هناك من يبحث عن السعادة في المال؛ وهناك من يبحث عنها في الجاه والقوة والسلطان، وهناك من يبحث عنها في الشهرة، وهناك من يبحث عنها في الملذات والشهوات، وفي هذا الدرس بيان لأسباب السعادة، وأنها في طاعة الله وعبادته والعمل الصالح مع شواهد من أخبار الصحابة والتابعين.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.. بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْـد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
هذه المحاضرة بعنوان (أسباب السعادة وكيف نحصل عليها).
ولأنه موضوع طارئ وجد لبعض الأمور، ولكثرة الأسئلة في هذا الباب، وهو موضوعٌ تجدر العناية به؛ فقد كتب عنه المسلمون والكفار، وتكلم به الخطباء، واعتنى به العلماء والأدباء والشعراء؛ وكانت السعادة هدفاً لكل الأممم.. مسلمو الأمم وكافروها.
وهذه السعادة هدفٌ يطلبها كل الناس.. فمنهم من ظن أن السعادة في الملك؛ فسعى في طلبه، وسفك الدماء للحصول عليه، وحاول كلَّ جهده أن يجعل حياته تحقيقاً لهذا المطلب؛ وكان منهم فرعون الطاغية، الذي لما وصل إلى الملك قال: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي.
وظن آخرون أنها في المال فسعوا في طلبه، وبذلوا الأرواح والمهج رخيصةً حتى حصلوا عليه، ولكن ما وجدوا فيه السعادة.. وكان منهم قارون قال تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79].
وظن آخرون أنه في كثرة الأولاد، ومنهم الوليد بن المغيرة قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً [المدثر:11-13] إلى غير تلك المسالك.
ومن المحدثين الأستاذ/ محمد الغزالي في كتاب "جدد حياتك " وقد جمع هذا الكتاب وأخذه من كتاب دع القلق وابدأ الحياة " لـدايل كارنيجي.
ومن آخر ما علمت أنه كتب في هذا الباب الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله رحمةً واسعة وأسكنه فسيح جناته.
وألخص ما كتبوا إن شاء الله في بنود وعناصر.
وقال له: الأمير يدعوك.
قال: ما لي وللأمير.. أنا ما دخلت في حياتي على أمير من الأمراء، ولا أريد شيئاً من الدنيا، أي: ليس عندي من المشاكل، ولا من الطلبات، ولا من الأمور التي أعلمها شيء، وما تكلمت في أمير، وما أظن أنني أعرف أحداً منهم.
قال: إنه يريدك لأمر.
قال:آتيه غداً.
قال: إنه يريدك اليوم.. فأتى بهيئته، وأسماله البالية، وبثيابه.
وهذه القصة في التاريخ، ومن ضمن من ذكرها صاحب" رجال من التاريخ "، وصاحب" قصص من التاريخ " الشيخ علي الطنطاوي، وهي موجودة؛ لكنه بسطها بأسلوب أدبي، فهو إذا كتب في هذا المجال أجاد وأفاد، فهو صاحب قلمٍ سيال، وقلمه أحسن من لسانه. فالمقصود أنهم دخلوا بهذا الفقير المسكين على الأمير؛ فأجلسه عنده، فلما رآه قال له الأمير: أأنت سعيد؟ قال: الحمد لله أنا في سعادة ما بعدها سعادة. قال: أتريد شيئاً من الدنيا؟ قال: لا والله ما أريد شيئاً. قال: فإني أعرض عليك شيئاً من هذا المال. قال: أسألك بالله عز وجل إلا تركتني وحالي. قال: فكن عندنا في قصرنا، قال: لا.. لا أريد الشقاء، أريد السعادة فيما أنا فيه. قال: ما هو عملك؟ وما هو دخلك، وأهلك؟ قال: أنا لي زوجةٌ وأخت؛ زوجة مقعدة وأخت عمياء، وليس لي من الدخل إلا ما أقوته في اليوم.. أذهب في الصباح، فأعمل إلى الظهر، ثم أتغدى بهذه الكسرة التي أجدها من العمل، بعد أن أتوضأ وأصلي الضحى، ثم أنام، ثم أصلي الظهر، وبعدها أصلي إلى العصر، ثم أعمل قليلاً لآخذ إفطاراً لزوجتي ولأختي؛ لأنهما تصومان الدهر. قال: وهل تخافُ شيئاً؟ قال: لا والله. قال: هل عليك دينٌ؟ قال: ما عرفت الدَّين. قال: أعندك مشكلةٌ ترفعها إليَّ؟ قال: ما شاكلت أحداً في حياتي. قال: ما تريد؟ قال: أن تتركني. قال: فتركه فنزل.
فلما نزل أخذ الأمير ينظر إليه متعجباً من هذا الصنيع، وفي آخر المطاف أتى هذا الأمير وكان عاقلاً حازماً، فاستدعى بعض المقربين من إخوانه وعشيرته، وقال: إنني سوف أذهب إلى مكان الله أعلم به، فإن تخلفت فأخبروا أبي أنني ذهبت إلى أرض، وأنني بخيرٍ إن شاء الله، فخلع ثيابه في غداةٍ من الأيام، وأخذ خاتماً بيده، وترك أمواله، وأوصى بكل شيءٍ من ذويه، ثم ركب. قالوا: فنزل واسط وهي بلدٌ في الشمال، فأخذ يعمل، وغير مهنته حمالاً وهذه في ترجمة علي بن المأمون الخليفة العباسي.
وكان يصلي الليل، ويصوم النهار ويقرأ القرآن، وأخذ المأمون يقلب الدنيا ظهراً لبطن عنه، فما وجده، وما ظن أنه سوف يكون حمالاً، يُمر به ولا يعرفه أبداً. فلما حضرته الوفاة ذهب إلى الذي يعمل عنده، فقال:أنا ابن المأمون الخليفة، فإذا أنا مت فخذ هذا الخاتم، وهذه الدراهم فاشترِ لي بها كفناً، فإنني قد وجدت السعادة في الحياة، وأوصل هذا الخاتم لأهلي.
فلما توفي غسل وكفن من دراهمه.. وما ترك تركةً، ولا دنياً فقد كان عابداً زاهداً مستقيماً فأتي المأمون بخاتمه بعد أن توفي؛ فبكى وذهب إلى قبره ليزوره، وقال: وجدت السعادة.
وهذه قصةٌ من قصصٍ سوف تمر معنا إن شاء الله، نقلت في التاريخ والسير، ونستعرض الآن أسباب السعادة، وما هي الأمور التي تقرب السعادة للمؤمن؟
فالحياة الطيبة في الإيمان والعمل الصالح؛ والناس يتفاوتون بحسب إيمانهم وعملهم الصالح درجات، وبحسبها تكون السعادة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ الأنعام:125].
ويتكلم ابن تيمية عن بعض المناطقة الفلاسفة أهل الشك والريبة، الذين شكوا في قدرة الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فأصابهم الله بغمٍ، وهمٍ، وظلامٍ، وقلق، واضطراب، حتى كادوا أن يموتوا.
قيل لأحدهم: بماذا تشعر؟ قال: أشعر أن قلبي ظلمات بعضها فوق بعض. قالوا:يقول العلماء:ليس لك علاج إلا العبادة. قال: لا أستطيع العبادة.وهذا هو الخذلان، والعجيب أن بعض الناس يؤلف في السعادة؛ ولا يدرك السعادة، فإن دايل كارنيجي الأمريكي الذي ألف" دع القلق وابدأ الحياة " الكتاب الذي ترجم إلى تسعٍ وخمسين لغة في العالم، وهو من أكثر كتب الكفار انتشاراً، هذا في آخر عمره أخذ سكيناً ونحر نفسه؛ لأنه ما عرف الطريق إلى السعادة، وما عرف الإيمان، فهؤلاء دلُّوا على طريق العبادة فقالوا: لا نستطيع العبادة، فأعظم الناس سعادةً المؤمن الذي يعمل الصالحات.
وفي صحيح مسلم عن صهيب أنه صلى الله عليه وسلم قال: {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن}.
قال عمر رضي الله عنه: [[والله ما أبالي أيهما ركبت: مطية الفقر أو مطية الغنى، إن كان فقراً فصبرٌ وأجر، وإن كان غنى فشكرٌ وأجر]].
وقال ابن مسعود: [[والله ما أصبح لي من سعادة، إلا أن أتلمح القضاء والقدر، ففي أي موقع يقع القضاء والقدر فهي السعادة]].
وقال عمر بن عبد العزيز وهو ينظر إلى أبنائه كأنهم الدنانير أمامه: [[والله الذي لا إله إلا هو ما أصبح لي من سعادة إلا في القضاء والقدر، ولو استلب هؤلاء من بين يدي؛ ما شعرت بقلق في أمر الله عز وجل]] ولهذا بلغوا منزلةً عظيمة في الإسلام، ولذلك حاول الناس في الحصول على السعادة، ونجح منهم من حصل على الإيمان.
وبلال رضي الله عنه وأرضاه يوم ذاق حلاوة الإيمان، كان يسحب على الصخور وهو يقول: [[أحدٌ أحد.. أحدٌ أحد]].
أحدٌ هتفت بها بصوتٍ صارخٍ تثني بقولتها لكل معطل |
وهو يوم يسحب على الرمال، ويجر على وجهه، يقول:أحدٌ أحد؛ لأنه ذاق حلاوة الإيمان، وارتفع الإيمان في قلبه إلى درجة أنه لا يشعر بالعذاب.
و خبيب بن عدي أخذوه على مشنقة فرفعوه ثم أخذوا يضربونه بالسيوف، فقالوا له: أتحب أنَّ محمداً مكانك في مكة، وأنك في أهلك ومالك؟ قال: [[والله ما أحب أني في أهلي ومالي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصيبه شوكة]] ثم لما رفعوه قال:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شلو ممزع |
أتي بـعبد الله بن حذافة الصحابة الشباب -فأخذ أسيراً إلى بلاد الروم فقال ملك الروم:أخرجوا إلي أسرى المسلمين. فأخرجوه. قال: هاتوا زيتاً وأغلوه في قدور، فغلوا الزيت حتى أصبح له أزيز في القدور؛ فأمر بالأسرى، وأخذ يوقعهم مكتفين في القدور، فينفصل اللحم عن العظم، فقال الملك لـعبد الله بن حذافة أتريد أن تعود عن دينك، وأعطيك نصف ملكي؟! قال: والله الذي لا إله إلا هو لو أعطيتني ملكك وملك آبائك وأجدادك على أن أترك دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما تركته قال: خذوه إلى القدور، وألقوه في القدر، فذهبوا به وهو مكتوف الأيدي، فلما رأى الأسارى تغلي بهم القدور وقد انفصل العظم عن اللحم، بكى! فأعادوه وظنوا أنه سوف يذعن لأمر الملك؛ فقال: مالك تبكي؟ قال: والله ما بكيت جزعاً من الموت، وما أتيت أقاتلكم إلا لطلب الشهادة، لكن أبكي لأنه ليس عندي إلا نفس واحدة، وأحب أن لي بعدد شعر رأسي نفوساً تعذب في سبيل الله.. فعجب منه! قال: لا أُطْلِقُكَ حتى تقبل رأسي، وأطلق معك الأسارى جميعاً -الذي بقي منهم- فاقترب منه، وأوهمه أنه قبل رأسه، وقد تفل على رأسه؛ فأطلق معه الأسارى، فلما وصل إلى المدينة؛ لقيه عمر، فعانقه وعمر يبكي، وقال:حقٌ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، فقال عبد الله، وكان مزاحاً: أتريد أن يكون رأسي من كثرة التقبيل أصلع كرأسك؟ فقام الناس يقبلونه، وكان أولهم عمر رضي الله عنه وأرضاه (حقٌ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة.
ودخل ابن تيمية على أحد السلاطين السلاجقة في دمشق، وكان هذا السلطان إما ابن قطلوبك أو سلطان آخر، فقال له ابن قطلوبك يا ابن تيمية: الناس يقولون: إنك تريد ملكنا، وملك آبائنا وأجدادنا، فضحك ابن تيمية -ضحك المستعلي الشجاع المتحدي- وقال: والله الذي لا إله إلا هو ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي فلساً، إني منذ عقلت رشدي أريد جنةً عرضها السماوات والأرض.. فلما سجنوه؛ أخذه السجان فأغلق عليه باب السجن، فتبسم ابن تيمية، وهو يقول: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ثم يقول: " ماذا يفعل أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري -القرآن والذكر والتسبيح والتهليل والمناجاة- أنا جنتي وبستاني في صدري، أنّى سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة، ثم قال: المأسور من أسره هواه والمحجوب من حجب عن ربه ".
يقول القاضي الزبيري:
خذوا كل دنياكم واتركوا لي فؤادي حراً طليقاً غريبا |
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا |
وسعيد بن المسيب سيد التابعين، والإمام الكبير للسُنة في عهد التابعين، الذي كان من أعظم عباد الله عبادة، بقي يبكي في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام من كثرة التلاوة والعبادة حتى ذهبت عينه اليمنى، فقالوا: نخرج بك إلى العقيق -و العقيق وادٍ وارف الظلال، وبستان أخضر حول المدينة - علَّ بصرك أن يعود إليك، ثم قال: أتخرجون بي لتفوتني صلاة بألف صلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا والله، ما بقي لي من لذة إلا البكاء من خشية الله، وإلا المشي في الظلمات!!
وقال: [[الحمد لله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام، وما نظرت إلى قفا إنسان غير الإمام أربعين سنة]].
كان رضي الله تعالى عنه وأرضاه سعادته في سماع الأذان! أتته سكرات الموت، فتلي عليه حديث من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: أجلسوني. قالوا: أنت في سكرات الموت. قال:سبحان الله! يذكر الحبيب ولا أجلس، وأنا مضطجع.. والله لأجلسن.. فأجلسوه، ثم أضجعوه، فمات رضي الله عنه وأرضاه.
ولذلك قال إبراهيم بن أدهم وكان زاهداً عابداً، وما كان يجد إلا كسرة الخبز قال: نحن في عيش لو علم به السلاطين لجالدونا عليه بالسيوف، يعني عيش السعادة، والاطمئنان، والإيمان والرضا بما عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فمن لا إيمان له، ولا عمل صالح فهو في عيشةٍ ضنك، ولو ملك من القصور ما ملك، من الدور ومن العمارات والفلل والمناصب ومن الأموال فوالله إنه في ضنك، وفي عنت، وفي مشقة! لأنه ما اهتدى إلى طريق الإيمان.
فعمل الصالحات هو من أكبر الأمور التي تحصل لك السعادة، وهي قرة العين، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر قال: {أرحنا بالصلاة يا
وفي ترجمة الحافظ ابن حجر أنه خرج للنزهة، فطوقه لصوص يريدون سلبه وقتله، فتوضأ وقام يصلي، فتبدد اللصوص وخافوا وهربوا، فلما سلم قال له تلاميذه: مالك هربت إلى الصلاة. فقال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
ولذلك كان عباد الله يفزعون إلى الصلاة، ويفرون إلى طاعة الله إذا حزبهم أمر.
ومن أعظم ما يسهل الخاطر، ويزيل الهموم والغموم عمل الصالحات -كما قلت- ومن أجلِّها: الصدقة، وجرب ذلك.
مَرضَ كثير من الصالحين فتصدقوا، فكشف الله مرضهم؛ وأصابتهم كرب فتصدقوا، فأزاح الله كربهم؛ ولذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل البخيل والمتصدق مثل رجلين عليهما جبتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما، فكلما هم المتصدق بصدقته اتسعت عليه حتى تعفي أثره، وكلما هم البخيل بالصدقة انقبضت كل حلقة إلى صاحبتها، وتقلصت عليه وانضمت يداه إلى تراقيه، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فيجتهد أن يوسعها فلا تتسع}.
والبخيل بالمال، والبخيل بالجاه، والبخيل بالبسمة وبالكلمة الطيبة من أضيق الناس نفساً، ومن أسوئهم خلقاً، ومن أقلقهم حياةً؛ لأنه ما عرف سبيل السعة.
ولذلك كان الكرماء أوسع الناس صدوراً، وجرب ذلك!.. فإنك لا تفعل خيراً للمسلمين إلا ويرزقك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سعةً في الصدر، فإنه غفور شكور -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- غفور يغفر الذنب، وشكور يشكر على الحسنات في الدنيا والآخرة.
ذكر عن ابن قتيبة أنه قال: ما كان يتسلى الجاهليون في جاهليتهم وأهل الشرك في شركهم إلا بالقضاء والقدر، تموت ناقة المشرك فيقول: قضاء وقدر، يموت ابنه فيقول:قضاء وقدر.
قال بعض العلماء: من يؤمن بالقضاء والقدر يتسلى بأجر! وقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الحديد:22-23].
وهذا عروة بن الزبير وكان عابداً زاهداً من العلماء والفقهاء السبعة، فقرروا قطع رجله من الفخذ، فقالوا: نسقيك كأساً من الخمر علَّ عقلك أن يذهب، فقال: والله لا أذهب عقلاً منحنيه الله، ولكن إذا توضأت ودخلت في صلاتي وناجيت ربي؛ فاقطعوا رجلي.. فلما دخل في الصلاة، أخذوا المناشير فبتروا رجله، فإذا هو مغمىً عليه! وبقي يوماً كاملاً، فلما استفاق، قالوا له: أحسن الله عزاءك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك؛ فقد رفسته دابة من دواب الخليفة فمات.. فرفع طرفه وقال: اللهم لك الحمد! إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت.. أعطيتني أربعة أبناء وأخذت ابناً واحداً، وأعطيتني أربعة أطراف، وأخذت طرفاً واحداً، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
يقول وهو يتمثل:
لعمرك ما مديت كفى لريبةٍ وما حملتني نحو فاحشةٍ رجلي |
ولا دلني فكري ولا نظري لها ولا قادني سمعي إليها ولا عقلي |
وأعلم أني لم تصبني مصيبةٌ من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي |
ومرض عمران بن حصين أحد الصحابة الأخيار ثلاثين سنة، فما شكى ولا بكى ولا تذمر، حتى كانت الملائكة تصافحه عند السحر بأيمانها.. وهذا في الإصابة لـابن حجر.
ومرض أبو قلابة حتى قطعوا أطرافه الأربعة، أصابه مرض الآكلة في أطرافه -في رجليه ويديه- حتى قطعوها، وكان يتبسم حمداً لله وشكراً!
قال ابن الجوزي في" صفة الصفوة " مروا بمولى أسود وهو مريض، وهو في زقاق من زقاق المدينة المنورة، وهو يتبسم، فقال له الناس: نمر عليك وأنت تذكر الله وتتبسم وأنت في مرض وفي حالة لا يعلمها إلا الله، فقال: أنا في سعادة، وكلما أصابني قليل بجانب الإيمان الذي أعطانيه الله عز وجل والعمل الصالح.
وذكروا عن أيوب عليه السلام أنه لما ابتلي بالمرض في جسمه قال:اللهم أبق علي قلبي ولساني، قلبي أشكرك به، ولساني أذكرك به.. فكل شيءٍ دخل فيه المرض إلا لسانه وقلبه، فما كان لسانه يفتر من ذكر الله، وما كان قلبه يفتر من شكر الله.
الرضا بالقضاء والقدر، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ التغابن:11]. قال ابن عباس رضي الله عنه: [[هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم؛ فيهدي الله قلبه]].
قالوا: " الحياة قصيرة، فلا تقصرها بالهموم والغموم ".
قال: هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي، لأحد أصحابه:ما رأيك نعد الأيام التي سعدنا فيها، ولم يأتنا أمر مكدر.. فعد الأيام -وكان عمره ما يقارب ستين سنة- فما وجد فيها إلا ثلاثة عشر يوماً ذكر ذلك الذهبي، قالوا: عدوا أيامه في حياته التي سلم فيها من الهم والغم والكدر؛ فما وجدوها إلا ثلاثة عشر يوماً، وأما البقية فكانت هماً وغماً وكدراً.. فالحياة قصيرة، فلا تقصرها بالهم والغم والكدر.
فمن أسباب السعادة النظر إلى من هو دونك في الحظوظ الدنيوية فلا في الحظوظ الدينية، لا تنظر إلى من هو دونك في الدين والاستقامة، وقيام الليل، وتلاوة القرآن، والعلم، والتحصيل، والذكر، والصيام، بل ينبغي أن تنظر إلى من هو فوقك؛ لكن انظر إلى من هو دونك في الرزق والمال والصحة والسكن والمعيشة، لترى نعمة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليك ولا تزدريها.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:20-21].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
فكان يجمع عوام الناس وأعيان الناس وأعيانهم وعلمائهم وكبراءهم، ويجمع الأمراء، فلما سأل عن سعيد قال: ماذا تنقمون عليه، وماذا ينقم عليكم؟! فقالوا:يا أمير المؤمنين والله ما أخذنا عليه شيئاً، فقد كان من أحسن الناس سيرة وجهداً وعبادة، إلا أربعة أمور، قال: ما هي؟ وقال عمر في نفسه: اللهم لا تخيب ظني فيه، فإني ما علمته إلا من خيرة أصحاب رسولك صلى الله عليه وسلم، قالوا: أما الأمر الأول فما يخرج إلينا حتى يتعالى النهار فيجلس إلينا أي ما يخرج إلينا إلا ضحى.
وأما الأمر الثاني: فإن له يوماً في الأسبوع لا نراه ولا يرانا.
وأما الأمر الثالث: فإنه يغمى عليه أحياناً فيصرع في مجالسنا.
وأما الأمر الرابع: فلا يخرج إلينا في الليل مهما طرقنا.
فقال عمر: أجب عن نفسك يا سعيد! قال: اعفني يا أمير المؤمنين! -لا يريد أن عمله وأوراقه تعلن أمام الناس- قال: والله لتجيبن قال: اللهم إنك تعلم أني ما قمت رياءً.. أما قولهم: إني لا أخرج حتى يتعالى النهار، فأنا رجلٌ امرأتي مريضة منذ سنوات، فأنا أصلح طعامي، وأجهزه وأهيئه، ثم أفطر، ثم أكنس البيت، ثم أخرج إليهم. قال: هذه واحدة -ودموع عمر تسيل على لحيته- قال: والثانية؟ قال: أما قولهم: لا أخرج بليل.. فقد جعلت النهار لهم، والليل لربي، فما أصلي العشاء، إلا وأقوم وأتنفل حتى صلاة الفجر، قال: واليوم الذي لا تخرج فيه؟ قال: وأما اليوم الذي لا أخرج فيه؛ فليس لي خادم وامرأتي مريضة، فأنا أغسل ثيابي وثياب أهلي يوماً في الأسبوع. قال:وما لك تصرع ويغمى عليك في المجلس؟ قال:يا أمير المؤمنين! إني حضرت قتل خبيب بن عدي في مكة، وأنا مشرك يوم قتل خبيب بن عدي فحضرت قتله، فلما رفع التفت إلينا جميعاً، وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحدا، فما ذكرت ذاك الموقف لأني ما نصرته إلا أغمي عليَّ، فبكى عمر حتى كاد يغمى عليه، وقال: الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك
]].ذاك الطراز الرفيع الذي أخرجه عليه الصلاة والسلام، من مثل هذا الرجل فرضي الله عنهم، وأرضاهم، وألحقنا بهم في دار كرامته.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر:15] ومعنى الآية أن بعض الناس إذا أراد الله أن يبتليهم ويمتحنهم أغدق عليهم المال.. فقال هذا الإنسان -من جهله بالله- أكرمني بكرامتي عنده، وهذا ليس بصحيح! فقد يكون من أفجر الناس، ومن أخبث الناس؛ ولكن يعطيه الله المال فتنة.
وبعض الناس يبتليه الله بالفقر، فيقول من قلة قيمتي واعتباري عند الله؛ ابتلاني بالفقر، وهذا ليس بصحيح! فقد قد يكون المرء من أتقى الناس، وأعظمهم وأرفعهم، ولكن ابتلاه الله بالفقر ليرى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى صبره.
يقول المتنبي:
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده |
ولكن قلباً بين جنبي ما له سوى المجد مجد الأكرمين يحده |
يحاول أن يكسى ثياباً ترفه فيختار أن يكسى دروعاً تهده |
وتعالوا إلى المتنبي هذا الذي طنطن ودندن وأشغل الناس بهذه الهمة العالية.
يقول ابن الجوزي: عجبت للمتنبي هذا الذي يقول: أنا مطامحي عظيمة وأنا أريد شيئاً... وحتى يقول:
وكل ما خلق الله وما لم يخلق مستصغرٌ في همتي كشعر في مفرق |
أو كما قال!
أي أن البشرية كلها شعرة في مفرقة، وكان يقول:
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود |
فما هو مطلبه؟ المطلوب هو الإمارة، حتى يقول لـكافور:
ليعلم قوم خالفوني وشرقوا وغربت أني قد ظفرت وخابوا |
قال ابن الجوزي: خاب وخسر! والله إنها من أخس المطالب في الحياة، وإن الذي لا يطلب رضا الله فليس له من همةٍ في الحياة أبداً، وعجيب أن يطلب هذا الهمة ثم يقع فيما وقع عليه.
وذهب الحجاج بن يوسف فقتل مائة ألف، وقتل العلماء، وأهان الصحابة، ثم ابتلاه الله بمرض، فكان يخور كما يخور الثور.
وأتى الوليد بن يزيد الفاسق فأخذ المصحف -وهو خليفة أموي كما يقول ابن كثير - فأخذ يضرب المصحف ويهجوه، ويتكلم فيه، فطورد حتى أُدرك، فأخذوا جلد حمار فأحرقوه في جلد الحمار: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ إبراهيم:45-46] وحضرت الوفاة الخليفة المعتصم وهو العسكري الكبير وهو من أشجع الخلفاء فاتح عمورية الذي يقول فيه عمر أبي ريشة:
رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم |
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم |
أدركته الوفاة وهو فوق الأربعين، وظن أنه سوف يبقى إلى الثمانين؛ فلما حضرته الوفاة وكان العلماء بجانبه قال: أموت اليوم؟ قالوا: نعم تموت فقال للطبيب: انظر إليَّ -ذكر ذلك عبد الحق الأشبيلي في تذكرته.
كأنه يقول: غير معقول هذا! أنا شاب، فقالوا: ولو كنت شاباً.. فأخذ يبكي، ويتخبط بالأرض، ويقول: والله لو كنت أعلم أني أموت في شبابي؛ ما فعلت الفعل الذي كنت أفعله.. سبحان الله! يكون الناس في غفلة، فإذا ماتوا انتبهوا.
يبقى الإنسان في سكار وفي غفلة، وفي إعراض؛ فإذا نزل به الموت؛ انتبه كأنه قام من النوم.. ولذلك كثير من الشباب -إلا من رحم الله- يرى أنه لا يموت، لماذا؟ لأنه شاب، فكيف يموت وهو شاب؟!
وكثير من الأغنياء من السلاطين لا يرى أنه سيموت - نسأل الله العافية والسلامة- وهذا هو الغرور.
تنبهوا يا رقود إلى متى ذا الجمود |
فهذه الدار تبلى وما عليها يبيد |
الخير فيها قليل والشر فيها عتيد |
والبر ينقص فيها والسيئات تزيد |
فاستكثر الزاد فيها إن الطريق بعيد |
وهذا هارون الرشيد أدركته الوفاة وهو في طوس وقيل طرطوس، فلما أدركته الوفاة؛ نزل في غدير، فرأى سمكةً كأنها خنجر فمد يده؛ فتسمم جسمه، فقال: أخرجوني للجيش، فأخرجوا الجيش له، وهو في سكرات الموت، فبكى.. حتى بكى الناس، وقال: يا من! لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه.
وهارون هذا هو ابن المهدي بن أبي جعفر المنصور، وكان يخرج في الشرفات، فإذا رأى السحاب تحداها وقال: أمطري حيث شئتِ فإن خراجك سوف يأتيني.
يقول: سيري حيث أردتِ في أي أرض هطلتِ، فإن تلك الأرض أنا أحكمها، لأنه يحكم إلى مشارف أسبانيا، وإلى السند وإلى طاجكستان.
فبنى هارون الرشيد قصراً فأدخل عليه الناس يهنئونه.. العلماء، والوزراء، والأمراء، والشعراء، فدخلوا جميعاً، يهنئونه ويمدحونه.. فهو الخليفة، ودخل في آخرهم أبو العتاهية، -وهو شاعر الزهد والحكمة- فوقف أمامه، فقال هارون الرشيد: ماذا تقول فيَّ وفي القصر يا أبا العتاهية؟ قال:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور |
قال: ثم ماذا؟
قال:
يجري عليك بما أردت مع الرواح أو البكور |
يعني تأتي عليك الأمنيات والمسرات، مع الرواح مع البكور، قال ثم ماذا؟ فرفع أبو العتاهية صوته يبكي وقال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور |
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور |
فبكى حتى نزل من على سريره.
نور الدين محمود زنكي من أعدل الحكام في الإسلام.
يقول ابن كثير عنه في البداية والنهاية: " رحم الله تلك العظام! أمر جنوده إذا انتصف الليل أن يضربوا له بالصولجان، فيقوم هو وذريته وأزواجه وبناته، فيصلون حتى الفجر، وكان كثير الصيام وكان.. متجهاً إلى الله.. من أعدل العدول في الأرض، وقد ذكروا في ترجمته أنه رأى في المنام أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: أنقذني يا محمود! فقام فزعاً من الليل، فتوضأ وصلى ركعتين، ثم عاد فنام، قال:فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام في صورته يقول: أنقذني يا محمود! فتوضأ وصلى، ثم عاد فنام، فرآه عليه الصلاة والسلام يقول: أنقذني يا محمود! وإذا برجلين عليهما من الشعرة والهيئة كلبس المغاربة.
فقام في الصباح، فجمع العلماء وسألهم، فقالوا:كأن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذى، أو كأنه يحفر حوله، وكأنه يؤذى في روضته عليه الصلاة والسلام، فأدرك الروضة.
فاستنفر الجيش من دمشق، جيشاً عرمرماً وكان هو قائد الجيش، وجعل القواد على الميامن والمياسر في الكتائب، ودلف حتى وصل إلى المدينة، وطوق المدينة، ثم عمل مأدبةً عظيمةً لأهل المدينة، وقال لا يتخلف عنها أحد، ومن تخلف عنها ضربت رأسه.
فذهب الجنود يحضرون الناس من بيوتهم للمأدبة خارج المدينة، وبسطت السفر، ومدت بالأطعمة؛ فلما أصبح الغداء، سأل جنوده: هل تخلف أحد؟ قالوا: ولا أحد، قال: ولا أحد! قالوا: ما تخلف إلا رجلان في المسجد النبوي، يذكران الله يقولان: لا يريدان الحضور، ولا يريدان الطعام فقد سئماه.. فخشينا من إحضارهما وإحراجهما، فتركناهما.. قال: عليَّ بهما.
فأُتي بهما، وإذا هما اللذان رأى في المنام، فجلدهما على رءوسهما وقال: ماذا فعلتما بقبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فاعترفا، فقالا: نحن نصارى أتينا من عكا، وركبنا القوارب إلى جدة.. وقد أعطانا ملك عكا -وكان نصرانياً تابعاً لملك فرنسا الذي زحف بالزحوف الهائلة- وأعطانا مالاً هائلاً لحمل الجثمان إلى القارب في جدة، ثم أخذه إلى عكا.
قال: وهل حفرتم؟ قالوا: نعم نمد البساط في النهار ونجلس عليه ونحفر في الليل، وقد قاربنا القبر.. فأمر بهما فضربت رءوسهما على مداخل ثنية الوداع في الميمنة والميسرة، وعلقا بأرجلهما.. وتقدم ورأى القبر قد قارب؛ فصبه قيل برصاص وقيل بفضةٍ رضي الله عنه ورحم الله تلك العظام.
نور الدين هذا كان في حفل عسكري يتهيأ لفتح بعض البلاد، فأعجبته نفسه، كانت الخيول تمر آلافاً مؤلفة وكانت القادات والأعلام أمامها، فأتى أحد العلماء فلبس لباساً، من لباس الزهد، ودخل بيته وتوضأ وصلى ركعتين وقال: اللهم افتح لي قلب هذا الملك، ثم أتى ووقف أمامه بالعصا، وقال: عندي كلمات يا نور الدين محمود! قال: تكلم، قال:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور |
إن قيل نور الدين جاء مسلِّماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور |
حرمت كاسات المدام تأففاً وعليك كاسات الحرام تدور |
إلى أن يقول:
يوماً يشيب لهوله الولدان من خوفٍ ويأكل عظمه المجبور |
هذا بلا ذنبٍ يخاف لهولـه كيف المصر على الذنوب دهور |
فسقط مغشياً عليه على الأرض من البكاء، ثم أمر بقطع هذا المهرجان، وكان هذا هو الدخول إلى القلوب التي ما وعت إلا بهذه الحكم، وهذه الاستطرادات من الوعظ من نثر وشعر.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116] وقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ}.
هو يقول: يومك يومك، عش في حدود يومك، قال محمد الغزالي في كتاب جدد حياتك: يغني عن هذا قوله عليه الصلاة والسلام -رفع هذا الحديث مرة ووقف عن ابن عمر -{إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح}.
وفي بعض الآثار: {صلوا صلاة مودع} ونحن لو عشنا في حدود اليوم، لكثرت أعمالنا، ولعظمت موازيننا عند الله عز وجل ولجدينا واجتهدنا في أعمالنا إذا عرفنا أننا سوف نموت.
قال السعدي في الوسائل المفيدة للحياة السعيدة:
الاشتغال بالماضي حمق وجنون، والاشتغال بالمستقبل من السخف، نحن نجني للمستقبل، لكن نشتغل بالماضي فتجد بعض الناس حزيناً، دائماً حزين، تقول له: مالك؟ قال: أخطأت قبل شهر، تكلمت مع فلان في كلمة فأخطأنا فيها؛ قضى الله واستغفر! وتجد الآخر ذاته حزيناً، مالك؟ قال: ماتت ناقتي قبل ثلاث سنوات.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها |
قال أهل التربية: " الاشتغال بالماضي تفويت للحاضر الحاضر " وأكثر ما هد الشباب هذه الهواجس والخواطر، حتى تبلغ إلى درجة الجنون.
ولذلك يقول كارنيجي: المستشفيات في أمريكا وجد أن أكثر من نسبة (80%) من الهواجس لا حقيقة لها وأنها أوهام.
ولذلك لما قل الإيمان، وقلت تلاوة القرآن عند كثير من الشباب، وقلَّ الاستغفار، والذكر، وقيام الليل؛ أتت هذه الهواجس والخطرات حتى وصلت إلى درجة الجنون، ولا يمكن التخلص منها إلا بأن نعود إلى الكتاب والسنة، ثم نأتي إلى قصر الأمل فنعيش في حدود اليوم.
{إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح}.
وقد ذكر الذهبي أن ثلاثة من السلف كانوا يوصفون بقصر الأمل، قيل لأحدهم: ما بلغ من قصر أملك؟ قال: والله ما دخلت في صلاة إلا ظننت أني لا أصلي الصلاة الأخرى، قال له صاحباه وهما يحاورانه: أنت طويل الأمل، قالوا للثاني: وأنت، قال: والله ما رفعت لقمةً إلا ظننت أنها لا تبلغ فمي حتى أموت، قال: طويل الأمل.
وأنت أيها الثالث قال:ما خرج نفس من أنفاسي إلا ظننت أنه لا يعود إلا وقد توفيت.
وهؤلاء بلغوا في قصر الأمل مبلغاً عظيماً، وهو الذي مدحه عليه الصلاة والسلام.
قيل للإمام أحمد: كيف يُحصل على قصر الأمل؟ قال: " هو توفيق من الله " أي ما يوفِّق إليه إلا الله؛ ولذلك تجد بعض الناس طموحاته أكثر من عمره بكثير، ولو تيقن أحدنا أنه لا يعيش إلا سنتين وسوف يموت بعدها قطعاً لرأيت من اجتهاده وعباداته وأذكاره وسموه وأخلاقه ما الله به عليم.
فاستحضر أنك سوف تموت لا محالة.
وإذا رأيته دائماً في التسبيح، والاستغفار، والمناجاة، والابتهالات، وإذا رأيت لمحاته ترتفع دائماً إلى الحي القيوم؛ فاعرف أنه مؤمن.
أما إذا رأيت الإنسان مغفلاً، مصمتاً، مغلقاً عليه يذهب سبهللاً، ويأتي سبهللاً، فاعرف أن قلبه مات!.. صحيح أن قلبه موجود، لكنه كتلة لحم، ميت ليس فيه حراك.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلام |
إن ميزان العبادة الذكر، وإن ميزان قوة الإيمان الذكر، فأنا أوصي نفسي وإياكم بكثرة الذكر والابتهال والمناجاة وكثرة الاستغفار، وقد قالوا عنه: يكون كلفة، ثم يكون ألفة أي: يكون كلفة في أول الطريق هي أشهر سوف تتكلف فيها وتحاول أن تجهد نفسك؛ لكنه سوف يكون ألفةً لك؛ لأن من كلف نفسه التسبيح دائماً، سوف تمر عليه أشهر وهو يسبح ولا يشعر بكلفة.
كان أحد العلماء ذكره صاحب روضة الناظرين في ترجمة علماء نجد وعبرها ومن بعدها من السنين يقولون: كان له الذكر كلفة، ثم أصبح ألفة فكان يذكر الله على مر الأنفاس، وكان يقول في المحبة لله عز وجل:
إذا كان حُبَّ الهائمين من الورى بـليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا |
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى |
قال ابن كثير: سئل أحد العلماء لماذا رفع الله إدريس مكاناً عليا؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً [مريم:57].
فنقل عن بعض الصحابة كـابن عباس وغيره، قالوا: كان إدريس! عليه السلام خياطاً، يخيط الأقمشة، قالوا: ما غرس الإبرة في مكان -يعني ما بين الثقبين- إلا قال: سبحان الله، فقال له الله في ليلة من الليالي عند المساء: يا إدريس، لأرفعنك مكاناً علياً، فبكى وسجد، قال: ولم يا رب! وقد رفعتني في الدنيا رفعةً ما بعدها رفعة- نبي من الأنبياء، ورسول من الرسل- قال: لقد نظرت إلى صحائف الناس كل ليلة فوجدتك دائماً أكثر الناس تسبيحاً واستغفاراً.
كان لا يغرس الإبرة إلا ويقول: سبحان الله، ونحن نتكلم كلاماً من السفه، والسخط، ومن الهذر الذي لا يزن جناح بعوضة في ميزان الحق؛ فلماذا لا نجعل ذلك الكلام في ميزان الحسنات؟!
وفي سنن الترمذي بسندٍ صحيح: {من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلةٌ في الجنة} قال ابن الجوزي: لا إله إلا الله كم يفوتنا من النخلات! إن قلت سبحان الله غرست نخلة.
يقول صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس}.
وكان موسى عليه السلام إذا مشى ليكلم الله في طور سيناء؛ يمشي قليلاً ويسجد على الأرض، ويبكي ويقول: [[اللهم إليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك]].
فكان يرفعه الله درجة حتى كلمه.
ويقول ابن كثير في تفسيره وأهل الأثر: كان الله إذا كلم موسى وجد النور على وجهه أربعين يوماً من آثار ذاك الكلام وذكر ابن كثير في سورة طه: أن الله قال لموسى: أتدري لماذا اخترتك من بين الناس رسولاً ونبياً؟! قال: لا، قال:نظرت إلى قلوب الناس فوجدت قلبك يحبني أكثر الناس، ووجدت قلبك أكثر الناس تواضعاً لي.
ولذلك ضرب السلف الصالح في هذه المبادئ السمة العليا؛ ومنهم أبو مسلم الخولاني فقد ترجم له الذهبي في المجلد الرابع من سير أعلام النبلاء، فقال: كان لسانه لا يفتر من ذكر الله أبداً، دخل على معاوية، وهو خليفة، فكان يتمتم، فقال له معاوية: أجنون هذا يا أبا مسلم! قال: جنون يا معاوية!
وقال آخر قيل له وهو يسبح: أجنون هذا؟ قال:هذا طب الجنون.
وفي بعض الآثار وفيها ضعف ذكرها الشوكاني في تحفة الذاكرين في شرح الحصن الحصين لـابن الجزري: [[اذكر الله حتى يقول الناس: مجنون]] وهذا لا يتأتى إلا بألا تجعل للناس قيمة؛ لأنك إذا نظرت إليهم فسوف يأخذون عليك وقتك، لأن بعض الناس لا يريد أن يسبح في المجلس؛ لئلا يقولوا: راءى، أو لأنهم ينظرون إليه، أو موسوس، دعهم يقولون ذاك.
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ |
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ |
إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب ترابُ |
أبيات لـأبي فراس، ونسبت إلى رابعة العدوية، والصحيح أنها لـأبي فراس قالها في البشر، قال أحد العلماء: أحسن كل الإحسان في نظم الأبيات، وأساء كل الإساءة يوم جعلها للبشر.
أتى ابن هانئ الأندلسي الشاعر أتى إلى ملك من الملوك فقال:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار |
نعوذ بالله من الخذلان! فأخذه الواحد القهار أخذ عزيزٍ مقتدر، الذي لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد، عطله بعد القصيدة مباشرة بمرض، فكان ينبح كما ينبح الكلب، ويخور كما يخور الثور، ويتقلب على فراشه، ولما علم أن المرض بسبب هذه الأبيات، قال:
أبعين محتقرٍ إليك نظرتني فأهنتني ورميتني من حالق |
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق |
فمن علق أمله بغير الله؛ خذله الله في أحرج الأوقات، وجعل كيده في نحره، وسلبه من قدراته، وعطله من معطياته، وجعله طريداً بعيداً، ومن توكل على الله؛ كفاه وسدده.
الجواب: الأمر فيه سعة والحمد لله؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام مر بنساء فقال: {اذكرن الله -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- وسبحن، واعقدن بالأنامل، ولا تغفلن فتنسين؛ فإنهن مستنطقات}.
ولكن ورد عند أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
: {أنه صلى الله عليه وسلم كان يعقد التسبيح بيمينه} فلك أن تأخذ باليمين، وهذا يفعله كثير من العلماء والسلف وإن فعلت باليسار فالأمر فيه سعة- والحمد لله- لكن هذه الرواية عند أبي داود.الجواب: هذا والحمد لله من المسائل السهلة، والذي يلبسها في اليد اليسرى فلا يخرج من أهل السنة والجماعة، وكذلك من لبسها في اليد اليمنى، فيجوز لك أن تلبسها في اليد اليمنى، أو في اليد اليسرى، أو في الجيب، أو في الرجل، حتى الرجل من لبسها في رجله فإن شاء الله أنه ما زال على خير، فالمسألة فيها سعة.
أما من يلبس في اليد اليمنى سمعت من بعضهم وجهة نظر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كان يحب التيمن في طهوره وتنعله وترجله وفي شأنه كله} لكن ما ورد في الحديث: (وفي لبس ساعته)؛ لأن الساعة محدثة فالمسألة فيها سعة، فلا ينكر على من لبسها في اليد اليمنى، أو في اليد اليسرى أو جعلها في جيبه، أو جعلها في رجله، إنما المقصود أن تعلم بالوقت؛ لأن بعض الناس يقول: إنها من علامة الاستقامة أن تلبس في اليد اليمنى؛ لأن في السنة التيامن، ونحن رأينا بعض المنحرفين يلبسونها في اليمنى، وبعضهم يلبس في اليسرى قال: لأن اليسرى كذلك ليست مشغولة، واليمنى للعبادة وللأخذ والعطاء، فالأمر فيه سعة والحمد والشكر لله.
الجواب: يأتي منك ومن مجاهدتك كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] فإذا علم الله أنك تريد ذلك وأنك صدقت، أعطاك الله فوق ما تتمنى، عطاءً لا يدور في الخيال ولا يحظر في البال، فابذل جهدك وسوف ترى الفتح من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
الجواب: لا أعرف نصاً، لكن ورد في التفسير أن من صفات قوم لوط - أعوذ بالله من تلك الصفات - أنهم كانوا يناقرون بين الديكة، يجمعون الذكران من الديكة ويحارشون بينها تتلاطم قبلهم، ويراهصون بين الكلاب، ويناطحون بين الخراف، وكانوا يصفرون، والصفير من قلة المروءة يفعله خفاف العقول، ولا يفعله أهل الرزانة والحكمة وأهل الهدوء.
فأنا أنصحك بتركه؛ لأنه من خوارم المروءة، ولأن فيه رجة، وقد ذكر المفسرون أنه من صفات قوم لوط، ولكني إلى الآن لا أعرف فيه نصاً.
الجواب: تعلمها من حيث هو جائز مباح؛ لكن إذا بلغت درجة الضرورة، أي إن احتاج المسلمون إلى هذه اللغة، واحتاجوا إلى ترجمة دعوتهم، أو أخذ علوم من العلوم الضرورية في حياتهم؛ أصبحت فرض كفاية، لابد من قيام بعض الناس بتعلمها؛ ليأخذوا هذه العلوم، وينقلوا هذه التكنولوجيا إلى بلاد المسلمين ويستفيدوا من هذه الخبرات والطاقات؛ لأنهم غلبونا وبرعوا في هذا المستوى وفي هذه المادة.
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة |
أما العود واللهو والموسيقى وهذه الأمور فأجدنا وقلدناهم فيها؛ لكن ما صنعنا شيئاً حتى الطباشير فكلها مستوردة؛ فإذا أتى بعض طلبة العلم أو بعض الأخيار وعنده طاقة فليتعلم، والرسول صلى الله عليه وسلم كلف زيد بن ثابت بتعلم اللغة العبرية، فتعلمها في خمس عشرة ليلة، أما أن يسرف في تعلم الإنجليزية، فليس بصحيح.
ومن استخدمها كما يقول ابن تيمية: من يتعلم اللغات غير اللغة العربية لا لفائدة وإنما للإعجاب والاضرار بالعربية؛ فهي من علامة النفاق، وتجني علامة قصور الإيمان؛ وقلة الاعتزاز بالإيمان، وتجد بعضهم يدخل على المجلس ويقول: (هلو.. جودمورنينج) ليظهر للناس أنه مثقف، وتجد كثيراً من الناس من هذه الطبقة يجدون في المجتمع فمن فعل ذلك فهي شعبة من النفاق، وإن أردتم البحث فاقرءوا اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلامابن تيمية.
الجواب:
أولاً: الحناء فيما أعلم أنه أحمر، إلا إذا كان اكتشف في هذا العصر مع القنبلة الذرية أن هناك حناء أسود، فقد يكون.. وأما الصبغ بالسواد من حيث هو؛ فهو منهيٌ عنه، وبعض الناس يقولون: زيادة مدرجة لا تصح؛ فيصبغون بالسواد، يريدون أن يدرجوا الزيادة، إذا أراد الإنسان أن يفعل شيئاً قال: زيادة مدرجة، والحديث فيه نظر، وفيه ضعف، والمسألة فيها سعة، ويجوز للضرورة... هذه فتاوى جاهزة أصبحت ترفرف في كل مكان، أما الصبغ بالسواد فنهى صلى الله عليه وسلم في حديث ابن أبي قحافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: {غيروا شيب هذا وجنبوه السواد}.
وفي سنن أبي داود بسند فيه كلام: {يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة}.
وهذا فيه تدليس وتغيير لعباد الله، رجل عمره تسعون سنة يريد أن يخطب امرأة، فيصبغ رأسه ولحيته فيصبح كأنه شاب، فيغرر بها، وبعد أن يتزوجها يموت بعد شهر ونصف.
هذا من التغيير ومن خديعة عباد الله، والصحيح في حكم السواد أنه لا يجوز، لكن يصبغ بالأحمر، وبالأصفر، وإن تركها بيضاء فلا بأس لكن الأحسن أن يغير الشيب؛ أما بالسواد فلا يصبغ.
وهناك رسالة للشيخ: مقبل الوادعي جيدة في هذا الباب، ورسالة لـابن الجوزي ورسائل في هذا الباب وبحوث طيبة، ورسالة اسمها الاقتضاب في حكم الخضاب نسأل الله أن يسهل طبعها ونشرها.
وفي الختام نسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والرشد، والسداد، وأعتذر عما بقي من الأسئلة لضيق الوقت.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر