وإن الدعوة الإسلامية لم تأخذ حظها بعد من هذه الوسيلة الجماهيرية في هذا العصر مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وظفها في خدمة الدعوة.
والشيخ عائض لامتلاكه ناصية الشعر قولاً ونقلاً أراد أن يختط هذا الخط جنباً إلى جنب مع كثير من دعاة الإسلام الذي يمتلكون هذه الموهبة، ومن ضمن أمسياته الأدبية الممتعة هذه الأمسية الشعرية المتنوعة.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
شكراً لهذا الاستقبال وهذه الحفاوة.
أهلاً وسهلاً والسلام عليكمُ وتحيةً مِنَّا تُزَفُّ إليكمُ |
ولو علمتُ أنني أُسْتَقْبَل بهذه المقطوعة؛ لهيأت مقطوعة أخرى، لكنني أعدكم، وهو دين إن شاء الله وعارية مضمونة تصلكم إلى بيوتكم.
ضيوف الخير قد شرفتمونا بلقياكم ربوع الجو طابا |
فـ(أبها) من زيارتكم تباهت بثوب الخلد أطلقت الضبابا |
كأن اشبيليا نُقِلت بـأبها فأحيت في ضمائرنا الطلابا |
وسار شذا العبير بكل وادٍ فعانق في تسرعه الضبابا |
وتبدو الشمس من خدرٍ خجولاً وإن شاءت تكنفت السحابا |
فيا عصر الشبيبة دُمْت عصراً ويا عصر الصبا حي الشبابا |
فإني سوف أذكرك اعتباراً إذاضمر القنا والرأس شابا |
ومثلي ومثلكم هذه الليلة كمثل الشاعر الإيراني السُّنِّي/ الشيرازي سعد، وهو شاعر من شعراء العالم، يقول:
قال لي المحبوب لما زرته مَن ببابي قلت بالباب أنا |
قال لي أخطأت تعريف الهوى حينما فرقت فيه بيننا |
ومضى عام فلما جئته أطرق الباب عليه موهنا |
قال لي من أنتَ قلتُ انظر فما ثَمَّ إلا أنتَ بالباب هنا |
قال لي أحسنتَ تعريف الهوى وعرفتَ الحبَّ فادخل يا أنا |
فأقول لكم: أنا أنتم، وأنتم أنا، فمن أنا؟!
وهذه القصائد، أسأل الله -عز وجل- أن يجعلها في ميزان الحسنات، صحيحٌ أن الكلمة الطيبة لا يُقْتَضَى أن تكون نثراً فحسب، بل نرجو الله أن تكون كذلك شعراً، يوم يُحَاسَبُ المبطلون على كلماتهم، والناكثون على تصرفاتهم.
وسوف أختار لكم هذه الليلة بعض المقطوعات، ولا بأس أن أُوْقَفَ أثناء القصائد، فمن عنده طرفة، أو سؤال عن بيت، أو طلب لبعض القصائد العربية المشهورة، أو الإسلامية فلا بأس؛ لأننا نريد أن يكون هذا مجلساً مفتوحاً، لا يكون حكراً على أحد، أو حرماً لا يباح إلا لشخص، بل هو لنا جميعاً، فمن عنده شيء أو تذكر شيئاً أو مقطوعة أو بيتاً، فليرفع يده مشكوراً ويسأل.
يا طالع اليُمْن حيوا لي محياهُ نداء حق من الفصحى سمعناهُ |
قد أطرب الأذن فانصاعت لنغمته وأطرقت برهة تصغي لفحواهُ |
يقول للجيلِ والإيمانُ رافده عودوا إلى الله قد ناداكم اللهُ |
صحا فؤادي على صوت وموعظة ولام من كان قبل اليوم أغفاهُ |
وجاءكم في رحاب الهدي مبتهجاً لعله أن تنال الخير يُمناهُ |
نادٍ كريمٌ شباب الحق مهجته الدين نغمته والحق معناهُ |
إسلامُ! أبشر بجيلٍ أنتَ رائدهم قد فاز من منهج الإسلام ربَّاهُ |
يا رب! عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناهُ |
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناهُ |
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناهُ |
ونركب الجو في أمن وفي دعةٍ فما سقطنا؛ لأن الحافظ اللهُ |
كن كالصحابة في زهد وفي ورعٍ القوم هم، ما لهم في الناس أشباهُ |
عباد ليل إذا جنَّ الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه |
وأُسْدُ غابٍِ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياه |
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه |
وربما كانت هذا القصيدة (وهي طويلة) تربو على (80) بيتاً، معارضة لقصيدة محمود غنيم التي يقول فيها:
ما لي وللنجم يرعاني وأرعاهُ أمسى كلانا يعاف الغمضَ جفناهُ |
إلى أن يقول:
يا من يرى عمراً تكسوه بردتُه والزيتُ أدم له والكوخ مأواهُ |
يهتز كسرى على كرسيه فََرَقاً من خوفه وملوك الروم تخشاهُ |
وقل لـبلال العزم من قلبِ صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا |
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به تلق أبواب السماء الثمانيا |
قم أطرب الدنيا بلال بنغمة قدسية تحيي بها الأسحارا |
ليموت صوت البغي في ميلاده وأداً ويبقى صوتكم قهَّارا |
قم يا بلال أعد نشيدك في الورى للعالمين ورتل الإنذارا |
ودع التماثيل التي قد صورت جذذاً ومزق عبدها الخوارا |
هذا نموذج منها، وسوف ننتقل إلى بعض القصائد المطولة.
في الطبراني: عن الأسود بن سريع قال: (وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إني نَظَمْتُ قصيدة أمدح بها ربي سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إن ربك يحب المدح) وفي (الأدب المفرد) للبخاري قال الأسود بن سريع: (ركبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتحفظ شيئاً من شعر
الأماني على لسانك أحلى فأعد يا حبيب عصراً تولى |
لم أقضِّ لبانة العمرفيه ونهاني المشيب لما أطلا |
أعصر الليل في كئوس من الحزن وأدعو الصباح حتى أملا |
وأنادي الدجى بهمسة حب فارغ الصبر من لسان لعلا |
ذكريات مع الرسول وحب تستثير الشجون منه الأجلا |
كلما مر ذكره في فؤادي قال قلب المحب: أهلاً وسهلا |
كيف أحكمت يا عظيم بناءً هو من كل مشرق العمر أعلى |
وتفانيت في بناء كيان أنت أوليته عطاء وبذلا |
كلما صغت جملة من نضار أنبتت دوحة من المجد جلا |
وإذا ما ابتسمت أبدعتَ جيلاً مرهف الحس يمتطي كل مُثلى |
المعالي تصوغ منك وتبني فيك آمالها وترجوك خلا |
والليالي تنورت بشموس أنت أرسلتها عفافاً ونبلا |
والصحاري إذا مشيتَ رياضٌ ملئت بالجمال حسناً ودلا |
أمِن تَذُكُّر جيران بـذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدمِ |
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من إضم |
إلى أن يقول في مدحه صلى الله عليه وسلم:
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدمِ |
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأممِ |
ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحُرُمِ |
إلى أن يقول فيه صلى الله عليه وسلم:
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدمِ |
كنت الإمام لهم والجمع محتفل أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتممِ |
لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلمِ |
حتى بلغت مكاناً لا يطار له على جناح ولا يسعى على قدمِ |
وقيل كل نبي عند رتبته ويا محمد هذا العرش فاستلمِ |
ومن المقطوعات فيه صلى الله عليه وسلم:
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا |
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا |
ولم نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا |
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمرالله بعدك ما سلينا |
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها |
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها |
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها |
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها |
وعلى منوال هذه القصيدة قلت:
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها |
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموتُ أجيالاً فيفنيها |
يا رب نفسي كبت مما ألم بها فزكها يا كريم أنت هاديها |
هامت إليك فلما أجهدت تعباً رنت إليك فحنت قبل حاديها |
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق اللقاء فتعدو في تدانيها |
حتى إذا ما كبت خوفاً لخالقها ترقرق الدمع حزناً من مآقيها |
لا العذر يجدي ولا التأجيل ينفعها وكيف تبدي اعتذاراً عند واليها |
فإن عفوت فظني فيك يا أملي وإن سطوت فقد حلت بجانيها |
إن لم تجرني برشد منك في سفري فسوف أبقى ضليلاً في الفلاتيْها |
حيوا الكويت ففيها الملتقى الرحِب والرأي والعزم والأبطال والنجب |
وانثر ثناءك مسكاً زاكياً عبقاً كأنما هو صوت الخلد ينسكب |
اسق المعنى بنار الحب علله ماء الخليج فقلب الصب ملتهب |
كويت ما عرف الأحباب غربتنا وقد أساء بنا الواشون إذ كذبوا |
لا تحسن العذر منا ألف قافية لأن من يطلب الأعذار لا يهب |
هذي الجزيرة قد غادرتها وجلاً من الفراق وقد أضناني النصب |
أما تراني براني الهم في صغري لم يبق يا صاح إلا العظم والعصب |
تركت نجداً شذا الريحان يأسرها في أرضها يتغنى الشعر والخطب |
وللحجاز عتاب في أرومته يسبي القلوب فيا أهلاً به عتب |
سل الجمال بأرض الله أين غدا تجيب أبها ويروي السهل والحدب |
من فقد ذياك صار الهم يصحبني فالطرف منتبهٌ والنجم منتصب |
وخفف الوجد إخوانٌ لنا هتفت لهم شئون فؤادي والتقى النسب |
فجددت ذكريات الحب رؤيتهم فقد نسيت غداة الجمع من ذهبوا |
خذوا سلامي إلى أرض العراق ففي أحشائها الدهر والتاريخ والحقب |
وعرجوا بـدبي فانثروا قبلي على تراب الرُبى هذي هي القرب |
كم في المنامة من خل ومعرفة وكم على دوحة الأخيار من صحبوا |
فيحفظ الحب قلبي في عمان ولو قالوا: بعدت فإن الوصل مقترب |
أتيت أحمل أحزاني لأنثرها في محفل زانه الإفضال والأدب |
وأمتي في بحور الخوف غارقة لم تدرِ أين هو المسلوب والسلب |
أضحى يمزقها من ليس يرحمها وفي دماها هواة القتل قد خضبوا |
تحاول اللات والعزى خديعتها وتعتري أرضها الأصنام والنصب |
إلى آخر القصيدة.
مع الأشواق أحملها إليكم على كف النسيم المشرئب |
ترتلها دموع الحب لحناً ويرسلها الضمير إلى المحب |
غرست به أمانٍ رائعات فأطلعت الوداد بأرض قلبي |
لهيب الشوق تطفئه دموعي مع الإخوان قد خلفت صحبي |
هذا الأرجوزة قيلت بمناسبة أمسية شعرية كانت في الرياض. والأراجيز عند العرب هو: بحر الرجز، وهو حمار الشعراء، أي أن كل إنسان لا يستطيع أن يَنْظم، له أن يركب هذا الحمار، فيصبح ناظماً وشاعراً، ولذلك أكثر ما ينظم العلماء على بحر الرجز، مثل ابن مالك في منظومته الرائعه في النحو:
قال محمد هو ابن مالك أحمد ربي الله خير مالك |
وعارضه كثير من الناس على هذا المنوال.
ومن بين نَظَم ابن مالك يقول:
ولا يجوز الابتدا بالنكره ما لم تُفِدْ كـ(عندَ زيدٍ نَمِرَه) |
فقلتُ في منظومتي:
ولا يجوز الابتدا بالنكره ومن أجاز ذاك فهو بقره |
فقلت في القصيدة:
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي وليُّ |
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي |
قد جئت من أبها صباحاًباكرا مشاركاً لحفلكم وشاكرا |
وحَمَلَتْنَا في السما طياره تطفح تارة وتهوي تارة |
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديكِ |
قد حدث الحجة في طهران عن آية الله ورفسنجاني |
بأن من مات قريب كربلا فهو إلى الفردوس حقاً مقبلا |
وأن من فر من اليهود فمات خوفاً فهو كالشهيد |
وهذه القصيدة تحكي قصة سفري إلى المدينة المنورة، ومن المدينة إلى عنيزة إلى الشيخ/ ابن عثيمين، ثم إلى الرياض، إلى أن أقول:
وابن عثيمين وصلنا داره أمتعنا بمجلس أداره |
وقد وصلنا حلقة الجزائري فقال: أهلاً مرحباً بزائري |
ومن يزور لندناً في عمرة له ثواب حجة وعمرة |
وشيخهم (ريجان) في الفرائضِ وعلمه قد جاء بالنقائضِ |
وذلك على مذهبهم، فنسأل الله لنا ولهم الهداية.
يتهاوون كالفراش هياماً كلهم همه حصول المناصب |
علمتهم أفكارهم كيف يرقون وفي الجو منهم ألف غاصب |
لم تخولهم المواهب تقديراً فما القوم من رجال المواهب |
حينما شابهوا الزمان دعاهم والزمان التعيس يهوى الحبايب |
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله |
فقلت:
وجوههم من سواد الكبر كالحة كأنما أوردوا غضبى إلى النارِ |
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار |
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري |
أي: المتواضعين من طلبة العلم والدعاة من أمثالكم واشباهكم.
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري |
بدون أن تأكل أو تشرب إذا رأيتهم تروى وتشبع.
من تلقَ منهم تقل: لاقيتُ سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري |
وفي المتكبر يقول:
أنت من أنت يا شبيه الزرافه يا عظيماً في كِبْرِهِ والسخافة |
من هو هذا المتكبر؟ كيف أتى؟ وإلى أين يذهب؟
خفف الوطء ما رأيناك شيئاً كلما زدت كبرةً زدت آفه |
هل توهمت أن جدتك الكبرى تولت على الأنام الخلافه |
جدتك الكبرى: أي: الثالثة.
أم لأن العلوم صيغت جميعاً في دماغ ما فيه إلا الخرافه |
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيباً زارنا في كل عام |
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام |
فاغفر اللهم ربي ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسام |
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام |
على كتلة من رمال الهموم رقدت لأسمع صوت الرياح |
لأنسى بها كل ما زارني من الحزن حتى يزور الصباح |
ففاجأني الليل في غمضة ثقيل الخطى جاثماً في الوشاح |
فقلت: أما كان يكفي أسى مآسي حتى نكأت الجراح |
فقال يقولون إن اللبيب إذا سَلَّ همته ما استراح |
ماست على شفتيك نغمة بلبل فانساب ماء الحب في الخد الجلي |
وتطايرت ومضات عينك أنجماً تُهْدى لكل مكبر ومهلل |
تسقي حُمَيا الموتِ ألف أمية أحدٌ هتفت بها لكل معطل |
نازلتهم وقذائف التوحيد من كفيك تهوي للجبان الأنذل |
فسحقت طاغوت الضلالة معلناً نصراً على رغم المهين الأعزل |
أبلال فاسلم يا سواد محاجر أشبهت إنسان العيون الأجمل |
ومن الذي رفع السيوف ليرفع اسـ ـمك فوق هامات النجوم منارا |
كنا جبالا في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا |
بمعابد الأفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا |
لم تنسَ إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا |
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا |
لو كان غير المسلمين لحازها حلياً وصاغ الكنـز والدينارا |
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا |
ودخل سعد فلما رأى قصر كسرى، قصر العمالة، قصر الضلالة، قصر البغي والعدوان والجهالة، دمعت عينا سعد دموع الفرح المبتسم المبتهج بنصر الله وقال: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عليهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان:25-29] وهناك: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45].
إلى حيث ألقت رحلها أم قشعمِِ |
يا رياض الخير قد جئت وفي جعبتي أبها بلقياك تسامى |
حلفت لا تشرب الماء ولا تأكل الزاد ولا تلقى مناما |
أو ترى الأحباب في نجد فإن لم تجدهم صار ممساها حراما |
أنت يا جارتنا والجار لا يهجر الجار ولو باع الذماما |
ما ذكرت الرَّبع إلا زادني ذكره دمعاً على الخد وساما |
ومَن التي حلفت؟ هي: أبها، والضمير يعود إلى أقرب مذكور.
إلى أن قلت:
لا تحدثني عن العمران في أرضكم يا صاحِ والأهل يتامى |
بعض الناس يتصور أن العمران هو أن تبنى القصور الشاهقة، وناطحات السحاب، وأن تسفلت الطرق، وأن تكهرب، وأن تبنى الحدائق، وهذا كله عمران لكنه دنيوي، وأعظم العمران عمران القلوب والأرواح، وأن نسير إلى الله عز وجل، وأن نتحد في المسير إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
أنا لا أرغب سكنى القصر ما دام قلبي في جثى الذل مُساما |
صل ما شئت وصم فالدين لا يعرف العابد من صلى وصاما |
أي: صلى وصاما فحسب، وظن أن هذه كل العبادة.
واجعل السبحة مترين وخذ عُمَّة بيضاء واصبغها رخاما |
واترك العالم في غوغائه يتلظى في لياليه اضطراما |
أنت قسيس من الرهبان ما أنت من أحمد يكفيك الملاما |
تترك الساحة للأوغاد ما بين قزم مقرف يلوي الزماما |
للأوغاد: أي: لكل فاجر.
أو دَعِيٍّ فاجر أوقع في أمتي جرحاً أبى ذاك التئاما |
لا تخادعني بزي الشيخ ما دامت الدنيا بلاءً وظلاما |
أنت تأليفك للأموات ما أنت إلا مترف حب الكلاما |
لأن هناك تأليفاً للأحياء، وتأليفاً للأموات، فتأليف الأحياء: أن يخلص الإنسان اتجاهه ومنهجه إلى الله، منتهجاً كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بهذا الكلام فيصبه في قلب كل شاب، وفي قلب كل مؤمن، فهذا التأليف للأحياء، والتأليف للأموات: أن يغلق عليه بابه، ثم يأتي بكتب السلف، فيتلقف ما كتبوا فيها، ويعارضه، ويدلل على بطلان مسمياته، فيزيد على الحواشي حواشياً، وعلى المتن متناً، وعلى الغبار غباراً، وهذا ليس بتأليف.
كل يوم تشرح المتن على مذهب التقليد قد زدت قساما |
والحواشي السود أشغلت بها حينما خفت من الباغي حساما |
لا تقل شيخي كلاماً وانتظر عمر فتوى مثلكم خمسون عاما |
والسياسات حِمَىً محظورة لا تدانيها فتلقيك حطاما |
فخذ الأجيال في ساح الوغى واسق أعداء الهدى كأساً زؤاما |
رتل الحق بصوت الحق في لجة الأمواج لا تخش الزحاما |
صوتك المعروف فجر صادق فحنانيك تقدمنا إماما |
عد بذكراك على قلب كسير راعه الحزن وأضناه المسير |
حزناً من أمة غارقة في الأمالي وهي في نوم نكير |
سامها الأعداء خسفاً فجثت تتحامى سطوة الباغي الحقير |
خالفت نهج رسول الله بل نَسِيَت سيرته وهو البشير |
في ضمير الكون سجلت الهدى وسقيت القلب من وحي نمير |
كلما أبصرك القلب هفا حولك البِيْد رغاء وزئير |
قاطع الصحراء وثباً للعلا دونما أي جواد أو بعير |
والفيافي حالمات بالمنى عجباً من قلبك الفذ الكبير |
هل درت أم القرى ماذا جرى لبِِسَتْ بعدك ثوباً من سعير |
وبكى الغار على فرقاك لو أسْعَفَتْه الرجل أضحى في مسير |
والرمال العُفْر صارت حللا تتلقاك بتصفيق مثير |
والبشارات همت في يثرب كهنيء الغيث في اليوم المطير |
والمحبون قليل صبرهم قبل لقياك ألا أين البشير |
فدموع الحب تروي قصصاً إنما الحب دموع وزفير |
شخصت نحوك أبصار الورى طلع البدر فذا ليل منير |
ولكم أن تسألوا، ومن ليس عنده سؤال فليتهيأ بسؤال؛ لئلا تبقى الجلسة سرداً؛ لأننا نريد بعض المشاركة.
هذه القصائد فيها جديد وفيها قديم، وما أظنكم اطلعتم على: (مع بلال) أو (بلال ماسِت على شفتيك) ولا (متكبر) ولا (الهمة) ولا بعض المقطوعات، فأريد أن أعتذر؛ لأن الجديد يحتاج شيئاً من الوقت، وأنا وعدتكم بمقطوعة لكم خاصة هدية؛ لأنني فوجئت بتلك المقطوعة، فإن شاء الله تكون سَلَفَاً، وإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم.
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا |
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا |
ولما أصبح ابن المبارك في الجبهة أتته رسالة من الفضيل يلومه على الخروج، فكتب إليه تلك الأبيات الرقيقة التي جُلُّكم يحفظها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب |
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب |
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب |
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب |
فأنا أشكر للأخ/ زيدان هذه المشاركة، وإن دل على شيء فإنما يدل على أنه يريد أن يتحف دعوته ونثره بشيء من الشعر، ويدوِّن منه خُطَبَه؛ ليكون من دعاة الإسلام، هو وأمثاله من شباب هذا الدين.
وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا |
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا |
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا |
فهي قد استشهدت بأبيات لـمتمم بن نويرة في أخيه مالك.
وأعتذر لمقالة الشيخ أن هذا قديم، ويريد الجديد، وأعتذر بأني شغلت عن الشعر بما أسأل الله أن يكون خيراً منه، وهو الحديث النبوي. فقد يأخذ الشعر من وقت المسلم أكثر مما يراد، وإنما كل شيء بقدر: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3] فأنا أبحث في الحديث النبوي، وهذا شرف شرفني الله به، أسأل الله أن يعيذني وإياكم من تبعاته، وأن يجعلنا ممن إذا علم شيئاً عمل به.
الجواب: أولاً: الشعر في الجملة: يجوز في المسجد إذا خلا من أمور:
ففي صحيح البخاري: {أن
وكان صلى الله عليه وسلم يقرب منبره لـحسان، ويقول: {اهجهم وروح القدس يؤيدك}.
ومما يروى أن كعب بن زهير أنشد: (بانت سعاد) في المسجد.
ولكن أورد ابن حجر في الإصابة حديثاً، يقول صلى الله عليه وسلم: {من سمعتموه ينشد في المسجد فقولوا: فض الله فاك} فيُجمع بينهما: أن الشعر الإسلامي، والمطلوب، والذي يشيد بالدعوة وبالكتاب والسنة، هذا ينشد في المسجد.
أما إن كان شعراً فيه غزل أو مجون أو هجاء لأعراض الناس، فهذا لا ينشد في المسجد، ويُذَم. أما الغزل العفيف فلا أرى بأساً، أن يفتتح به في قصيدة في المسجد. مثل:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ متيم إثرها لم يفد مكبولُ |
ومثل شعر حسان:
طوبى لمعتَرَك من الآرام قبل الأصيل كعاكف أو رامي |
إلى آخر ما قال.
فمثل قصائده، تكون عفيفة، وبقدر الحاجة، وفي استهلال القصيدة، فلا بأس بذلك.
الجواب: لا. بل هو قائلها، وهو الذي اشتهرت عنه، وكتب السيرة تقول ذلك، وما قالها أحد غيره، وأما الغزل: فقد قلت لك: إنه قد قال الغزل من هو خير من كعب، كـحسان في شعره، ولا بأس به إذا كان عفيفاً، ولم تُشَبَّه فيه النساء.
صل على من شق له طلعة القمر شفيع الملا يوم نبعث من القبور |
وانت رفيقي لا تزود من الغرر وخذ لك متاعك واترك الفاني الغرور |
أي: خذ متاعك من الدنيا، وهو الزاد: العمل الصالح، واترك الفاني الغرور: الذي هو العمل الذي لا يرضي الله عز وجل إلى غير ذلك، لكن لا نشجع على النبطي؛ لأنه هدم للغة العربية، ومحاربة لها وللنحو وللغة الضاد، ولكتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل المرجو إلغاء هذا النبطي، ومحاربته، ومحاصرته، والتضييق عليه، وتشجيع الكلمة الفصيحة، والشعر الفصيح؛ لأن هذا هو المطلوب.
الجواب: الشعر الحر بارك الله فيك: {ما أسكر كثيره فقليله حرام} هذا الشعر الحر أصبح الناس على هذه الوتيرة كلهم شعراء، فيكفي أن الإنسان إذا أراد أن يقول كلاماً أن يأتي بكلام لا يفهمه الناس، فيقول: أنا شاعر، وأنا قد لا أقبل الحكم؛ لأن توجه بعض الناظمين والأدباء إلى الشعر العربي الفصيح المقفى الموزون. فهم ما يقبلون حكمنا في هذا، ونحن كذلك ما نقبل قولهم، لكن لم يعرف عند العرب هذا الشعر، وإنما هو حادث، والبحور عند العرب (16) بحراً، وجعله بعضهم إلى (17) بحراً، ولكن ما عندهم (18) بحراً، أن يأتي بقصائد منثورة ومقامات، وخطب ومواعظ ومحاضرات، ويقول: هذه قصائد. هذا شعر فرنسا، جاء من هناك.
الجواب: نحن خرجنا من الأدب إلى الفتاوى، نقول في العرضة: لا تجوز، وليس هذا مجال بحثنا، وليست جائزة للرجال إذا كان فيها طبل ومزمار، لأنها من آلات العزف التي أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمة سوف تستحلها.
الجواب: قد يكون فيها شيءٌ من فكرة وحدة الوجود، لكن أنا استدللت بها هذه الليلة في أمر، وهو أننا نحن وإياكم شيء واحد من الحب، أي: أننا متساوون في الحب ونتبادل الحب؛ لأننا أصبحنا هيكلاً واحداً كما يدعي أهل وحدة الوجود، {وإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم}.
الجواب: وهذا موجود، وهذه قصيدة (أبها في أمسية شعرية) سوف تسمعونها بإذن الله:
أيها العاذل لا تعتب علي قد كفاني عذل نفسي يا أُخَي |
أرعني سمعك فالقول الذي نمقوه الناس لم ينسب إلي |
هاك أشواقاً عِذاباً تُجْتَلى أهدها (أبها) وعانقها وحَي |
وامتدحني عندها فالمدح في لغة الأحباب محبوب لدي |
فدموع الوجد في وجنتها كالظبا بين كداء وكُدَي |
يابنة الأطياف أحسنت القِرى قد كفاني الزاد من شِبْع ورِي |
دع بلاد الهند واهجر ذكرها عند (أبها) وتغافلْ عن دبي |
واطَّرح روما ومن فضلها وكذا مدريد ما تِيْكُم بِشَيْ |
أهلها كل همامٍ ماجد جده سعد وعمرو وعلي |
وأنا مَلَّكْت قلبي حبَّه ويكَأن القلب بالتمليك وَيْ |
حب من يتقي الله وما كان حبي حبَ غيلان لِـمَيْ |
هذه من قصائدي في (أبها).
الجواب: القصيدة التي فيها مدح العلماء: مدحت الشيخ/ عبد العزيز بن باز، وسمعتم منها قبل أمس، ومنها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي |
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي |
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي |
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي |
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي |
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافِ |
وأنت جالست أهل العلم فانْتَظَمَتْ لك المعالي ولم تولع بإرجافِ |
بين (الصحيحين) تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي |
"الصحيحين ": صحيحا البخاري ومسلم، وأوصي كل شاب مسلم بعد كتاب الله بـ(الصحيحين) أن يتبحر فيهما، وأن يكرر قراءتهما، وأن يجيدهما أكثر من تكرار كثير من الكتب التي لا تنفع.
الجواب: يقصد من القصيدة التي مدحت بها الرسول صلى الله عليه وسلم:
الأماني على لسانك أحلى فأعد يا حبيب عصراً تولى |
لم أُقَضِّ لَبانَة العيش فيه ودعاني المشيب لما أطلا |
أعصر الليل في كئوس من الحز ن وأدعو الصباح حتى أملا |
الأماني على لسانك أحلى: معروف.
فأعد يا حبيب عصراً تولى: والإنسان يتعلق بحبيبه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
لم أُقََضِّ: في هذا العصر.
لَبانَة العيش: لبانة العمر: أي: أنني دنا مني المشيب قبل أن أنتهي من الشباب.
أعصر الليل: هذا من الوجوه البلاغية.
في كئوس من الحزن، وأدعو الصباح حتى أملا: ولا فرجة للإنسان من ليل همومه، ولا ليل شهواته، ولا ليل معاصيه إلا بمنهج محمد صلى الله عليه وسلم، كما سلف في مناسبة قول ابن تيمية: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، نعوذ بالله من ذلك، فلا بد للإنسان أن يخرج من ليله الذي يعيش فيه، وهو ليل المعصية وليل الغواية إلى صباح الهداية الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.
يا حبيب: لا يُقْصَد به الدعاء، وليس المقصود به هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما أي حبيب، وأنا جعلته كل أخ في الله عز وجل، وليس كل نداء مذموم، بل إن كان للاستغاثة أو لطلب العون، فهذا هو المذموم، وإلا فنحن نقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي والأحسن: ألا ينادى الرسول صلى الله عليه وسلم سواء لاستغاثة أو لغيرها، أي: ألا يقول الإنسان: يا رسول الله.
الجواب: النونية أحفظ منها أبياتاً، منها: في الغناء.
من نونية ابن القيم في الغناء:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان |
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان |
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان |
ويقول في وصف الصالحين في آخر الزمان، أن لهم أجر خمسين من الصحابة:
إسناده حسن ومصداق له في الترمذي فافهمه بالبرهان |
إلى أخر ما قال.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب |
من هو عابد الحرمين؟
الجواب: ابن المبارك يخاطب الفضيل بن عياض، سماه عابد الحرمين، أي: الحرم المكي، والحرم المدني.
يقول: يا عابد الحرمين! لو أبصرتنا ونحن في جبهات القتال؛ لأن ابن المبارك عالم زاهد معلم مرب، خرج يجاهد الكفار فيقول: يا عابد الحرمين!
كيف تلومنا، وتقول: أننا خرجنا في الجبهة، وتقول: لو أننا بقينا معك؟
فيقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب |
لو رأيت كيف تضرب رءوسنا في سبيل الله، ودماؤنا تسيل في سبيل الله، وأنت تظن أن العبادة فقط محصورة في هذه الركعات أو التسبيحات! فكأنك تلعب بالعبادة؛ لأن الدين الإسلامي دين حياة، ودين جهاد، ودين كلمة، ودين دعوة، في المسجد، وفي المحراب، وعلى المنبر، وفي الساحة، ومقابلة العدو في كل مكان.
فـابن المبارك يريد أن يعمم الفهم لدى الفضيل بن عياض، فيقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب |
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب |
يقول: إذا كنت تبكي في الليل، فنحن دماؤنا تسيل علينا من نحورنا من الضرب في سبيل الله، والدم أغلى من الدمع.
ولا يخطر في الذهن أن قصد ابن المبارك بعابد الحرمين أنه يعبد الحرمين: مكة والمدينة؛ إنما يقول: يا عابد الحرمين، بمعنى: أنها صفة إضافية، مثل أن تقول: إمام الحرمين، أو كذا، لا أنه يعبدهما.
يا أرض أبها في الدنا فلتفخري لما حوت قرعاء كل غضنفر |
أحلامهم تزن الجبال رزانةً ولهم من الأعمال فوق المشتري |
الجواب: ميزة مخيمكم: كثرة الشعراء فيه، وكثرة النبوغ، والنابهين.
أجاد، ولكنه سرق نصف بيت. يقول:
يا أرض أبها في الدنا فلتفخري لما حوت قرعاء كل غضنفر |
هذا يدل على أنه شاعر، وسوف يكون شاعراً.
,الغضنفر: الأسد
أحلامهم تزن الجبال رزانة: هذا للفرزدق يقول:
أحلامنا تزن الجبال رزانة وتخالنا جناً إذا ما نجهلُ |
فهو سرقها جزاه الله خيراً، وهذا تضمين، وليس سرقة؛ وليس اقتباساً؛ لأن الاقتباس: يكون من الآيات والأحاديث، والتضمين: أن يأخذ نصف بيت من شاعر قديم، فيجعله في قصيدته، أو يأخذ بيتاً ويشير إليه.
وبمناسبة القرعاء؛ هنا مقطوعة في القرعاء، لكن صاحب السؤال لا ينساه، حتى نأتيه في القرعاء:
في ربى القرعاء:
لك يا حديث العارفين منازل في كل قلب طيب الأردانِ |
كم طهرتك دموع صبٍّ مغرمٍ نزحت به الفرقى عن الإخوانِ |
رتلت آيات الحنين بنغمة تبكي القلوب بلوعة الهجرانِ |
أحببتكم في الله حتى لم يعد لسواكم في القلب شخص ثانِ |
من حبكم أوطانكم أحببتها ونسيت في أوطانكم أوطاني |
لَمُخَيَّمٌ أنتم به يا إخوتي فيه القداسة مشرق العرفانِ |
غرس البراعة في قلوبكم غداً متأرجاً بالرَّوح والريحانِ |
انظر إلى القرعا تجدها مسجداً متجاوب الأرجاء بالقرآنِ |
هل تذكرونا مثل ذكرانا لكم هذا الوفاء المحض يا إخواني |
وبالمناسبة! أخبرني أحد الإخوة من الذين أتوا هذه المخيمات فقال: تهت في هذا المكان، فسمعت قبل ليلة من المايكرفون وهم يشرحون أبواب الطهارة، فوجدت من الأنس، وأنا في الليل، ومن الراحة والفرحة، واستحيت أن أدخل عليهم وهو يقصد مكانكم هذا.
وهل أعظم من أن تأتوا في هذا المكان فترتلون آيات الله البينات وتتدارسون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتشرحون أبواب العلم، هذا هو الشرف في الدنيا والآخرة.
فيارب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارفِ |
ولكنَّ قبري بطن نسر مقيله بجو السماء في نسور عواكف |
وأمسي شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف |
فوارس من شيبان ألَّف بينهم تقى الله نزالون عند التزاحفِ |
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف |
تعليق الشيخ على القصيدة:
الأمر الأول: الأخ/ محمد جزاه الله خيراً ذكرنا بالجهاد في سبيل الله والاستشهاد بهذه المقطوعة، وهذا من خير ما نحفظ، والخوارج يحفظ شعرهم، ولا بأس من الاستشهاد به؛ لأنهم من أجود الناس شعراً؛ ولكن مع ملاحظة ضلالتهم وانحرافهم عن منهج أهل السنة والجماعة.
والذي أريده من الأخ أن يواصل حفظ مثل هذه المقطوعات، التي تنفعه في الدعوة في سبيل الله إن شاء الله.
والأمر الثاني: أن يعتني أكثر؛ لأن بعض الأبيات فيها كسر؛ لأنه أقحم بعض الكلمات، ويعود إلى عيون الأخبار لـابن قتيبة؛ لأن المقطوعة موجودة فيها، و(العقد الفريد) لـابن عبد ربه.
السؤال: ما رأيكم في هذا البيت:
أحببتكم واللهُ يعلم أنني في القول لم أكذب ولم أتكلفِ |
الجواب: هذا بيت مستقيم، وهو على نسق بيت لـابن الفارض، ونفس القافية، ونفس البحر، يقول ابن الفارض:
قلبي يحدثني بأنك مُثْلِجِي روحي فداك، عرفتَ أم لم تعرفِ |
فيقول:
أحببتكم والله يعلم أنني في القول لم أكذب ولم أتكلفِ |
فصدق جزاه الله خيراً، ما تكلف في البيت، ولا تكلف في الحب، ونحن نحبه كذلك، أحبنا الله وإياكم، وجعلنا من المتحابين فيه.
ويقول: فادع لي بالثبات والهداية.
نسأل الله أن يثبتنا وإياك وكل مسلم.
رأيتُ الناسَ قد ذهبوا إلى مَن عنده ذهبُ |
ومَن لا عنده ذهبُ فعَنْه الناسُ قد ذهبوا |
رأيت الناسَ مُنْفَضَّةْ إلى مَن عنده فِضَّةْ |
ومَن لا عنده فِضَّةْ فعَنْه الناسُ مُنْفَضَّةْ |
رأيتُ الناسَ قد مالوا إلى مَن عنده مالُ |
ومَن لا عنده مالُ فعَنْه الناسُ قد مالوا |
الجواب: لا أعرف من قالها، وَلَيْتَه سكتَ! وما عليكم إلا أن تسمعوها، وهي مثل أبيات أحد الشعراء حيث يقول:
الليل ليلٌ والنهار نهارُ والأرض فيها الماء والأشجارا |
أي: أنه لم يأت بشيء جديد.
ما أحسن الكلمات! ولكن المعنى ليس فيه شيء.
وبعض الشعراء اجتمعوا في مكان، ومعهم رجل لا يحسن الشعر، فقالوا: والله لا تقوم حتى تقول بيتاً، وهم بجانب نهر. ففكر طويلاً، ثم نكس رأسه، ثم رفع رأسه فقال:
كأننا والماءُ مِن حولِنا قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ |
هذا تكلف في الأبيات.
مثل مَن يقول:
كأننا والسقف من فوقنا قوم جلوس فوقهم سقفُ |
الجواب: الله أعلم، إنما نسب إليه أنه كان يعتدي في الطرقات وهو شاب، فأنصت لشيخ وهو يقرأ في الليل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عليهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16] فبكى، وتاب، وأناب، وأصبح من العباد الكبار الذين نتولاهم ونشهد الله على محبتهم، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم.
خاتمة:
في ختام هذه الجلسة: أتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم سيئها في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وشكراً لكم على حسن إصغائكم. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر