى بعض الناس ممن يصوم ويصلي فقد تجده لا يعرف هذا، قد يطؤك برجله في السيارة ولا يعتذر إليك بل يقول: لماذا تطأ رجلي؟ يضربك بكوعه، أو بيده، فيقول: ليس عندك أدب! فيتعامل معك بغلظة وهو يطلب منك العذر، فمسألة الأدبيات قد يفوز بها الكافر، لأنهم يتعاملون بالتعايش السلمي، أو بالنفع المادي، أو بالمقابلة المشتركة، وهذا يريدون به الدعاية، أو يريدون به أغراضاً مادية، أو أنهم جبلوا على ذلك من تربيتهم، فعندهم تربية، ويدرسون التربية في جامعاتهم.
وبعضهم يدعو إلى الأخلاق، ويقول: إن الوحدة المشتركة بيننا وبين العالمين الأخلاق، وهذه خطة ماسونية، يقولون: دعونا والناس، كلنا إذا أصلحنا أخلاقنا صلحنا، مثل بعض المفكرين في بعض كتبهم يقولون: المسلم ليس جراحاً، ولا عياباً، ولا سباباً، وصدقوا في هذا، لكنهم يريدون أن يتوصلوا إلى الوحدة الإنسانية، فيقول: تعامل مع الروسي مثلما تتعامل مع المسلم، لماذا هذه الغلظة؟ لماذا تشوهون الإسلام؟
افعل مع اليهودي مثلما تفعل مع المصلي، وافعل مع العلماني مثلما تفعل مع الموحد، كل الناس سواسية، ولا تجرح مشاعر الناس، حتى إن بعضهم قد جعل في كتاب تربوي له، أو أظنه في علم النفس قاعدة: إن المسلم الحق هو الذي لا يؤذي الناس، ونقول: هذه ليست منضبطة، فإن بعض الكفار لا يؤذي الناس، وليس الضابط والخلاف بيننا مسألة سلوك أو أخلاقيات؛ بل إيمان، فكان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالإسلام.
في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام يقول في دعاء الليل: (اللهم لك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق -هذه المبادئ- ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق) ومحمد صلى الله عليه وسلم دعاؤه وكلامه وخطبه إيمان، حتى إن ابن القيم يذكرها في زاد المعاد يقول: كانت خطبه تربي الإيمان في القلوب، لأن بعض الناس يخبر الناس بمسلَّمات؛ يأتي يوم الجمعة على المنبر فيقول: إنكم سوف تموتون يا أيها الناس! وتخرب دياركم، وتهدم أشجاركم، وتجف آباركم، وتنقطع أمطاركم، وهذا تحصيل حاصل، فهو معلوم حتى الكافر يعرف هذا.
الكافر يعرف أنه سوف يموت، وتخرب دياره، وتجف آباره، وتموت أبقاره، لكن ليس هذا هو الضابط، إنما الضابط لقاء الله عز وجل الذي يفرق بالإيمان به بين الكافر والمؤمن، فكان صلى الله عليه وسلم ينشئ أصحابه على مبدأ الإيمان وهو منهج القرآن، فعلى المسلم، أو الداعية، أو طالب العلم، أو الأب في البيت إذا أراد أن يربي أن يبدأ بالإيمانيات، فيرسخ العقيدة.
وإذا قلنا: ترسيخ العقيدة.
فقد يقول بعض الناس: عقيدة عقيدة.. دائماً! لقد فهمنا العقيدة!!!
فالعقيدة معناها: استواء الله عز وجل على العرش، أو العقيدة معناها: لا إله إلا الله!
فنقول: إن العقيدة بمعناها الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم تصاحب الإنسان منذ أن يسقط رأسه على الأرض إلى أن يموت، ولكنها تتفرع، ويبنى عليها غيرها، فالأدبيات والسلوكيات تبنى على العقيدة، ولا نريد بالعقيدة الأمور المجملة التي ذكرها أهل العلم، بل الأمور العملية المفصلة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم.
كان صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى التفكر في آيات الله، كان إذا صعد مكاناً عالياً كبَّر، وإذا نزل سبَّح، والله يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190].
إن الأستاذ المربي يجعل من التاريخ مادة إيمان وعقيدة، كيف؟
هم يدرسون الآن ترجمة زنوبيا الزباء ملكة تدمر أكثر من ترجمة أبي بكر الصديق، ولدت وكان عندها جيش وفعلت وصنعت.
والملك الأبرش (وجدع قصير أنفه). وعنترة بن شداد أين كان يسكن. وداحس والغبراء، وهذه الطلاسم، ولكن الأستاذ المؤمن المؤرخ حين يقف عند السبورة أمام الطلاب فإنه يحول درس التاريخ إلى عقيدة، فيتحدث عن آيات الله في الكون، ويأتي بقوله تعالى عن التاريخ: وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ [إبراهيم:45].
إن المؤرخ المسلم حين يقف عند السبورة يميز بين ترجمة أبي بكر الصديق وترجمة زنوبيا الزباء، فيقول: زنوبيا ملكة كافرة، وعنترة رجل شجاع وثني فلابد أن يذكر التمايز، ويدخل إلى أبي بكر فيتحدث عن أبي بكر ويتحدث عن معركة عين جالوت، ولكن بإسلام، يتحدث عن معركة بدر ولكن بإيمان.
يا أيها الإخوة! أحد المفكرين الذين لامهم الناس ونقدوهم في الساحة، وهو يستحق النقد في بعض الجوانب، وقد أخطأ كثيراً في جوانب كثيرة، لكنه في مسألة أصاب فيها، ولا يعني أنه إذا أخطأ كثيراً ألا يصيب ولو مرة، يقول في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم: أنا لا أكتب السيرة كرجل متجرد من العاطفة، إنني جندي من جنوده عليه الصلاة والسلام، بيني وبينه وشيجة كما بين الجندي والقائد، أنا لا أتجرد من عاطفة الإيمان. وصدق في هذا، وكلامه صحيح، بل هو من أصح الكلام.
تجد بعضهم الآن يقولون وهم يكتبون في تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم: نحن نتجرد عن عاطفته، وعن حبه في أول الطريق لنكتب ببراءة، ونكتب بعدم تدخل، ولنقول نحن حياديون. حيادي! ويلك من الله! حيادي عن محمد عليه الصلاة والسلام كأنك متهم أمام العالم باتباعه! أو ربما يقيدون عليك أنك عميل استخبارات محمد عليه الصلاة والسلام، إنك إن لم تكن موصولاً به بعاطفة حية وبإيمان وإلا فإنك أنت المتهم الوحيد، أنت لا تكتب عن نابليون، ولذلك أخطأ العقاد في كتابه عبقرية محمد، وقد فعل سعيد حوى ذلك غفر الله له.
تدرون بماذا أتوا في العسكرية؟ أتوا يقارنون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في العسكرية وبين نابليون، جاء بها سعيد حوى في كتابه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتى بها العقاد في كتابهعبقرية محمد، فأخطأ الاثنان، أخطأ ذاك يوم قارن بين عبقرية هذا وهذا في العسكرية، وأخطأ هذا يوم قلده وتوسع في ضرب الأمثلة.
من هو نابليون؟ نابليون يستمد تعاليمه من المحيط الأطلسي من البحر ومن الطين، ومحمد صلى الله عليه وسلم يأخذ تعاليمه من فوق سبع سماوات.
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:1-6] كيف تقارن بين هذا وهذا؟ نابليون خرج لسحق العالم ولقتله مثل: هتلر النازي، ومحمد صلى الله عليه وسلم جاء لإحياء العالم، جاء بتوحيد الله وبرد الفطرة السليمة إلى ربها بعد أن انتكست.
فمسألة الإيمان أمرها عجيب، أنا ذكرت وأكرر هذا: أستاذ داعية مشهور وله مذكرة في الساحة غفر الله له، دخل فصلاً من الفصول فسأل الطلاب: ما هي المادة؟ قالوا: رسم -يعني مادة فنية- وأكثر ما يرسمون البط والماعز، والدجاج والحمام، وهل يستطيع الطالب أن يميز بين الدجاجة والبطة في الرسم؟ فأتى هو برسم آخر فرسم زهرة، ثم ألقى محاضرة في العقيدة على الزهرة، من أنبت الزهرة؟ ومن جملها؟ من باين بين ألوانها هذه حمراء، وتلك صفراء، وهذه خضراء، من كل زوج بهيج! فأبكى الطلاب وأدخل الإيمان إلى الطلاب.
أستاذ الجغرافيا حينما يحمل التربية الحقة يحول الجغرافيا إلى مادة إيمان، نحن لا يهمنا معرفة عواصم الدول، ولا منتجاتها، فهي ثقافة عامة يعرفها الكافر مثلما يعرفها المسلم، ولا المحيطات، ولا التضاريس، ولا المناخ، ولا أن الرياح ترتفع في المرتفعات، وتنخفض في المنخفضات، هذا أصغر مما يهمنا. يهمنا: من سوَّى الكون؟ ومن أرسى الجبال؟ ومن أجرى الريح؟ وقواعد عمل الجغرافيا في القرآن:
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ *وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20] ولذلك أجاد العلامة الشيخ/ عبد المجيد الزنداني -رفع الله منزلته- يوم استنبط من هذه القضايا الكبرى حياةً وإيماناً للإنسان، عندما يأتي بهذه القضايا الكبرى، فيطرقها ويربطها بالقرآن، فإذا الإيمان، وإذا القرآن، وإذا الجمال في الطبيعة التي جملها الله عز وجل كلها تقود الإنسان إلى الواحد الأحد.
مجرى النهر، الماء، الريح، إنها لآية من آيات الله، لكن أن يبقى الإنسان يحفظ كأنه آلة، كأنه كمبيوتر، ويعرض على الطلاب تضاريس الدول ومناخاتها، ومنجاتها وأشجارها، وصادراتها، ووارداتها دون أن يربطهم بالإيمان، لقد أخطأ كثيراً، وما الفرق الآن بين أستاذ مثلاً: فرنسي، أو ياباني، أو صيني وبين أستاذ مسلم وكلهم يتحدث عن الجغرافيا بنفس الطريقة والأسلوب؟!.
إن ذاك المسلم يختلف عن الجميع بأنه مؤمن.
في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في الحديث القدسي: (يقول الله: وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به.. الحديث) كان صلى الله عليه وسلم يعتني بالفرائض، يأتيه رجل فيسأله عن الإسلام، فيقول: (شهادة أن لا إله إلا الله -والحديث في الصحيحين من حديث طلحة بن عبيد الله - وأن محمداً رسول الله، قال: ثم ماذا؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟، قال: لا. إلا أن تطوع...) الحديث، لكن بعض الناس إذا أتى يدعو يسأله عامي: ماذا تدلني؟ قال: أولاً عليك بالصلوات الخمس، والوتر، وأربع ركعات في الضحى، وقيام الليل، وتحية المسجد، فيكثر عليه، فيقول: ما دام أن الأمر هكذا أتركها جميعاً، وإذا سأله سائل عن نافلة: ماذا أفعل في التسبيح؟ -رجل بسيط جاهل، مبتدئ في الإسلام- قال: هلل مائة تهليلة بعد الفجر، وعليك بالأذكار عند الغروب، وقبل النوم قل هذه الأذكار وبعده، ثم يسرد له قوائم من الذكر فيتركها جميعاً.
يقول أبو بكر: يا رسول الله! أخبرني بدعاء أدعو به في صلاتي، قال -وهذا في الصحيحين -: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) حفظه دعاء واحداً فَحَفِظه.
يقول علي: دلني يا رسول الله على دعاء أقوله، قال: (قل: اللهم اهدني وسددني).
وقال حصين بن عبيد في سنن أبي داود: يا رسول الله! أريد دعاءً، وقيل بل بدأه صلى الله عليه وسلم فقال: (يا
يقول للصحابي الآخر: (لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ويقول للثالث: (أفلا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قال: بلى. قال: قل لا حول ولا قوة إلا بالله).
إنه السهولة في العرض، والتدرج في التربية، ولكن المقصد البداية بالفرائض.
تجد بعض الناس يُغلِّب جانب النوافل على الفرائض، تجده يتحدث إلى الناس دائماً عن قيام الليل بينما لا يصلي كثير من الناس صلاة الجماعة في المسجد، أو تجده إذا أتى في ركعتي الضحى خشع وأحضر قلبه واستحضر ما يقول وما يقرأ، ولكن في الفريضة يهزها هزاً ويفنيها فناءً.
وبعضهم عند تلاوة القرآن يخشع، ولكن في تلاوة القرآن في الصلاة لا يخشع وربما شرد ذهنه، وبعضهم تجده يعتمر كثيراً لكنه لم يحج، أو تجده في نوافل الدعوة في كل مكان يتنقل مع الشباب من مدينة إلى مدينة، ولكن والدته عجوز حسيرة كسيرة مريضة في البيت ولم يقم بخدمتها. وبعضهم عنده والدان شيخان كبيران ليس عندهم من يقوم بخدمتهما، ولا من يقدم المئونة لهما، ويقول: أريد الجهاد، ولا أقول في هذا الباب إلا أن من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والبداية بالفرائض، والأولويات في الدين هي منهجه عليه الصلاة والسلام.
أحد الأعراب يقول كما في صحيح مسلم: (يا رسول الله! أرأيت إن أديت الصلوات الخمس، وصمت رمضان، وأديت الزكاة، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام أأدخل الجنة؟ قال: نعم.). انتهى الأمر.
لم يقل له فيما بعد: وركعتي الضحى، وتحية المسجد، والكسوف والاستسقاء، والصلاة على الجنازة، هذه القلوب في قضية العرض تتعب، ولا ترتاح لهذا العرض.
القدوة التي تعمل بما تقول، القدوة التي يحس بها الشاب، لأن إلقاء المعلومات على الشباب لا يكفي، محاضرات ودروس دون أن يكون بينهم قدوة، أو رابطة بتعامل، أو رجل يتوجهون إليه فيجدونه مقتدياً برسول الله عليه الصلاة والسلام هذا أمره عظيم.
يقول أحد السلف: كنت إذا وهنت في العبادة، وكسلت فيها ذهبت إلى محمد بن واسع الأزدي، فنظرت في وجهه فتنشطت على العبادة أسابيع. فقط في النظر هكذا.
ويقولون: كان محمد بن واسع إذا رُئي ذُكر الله. ويقولون: إنه ما اتكأ، لا اتكأ على اليمين، ولا على اليسار، وإلا فالأمر فيه سعة فقد اتكأ عليه الصلاة والسلام على يمنيه وعلى يساره، لكن انظر العبرة. قيل له: لماذا لا تتكئ؟ قال: أنا ما جزت الصراط فلا أدري هل أنا من أهل الجنة، أو من أهل النار، ولا يتكئ إلا آمن، وأنا لست بآمن كان إذا جلس وحده تربع وخشع في جلوسه، فقيل له: نراك معنا تتبسم كثيراً فإذا جلست وحدك انضبطت وخشعت، قال: في الحديث: (يقول الله: أنا جليس من ذكرني) فكان يذكر الله وهو جالس، هذا محمد بن واسع، وهو صاحب قتيبة بن مسلم يوم صفوا في حدود كابل، يوم أتى قتيبة بن مسلم -رفع الله منزلته- يفتح تلك المنطقة، وقبل المعركة بدقائق قال لقواده: التمسوا لي محمد بن واسع، العالم العابد خرج يجاهد في سبيل الله.
يقول ابن القيم:
بالليل عباد وعند لقائهم لعدوهم من أشجع الأبطال |
خرج يجاهد في سبيل الله، عالم وعابد وزاهد.
قال قتيبة: التمسوا لي محمد بن واسع، ماذا يفعل في هذه الساعة؟ ساعة ضاقت، بلغت فيها القلوب الحناجر، غفر الله لـقتيبة بن مسلم فأمره عجيب! كان يدخل المسجد ولا يخرج، يقولون: إذا أراد غزوة يدخل المساجد التي في الثغور، ثم يستقبل القبلة ووراءه القادة والجنود، وكان يرفع يديه ولا يخرج حتى يبكي ويُبكي القادة معه، يطلب النصر، ولذلك اجتاح تلك المناطق بإيمانه، ونصره الله، قال: التمسوا لي محمد بن واسع، فأتوا إلى محمد بن واسع، فوجدوه قد ركز الرمح وهو يشير بإصبعه يا حي يا قيوم! انصرنا، فعادوا إلى قتيبة فأخبروه قال: [[والله لإصبع
لكن الشاهد هنا: أنهم كانوا يرون وجهه فيتقوون على العبادة أسابيع، فكيف لو كان معهم، يخالطهم ويتكلم إليهم، كانت رؤية الصالحين تنفع في ذاك الوقت، لكن قَلَّ الأعوان، وذهب الإخوان، ولا نشكو حالنا إلا إلى الرحمن.
هذه مسألة أثر الاقتداء في تربية الشاب وأمرها عظيم، وإذا لم تجد قدوة تمشي، فعد بهم إلى القدوة الحقة أعني: محمداً عليه الصلاة والسلام.
تقول عائشة وقد سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن).
أتوا إلى الحسن، فقالوا: اغتابك رجل، فقال: خذوا له رطباً -قالها الغزالي في الإحياء - فذهبوا بالرطب إلى الرجل، وقالوا: أرسل الحسن إليك هذا وقال: [[تهدي لنا حسناتك، ونهدي لك رطباً]] وما سبه ولا جدّعه.
جاء رجل إلى ابن السماك الواعظ قال: غداً نتعاتب -يقول: غداً أحاسبك وتحاسبني- قال: غفر الله لك، بل غداً نتغافر، ولا نتحاسب، غداً نلتقي وأقول: غفر الله لك، وتقول: غفر الله لي.
ومعنى الأخوة ليس بالسهل، ففي الأخوة واجبات، يقول عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه...) لقد وجد من أبناء الجيل، ومن أبناء الصحوة -وهذا يقين ليس ظناً ولا رجماً بالغيب- من يلتقي مع أخيه المسلم الشاب ولا يسلم عليه، نعم. وُجد هذا وثبت كثبوت هلال العيد، فأي تربية ترباها هؤلاء؟! وهل يريدون نصر الإسلام؟! لا يسلم عليه، ولا يصافحه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا لقيته فسلم عليه) والبشاشة مع السلام: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) أو طلْق، أو طَلِق، وبعض الناس تراه منبسطاً مرتاحاً، فإذا رأى أخاه قبَّض وجهه، لأنه خالفه في جزئية!
قال: (وإذا استنصحك فانصحه..) والبعض يجعل أخطاء أخيه معروضة أمام الناس، مع أ نه لم يكلمه أبداً، بل تجده يتشفى فيه في المجالس بقوله: أخطأ حسبه الله في هذه المسألة، فإذا سألته: بالله عليك -وأنت تعرض أخطاءه على الناس- هل نصحته يا أخي؟ هل كلمته؟ أو كتبت له؟ فسيقول: لا.
إن أهل السنة يتناصحون، وإن أهل البدع يتفاضحون.
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة |
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه |
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة |
(وإذا دعاك فأجبه..) صعب على المسلم أن يدعو أخاه لمناسبة ليس فيها حرام فيعتذر دائماً، صحيح أن للناس أعذاراً، لكن لا يعتذر معتذر إلا لأحد أمور:
الأول: أن يكون له عذر شرعي، من مرض، أو سفر، أو ارتباط، أو موعد فله ذلك.
الثاني: أن يكون الاعتذار لبدعة، أو منكر عند الداعي، فله ذلك، فإن الإمام أحمد لم يكن يجيب دعوة أهل المنكرات، ولا أهل المعاصي الظاهرة مثل: أن يكون في بيته خمر يدار في المجلس، أو غناء يُضرب ويُستمع إليه في أثناء الجلسة أو أن هذا الرجل يشعر بعلو على إخوانه، فلا يجيب دعوته.
بعض الناس تجده لا يجيب دعوة الناس ويقول: أو كلما دعيت أجيب! أنا فاضل هل أمشي إلى المفضول؟! هم أقل قدراً مني، ولو لم يقله لسانه، ولكن قلبه يقول ذلك، والعجب هلاك محقق والعياذ بالله!
وإن من حقوق الأخوة الإسلامية: أن تدعو له بظهر الغيب، وعلامة الصدق أن تدعو له بظهر الغيب، وهو أمر مطلوب منا، ومطلوب منكم، انظر كيف رفع الله أحمد والشافعي.
أحمد بن حنبل رحمه الله رأى ابن الشافعي -بعد ما توفى الشافعي - فقال: [[أبوك من السبعة الذين أدعو الله لهم في السحر]] سبعة كان يدعو لهم الإمام أحمد من زملائه وإخوانه، يقولون في المثل العامي: (عدوك صاحب مهرتك) ولكنه ليس بصحيح بل أخوك هو الذي ينتهج نهجك، ويسير في مسيرتك.
كان أبو الدرداء يدعو لسبعين من أصحابه بظهر الغيب، وأسرع إجابة؛ دعوة غائب لغائب.
ومن حقوق الأخوة: إذا مرض أن تعوده، وإذا مات أن تتبع جنازته، وإذا عطس أن تشمته إلى غيرها من الحقوق، فترسيخ معنى الأخوة يأتي في الامتثال في أرض الواقع، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك وفي صحيح البخاري أصل الحديث، ولكن قصته: أن الصحابة اجتمعوا في مجلس، فتكلم بلال -بلال حبيب القلوب، يقول عمر: [[ أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]]- فقال له أبو ذر: [[حتى أنت يا بن السوداء تتكلم]] -أبو ذر هذا الذي تعلم في مدرسته عليه الصلاة والسلام- لكنه أخطأ وزل، فقام بلال، فشكاه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فغضب عليه الصلاة والسلام وتغير، فلما جاءه أبو ذر، لا يدري أبو ذر هل رد صلى الله عليه وسلم عليه السلام أو لم يرد، وقال: (أعيرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية -وقعت كأنها صخرة، أو قذيفة، أو صاعقة- قال
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد |
وضع أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه خده على الأرض، وقال: يا أخي! لا أرفع خدي حتى تطأه برجلك، فأبى بلال لكرمه وسموه وأخلاقه وقال: [[أنت أخي]] وقاما وتعانقا وتباكيا.
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها |
لم يكن صلى الله عليه وسلم بذيئاً ولا فحاشاً، ولم يكن سباباً ولا مجرحاً، ولذلك جمع الله له قبائل العرب التي مثل قرون الثوم لا تجتمع أبداً، ولم يكن عنده مُلك، وما اجتمعوا على ملك من العرب أبداً، وكل قبيلة لها مملكة خاصة، كل قبيلة تؤسس حضارة لوحدها هي حضارة السيف والدم، وحضارة الهتك والسلب والنهب، فلما أتى عليه الصلاة والسلام وصفه الله فقال: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].
بعد الإسلام والهجرة جلس الأنصار في مجلس، والأنصار كما تعرفون قبيلتان: الأوس والخزرج، كانت القبيلتان في الجاهلية تقتتلان قتالاً ضريعاً لم يسمع الناس بمثله، فلما أتى صلى الله عليه وسلم أصبحوا أنصاراً، وأُلغي هذا الاسم "الأوس والخزرج" إلا من النسب وأصبح مكانه "الأنصار"، ولكن الشيطان دخل وهم في المجتمع المسلم يستمعون القرآن في المسجد، فأتى يهودي اسمه ابن شاس فجلس بينهم، فقال للأنصار: كيف وقعت معركة بعاث بينكم؟ -يعني: الأوس والخزرج، ذكرهم تلك الأيام المريرة- فقالوا: وقعت كذا وكذا، فقال أوسي: نحن غلبناكم، قال خزرجي: لا. نحن الذين انتصرنا، فقام أوسي يسب الخزرجي، وخزرجي يسب الأوسي، فقال رجل منهم: اللطيمة اللطيمة! موعدنا وإياكم الصحراء -يقول: تعالوا واخرجوا لنا في الصحراء- والوحي نازل والرسول صلى الله عليه وسلم في بيته والقرآن وجبريل صباحَ مساءَ، وانتهت الجاهلية، لكن انظر، وهذه يذكرها ابن جرير الطبري في تفسيره، في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100-101] وهؤلاء أهل الكتاب، فخرج الأوس والخزرج وقد صاح صائحهم: اللطيمة اللطيمة إلى الصحراء، عادوا إلى السيوف فاخترطوها من أغمادها.
إذا خرجت من الأغماد يوماً رأيت الهول والفتح المبينا |
أخذوا السيوف من الأغماد وتوافوا في الصحراء -نسوا الآن وطارت من أذهانهم مسألة الإيمانيات- ووقف الأوس في جهة والخزرج في جهة، ووصل الخبر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فخرج خائفاً يجر إزاره ليدرك القوم، ووقف بين الصفين، ثم أخذ يذكرهم، ويدعوهم، ويتلو عليهم من آيات الله حتى سالت الدموع -وكانوا أسوداً من أسود الله، هم أهل بدر وأهل أحد وحنين - فوضعوا السيوف في الأرض وتعانقوا وتضاموا وارتفع البكاء، وهذه يوردها ابن جرير وأمثاله.
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها |
فقال الله بعد هذه الآية: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].
إذاً يا أيها الإخوة! إن من معالم تربية الشاب أن يُجنَّب السب، إذا سمعته يسب وينتقد عالماً فقل له: لا. لا تقل هذا، فهو خطأ، وعلمه كيف يتأدب مع العلماء، وإذا سمعته ينال من داعية، فقل له: سامحك الله، هذا ليس بأسلوب. وإذا سمعته يشهر بجيرانه وبإخوانه، فخذ على يديه.
إن من يتعود السب يصبح له نهمة، مثل المدمن على الخمر، لا يستقر باله حتى يشرب الخمر، ومثل المتعود على شيء من الأمور تصبح العادة له مثل العبادة.
فحذارِ حذارِ من هذا الأسلوب فإنه مقيت، وهذا لا يكسب العبد قلوباً، ولا تحبه القلوب ولا ترضاه: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] (وليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء).. ( والرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، والله رفيق يحب الرفق).
إما أن يبلغ الدليل أحدهم ولم يبلغ الآخر.
وإما أن يكون الدليل ثابتاً عندك وعندي منسوخاً.
وإما أن يكون صحيحاً عندك وهو عندي ضعيف.
وإما أن يكون الحديث ثابتاً وصحيحاً وبلغني وبلغك ولكني أفهم منه شيئاً وتفهم منه شيئاً آخر.
وأدب الخلاف يتمثل في أن يبين المسألة بعضنا لبعض، فإذا توصلنا إلى شيء وإلا فليعمل كل بما رأى، وهذا في الفرعيات.
ولا يعنف المخالف على المخالف، ولا يشهر به، فقد أخذت مسألة تحريك الإصبع اثنتي عشرة سنة من حياة المسلمين، بلاد المسلمين شذر مذر ونهب وسلب، وكثير من الفواحش طمت وعمت: مخدرات، وغزو فكري، وعلمنة في الساحة، وإلحاد وزندقة، بينما فئة من الشباب تقول: هل تحرك الإصبع كذا أم كذا؟ وهل يحركها كلها من أول التحيات إلى آخرها أو لا؟ حتى إن بعضهم -كما تعرفون- يحرك يده كلها، خروجاً من الخلاف، أي أنه قد أدرك التحرك.
ثم يأتيك بعضهم ويقول: هل العمامة سنة؟ وكيف تكون الذؤابة؟ وهل لنا أن نلبسها بالغتر الحمر؟ لأن العصر عصر اقتداء وأظن أننا لا نُعفى من أخذ السنة والعمامة، لأننا قصرنا في باب العمامة، ثم يلقي عليك محاضرة. والأمر أسهل وأيسر، لكن منافذ الخلافيات من تكثير المسائل التي يختلف فيها.
واليد هل هي على الصدر أم هي تحت السرة، ويتهاجر متهاجران من أجل هذه المسألة!!
يقول شكيب أرسلان كلمة طيبة سأنقلها عنه وما عليَّ من الرجل، فلو سئلت عنه لبينت ما فيه، لكن ربما قال المعرض كلمة حق، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها.
يقول شكيب أرسلان: المسلمون اليوم بين جاحد وجامد، فهم بين جحود وجمود.
جاحد يعني: زنديق، حداثي عميل، ذنب لـاستالين وجرباتشوف، وربما صلى مع الناس، لكنه يحمل حقداً وضغينةً وكفراً في قلبه، ويكتب ويغزو بالأفكار، وليس ما يهمه من التحريك بل يضحك علينا نحن، يقول: صحوة تحريك الأصابع، وصحوة تقصير الثياب إلى الركب، وصحوة اللحى والدروشة، هذا جاحد جزاؤه السيف الأملح، ولو كان في عهد عمر لفصل رأسه وعن كتفه.
وقد أصيب المسلمون بهذا الداء.
وجامد أي: جامد فقط، أنا لا أقول جموداً على الحق، فإن الجمود على الحق فضيلة، لكنه جامد على مرئيات في ذهنه، لا يرى أن تتحول الأمور أبداً، إذا تحدثنا في صالة، قال: لا. السنة في الحديث أو المحاضرات أن تكون في المسجد، وإذا بدأنا بالقرآن مثلاً واستفتحنا أحياناً به، قال: لا. وينكر علينا ذلك.
وأنا أقول: لا بد أن يكون هناك سنن وأن تُبيَّن البدع، لكن الجمود على شيء رأى الناس مصلحته كوسيلة مثلاً من وسائل الدعوة، مثل هذا الميكرفون، فلو لم يوجد لما سمع آلاف الناس كلامي، لكنه يقول: لم يرد هذا الميكرفون في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم، وما أتى به السلف، وما جُني علينا إلا حينما أتت هذه الوسائل والمسجلات والأشرطة.
لا يا أخي! لماذا هذا الجمود؟ لماذا تُضحِك علينا أعداء الله؟! حتى هؤلاء أهل الجحود يضحكون على هؤلاء ويقولون: إنهم يتساءلون في مجالسهم: هل يجوز النظر إلى المرآة أم لا؟ ويضحك بعضهم ويقهقه بملء فيه؛ لأنه وجد جامداً، ولو وُجد رجل يعرف الدين الذي عرفه صلى الله عليه وسلم فإنه يُسكت هؤلاء وأمثالهم، لأنهم ضحال الثقافة والإيمان، ليس عندهم شيء ولا عندهم نور.
موقف الشاب من الخلاف:
إن كان خلافاً في الأصول فلا يعذر من خالف، وهو ما أجمع عليه الصحابة، فإذا أجمع الصحابة على مسألة فلا يخالفنا فيها أحد، فقد أجمعوا على أسماء الله وصفاته، فلا يأتِ مخالف ويقول: أنا مأجور إذا خالفت، لا. لست بمأجور ولا مشكور بل موزور.
والمسائل التي اختلف فيها الصحابة يجوز لمن بعدهم أن يختلفوا فيها، أما ما أجمعوا عليه فلا يجوز لمن بعدهم الخلاف فيها.
والناس في مسألة الفتيا طرفان ووسط:
أناس بلغ بهم الورع البارد إلى أن حرموا الناس العلم! والذين في الثانوية الآن باستطاعتهم أن يفتوا في بعض المسائل، كما لو سئل: كم أركان الإسلام؟ يقول: خمسة، لكن بعضهم عنده علم ومع ذلك تجده متحرجاً في كل مسألة -ورع بارد- فهذا اسمه ورع سامج مظلم، يقولون له: كم يتمضمض المتوضئ.؟ يقول: الله ورسوله أعلم. أو كم الخلفاء الراشدون؟ يقول: الله ورسوله أعلم. فهذا ورع بارد.
وبعضهم يقابله بالطرف الآخر وهو من يفتي في كل مسألة، حتى في مسائل لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر، أما هو فيفتي، بل يسابق السائل في المجلس ويفتي في الطلاق والحيض، وتجد بعض الشباب الناشئة يفتون في هذا، رأى حديثاً واحداً فأفتى به في مثل هذه المسائل الصعبة، وحتى بعضهم يفتي في الرضاع، ثم يكتشف في البيت بعدما يعود أن المسألة خطأ، فلا يتصل بمن سأله ويقول: دعها تلحق بأخواتها، لأن له مسائل أخرى أخطأ فيها فقال: لا عليك. ويسألونه في المجلس، فيقول له الشيطان: حاول أن تجيب لأنك إذا قلت: لا أدري؛ قالوا: ليس عندك علم، وتسقط من عيونهم، قال: على الله، عليك تثور وعليها تدور باسم الله، ثم يبدأ يتكلم. ألا تدري أن الفتيا منصب الرسالة، وأنك تُوقِّع عن رب العالمين، وأن المفتي يوقف نفسه على الصراط، إما أن يزلق إلى النار، وإما أن ينجو إلى الجنة.
يقول ابن عمر للناس: [[تجعلوننا سلماً إلى النار؟!]] إن المستفتي لا يهمه أن تدخل النار أنت وأهلك وجيرانك، فالمسألة عنده فقط أن ينقذه المفتي ولذلك تجده أحياناً يقول: يا شيخ! أنا كنت غضباناً وطلقت زوجتي، فتفتيه أنت بالرفض مثلاً، وتقول: قد وقعت عليك طلقة، فيقول: أرجوك، والله لو تعرف ظروفي يا شيخ! -أصبحت مساومة وكأن المسألة بيع وشراء- أنا يا شيخ! عندي ظروف، وأنا مسافر، وعندي والدة في البيت، وأنا أحب زوجتي، أرجوك رجاء خاصاً!
أتريد أن تدخلني النار وتدخل أنت الجنة؟! أأرد عليك زوجتك حتى أكون من حطب جهنم؟! أعوذ بالله!!
[[كان علي بن أبي طالب يُسأل فيقول: لا أدري -الأمر سهل- ويقول: ما أبردها على قلبي! ]].
أتى سائل من أهل العراق يسأل مالكاً إمام دار الهجرة، فسأله عن أربعين مسألة، فأفتاه في ثمان ورد اثنتين وثلاثين مسألة في بعض الروايات، قال السائل: ألا تعرف هذه المسائل؟! قال: عد إلى أهل العراق وقل: مالك لا يعرف شيئاً. وكيف يرضي أهل العراق على حساب أن يدخل هو النار؟! نعوذ بالله من النار.
والوسط هم الذين أفتوا بعلم وسكتوا عما لا يعرفون وأولئك عباد الله الصادقون.
إذاً فكلنا دعاة، والمفتون عندنا قليل، والدعوة أشرف، إذ هي منزلة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والرجل في الجندية وفي العسكرية، والتجارة، والفلاحة، والهندسة، والطب، وفي الخطوط يكون داعية، لكن لا يكون مفتياً، وعليه فلا بد أن توجه هذا الشاب إلى الدعوة وتبين له آدابها وتحثه على التزامها: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر