أيها المصلون: أيها الساجدون! أيها المؤمنون! عنوان هذه الخطبة (شهيد القسطنطينية) من هو هذا الشهيد؟ إنه رجل مؤمن ولد في الجزيرة، قتل في الثمانين وقد اشتعل رأسه شيباً، قتل في سبيل الله تحت أسوار القسطنطينية والمسلم ليس له أرض واحدة، البلاد كلها بلاده لأنها بلاد الله، كما يقول الأول:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أن الجنوب بها دمعي وأشجاني |
بـالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني |
وفي ثرى مكة تاريخ ملحمة على ثراها بنينا العالم الفاني |
في طيبة المصطفى روحي وا ولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني |
النيل مائي ومن عمَّان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان |
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني |
فمن هو هذا الرجل الشهيد؟ إنه الذي استقبل الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة من الإرهاب فر من السيوف التي تقطر حقداً ودماً، باع أهل مكة أملاكه وحاصروه وآذوه وشتموه ووضعوا الشوك في طريقه وسلى الجزور على ظهره، وضاقت به الدنيا بما رحبت، فخرج يحمل مبادئه معه أبو بكر الصديق.
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع |
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع |
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع |
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع |
وفي ظهيرة من الأيام الخالدة التي لا تنسى أبداً وإذا بالصائح على أسطحة المدينة قدم الرسول عليه الصلاة والسلام، فخر الأنصار بسيوفهم كأنهم خرجوا من المقابر، بعثوا من جديد وسال الحب في دمائهم من جديد، وعادت لهم الحياة من جديد، يقول أحد الناس في الرسول عليه الصلاة والسلام:
سافرت نفسه الكريمة فيضاً فالليالي محسودة بالليالي |
وعلى يثرب أهازيج نصر طلع البدر نظمة الأطفال |
واستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلال |
وصل عليه الصلاة والسلام على ناقته يقول أنس: [[والله الذي لا إله إلا هو ما كنت أظن أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت الأنصار يبكون من الفرح لما قدم الرسول عليه الصلاة والسلام]].
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني |
أو كما قالوا في نشيدهم، فيتبسم صلى الله عليه وسلم، ويُرفع له الأطفال على ناقته فيقبلهم ويتركهم صلى الله عليه وسلم -لكنه أسر قلوبهم فلا تعود لهم أبداً- ثم أناخت الناقة في مكان مسجده الآن، ولما أناخت انتظر قليلاً ولم ينـزل من على ظهرها، فقامت ثم مضت قليلاً ثم رجعت إلى مكانها فناخت وبركت ونزل عليه الصلاة والسلام
}.وفي ليلة من الليالي يقوم أبو أيوب ليصلي فيقع في جرة الماء فتنكسر فينصب الماء في الأرض وينسكب في الأرض، فيأخذ شملته وينشف بها الأرض لئلا يتصبب الماء على المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم يقول: يا رسول الله! أسألك بالله أن تصعد في العلو وأنا في السفلى فصعد عليه الصلاة والسلام، قدم له من الإكرام ما لم يقدمه عربي لعربي، ولا مسلم لإمام عظيم ولا مضيف لضيف، إذا أراد صلى الله عليه وسلم أن يخرج قدم أبو أيوب حذاءه وألبسه في رجليه، يقف ليستقبله ويقف ليودعه، حول نفسه إلى طباخ في البيت يقدم جهده وعرقه وكل ما يملك ليفي بالضيافة، وحفظها له عليه الصلاة والسلام ولم يضيعها أبداً فكان يدعو له، ويتفقده، وكان يرى أنه الشيخ المبارك الذي أصبح فيه كل شيء أبيض، دينه ولحيته ورأسه ومبادؤه.
هل هناك ضيوف في الدنيا أعظم من الثلاثة؟ هل سمعتم أن ثلاثة اجتمعوا منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أشرف من الثلاثة؟ لا. ماذا فعل أبو أيوب؟ ألقى الماء والقربة وأخذ يبكي من الفرح وقال: مرحباً والله ما أحد أسعد مني ضيوفاً هذا اليوم، ثم ذهب يأخذ عذقاً من النخل ويذبح شاة ويشوي ويطبخ ويقدم فهو مضياف الإسلام، حظه في الضيافة أن يشبع خير بطن خلقها الله، وأن يروي خير كبد خلقها الله؛ كبد وبطن محمد عليه الصلاة والسلام.
حملت الثمانين الطوال مجاهداً كأنك في العشرين تقرا وتكتب |
قال: لا. قالوا: عذرك الله أنت شيخ كبير، ومريض، ولا تستطيع القتال قال: لا والله. إن الله يقول: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41] وأنا ثقيل والله لأنفرن، وذهب إلى الجهاد وانظر إلى هذا العمر المبارك، أين كثير من أهل الثمانين الآن الذين حولوا آخر المطاف إلى شهادة الزور أو الاستيلاء على أراضي الفقراء؟
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى |
إذا مالم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا |
هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ما بال أشيب يستهويه شيطان |
شيوخ كبار وما تابوا، والله عز وجل يوم القيامة لا ينظر إلى ثلاثة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم منهم {أشيمط زان} شيخ كبير ويزني، وتفاجأ بشيخ كبير ويسرق، وشيخ كبير ويحلف أيمان الغموس، وشيخ كبير يقطع الأرحام، وشيخ كبير يؤذي الجيران، وشيخ كبير يمشي بالنميمة بين الناس.
وبدأت المعركة فقاتل قتالاً مستميتاً وهو في الثمانين حتى قطع رأسه.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب |
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب |
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب |
قتل ودفن هناك، ومن وصل منكم هناك فليسلم عليه، وليبلغه سلام الأمة الإسلامية، وليقف على قبره طويلاً وليشكره على حسن الضيافة والاستقبال، وعلى حسن الحياة، وعلى حسن العطاء والفداء والتضحية، سلام عليك يا أبا أيوب الأنصاري من جزيرة العرب وجزاك الله خير ما جزى ولياً عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأحسن الله إليك أحسن ما أحسن مضيف إلى ضيفه، وجمعنا الله بك في دار الكرامة.
ذلكم هو شهيد القسطنطينية وهو من أجدادنا ومن أراد أن يمشي على منواله فما ذاك بعزيز، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
أيها الناس! إنما وضع المنبر في كل جمعة لنتدارس أخطاءنا، ولنعود إلى حساباتنا، ولنرى مشاكلنا أمام العين، نحلها بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد أخطأنا جميعاً خطأً اجتماعياً مرت عليه سنوات، وقليل من ينبه عليه، وقليل من يستنكره، وقليل من يلاحظه، حتى كان سائداً بين الناس، وكأنه من الكتاب والسنة، وقد أضر هذا الخطأ الجم بكثير من الناس ألا وهو الإسراف في الزواج، ومن صور هذا الإسراف الذي لا يرضاه الإسلام الإسراف في صالات الأفراح، وفي الولائم التي يقوم بها الناس في وقت الزواج، وقد علمت من شباب كثير كيف أثقلهم هذا الفعل وكيف جعلهم يستدينون أموال الناس، عندهم قلة ذات يد وحاجة ملحة ولكن يرفض العرف الجاهلي إلا البَطَر والرياء والسمعة والإسراف.
تصوروا إلى شاب مقدم على حياة جديدة وبيت جديد، راتبه زهيد ودخله حقير، يريد زوجة يسكن إليها ويربي بيتاً إسلامياً، فأول ما يواجهه من العقبات صالة الأفراح، عشرون ذبيحة إلى ثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسين من أين يدفعها؟ يذهب إلى الناس يستجدي من أجل العرف الجاهلي الذي ما أنزل الله به من سلطان، فأين العقلاء وأهل الرأي، وأهل العلم، وأين القضاة والدعاة، وأين العلماء الذين يقفون أمام هذا الخطأ الفادح؟
في العطلة الماضية في أبها وقع أكثر من اثنين وستين زواجاً كلها مغالاة، ومفاخرة، ومرءاة في صالة الأفراح، وعلمت من كثير ممن تزوج أنهم اقترضوا ديناً لتلك الوليمة، فهل يرضى الإسلام بهذا؟ وهل يقره المسلمون؟ إن العالم الكافر الآن أصبح يتعامل بالعقل في أموره الاجتماعية والاقتصادية، ويقننوا مساراته، ويعرف دخله وما يخرج ويعرف أموره النافعة من الضارة، ونحن أمة بالكتاب والسنة، فينا العلماء وأهل الرأي والأخيار والأبرار ونسكت بالإجماع عن هذا الخطأ.
ثم إن ذلك يورث -أيضاً- إحجام كثير من الشباب عن الزواج، إذا كانت هذه التكلفات من الشرعة، والوليمة، وإيجار الصالة، وكثرة الذبائح والحلي والمهر، فمن يجمع هذه لهذا الشاب حينها تقع العنوسة ويتوقف الشباب والشابات عن الزواج، وتقع أمور لا تحمد عقباها ولا يرضاها الله.
أيها المسلمون: لابد على أهل العقل من الناس أن يضعوا حداً معيناً، ويبدأ فيهم الرشيد منهم، فإنه من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من المتالف ومن الأخطاء والمخالفات الشرعية.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا} اللهم صل على نبيك وحبيبك واعرض عليه صلاتنا، وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد بين صفوفهم وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم أصلح ولاة الأمور، اللهم وفقهم إلى الحق وإلى العمل بكتابك وبسنتك نبيك يارب العالمين، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك ولرفع رايتك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر