أمَّا بَعْـد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومرضاته ومغفرته وعفوه وكرمه وإحسانه، وشكراً شكراً لمن قدمني وأتحفني، وحاول أن يكرمني أكرمه الله، فإنما هو دوحة للندى وللإخاء وللوفاء، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
موضوعي في هذه الليلة عنوانه: عناية الله عز وجل بأوليائه، والله يرعى أولياءه عز وجل، ويحميهم ويحرسهم.
يا واهب الآمال أنـ ـت حفظتني ورعيتني |
عدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني |
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني |
أو إن أجد بالمال فالأموال أنت وهبتني |
كان صلى الله عليه وسلم إذا ما ودع أصحابه وحانت لحظة الفراق، وانهمرت الدموع، وتحركت القلوب يقول صلى الله عليه وسلم لصاحبه ولتلميذه الذي يودعه: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك) وما أجلها من كلمات! وما أروعها من عبارات! (أستودعك الله التي لا تضيع ودائعه) وهذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
والله إذا استودع شيئاً حفظه عز وجل، وانظر ما أجلها من كلمة: أستودعك الله التي لا تضيع ودائعه.. فالله عز وجل إذا حفظ حفظ، وإذا استودع شيئاً حفظه عز وجل من كرمه وبره ووإحسانه.
يقول أبو قتادة رضي الله عنه فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم: رافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته، قال: فسهرنا ليلتنا تلك، فلما أتى الصباح وصيلنا الفجر، رافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته، فنعس صلى الله عليه وسلم وأصابته سنة وراحلته تمشي، نعس بعد ليلة جهيدة سامرة من الفداء والبناء والتضحية لهذه الأمة، ما كان يعرف الفراش الوثير صلى الله عليه وسلم، ما كان يعرف المراقد الناعمة، كان دائماً في الأسفار وعلى التلال وفي الصحراء ليرفع هذه الأمة.
في مجلسنا هذا أدركنا حسنة من حسناته صلى الله عليه وسلم، ولولا الله ثم هو ما جلسنا في هذا المجلس المفعم بذكره عز وجل، وما تقابلت هذه الوجوه النيرة، وهذه الأعلام البينة، وهذه المقل التي ترنو بالدموع عند الوداع إلا بإحسانه صلى الله عليه وسلم وفضله بعد فضل الله.
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء |
يقول أبو قتادة: فنعس صلى الله عليه وسلم فكاد أن يسقط من على راحلته فدعمته قال: فنعس ثانية فقربت منه فدعمته، ثم نعس ثالثة حتى كاد أن يسقط، قال: فدعمته حتى استوى، فاستيقظ صلى الله عليه وسلم فمد طرفه فرآني فقال: (حفظك الله بما حفظت رسوله) دعوة من محمد صلى الله عليه وسلم -لا كالدعوات- تنفذ وترفع فوق الغمام ويفتح الله لها باب الإجابة: حفظك الله بما حفظت رسوله، وحفظ الله أبا قتادة في حياته فما ضل مع من ضل، وما أخذته فتنة وما اجتاحته مصيبة، بل بقي محفوظاً بحفظ الله عز وجل.
والليلة سوف أعرض عليكم نماذج من حفظ الله لأوليائه عز وجل، فإنه الحافظ على كل شيء والوكيل، قال الله عن نفسه: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64] خير حافظاً، قالها يعقوب عليه السلام لابنه الفقيد الوليد الجليل يوسف حينما فقده، مرة؛ يقولون: أكله الذئب، ووالله! ما أكله، ومرة يقولون: ابتلعته الصحراء، ووالله! ما ابتلعته، ومرة يقول القصصيون: لقد ذهب هو غيظاً على إخوانه وعلى أبيه، وما ذهب ولكن ذهب في رعاية الله ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وتلك العصابة المؤمنة التي خرجت من القصور الشاهقة إلى الكهف فحفظهم الله عز وجل ورعاهم، وهكذا يحفظ الله كل من تولاه.
فأصدر أمراً صارماً بقتل كل غلام في تلك الفترة الحرجة؛ ليحمي ملكه وليؤيد سلطانه، وبالفعل ذهب جواسيسه وجنوده يقتلون الأبرياء من الأبناء، ويقتلون الغلمان ممن ولد لبني إسرائيل، وأخذت الدماء تسيل، وأخذت الحوامل تجهض، والنفوس ترتفع إلى الله بالشكوى، وفي هذه الفترة ولد موسى عليه السلام، يا ألله! أما تقدم سنة أو تأخر عن هذا القرار الذي صدر من فرعون! يا ألله! من يحمي موسى؟
وما ذكر القرآن أن له أباً وإنما هي أمه المسكينة الوالهة الحزينة تحتضنه في لفائف من القماش لتعرضه للجزارين والجلادين..
يا ألله! من يحمي هذا الطفل وقد قتل مئات الأطفال، بل ألوف الأطفال من أمثاله؟
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ القصص:2-4] لقد علا وتجاوز حده وتكبر وما كان ينبغي له أن يتكبر، وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4] إلى أن قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعدها بأربع آيات: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] يا الله! وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ [القصص:7] كان المنطق أن يقال فاحفظيه أو فأمسكيه أو فخبئيه ودسيه ولكن (فَأَلْقِيهِ).
والإنسان إذا خاف على شيء، حفظه والتزمه ومسكه وخبأه ولكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يسير قصة مكشوفة، وعملية سافرة على فرعون، يحاربه -كما يقال: كذا على المكشوف- بطفل يأتي إليه مباشرة، ثم يكون هذا الطفل هو النقمة والانقلاب، وهو نهاية هذا الملك الظالم الغاشم في الأرض. فقال الله لها: فألقيه، أي: اتركيه لتتولاه رعاية الله، ودعيه لتتكفله عناية الله، وتخلي عنه فإن الله هو الحافظ عز وجل، من الذي يحفظ الطيور وهي لا تملك ضراً ولا نفعاً؟! من الذي يشبعها؟! من الذي يؤيها؟! من الذي يحفظ السوارح في البراري؟! من الذي يحفظ الوالهين والضائعين واليتامى؟! إنه الله عز وجل.
فألقته أمه تحت رعاية الله وعنايته: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) والوحي إنما يأتي من الله عز وجل لمن يشاء من عباده، فوثقت بهذا الوحي ولو كان من عند غير الله ما وثقت به أبداً، لو قال لها فرعون وهو يملك القوة والجنود والحرس أن تلقيه والله ما صدقت، ولا آمنت، ولا فعلت، لكن قال الله لها: ألقيه فألقته، وانظروا إلى هذا المشهد: أم والهة حزينة تلقي طفلها في اليم ولا تدعه عند أحد من الناس، إنما تلفه وتلقيه.
في اليم: أي في الماء مباشرة ولن يغرق أبداً؛ لأن من يحفظ الله فإن الله يحفظه ومن يحفظه، الله لا يهلك أبداً.
وألقته في الماء وأخذه نهر النيل الرقراق، ليتجه به ولكن إلى أين يتجه به؟ البساتين كثيرة في مصر والحدائق غناء ولكنه سوف يترك كل الحدائق والبساتين؛ ليدخل حديقة فرعون؛ لأن نظام الصرف والري في مصر استخدم في عهد فرعون حيث يدخل ماء النيل إلى كل بستان، ولكن هذا الطفل الذي يرعاه الله يتخلل تلك البساتين ويتركها وراء ظهره ليدخل بستان فرعون، هذا المغنم وهذا الصيد الذي يريد أن يحصل عليه فرعون يدخل بستانه، ويستبشر الحرس الظلمة الغشمة بهذا الطفل الوديع الذي رأوا أنه من بني إسرائيل، فأخذوه في لفائفة وقدموه لفرعون، وصدر أمر فرعون بقتله ولكن عناية الله تتدخل مرة ثانية لتحفظ هذا الغلام.
يقول الله عز وجل: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] تأتي امرأة فرعون المؤمنة آسية فتقول: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [القصص:9] وانظر إلى الخطاب! وانظر إلى عناية الله! وإلى الأسلوب! تقول لزوجها الظالم الغاشم: هذا قرت عين لي ولك، هذا غلام سوف نربيه لعله أن ينفعنا، وسوف ينفعها -إن شاء الله- ووالله، لقد نفعها موسى عليه السلام، نفعها في الدنيا بأن أسلمت على يديه ونفعها في الآخرة بأن أدخلها الجنة -بإذن الله- أليست هي التي قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11]؟ بلى.
سمع فرعون هذا الكلام منها وصدَّقها وترك الطفل وتحت عناية من الله أراد الله عز وجل أن يهيئ له مرضعاً؛ لكن من ينبري لإرضاع هذا الطفل؟ إن الله وعد أم موسى أن يرد هذا الطفل إليها، تأتي المرضعات ويقدم الطفل للنساء فيأبى أن يرضع، ويأبى أن يشرب الحليب ليوفي الله وعده عز وجل، وتتدخل أخت موسى عليها السلام وعليه وعلى أنبياء الله ورسله جميعاً، فتقول: هل أدلكم على من يكفله ويحفظه ويرعاه ويرضعه لكم؟
فيستبشرون، ويعاد الطفل الوديع إلى أمه فترضعه وتربيه في حنان، بل وتأخذ على الإرضاع أجرة وكأنها ليست له بأم..!
ففعل وعرض عليه جمرة وتمرة، ولكن عناية الله تحرسه وتحفظه في أساليب لا يدركها البشر، امتدت يده عليه السلام إلى الجمرة فأخذها ووضعها على لسانه وبالفعل لذعت تلك اللسان الرطيب العذب الناطق بالحق، فتركه وأعفاه واستمر هذا الشاب ينمو في هذا القصر تحت رعاية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وحمايته، وينـزل من القصر ويتركه، لكن ما ندري ماذا حدث في هذه الفترة؟ لأن القرآن لا يتحدث إلا عن العبر والعظات في القصة، ينـزل إلى الشارع يعاشر الناس وليعيش معهم.
ولكن إلى أين يتجه؟! المدينة قد أوصدت أبوابها، والحرس وقفوا على الطرق يبحثون عن الناس ويأخذون هوياتهم لعلهم يرون صورة موسى التي أعلنت استخبارات فرعون عن قبضه أم ماذا يفعل؟ لكن خرج في وقت قيلولة على غفلة من الناس، وإذا أردت أن تخرج من المدينة ولا يدركك المرور ولا يحبسون سيارتك فاخرج وقت الظهيرة، فإنهم يقيلون في ذاك الوقت، فخرج عليه السلام في تلك الساعة المباركة الميمونة، ثم يسأل الله أن يهديه إلى مكان آمن لأنه لا يعرف الطريق فقد عاش في المدينة، وأبناء المدينة لا يعرفون الفيافي ولا البوادي ولا الصحاري، عاش في المدينة لا يعرف الطرق ولا يعرف الناس لكن حتى في الطريق يسأل الله الهداية منه عز وجل، يقول: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22] سواء السبيل يعني: الطريق، فوجهه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهداه في الصحراء لا مرشد ولا هادي، إنما يمشي وكأن رجلاً يستدعيه، كأنه يقول: هلمَّ إليَّ؛ لأن الله يحفظه ويحرسه، ومشى يخترق هذه الرمال حتى وصل إلى أناس وإلى وادٍ عظيم الماء، وفيه أناس رعاع وفيه حركة وسكون وهو يريد الاستئناس بهم، والإنسان كما يقولون: مدني بالطبع، وزهاد الصوفية إنما خالفوا طبائعهم؛ لأن أمزجتهم قد وقع فيها شيء من الاضطراب، فتركوا الناس وخرجوا إلى الرهبانية التي ذمها صلى الله عليه وسلم.
أما هو فوفد فإذا الناس يسقون، وإذا بابنتين اثنتين تقفان وتذودان غنمهما عن الماء، تريدان أن يخف الزحام وأن ينتهي هذا الفئام من الناس حتى توردان غنمهما، وفي الأخير جاء عليه السلام بعد أن رأى موقف هاتين البنتين، فأخذ الغنم بقوته وشجاعته وزاحم الرجال ودفعهم -وهو من هو في قوته وصلابته- حتى اسقى تلك الأغنام وأعادها للبنتين، ولكن به من الجوع العظيم مالا يعلم به إلا الله، وبه من الغربة ما لا يدركها إلا الله، وبه حتى من المرض، أورد الإمام أحمد في كتاب الزهد: أن موسى عليه السلام قال لما رجع إلى الماء: يا رب! مريض غريب جائع فقير، قال الله عز وجل: يا موسى! الفقير من لم أكن أنا مغنيه، والمريض من لم أكن أنا طبيبه، والغريب من لم أكن أنا مؤنسه، والجوعان من لم أكن أنا مشبعه.
ولكن القرآن يأتي باختصار لأعظم قضية ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] وتتدخل عناية الله مرة ثانية، وتأتي إحدى البنتين فتخبر أباها بما حدث عند الماء وتعود أدراجها؛ لتطلب هذا الرجل العظيم لتوفيه حقه من أبيها، فسلمت عليه ويقول المفسرون: ما رد عليها، ويدرك من يقرأ القرآن لمحاً -تلميحاً لا تصريحاً- أن الرجل كان على عفة عظيمة، وهكذا فليكن أولياء الله؛ ما نظر إليها ولا فاتحها بل قيل: إنه جعلها وراءه لتدله على الطريق، ووصل إلى بغيته.
قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا |
ولما وصل إلى هذا الرجل الصالح سلم عليه، قيل: إنه شعيب، وقيل غيره، ولا يهمنا فإنما يهمنا هو القصة والرجل الصالح، فلما سلم عليه وقص عليه القصص، وأخبره بالأنباء المفجعة، والحوادث الرهيبة، والإرهاب الذي استعمله واستغله فرعون عليه لعنة الله: قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25] لقد استقر قلبك وارتاح ضميرك وأنت في ولاية الله ورعايته؛ لا تخف أبداً نجوت من القوم الظالمين، ثم بدأ بينهما معاهدة، وكتبت بينهما ورقة صك على أن يرعى لشعيب عليه السلام مدة من الوقت فإن شاء عشر سنوات وإن شاء ثمان سنوات: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27] أي: زيادة تفضل وكرم وعفو وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27] وفعلاً وفىَّ موسى عليه السلام عشر سنوات، يقول ابن عباس: [[وفىَّ أبرهما وأكرمهما وأحسنهما أحسن العهدين]] ولما انتهت العشر السنوات أخذ زوجته وأخذ طفله وغنمه وشاته، وأعطاه الرجل الصالح عصا، والعصا هذه سوف تقلب الدنيا ظهراً لبطن، وسوف يكون لها حديث في القرآن وسوف يكون لها خبر مع فرعون، وتصارع الطغاة والسحرة، وتقف موقفاً وتتكلم بكلام، وتتحدث بحديث فاسمع، فخرج وساق أغنامه وقطع تلك الفيافي، وانظروا لعناية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه أعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كيف يجعل رسالته.
يتوقف في ليلة من الليالي وقد أظلم عليه الليل لا يجد نوراً، ولا يجد شيئاً يستدفئ به أهله، فتلمع له نار في وادي طوى بجانب الطور، فيستأذن من أهله في رقة، ويقول: سوف آتيكم بقبس لعلكم تصطلون، أو بشهاب من النار، أو لعلي أجد على النار هدى، قيل: إنسان يهديني أو صبر يصبرني، أو شيء يصرف كربتنا في هذه الليلة، ولما قرب من النار، وكما يقولون من اللطائف: أنه كان عنده حذاءين من جلد حمار ميت -والله أعلم- إنما قال له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اخلع نعليك، المقام مقام قداسة، والمقام مقام عبادة، والمقام مقام إجلال وإكرام، فالنعلان لا تليقان أن تدخلا في هذا البساط القدسي، فخلعهما وتقدم، وبعد لحظة من اللحظات سمع كلاماً ما عهده، كلام الله عز وجل يكلم هذا العبد الذي وضعته أمه في الماء، هذا الذي لذعته النار، وهذا الذي رعى الأغنام، وهذا الذي أتى في الصحراء ضائعاً والهاً لا يحفظ شيئاً، وليس عنده مؤهلات لكن تدركه عناية الله عز وجل إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه:14] ووقعت (لا إله إلا الله) في قلب موسى وتحركه وارتعدت جوارحه، واهتز كيانه، وتذكر من هو الله عز وجل إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه:14] انظر إلى السماء! ترى إبداع الله عز وجل، وانظر إلى الأرض! تجد صنعه سبحانه، وانظر إلى كل شيء!
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد |
ثم يقول له: (وألق عصاك) فألقى العصا التي كان يرعى بها الغنم، فإذا هي حية تسعى، فتركها وولى مسرعاً هارباً لا يلوي على شيء، يا ألله! العصا التي كنت أذود بها الأغنام تتحول إلى ثعبان، ما هذه الاضطرابات، وهذا التموجات في هذه الليلة؟ ما هذه الأحداث الضخام في هذه الليلة؟ من أنا؟ أنا كنت راعياً أرعى الأغنام، ولكن يعود النداء من الله عز وجل: أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [النمل:10] فأقبل وقال له الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لما أوحى إليه أن ياخذ عصاه ليعيدها سيرتها الأولى، فأخذ عصاه، قيل: وضع يده في لسان الحية، فعادت عصا في يده كسيرتها الأولى أي: عصاه الأولى، ثم آية ثانية قال له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل:12] فأدخلها ثم أخرجها فإذا هي بيضاء من غير سوء، ليس فيها برص ولا بهق، إنما هي بيضاء تلمع كالبدر آية ثانية.
ثم قال له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24] وتوقف هل هذا صحيح؟ كنت أرعى الضأن، وكنت أبحث عن سراج في هذه الظلمة، ثم الآن أذهب إلى فرعون، ومن يدخلني على فرعون؟! ومن يتركني أتجاوز إلى قصره، وأدخل إلى بساطه، ثم أدخل إلى ديوانه وأتكلم معه وأنا طريد؟ قتلت رجلاً منهم ولو أمسك بي جواسيسه لقطعوني إرباً إرباً؟! لكن الله يقول له: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24] أي: تجاوز الحد وبطر، وأنت رجل الموقف، وأنت رجل الساعة، فما كان رده إلا أن قال: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25] وكأن إنساناً ضربه، يتصور أن إنساناً ضربه في صدره كذا أو أخبره بخبر مفجع أو أنه ألقيت عليه قذيفة، فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26] ووالله إنه لأمر صعب، وإنها لمسئولية ضخمة: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي [طه:25-27] وتأتي قصة اللسان، وكان موسى ألثغاً لا يجيد ولا يبين حتى يقول فرعون: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] لا يفصح ولا ينطق الحروف من مخارجها، لكن قالوا: إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يعطي الأنبياء والمرسلين بقدر ما يسألونه فقط، فأعطاه الله بياناً لكن ليس شافياً كبيان هارون الذي يختطب ويرج الموقف.
يقول: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28] يقول: لا أريد إلا أن يفقهوا قولي، ثم يقول: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه:29-31] وهناك في آية أخرى يقول: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [القصص:34] يعني: هو أفصح مني لساناً، ولكن إذا أصبح في الحجة والبيان والتضحية وبسط المقالة تأثر الناس، وهكذا الناس، يقول صلى الله عليه وسلم: {إن أحدكم ربما يكون ألحن بحجته من الآخر، فأقضي له على نحو ما أسمع}.
فلذلك ربما تجد صاحب الحق لا يجيد أن يتكلم يقول: نعم هذه ناقتي ضاعت، ولكن لا أدري متى ضاعت؟ ولا في أي مكان ضاعت؟ ويأتي هذا السارق ويقول: بل هي ناقتي الحمراء الصفراء التي ربيتها في وادينا الفلاني، ومكثت عندي سنتين وأعرف رباطها وزمامها وعفاصها ووكاءها، قال القاضي: خذها، فهذا من البيان، فهارون كان عنده من هذا الشيء العظيم.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي [طه:42] أي: لا تضعفا؛ بل سبحا وهللا وكبرا حتى تتقويان على الدعوة وعلى تنفيذها.
فلما وصلا إلى بساط فرعون واستأذناه ودخلا عليه ومعه جنوده وحاشيته، دعواه إلى الله عز وجل.
فضحك والتفت إلى أصحابه يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الشعراء: قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشعراء:25-30] الآيات.
ولذلك يقول اشتكى موسى عليه السلام إلى الله عز وجل من فرعون، يريد رعاية الله وحمايته له وهي الشاهد يقول: رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] يفرط أي: يستعجل، والمعنى أنه يخاف أنه ما إن يدخل من الباب وهو لا يعرف القضية، ولم يتكلم معه في شيء، فيستعجل في حكمه عليه، أو أن يطغى أي: بعد أن نخبره، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] وإذا كان الله معك يسمع ويرى، فلا تخف من الدنيا كلها، ولذلك هذه العقيدة هي درجة عالية ما أدركناها، ونسأل الله أن يوصلنا إليها.
يقول صلى الله عليه وسلم لـابن عباس: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك} وتتدخل عناية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيوفقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويتكلم معه؛ لكن الخبيث رفض، ويعيده للميدان ثانية، ويجمع سحرته في يوم الجمعة، يطلب أن يحشر الناس ضحى، ويخاف موسى عليه السلام، ويتكرر منه الخوف أيضاً، ويأتي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويقول: لا تخف، أنا معك أسمعك وأراك، لكن الإنسان بشر والبشر يخاف ويوجل وتتهدم جوارحه، حتى أنك لو حلفت للإنسان أنه لا يأتيه شيء، وتحلف له أيمان القسامة أن الذئب لا يأكله لا يصدقك، يخرج ولكن يبقى في نفسه شيء.
فألقى السحرة عصيهم وكل ما في أيديهم، فإذا العصي حبال تسعى، أصبحت الخيزران تلعب كأنها ثعبان، وهو عليه السلام يصدق بوعد الله عز وجل لكن البشر بشر، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى [طه:67-68] سوف تجد من يفشل هذا اليوم وينهزم، فألقى عصاه فأخذت تبتلع كل العصي وكل الحبال، وأخذت هذه الحيات في بطنها، وكبرت ما شاء الله واتجهت إلى منصة فرعون لتبتلعه كذلك، لكن الخبيث يشرد، يقول الحسن البصري رحمه الله: [[كان فرعون طياشاً خفيفاً جباناً لأنه ما يقف إلا على الدعاية.
هلا برزت إلى غزالة في الوغى أم كان قلبك في جناحي طائر |
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر |
وهكذا إلى نهاية القصة، والله يتولاه إلى آخر مرحلة حتى خرج فرعون يطارده من مصر، واتجه إلى البحر ويا سبحان الله! أين يتجه؟! البحر أمامه، وفرعون وراءه؟ لكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول له: اضْرِبْ بِعَصَاكَ [الشعراء:63] ويا عجباً لهذه العصا! مرة يضرب بها الغنم، ومرة تصبح حية تسعى، ومرة تلتهم الأشياء، ومرة تشق البحر نصفين؛ وهذه عناية الله تدرك العصا، وانشق البحر، وخرج موسى من الماء، ولا يزال فرعون يحاول إدراك موسى ومن معه، فدخل الجنود، هذا إن شئتم صدقتموه وإن شئتم كذبتموه؛ لكن لا تكذبون ولا تصدقون قولوا: دخل فدخل بجيشه، ولما انتصف في الماء أطبق عليه فهلك هو وجنوده، وانتصر موسى عليه السلام وأصبح رجل الموقف.
من الطفل الذي في اللفائف، والذي ألقي في اليم إلى رجل الموقف ورسول الأمة الناجح في هذه المعركة، هذا ملخص القصة التي تبين أن عناية الله عز وجل تدرك أصحابه وأولياءه وأحبابه في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
فلما خرج وتوجه صلى الله عليه وسلم إلى الغار ودخله، خرج كفار مكة كأنهم مجانين، كأن كل إنسان سرق غنمه محمد صلى الله عليه وسلم أو سرق ناقته، خرجوا بالسيوف يطاردونه لكي يخرج من مكة، انظر إلى هذه العقول السخيفة الضالة الضائعة، لماذا ما تركوه يخرج؟ وهذا من العجب! ألم يقولوا: لا نريد أن يبقى معنا؟ إذاً يخرج، والآن هم يطاردونه، فخرجوا واجتمعوا على الغار الذي كان فيه صلى الله عليه وسلم، يا ألله! من يحميه غير الله عز وجل؟ وأبو بكر معه خائف عليه ولم يكن معه سيف، وإلا فسيقاتل رضي الله عنه، والقضية ليست هي قضية قتال؟ هؤلاء مغتالون سفاكون لو رأوه لمدوا أيديهم بسيوفهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] انظروا عقيدته صلى الله عليه وسلم.
ومن اللطائف يقولون أنه قيل: أتت العنكبوت فبنت عشها عند الباب وأتت الحمامة فضربت بيتها:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحمِ |
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم |
وخرج صلى الله عليه وسلم.
وأتت المحاولة الثالثة لاغتياله وهي محاولة سراقة فإنه لما رآه في الصحراء انطلق بفرسه وسيفه ليدرك الجائزة، وليقبض على محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن خرجت كلمة خافتة ساكنة من الرسول صلى الله عليه وسلم يرفعها إلى الله: (اللهم اكفناه بما شئت) هكذا بلا تكلف، وبلا محاضرة، وبلا خطب، وإنما دعاء خفي إلى مولاه، فكفاه الله، وغاصت قدما الفرس ويداه في الأرض حتى سقط.
وانتصر محمد صلى الله عليه وسلم بعد الاغتيالات والمعاناة، وبعد ما تعرض صلى الله عليه وسلم للكرب العظيمة التي ما تعرض لها إنسانٌ أبداً، فالنصر والتأييد من رعاية الله سبحانه وتعالى.
1- الولاء التام لله عزوجل.
2- المطعم الحلال.
3- ألا تدعو بإثمٍ ولا قطيعة رحم.
4- أن تدعو دعاء المضطر؛ فلا تدعو بقلبٍ لاهٍ غافل.
5- أن تتحرى أماكن الاستجابة، وأوقاتها التي هي معروفه عند الناس؛ فإذا اجتمعت هذه الشروط فإنه أدعى لحصول الإجابة، وهو الفتح من الله، والبركة والرضوان والاستجابة السريعة.
عمر رضي الله عنه حج آخر حجة، فلما مشى يقود الحجيج إلى عرفات سمع هاتفاً يهتف:
عليك سلام من إمام مبارك وبارك في ذاك الأديم الممزق |
فكُلم رضي الله عنه في ذلك، قال: هذا أجلي نعي إليَّ، وكان رضي الله عنه عنده طلاقة وفهم، وهو ملهم حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (إن يكن في أمتي محدثون فإنه
ولما انتهى من المناسك قيل: حصبه رجل من اليمن، ووقعت هذه الرجمة في رأس عمر؛ وكان أصلع فسال الدم، والتفت عمر مرةً ثانية، وقال: [[هذا أجلي نعي إليَّ]].
وبعد أن انتهى من المناسك، وانتهى من عبادة الله، اضطجع على البطحاء؛ قيل: في محصب الحجيج، وقال: [[اللهم قد انتشرت رعيتي، ورق عظمي، ودنا أجلي، اللهم فإني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك]] وما أعظم ما طلب! طلب أمرين اثنين يصعب أن يجتمعا: شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك.
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: [[يا أمير المؤمنين؛ شهادة في سبيل الله، وموت في بلد رسول الله، كيف يكون ذلك؟ الناس يقتلون على حدود الروم، وفي بلاد فارس، وفي القادسية، وفي اليرموك، وليس في المدينة قتال، قال: قد دعوت الله]] انتهى.
رجع رضي الله عنه وأرضاه، وأكرم مثواه، وحشرنا في زمرته وزمرة محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق، وأجلسنا معهم على بساط من نور عند مليك مقتدر لا نخاف ولا نحزن إن شاء الله.
وعاد إلى المدينة، وما إن وصل إلى المدينة إلا ورأى رؤيا كما تعلمون؛ رأى أن ديكاً رومياً نقره، وعرض رؤياه على الناس، وقال: [[لقد أخبرت أسماء بنت عميس فأخبرته بأنه سيقتل]]؛ وبقي متوجساً بين الخوف والرجاء، يرجو رحمة الله ويرغب في لقائه، ويتلهف وهو يدعو أن يقرب دائماً من الموت؛ وهذا من الأدلة على أن الإنسان إذا خاف على نفسه خوفاً زائداً أن يدعو بالموت، وإلا فهو منهيٌ أصلاً، فدعا بهذا الموت:
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حباً |
وعكسه الكاره فالله اسأل رحمته فضلاً ولا تتكل |
وامتدت يد آثمة وهو يقرأ في صلاة الفجر؛ في قراءة رزينة، متمكنة.
قتل رضي الله عنه، وارتفعت روحه ليوفي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ما وعده، وما سأله؛ وسؤاله له عزوجل: أن يرزقه شهادةً في سبيله، وموتةً في بلد رسوله.
وبكى من فراق الحبيب؛ لأنه سوف يخرج من المسجد ويرمى فإذا هو جذع.
وبكى؛ لأنه ما كانت له قيمة حتى أدخل مع محمد صلى الله عليه وسلم، فما ميزته إذاً وهو عودٌ خارج المسجد، حيث دخل بعدها ووقف عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أتى صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت يعمل ولكنه رفض، عمل حتى كلَّ وملَّ فألقى مسحاته ورقد، فقال صلى الله عليه وسلم: {قم يا نومان، فاستيقظ الرجل فداعبه صلى الله عليه وسلم}.
وكان من عادة الصحابة حينما اشتغلوا في الخندق أن يجعلوا كل رجلين معاً؛ فرجلٌ يحفر ويملأ الزنبيل بالمسحاه، ويعطيه الآخر ليوصله إلى مكان معلوم، فجعلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً اسمه عمير؛ وكان عمير رجلاً ضعيفاً لا يستطيع أن يأخذ الأحمال، إنما جعلوه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ صلى الله عليه وسلم يسميه يا ظهير؛ يعني: كان اسمه عمير فيناديه بظهير لأن فيه قوة.
في هذه الأثناء بلغ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الجوع الشيء العظيم، فذهب جابر إلى بيته، ورأى زوجته وقال: [[عندكم طعام؟ قالت: عندنا هذه الداجن -عنز صغيرة لا تساوي عشرين ريالاً، يعني: ضعيفة- قال: وما عندكم شيء؟ قال: عندنا مد من شعير]] تعرفون أن المد من الشعير يكفي اثنين أو ثلاثة بالأكثر، فرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: [[يا رسول الله! تعال أنت وثلاثة معك]] يعني: همس حتى لا يسمع رابع فيدخل في المسألة -فيما لا يعنيه- فوقف جابر، فقال صلى الله عليه وسلم: {يا أهل الخندق! -وأهل الخندق ألف رجل- إن
أتى وهو وجل خائف، فقال لامرأته: [[دعوت الرسول صلى الله عليه وسلم وثلاثة معه، فدعا أهل الخندق كلهم]] قالت: عليك السكينة والوقار، الله ورسوله أعلم.
وانظروا كيف يكفي ألف رجل عنزة صغيرة ومد شعير.
فأتى صلى الله عليه وسلم، وقال لـجابر: {قل لأهلك -يعني: امرأتك- أن تترك الطعام حتى آتى} فأتى صلى الله عليه وسلم فتفل على الطعام؛ ويا ألله ما أنبله من تفال! وما أجمله! وما ألذه! وما أعذبه! حتى إن فضلاته صلى الله عليه وسلم يستشفى بها؛ إنها البركة، حتى تفاله، ووضوءه، وظفره، وشعره؛ كل هذه بإذن الله من المكرمات التي لو حصلها الإنسان لطار فرحاً.
يقول عبيدة السلماني كما في صحيح البخاري؛ وعبيدة السلماني هذا من أحد كبار التابعين العظماء، الزهاد العباد: [[والله الذي لا إله إلا هو، لوددت أن عندي شعرة من شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدنيا وما فيها]].
فدخل صلى الله عليه وسلم فلما برك على الطعام ودعا، قال: {هلم عشرة عشرة} فلذلك من السنة إذا كان عندك ضيوف عددهم أكثر من عشرة إما عشرين أو ثلاثين؛ أن تجعلهم عشرة عشرة، لا تذهب وتجعل ثلاثين على المائدة، بل اجعل عشرة في كل مائدة.
فأدخلهم صلى الله عليه وسلم عشرة عشرة، فأكلوا حتى أكل الجيش كله، فلما انتهوا من ذلك الطعام، قالت امرأة جابر: [[والله الذي لا إله إلا هو، ما نقص منه قليل ولا كثير]] ويقول جابر: [[إنه بحاله حينما وضعناه]] قال صلى الله عليه وسلم: {أعطوا جيرانكم منه} فلو لم يأت الرسول صلى الله عليه وسلم ما أعطوا الجيران، بل كان الثلاثة سوف يأكلونه، لكن الآن شبع الجيش والجيران، وهذا من بركاته صلى الله عليه وسلم.
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد |
في قصيدة طويلة، فبكى عمر رضي الله عنه بدموعه ما يتكفكفها، قال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا |
أي: يقول: هذه المفاخر ليست حقيقية، فلا تفتخرون عندي، تقولون: كان أبي وزيراً، وكان أبي أميراً، وكان أبي في المكتب الفلاني، لا. إن كنت صادقاً، فافتخر أنك قدمت للإسلام شيئاً، وأنك فعلت شيئاً، وأنك حققت من العبادة شيئاً، أما هذه كلها لا يفتخر بها، فقد كان كسرى ملكاً، وكان فلان إمبراطوراً، لكنها ليست مفخرة يفتخر بها.
نأتي إلى الكرامات:
تأتي الكرامة إذا بلغ الإنسان في طورين اثنين:
يقولون: من بلغ في التصفية والعبادة درجة عالية، قال سبحانه: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] ومرة ثانية: إذا كان إيمانه مزعزعاً، يكاد ينهار، فتأتيه الكرامة فترقيه درجة حتى توصله إلى عباد الله الصالحين، فهذه لها مرتبتان، ولذلك من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، فلا يظن أنه من الصحابة، فيعتريه عجب بنفسه واحتقار للآخرين، فيقول: ما هذا! الناس ضالون في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ لأنهم لا يرون النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
ولذلك يقولون: العوام يخشى عليهم إذا رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام أن يخرجوا الصباح، ويقولون: الحمد لله رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام يحسب أنه قد انتهى، وهذه فقط تشجيع له، وتأييد، ولذلك يقول العلماء: الكرامة تأييد وتشجيع، وهي كجائزة وكهدية وقربى وعطية للعبد.
كان الحسن: [[ يقول عنه: إذا رأيت
كان يجلس يحدث الناس في المسجد فيبكي، فيأتي بعمامته يلف على عينيه ويمسحها، ويقول: [[ما أشد الزكام]] لايريد أن يعرف الناس أنه بكى.
وكان يخرج إلى السوق إذا اجتمع الناس، فإذا رأوه هللوا وكبروا وذكروا الآخرة من نور وجهه.
وقد روي أن أيوب السختياني ذهب إلى مكة فسأله رجل: [[يا فلان! هل الكرامات حقيقة لأولياء الله؟ قال: نعم. قال: وما دليلك؟ قال: انظر هل بجانبنا أحد؟ قال: لا. قال: فنظر الرجل فما بجانبهم أحد، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ووضع يده في الصخرة، قال: فانسكب منها الماء فإذا هو يجري، قال: اشرب، فشرب، قال: ثم شرب أيوب، ثم قال: بسم الله؛ يعني: فرد يده ثانية على الصخرة فعادت]].
فهذه الكرامات تكون لمن بلغ في التصفية درجة عالية.
فقالوا: [[ادع الله عز وجل، فتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كلمات مختصرة، يقول: يا حكيم يا عليم! يا علي يا عظيم! اللهم أغثنا، قالوا: فوالله، ما انتهى من كلامه إلا وجاءت سحابة مباشرة فتوسطت الجيش، وغطت سماء الجيش، ثم أرعدت وأمطرت، حتى سقوا، وشربوا، وغسلوا، وتوضئوا ثم ارتفعت]] انظروا إلى هذه الكرامة العظيمة التي ما بعدها كرامة! ولو رآها أهل موسكو لأسلموا ولآمنوا ولصلوا صلاة الضحى ذاك اليوم، لكن حكمة بالغة وقدرة عظيمة، قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43].
تعلمون أن كثيراً ممن طمس الله على قلوبهم يتفننون في تعذيب الناس، ويحدثون من الأساليب في تعذيب البشر ما لا يعلمه إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكان أبو مسلم الخولاني؛ لا يفتر من ذكر الله عزوجل.
ولذلك ورد في الأثر: [[اذكر الله حتى يقول الناس: إنك مجنون، واذكر الله حتى يقال: إنك منافق]] وفي رواية: [[اذكر الله حتى يقول المراءون: إنكم تنافقون]] ولذلك تجد الإنسان الذاكر لله إذا ذكر الله، قالوا: يمكن أنه يحسب ما معه من أموال أو ما عنده من مكاتب عقارية أو سيارات، وهو يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
دخل هذا التابعي على الأسود العنسي، فقال له الأسود العنسي: أتؤمن بي؟ يعني: إنه رسول. قال: لا. قال: أتؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: بأبي هو وأمي، نعم أؤمن به، قال: والله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحدٌ قبلي، يظن أن فرعون ما تقدم عليه.
فجمعوا له حطباً حتى أسعروا هذه النار، ثم أتى الجنود فسحبوه بيده ليلقوه، فلما اقترب من النار قال كلمة إبراهيم عليه السلام: حسبي الله ونعم الوكيل، ثم القوه فيها، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، خرج من النار، وأخبروا الأسود العنسي، وقالوا: ألقيناه في النار فطفأت، قال: أخرجوه، هذا أكبر سحرة اليمن، أخرجوه حتى لا يفسد علينا الناس.
فخرج رضي الله عنه وتوجه إلى المدينة.
سمع عمر بن الخطاب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه بشأن أبي مسلم، فقال: تصدوا لوفود اليمن، تصدوا واسألوا الركبان أفيكم فلان؟ فسألوا عنه حتى يئسوا منه، وفي يوم من الأيام دخل المسجد على وقت غفلة فقام يصلي، وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورآه الناس، ورأى هذا الرجل الخاشع المتبتل في صلاته إلى الله، لأن الإنسان يخبرك من صلاته، ولذلك يقول المحدثون: كنا ننظر إلى الشخص فإن رأينا في صلاته حسناً وطمأنينة وخشوعاً كتبنا عنه، وإن رأينا فيه اضطراباً واعوجاجاً تركناه، فقام عمر بن الخطاب فلما انتهى، قال: أظن ذاك الرجل أنه أبو مسلم الخولاني، وقد كان لا يعرفه عمر رضي الله عنه، لكن رأى سكينة، فلما سلم على عمر قال: [[أأنت أبو مسلم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فعانقه طويلاً فذهب به إلى أبي بكر الصديق وأجلسه بينه وبين أبي بكر، وقال عمر: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام]].
نماذج عظيمة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها تثبت حفظ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ورعايته وولايته لأوليائه، ومن الذي يحفظ الإنسان إذا لم يحفظه الله عزوجل؟!!
ولذلك يقال عند النوم: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك.
وإذا حفظت الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حفظك أبداً.
منها: آية الكرسي؛ وآية الكرسي لها حديث عجيب عند العابدين، ولها جلالة عجيبة عند الموحدين لا يعرفها إلا من يداوم عليها؛ لذلك يقول ابن القيم: إني لأسأل الله عزوجل أن يمهل في عمري حتى أكتب مجلدات في تفسير وتخريج كنوز هذه الآية؛ يعني: آية الكرسي، لكن أخذته المنية عليه رحمة الله، وتعلمون ما جاء فيها من فضل وما تعصم به العبد في يومه وليلته.
أيضاً خواتيم سورة البقرة؛ يقول علي رضي الله عنه: [[عجبت لمسلم له عقل ينام ولا يقرأ خواتيم سورة البقرة]].
ومن الحروز: المعوذات، يقول صلى الله عليه وسلم لـعقبة بن عامر: { قل، قلت: ما أقول يا رسول الله؟ قال: قل، قلت: ما أقول؟ قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] ثلاث مرات حين تصبح، وحين تمسي يكفينك من كل شيء} يعني: من الأذكار والأوراد.
والأمر الرابع: قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، في الصباح مائة وفي المساء مائة، من قالها فله أربعة أشياء من الله وعد غير منقوص ولا مردود، وغير منسي بإذن الله، هذا ثابت في الصحاح: {تكتب له مائة حسنة، وتكفر عنه مائة سيئة، وتكون له عدل عشر رقاب، وتكون له حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت يوم القيامة أحد بمثل ما جاء به إلا رجل عمل بمثله أو زاد عليه}.
كان أبو بكر رضي الله عنه إذا أراد أن ينزل السوق، قرأ قليلاً في القرآن ثم أطبق صحفاً عنده ورفعها ونزل، ثم إذا أتى من السوق فتحها.
ويقول الذهبي: يروى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان مصحفه في البيت، فإذا دخل توضأ ونشر المصحف فقرأ فيه.
يقول نافع: [[ما كان شغل
متى ينتهي الإنسان من كتب الدنيا؟! متى ينتهي من مجلات الدنيا؟! متى ينتهي من جرائد الدنيا؟! لا يتركها أبداً لكن يترك كتاب الله عز وجل!
ما كان المحدثون كـحماد بن سلمة يقرأ حديثاً واحداً حتى يقرأ مائة آية.
ولذلك فإن القرآن هو حرز الحروز، وهو الحافظ بإذن الله في الأزمات، والنكبات، والحزن، والهم، والغم، وليس مثله شيء من الحروز.
هذه من أعظم الفتوح، لكن لما سهرنا في أول الليل ضيعنا آخر الليل، والموفق من وفقه الله تعالى.
نسأل الله أن يوفقنا فيما نستقبل من أعمارنا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر