وفي هذا الدرس بيان لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في لباسه، وفيه عرض لبعض الأحكام؛ مثل: حكم إسبال الإزار، وحكم لبس الحرير، وما ورد من أذكار تقال عند لبس الثياب.
السموات شيِّقات ظِماء والفضا والنجوم والأنواء |
كلها لهفة إلى المصطفى الهادي وحب مبجل واعتناء |
حن جذع إليه وهو جماد فعجيب أن تجمد الأحياء |
معنا في هذه الليلة هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس، والسؤال: كيف كان يلبس؟ وما هو قدر اهتمامنا بلباسه صلى الله عليه وسلم؟ وهل أتى ليعلمنا اللباس؟ وأن نلبس غتراً وثياباً وأقمصة وسراويل لتكون محددة؟
الجواب: نعم. أتى ليعلمنا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويعلمنا الخير، والهدي، والأدب، والسلوك، والطعام، والشراب، واللباس، فلا نلبس إلا بأمر، ونجتنب المحرم لنكون على بصيرة، فهو قدوة في كل جليلة ودقيقة صلى الله عليه وسلم.
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف:32] من هذا الذي أحل وحرم غير الله عز وجل وغير رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116] فالتحليل والتحريم لا يأتي إلا من الكتاب والسنة، ولذلك دخل في باب التحريم والتحليل أناس ليس عندهم علم، فأفتوا الناس بأن هذا حلال وهذا حرام؛ فافتروا على الله.
فالذي يريد أن يحرم فليأتِ بدليل، والذي يريد أن يحلل فليأتِ بدليل، لا يقل: هذا الطعام حرام؛ لأن فيه كيت وكيت. من أين لك تحريمه؟ وقد سمعنا وسمعتم، ورأينا ورأيتم من أدخلته هذه الفتيا في باب الوسوسة، حتى حرم على عباد الله ما أحل الله لهم، وحلل لهم ما حرم الله عليهم، وهو باب خطير يأتي تفصيله.
قال ابن القيم كلاماً في إغاثة اللهفان معناه: حملت هذه الوسوسة بعض الناس إلى أن حرموا طعام المسلمين، وأكلوا طعام الملاحدة والزنادقة.
فلذلك أباح الله لنا أشياء ذكرها في الكتاب، وذكرها رسوله صلى الله عليه وسلم، وحرم أشياء ذكرت كذلك.
ومر معنا أن المرأة تقول في زوجها: العشنق إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق. فالحديث المعلق هو الذي ليس بموضوع وليس بمسند، وإنما نسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا الحديث صحيح وسوف يأتي مسنداً. قوله صلى الله عليه وسلم: {كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة} الإسراف: أن تبذر تبذيراً، وأن تتجاوز الحد في الإنفاق، فكل والبس وتصدق في غير إسراف ولا مخيلة.
والمخيلة: أن تأخذ هذا الشيء كبراً وبطراً.
إذاً المذموم في اللباس ما حملك على إحدى اثنتين أو عليهما: الكبر أو الترف والتبذير.
قال البخاري: "وقال ابن عباس: [[كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطِئَتْكَ اثنتان سرف أو مخيلة]] وهذا الحديث موقوف على ابن عباس، ولو أن بعض أهل العلم رفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. والمخيلة من الخيلاء، وهو الكبرياء، ويستخدم في المعاني والذوات، يقال: هذا في قلبه مخيلة، ويقال في جسمه مخيلة مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18] أي: قلبه يفخر، وجسمه يختال، وهذا يحدث في المعاني والذوات، فصاحب المعاني الذي في قلبه كبر يظهر على فلتات لسانه، فتراه يقول: رحت، وذهبت، وقلت، وراجعت، ودخلت، وخرجت.. وصاحب الخيلاء والكبرياء في الجسم يظهر على حركاته وسكناته.. من جلسته وتنحنحه، ومن ذهابه وإيابه؛ لأنه عمي عن الإرشاد النبوي الشريف.
قال البخاري رحمه الله: حدثنا... وكلمة (حدثنا) معلم كبير من معالم أهل السنة والجماعة، وهي متعوب عليها، وهي تربي الرجال والأجيال، حتى يقول أحد الزنادقة -كما يقول ابن تيمية -: اتركونا من حدثنا.
قال أحد العلماء: إذا رأيت الرجل يقول: اتركونا من حدثنا؛ فاغسل يديك منه. أي: حارب الإسلام جهاراً نهاراً، وعلم ليس فيه (حدثنا) فمعناه وسوسة، وتنميق الكلام وتصنيف الحديث
العلم ما قيل فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين |
(فحدثنا) لا بد أن تدخل كل بيت مسلم، ولا بد أن تربي ملكتك الذهنية وأبناءك وبيتك على تذوق (حدثنا) وهي كانت عند السلف الصالح من أروع وأحسن الكلام، قالت الصوفية: نحن نأخذ علمنا من الرزاق ما نأخذه من عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني شيخ أحمد في الحديث، قال ابن القيم في مدارج السالكين: والله الذي لا إله إلا هو لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفتم الرزاق ولا عرفتم الخلاق، ويقول غلاتهم: علمنا علم الخرق، وعلمكم علم الورق.
ولذلك إذا رأيت إنساناً يستهزئ بالسنة أو بالسيرة أو بالكتب فاعرف أنه قد بلغ درجة من البهيمية -وهذا استطراد إنما نحن عند كلمة حدثنا- والإمام أحمد يقول: إن لم تكن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث فلا أدري من هم. وقال الشافعي: إذا رأيت محدثاً كأني رأيت صحابياً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا لـأحمد: إلى متى تطلب الحديث؟ قال: من المحبرة إلى المقبرة. فقد كان عمره فوق السبعين وهو مريض، وقد جلد في ظهره، وهو بالمحبرة ينتقل من شيخ إلى شيخ يكتب، قالوا له: تكتب، حتى الآن؟ قال: من المحبرة إلى المقبرة.
قال سهل بن عبد الله التستري: حق على المسلم أن يكتب العلم حتى يصب آخر المداد في القبر. أي: يصب عليه في القبر إذا انتهى.. وذكر ابن قتيبة: أن داود قال لسليمان عليه السلام: "يا بني سجل العلم وقيده في ألواح قلبك".
وأخرج عبد الله بن المبارك الإمام الزاهد الكبير العالم المحدث بطاقة وهو على زبالة، فقالوا: مالك؟ قال: مرت من هنا جارية تنشد بيتاً فسجلت هذا البيت؛ لأنه درة في مزبلة. وبلغ من حرصهم على تصيد الفوائد الشيء المذهل، يوم كانوا يعرفون وزن العلم والفائدة، والتضحية من أجل ذلك.
قال البخاري: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم، يخبرونه عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا ينظر الله إلا من جر ثوبه خيلاء} وهذا الحديث بلاغ للناس، ونظر الله عز وجل معناه رحمته وبره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالذي يجر ثوبه لا ينظر الله إليه.
وما الحسن في وجه الفتى كرم له ولكنه في طبعه والخلائق |
فإذا جمع الله بين الحسن الظاهر والباطن فهو الكمال، واللباس الأبيض مشرف، وكل شيء أبيض محبوب، قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {واغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} وسبب ذلك أن الثوب الأبيض صاحبه يعتني به، فيبقى دائماً نظيفاً طيباً جميلاً أمام الناس، وأدنى شيء يؤثر فيه. وأما صاحب الثوب الأسود؛ فإنه تمر عليه الأشهر، وهو بحمد الله على حالته لا يتغير، وقد يصبح فيه من السواد والبقع والروابي والأشجار ما الله به عليم، وهو على حاله.
فحبذ أهل العلم الثياب البيض، وقد روى الإمام مالك في الموطأ في باب الأدب واللباس، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[يعجبني أن يكون القارئ ثوبه أبيض]]؛ لأن الأبيض يفتح النفس، وهو يظهر الاعتناء بهذا الدين والتجمل له، وكان عليه الصلاة والسلام يلبس الأبيض، ووجهه أبيض كأنه القمر ليلة أربعة عشر، فإذا اجتمع حسنه على حسن الثياب فهو الكمال المطلق.
ولذلك سيد قطب يتساءل كثيراً في سورة التحريم عن هذا الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: إن اختياره لم يكن صدفة، إن الله هيأه ليكون رسولاً للبشرية، حتى في حياته وجسمه وأعضائه وجماله، فهو قوي العاطفة، حي الإحساس، مشرق الإدراك، متحرك مع الناس، يهش للدعابة لكن بلطف ووقار، ويمزح مع أصحابه، ويبكي في وقت البكاء، إنه الكمال البشري المطلق الذي وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري في كتاب اللباس: باب الثياب البيض -شرفها وفضلها- قال سعد رضي الله عنه وأرضاه: [[رأيت بشمائل النبي صلى الله عليه وسلم رجلين عليهما ثياب بيض يوم أحد ما رأيتهما قبل ولا بعد]] فقد نزلت الملائكة يوم بدر وأحد، يقول حسان:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد |
أشرف بيت قالته العرب في تاريخ الإنسان هو هذا البيت، فقد قيل لأحد أهل الأدب -أظنه النضر بن شميل: - ما أشرف وأفخر بيت قالته العرب؟ قال: قول حسان:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد |
والصحيح عند أهل السير أن جبريل كان تحت قيادة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن القائد الأعلى لقوات الإسلام في بدر هو المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبعض أهل السير قالوا: لا. جبريل قائد الملائكة -ألف ملك- والرسول صلى الله عليه وسلم قائد الصحابة. لكن الصحيح أن القيادة تعود إليه صلى الله عليه وسلم.
فنزلت الملائكة في الثياب البيض لشرفها وفضلها، وهو مقدم إلا للحاجة.
في سنن ابن ماجة {أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن ذا الشهرتين} الشهرة الأولى هو: الذي يلبس الغالي المرتفع ويشهر نفسه حتى يلحق بالجبابرة، والشهرة الثانية: الذي يلبس الرخيص الممزق حتى يقال: هذا زاهد وناسك. ولذلك بعض الناس لا يزهد إلا في الثياب، يجمع من الدور والعقار والسيارات والفلل، ويلبس ثوباً بعشرين ريالاً، والدنيا كلها ساكنة في قلبه، في قلبه أسواق ومحلات ومراكز وملبوسات ومطعومات، ولكن عليه ثوب بعشرين درهماً، وبعض الناس من أزهد الناس يلبس من أحسن اللباس، لكن الدنيا خرجت من قلبه.
فاللباس ليس هو كل شيء، فإذا رأيت ثياب الإنسان ممزقة فلا تظن أنه قد بلغ إلى رتبة ثابت البناني، أو الإمام أحمد بن حنبل، أو سفيان الثوري حتى ينظر إلى عمله وأخلاقه وسلوكه.. فمذمومٌ أن يلبس الإنسان الشهرتين، لكن الحديث عند ابن ماجة وفي سنده نظر وفيه ضعف.
وقد سبق أن الشهرة الأولى هو الذي يلبس لباساً فاخراً دائماً، فتجده يلبس لباساً يوصله بالجبابرة، ويسبل الثياب، ويتبختر في المشية، فهذا من الجبابرة المشهرين بهم في الدنيا والآخرة، وبعض الناس يتقمص شخصية الموت، وكأنه متصوف هندي من الهندوس.. يلبس ثوباً ممزقاً إلى الركبة، ثم عليه من الأوساخ والأوزار ما الله به عليم، ولو أنه أحسن في نفسه لغسل ثوبه، وتطيب؛ لأن الدين دين الطيب والإبداع والروعة، وهو دين الإيمان والحب والطموح.
وأحسن حل للمسلم أن يكون وسطاً من عامة الناس فلا يلحق نفسه بالكبراء، ولا ينزل إلى درجة الذين يُستزرى بهم، لكن يتوسط في اللباس قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143] وفي حديث فيه ضعف: {خير الأمور أوسطها أو أواسطها} أورده ابن الأثير في جامع الأصول وضعفه.
فمن هدي المسلم أن يكون له مناسبات يتجمل فيها، وأحسن ما يتجمل المسلم في المناسبات يوم الجمعة وفي الأعياد {أتى
فمنع صلى الله عليه وسلم لبسها لأنها من الحرير، وأقر مبدأ التجمل، وقد كان عليه الصلاة والسلام في الأعياد يلبس الحلة الحبرة، من برود اليمن، وهي حمر مخططة، وسوف يأتي حكم اللباس الأحمر. وقد ذهب ابن عباس إلى الخوارج في العراق في النهروان، يجادلهم ويناظرهم، فرأوا عليه بردة بألف دينار، وابن عباس كان من أحسن الناس، كان يلبس بردة بألف دينار، والدينار عشرة دراهم -أي: تعادل عشرة آلاف درهم، وهو ترجمان القرآن وحبر الأمة، وهو الذي كان يبكي من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، فأتى إلى الخوارج فقالوا: أأنت ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام وتلبس هذا؟! قال: أنا أعلم أم أنتم بالرسول عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: أنت. قال: والله، لقد رأيته في حلة من أحسن الحلل.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها |
لبس صلى الله عليه وسلم الغالي الجميل للوفود، ولبس الطيب ليوم الجمعة، ولبس البرود الحمر للأعياد، ولبس التروس والدروع في القتال، ولبس الصوف المرحل؛ لأنه كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8] لم يتقيد بهيئة في اللباس أو الطعام حتى يضيق على الناس، لا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقوداً عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
كان الإمام مالك من أغنى الناس لباساً واعتناءً، وقد ذكر بعض الناس في تراجمه: أنه كانت له عشرات الأحذية. ذكر ذلك التونسي في ترجمة الإمام مالك، ونقلها عن ترتيب المدارك للقاضي عياض، ويقول أحد أهل العلم: دخلت في بيت مالك بن أنس في المدينة، فكأنه من بيت الملوك، الحجبة على بابه، قال: فلما جلست أخذ يلقي إلي الوسائد يمنة ويسرة من كثرتها، ولكن مع ذلك يقول عن نفسه: ما مرت به ليلة، إلا رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، إلا ليلة واحدة.
وكان مجلس الحديث في مسجده صلى الله عليه وسلم الذي يقوم به الإمام مالك مجلساً فارهاً، بهياً بديعاًمن حسنات الدنيا، أتدرون ماذا كان يفعل قبل أن يخرج؟ كان يتهيأ الطلبة للجلوس، فيجلسون وعليهم الثياب والعمائم البيض، ويطيب المكان، ثم يستقبلون القبلة ويجلسون، وبعد قليل يغتسل الإمام مالك، ثم يتوضأ، ثم يلبس ثيابه، ثم يتطيب، ثم يلبس القلنسوة وعليها العمامة، ثم يخرج بالبرد، فتخرج المجامر -وهي المباخر- أمامه حتى يصل إلى المسجد فيجلس على الكرسي، ويبدأ يتكلم، فما يتكلم أحد وكأن على رءوسهم الطير.
حتى نسب إلى ابن المبارك أنه قال: جلست عند الإمام مالك، فكان يقرأ الحديث. ووجهه يتغير حتى تغير وجهه ثلاث عشرة مرة، يحمر ويسود، فلما انتهى قلت: مالك؟ قال: لدغتني عقرب ثلاث عشرة مرة. قلت: ولماذا لا تنتهي؟ قال: أقطع كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم من أجل عقرب. قال: ثم قرأ بيده وتفل، فمسح رجله، فكأن ما بها شيء.
وما كان يتبسم إلا للحاجة، دخل عليه وفد من أهل اليمن، فقالوا: يا أبا عبد الله! عندنا قوم يأكلون فإذا أكلوا قاموا فرقصوا حتى يتعبوا من الرقص ومن السكار. وهؤلاء غلاة الصوفية.
وقالوا سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع |
فقال الإمام مالك: أمجانين هم؟ قالوا: لا. قال: أصبيان هم؟ قالوا: لا. قالوا: فتبسم ثم دخل غرفة عنده، قال أهل المدينة: حسبنا الله عليكم ونعم الوكيل، ما تبسم إمامنا من ثلاثين سنة، وأحرجتموه اليوم حتى يتبسم. لكن نقول: هذا فعل الإمام مالك، وقوله يعرض على صاحب تلك الشريعة الحية عليه الصلاة والسلام، فإن وافق قلنا على العين والرأس، وإن خالف ضربنا به عرض الحائط وقلنا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
فهذه الأخلاق إذا نقلت لكم عن عالم أو كبير أو زاهد أو وجيه أو إمام تعرض على حياته صلى الله عليه وسلم؛ فإن رماها فلا تصلح، وإن قبلها وأدخلها ومشت فهي صالحة بحمد الله.
الأول: إذا كان من الطب والاستشفاء، وأشار الأطباء أن لباس الحرير يوافق هذا المريض فله ذلك، ففي الصحيحين من حديث أنس {رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
الموطن الثاني: إذا اصطف الأعداء، ورأى أن عندهم قوة وبهرجان وزينة؛ فله أن يلبس هذا ليرهب الأعداء، ولذلك نقل أن معاوية كتب لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنهم: إن أهل الروم قد فتنوا المسلمين بلبس الحرير، ولبس الديباج.
فقال: ألبس المسلمين من هذا الحرير، والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن مشية الخيلاء، وقال لـأبي دجانة وهو يختال يوم أحد أمام الأعداء: {إن هذه مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموقف}.
وأبو دجانة أحد الأنصار الكبار العظماء، أتى الرسول صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد فصف الصحابة، والكفار هناك، كل إنسان ينظر بعين زرقاء يريد أن يشرب دم خصمه من المسلمين ومن الكفار، فسل صلى الله عليه وسلم سيفه وقال: من يأخذ هذا السيف؟ فظنوه جائزة أو وساماً وتشريفاً، وقالوا: كلنا نأخذه يا رسول الله! فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ -وكلمة (بحقه) يوضع تحتها ألف خط- فنزلت الأيدي إلا يد أبي دجانة، قال: ما حقه يا رسول الله؟ قال: حقه أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني. قال: أنا آخذه وأستعين بالله، فلما أخذه أخرج عصابة حمراء كان يخرجها في القتال وعصب بها رأسه، قال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت -معناه ذبح- فأخذ السيف، قال أنس: فذهبت وراءه، فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيته يكسر بها جماجم الكفار. ومع صلاة العصر عاد به وهو منحني وقال: خذ يا رسول الله! فدعا له صلى الله عليه وسلم. بالخير واليمن والبركة.
فهذا هو الذي اختال في هذا الموطن، وليس الاختيال للذين يختالون عند الرقص واللهو واللغو.. الاختيال والقوة والشجاعة تكون عند ضرب الجماجم، وعند مقارعة السيوف وحطم الرماح.
يقول الأنصاري وهو يمدح قومه:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا صدود الخدود أزوار المناكب |
صدود الخدود والقنا متشـاجر ولا تبرح الأقدام عند التضارب |
ويقول الأعشى قيس بن ميمون؛ أعشى القلب والبصر، أراد أن يسلم فأرشي إليه بمائة ناقة فعادت به، فلما وصل إلى داره كسرته إحداها فمات.
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار |
لكنه من الشعراء الكبار، يقول:
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا ليعلموا أننا بكراً فينصرفوا |
قالوا البقية والهندي يحصدهم ولا بقية إلا السيف فانكشفوا |
يقول: كنا ملثمين وأعداؤنا ما علموا أنا بنو بكر بن وائل، فلما حضرنا كشفنا الجماجم فلما علموا انهزموا. وهذه مبالغة كاذبة آثمة خاطئة.
وهو موضع حديثنا اليوم، يقول عليه الصلاة والسلام: {لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء} وهنا مسألة، يقول بعض الناس: أنا لا أجر ثوبي خيلاء، إنما أسبلت هكذا، ويعلم الله عز وجل أني لا أجر ثوبي خيلاء. قلنا: وما دليلك أيها المتقي الورع الزاهد العابد المجاهد؟ قال: دليلي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لـأبي بكر لما شكا إليه وقال: {يا رسول الله! إن إزاري يرتخي لولا أن أتعاهده. قال: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء} فيقول: ما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام أباح لـأبي بكر أن يجر إزاره، وقال: إنه ليس ممن يفعل ذلك خيلاء، فأنا أفعل ذلك. قلنا له: أنت توقف أمام ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الذي زكى أبا بكر هو المصطفى صلى الله عليه وسلم، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:3-10] وأما أنت فتحتاج إلى من يزكيك ويشهد لك، ولن تجد مثل الرسول عليه الصلاة والسلام مزكياً.
المسألة الثانية: يا أيها الرجل العملاق العبقري، إن المزكى هو أبو بكر الصديق
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول |
من يأتي مثل أبي بكر؟ أأنت في زهدك وعبادتك مثل أبي بكر؟!
لا تعرضن بذكرهم في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمعقد |
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
المسألة الثالثة: نقول: لو فتح هذا الباب لأسبل الناس ثيابهم جميعاً، وقالوا: لا نفعل هذا خيلاء والإنسان يعصي الله عز وجل ويجاهر في ذلك، يسرق السارق من السوق ويقول: أستغفر الله العظيم، اللهم ثبتنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا.. يضرب العود ويغني ويقول: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا، اللهم رد هذه الأمة إليك رداً جميلاً.. يغني ويقولون له: ما هي أمنيتك في الحياة؟ قال: أن ينصر الله المسلمين في فلسطين.. أنت بعودك هزمت المسلمين، أنت الذي أخر المسلمين عشرين سنة، بمثلك دخل شامير ورابين وموشي ديان بلاد المسلمين، وقصف بلاد المسلمين، وأنت على العود مسخت الأجيال وشباب المسلمين.
إسرائيل تدرب الكتائب والجيوش المجيشة، وما عرفت الغناء وحبيبي وحبيبتي، وأنت مسخت الأجيال وتغني لهم وهم يصفقون ويتراقصون، وأما إسرائيل فإنها ما رقصت ولا صفقت، عرفت من أين تأتي، فلذلك لا يصلح هذا الورع البارد المظلم.
الإنسان يرى إلى محرمات الناس في السوق، ويقول: اللهم قنعنا بما أتيتنا، وثبتنا واهدنا سبل السلام.. يقرأ المجلة الخليعة، فيقال له: لماذا لا تهتدي؟ فيقول: أسأل الله أن يهديني، وهل كفرت؟! لا. ما كفرت، لكنك تقترب من الكفر.. وإن الذي يقترب من الزيغ والفسق والمعاصي يقترب من الكفر، وفي الإسلام خطوط أربعة وهي الدفاعات:
الخط الأول: دفاع الإسلام وهو الفرائض.
والثاني: السنن.
والثالث: الآداب.
والرابع: المروءات.
فإذا ضرب خط المروءات دخل في الآداب، فإذا انتهت الآداب ضربت السنن والنوافل، فإذا ضربت السنن دخل الجيش على الفرائض، فإذا ضربت الفرائض دخل الإنسان في الكفر، نعوذ بالله فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5] يقول المتنبي:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل |
والجواب: أما اللباس الأحمر الخالص فلا يجوز لبسه، وهو من لباس النساء، وأما الثياب المخططة التي فيها خطوط حمر وبيض، أو خضر أو سود فلا بأس، وهذا هو الأحمر المخطط المعلَّم كما قال ابن القيم، أما الأحمر الأصم الخالص، فهذا للنساء ولا يجوز لبسه للرجال؛ لأنه من لباس النساء، وفيه من الميوعة والأنوثة، والانهزامية والفشل ما الله به عليم، ولباس الرجال لا بد أن يجمع القوة والإبداع والجمال؛ لأن هذا دين القوة، والإبداع، والجمال. ويلحق بالجواز الغتر لأنها مخططة، ولو كانت حمراء خالصة لقلنا: هذا في الثياب، أما الغتر فيجوز.
لبس الأسود فيه تشاؤم، لكن ورد أنه صلى الله عليه وسلم لبس أسوداً، وقف أبو مسلم الخراساني الذي قتل ألف ألف من المسلمين، وهو مقيم الدولة العباسية، ولذلك قيل: ثلاثة نقلوا دولاً إلى دول، الاسكندر المقدوني نقل دولة إلى دولة، وبختنصر البابلي، وأبو مسلم الخراساني نقل دولة بني أمية إلى دولة بني العباس، وهو الذي أتى بأعلامها.
قام يوم الجمعة يخطب الناس وعليه ثياب سود؛ لأن شعار لباس بني العباس الثياب السود، يسمى شعار الصولة والدولة والهيبة.. لبسوه، لكن الإمام أحمد لم يلبسه؛ لأن الأسود مذموم دائماً، فقام أبو مسلم الخراساني فتكلم، فقام رجل من وسط الناس وقال: يا أبا مسلم! كيف تلبس الثياب السود، وقد نهى عنها صلى الله عليه وسلم؟ قال: حدثني فلان -الرجل صاحب حديث، وهو صادق في الحديث، كذاب دائماً إلا في هذا الحديث- عن فلان، عن فلان، عن أبي الزبير، عن جابر {أن الرسول عليه الصلاة والسلام دخل الحرم وعليه عمامة سوداء} والحديث في صحيح مسلم، قال أبو مسلم:يا غلام! اضرب رأس الرجل. فتقدم أحد غلمانه فضرب رأسه، فإذا رأسه في واد وجثمانه في واد، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [البقرة:134].
لكن الله يبتلي الظالم بأظلم منه، فرصد له أبا جعفر المنصور حتى استخرجه كما تستخرج الحية من جحرها، وكان أبو مسلم جبار من الجبابرة، معه ألوف مؤلفة من أهل خراسان العجم يمشون في موكبه، لو قال لهم: اقتلوا من شئتم لقتلوه، وكان أبو جعفر من أدهى دهاة الدنيا، فأخذ يستدرجه ويتملح له، وكان أبو مسلم من قواده لكنه خرج عن الطاعة، ومن أعظم مصائبه أنه كتب له ائتني الزكاة التي قبضتها. فقال: لا زكاة لك عندي.
ذهب معه في الحج؛ فسبقه وأخذ يقود الحجاج وترك الخليفة، ولو قال له: اذهب إلى الشمال لذهب إلى الجنوب.. عصى وتمرد.. فأتى أبو جعفر بحنكته فلبس -وهذا في باب اللباس- فروة ممزقة وقال: والله الذي لا إله إلا هو، لا أنزعها من على جنبي حتى أقتل أبا مسلم. فدخل أحد وزرائه عليه، فقال: كيف تلبس هذا وأنت خليفة؟ قال:
قد يدرك الشرف الفتى وقميصه خلق وجيب قميصه مرقوع |
وفي الأخير كتب إلى أبي مسلم رسالة رقيقة كأنها تسيل بالدموع وعليها الورد والياسمين، وقال: أقدم إلينا، فقد قصرنا في ضيافتك، وفي جوائزك؛ فأنت الذي فتحت الفتوح -وهو صادق- فأُرسِلَتْ الرسالة، فاستشار أبو مسلم وزراءه، فقالوا: لا تقدم فيذبحك. فأرسل له رسالة ثانية: يا أبا مسلم! لا يغرنك حلمي، فوالله، لو وقعت في النار، لوقعت وراءك في النار، والله لو سقطت في البحر لسقطت وراءك في البحر.. يهدده مرة ويدغدغه أخرى.
وفي الرسالة الثالثة أرسل إليه أعمامه، وقال: تحببوا إلى الرجل وعانقوه. وبنو العباس من أحفاد ابن عباس ترجمان القرآن.. وهم أهل الخلافة. فذهب أعمامه إلى أبي مسلم، ودهدهوه، وعانقوه، ومشوا حفاة أمامه، وهو علج لا يساوي ريالين، فتكبر عليهم.
في الأخير أرسل له رسالة رابعة وقال: أقدم علي ولك الأمان. فأعطاه الأمان، فظن أنه لا يغدر، لكنه غدر به -نسألة الله العافية- فلما أتى بالأمان مع ذلك أخذ عشرين ألفاً من الحرس، عشرة آلاف على ميمنته، وعشرة آلاف على مسيرته، ودخل بغداد، وكان أبو جعفر المنصور ذكياً فقال لأعمامه: إذا دخل بغداد فاستقبلوه في الطريق وامشوا حفاة، فاستقبلوه ومشوا حفاة، وقال لهم أبو جعفر: لا توهموه بشيء أبداً، فدخل بحرسه حتى طوَّقوا قصر الخليفة، وسلم عليه الخليفة، وحياه وعانقه عناقاً حاراً أخوياً ما سمع في التاريخ مثله، ثم أجلسه فتركه في الضيافة ثلاثة أيام.
ثم قال له: يا أبا مسلم! أما تريد أن تسبح معنا في دار الخلافة؟ -في دار السلام في بغداد - قال: نعم. فأمر جيش الخلافة أن يوزعوا هذا الحرس في كل مكان، فأدخلوهم في الثكنات وأغلقوا عليهم، وقال: علي به في الصباح. فأدرك أبو مسلم الموت، وقال أبو جعفر لأربعة من حراسه: أنتم وراء الستار، فإذا صفقت فاخرجوا فاقتلوه، فلما أدرك الموت قال لعم أبي جعفر عبد الله بن علي: ادخل معي هذا اليوم استنقذني من هذا فإنه سوف يقتلني، قال: أنا أتوضأ واسبقني عنده وسوف آتيك، وكان كلما دخل في باب أغلق عليه، سبعة أبواب، حتى لا يأتي أحد بعده، والحرس عنده، حتى دخل عند الخليفة وحده، وعنده خنجر في وسطه، وهو خائف ويريد أن يقتل الخليفة، وأبو جعفر ليس عنده شيء سوى سيف تحت فراشه.
فقال أبو جعفر: أرني هذه الحربة، من أين أخذتها؟ فتوهم بعد أن مازحه، فأعطاه الحربة، فسلها وجعلها تحت الفراش، ثم قال: مالك سبقتني في طريق الحج؟ قال: فعلت كذا وكذا. قال: مالك تخطب أختي وهي من بني العباس وأنت علج فاجر؟ قال: فعلت كذا وكذا. قال: مالك منعتني الزكاة؟ ثم قال: الله أكبر، حق عليك يا مجرم، ثم ضرب بين يديه فخرج الحرس فقتلوه، ثم وضع في كسائه ووضع عند أرجل الناس، فدخل عبد الله بن علي ذاك الواسطة القوي الشفيع، وقال: أين أبو مسلم؟ قال: هذا هو في هذا الكساء صل عليه، ثم رمي على رءوس الناس، فكأنها ما تناطحت في قتله عنزتان.
الشاهد: أن الأسود لبسه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء من حديث أبي الزبير عن جابر في صحيح مسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- دخل وعلى رأسه عمامة، ذاك القائد الرباني الرحيم الرءوف، الذي سيرة كل من سار على غير منهجه تلقى ويضرب بها عرض الحائط، فليست بسيرة، وليست بأخلاق ولا أدب.
هناك من يلبس المقاصد وهو مأجور، وإنما الأعمال بالنيات، والله سبحانه وتعالى أعلم بنيتك، فإن كنت تلبس اللباس الجميل لتظهر جمال الإسلام، وجمال العلم والدعوة، فأنت مأجور مشكور.. وإن كنت تلبس الداني الرخيص المتبذل تواضعاً لله واحتساباً عند الله، فأنت مأجور مشكور.
الكل يعرف علي بن أبي طالب، ولا ينكره أحد، والمعارف لا تعرَّف
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر |
قلن تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر |
دخل وتولى الخلافة أربع سنوات وقيل خمس، والخمس أولى، نزل الكوفة وعليه ثوب بأربعة دراهم، قطعه من أنصاف ساقيه، وركب الحمار وجعل أرجله الاثنتين على جنب الحمار، ثم دخل فلما رآه الناس قاموا، فقال: [[أنا
وعمر بن الخطاب لبس برداً مرقعاً فيه أربع عشرة رقعة، وكان يصلي به في الناس رضي الله عنه وأرضاه، ولا بأس أن نعيد قصة طالما أعدناها، لكن علها أن تقف في القلوب شواهد، وفي الأذهان دلائل، وفي البصائر معالم.
أتى رسول كسرى من بلاد فارس ليفاوض عمر بن الخطاب، فلما دخل المدينة سأل عن عمر، فلم يجده في بيته، فذهب إلى المسجد فلم يجده، قال: أين بيت الخليفة؟ قالوا: هذا البيت. قال: ليس بصحيح، أين حرسه؟ قالوا: لا حرس له، قال: أين دنياه؟ قالوا: لا دنيا له. قال: أين أجده؟ قالوا: أبحث عنه. فذهب الصحابة يبحثون عنه، فمروا بشجرة في ضاحية من ضواحي المدينة، وإذا بـعمر نائم تحت الشجرة ضحى، درته التي يخرج بها وسواس الشيطان من الرءوس عند رأسه -أي إنسان عنده وسوسة في رأسه، فإنه يزيلها إما بدرته، وإن لم ينفع فيستخدم سيفاً أملح- فلما رآه قال: هذا الخليفة؟ قالوا: هذا الخليفة. وإذا ثيابه ممزقه، عليه برد ممزق مرقع، فأخذ يرتجف الوزير الفارسي، وذهل. وقال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت.
فقام عمر فذهل الرجل أكثر وأكثر، وأخذ يفاوضه، فكاد يجن الرجل من عقل عمر، ومن تفوقه وذكائه. قال حافظ إبراهيم:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عقلاً وهو راعيها |
رآه مستغرقاً في نومه فرأى فيه الجلالة في أسـمى معـانيهــا |
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها |
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها |
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها |
ذكر الغزالي أن عيسى بن مريم عليه السلام أخذ حجراً ينام عليه -وسادة- فقد كان من أزهد الناس عيسى عليه السلام، يلبس الصوف، وينام ومخدته الحجارة، وفراشه التراب ولحافه السماء فقال له الشيطان: يا عيسى بن مريم! أما تركت الدنيا وطلقتها؟ قال: نعم. قال: فما بالك تتوسد منها؟ قال: فرمى بالحجر وتوسد ذراعه. والعهدة على حجة الإسلام محمد بن محمد أبي حامد الغزالي.
وجاء في حديث ذكره ابن حجر المكي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام سئل عن ورقة بن نوفل فقال: {رأيت عليه ثياباً بيضاء ولو كان من أهل السوء لما رأيت عليه ثياباً بيضاء} فاستدل بهذا على أن الثياب البيض علامة الخير.
ولا نقول: إن من رؤي عليه ثياب سود أنها علامة السوء، لا. نتوقف عند هذا، ولا يتسرع في تعبير الرؤيا والأحلام، يأتي واحد فيقول: رأيت عمي جالساً -قد مات- وهو يأكل ويشرب، ثم بكى بعد أن أكل وشرب، فما تأويل الرؤيا هذه؟ فيأتي أحد الناس ويقول: عمك -إن شاء الله- من العشرة المبشرين بالجنة، وأما علامة الأكل فهو كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24] وأما البكاء فهو البكاء من خشية الله.
كان شيوخ القمر يجتمعون في البصرة وفي الكوفة بعد صلاة العشاء، لا يقرءون ولا يبحثون ولا يتساءلون، بل ينظرون إلى القمر ويخططون، ويقولون: يموت فلان يوم كذا، ويموت فلان يوم كذا، ويحيا فلان يوم كذا.
فهؤلاء شيوخ القمر الذين يعبرون الرؤيا مثلما اتفقت.
ويُتساءل: هل يجوز للإنسان أن يجر قميصه ما دام أن عمر يجر قميصه في المنام؟ قلنا: لا. هذه أحكام منام، وهذه أحكام يقظة.
وهذا مثل تصحيح الحديث عند بعض الناس في المنام، وهذا موجود أورده ابن مندة، فقد جاء بأحاديث وقال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عن هذه الأحاديث، فقال: هي صحيحة. وبعضهم يقول: هذا من زيادة الكذب، حتى يقول الذهبي أورد كذبة لبعضهم وقال: هكذا فليكن الكذب. الذي يكذب مثل هذه وإلا فلا، فإن بعضهم يقول: سافرت ووصلت المدينة، وصليت ركعتين ووصلت إلى القبر، فقلت: يا رسول الله! حدثني فلان عن فلان عن فلان عن فلان من الصحابة عنك أنك قلت كذا. فقال: هذا صحيح. وبعض الكذب متعوب عليه، أي: يستاهل، كذب على مزاجك، وبعض الكذب يدخل فيه شيء، لكن الكذب على المزاج يستحق أن تعرف العقول أنه كذب.
وأكثر ما يصاب الكذابين بمعرفة التاريخ؛ فإن ابن مسعود رضي الله عنه مات قبل صفين، فأتى أحد الكذابين وقال: حدثنا فلان، قال: كنا في معركة صفين فخرج علينا ابن مسعود وعليه حزام من ليف، يظن هذا الكذاب أن ابن مسعود بقي حياً إلى بعد صفين، فسمع الحديث الإمام أحمد؛ فتبسم وقال: أتظن أن ابن مسعود بعثه الله من القبر حتى حضر صفين؟! بعض الناس ينسى الوقائع والتاريخ.
فالمقصود من رؤي في المنام وعليه قميص يجره فهذا علامة الخير إن شاء الله، والرؤيا أكثر ما يكذب فيها بعض الناس، وفي الحديث الصحيح: {من تكلف غير ما ترى عيناه، كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بقادر} فيقوم أحدهم عند الإفطار فيرى أهله ويريد أن يتحبب إلى زوجته، فيقول: رأيتك في الجنة البارحة وأنت في قصر أبيض كالربابة. فتقول ابنته: وأنا. فيقول: رأيتك على يمين الجنة عندك سبعة قصور. ويقول ولده: أين أنا؟ فيقول: تشرب من الرحيق المختوم. فهذا من الكذب.
وبعضهم يموت ابن لقريبه فيريد أن يواسيه في المصيبة، فيقول: أبشر، ابنك -إن شاء الله- سعيد، رأيته البارحة في الجنة، ويقول: أين أبي وأين أمي؟ قال أهل العلم: أكثر ما يكذب في المنام، هو الأكثر كذباً في اليقظة وفي حديث صحيح ما معناه: {أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً} وأصدق الناس لهجة محمد عليه الصلاة والسلام، ما كذب كذبة واحدة في التاريخ، لا في الليل، ولا في النهار، ولا في الصيف، ولا في الشتاء، ولا في السماء، ولا في الأرض، ولا يقظة، ولا مناماً، ولا في أي مكان، ما كذب كذبة أبداً، فكان أصدق الناس رؤيا، يرى الرؤيا فتأتي مثل فلق الصبح.
يقول قبل معركة أحد: {رأيت كأن ذباب سيفي كسر، وكأن أبقاراً تنحر، وكأنني أدخلت يدي في درع حصينة. قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: أما إدخال اليد في الدرع فهذه المدينة المنورة، وأما كسر ذباب السيف فهذا رجل من أقاربي يقتل غداً، وأما الأبقار التي تنحر فهؤلاء الشهداء من المؤمنين، وعند الله خير} وفي الصباح بدأت المعركة، وآوى المؤمنون إلى المدينة، وقتل حمزة، وقتل سبعون من الصحابة، فهذه رؤيا من الرؤى التي رآها صلى الله عليه وسلم.
حدث هذا عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، أتت امرأة فنذرت لله عز وجل أن تلبس الرسول عليه الصلاة والسلام حلة، فذهبت فنسجت حلة، وتعبت عليها والحلة من أحسن اللباس- لتكون هدية طيبة إلى المصطفى الطيب صلى الله عليه وسلم، فلما نسجت الحلة ذهبت بها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال الصحابة: فلبسها محتاجاً إليها.
كانوا في قلة من اللباس والطعام والشراب، لبسها محتاجاً إليها، فلبس الحلة عليه الصلاة والسلام وخرج إلى الناس، فلما خرج قام رجل في الطريق، وقال: يا رسول الله! ألبسني هذه الحلة. قال: انتظر قليلاً، فذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيته وغير ملابسه الأولى الممزقة، وأعطاه الحلة، فأمسك الأنصار بالرجل وقالوا له: فعل الله بك وفعل، صنع الله بك وصنع، لبسها صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليه، وأنت تسأله وتعرف أنه لا يقول (لا). فإن كلمة (لا) ليست في قاموسه عليه الصلاة والسلام إلا في لا إله إلا الله
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم |
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم |
كلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان ولا يعروهما عدم |
ذكر البزار عن شيخ الإسلام ابن تيمية في الأعلام العلية، قال: كنت أرافقه فربما عرض له الفقير المسكين، فيبحث ابن تيمية فلا يجد دراهم في جيوبه، ويبحث عن الخبز فلا يجد خبزاً، فيختفي ويخلع أحد ثوبيه ويعطيه الفقير. قال: فعرض له فقير مرة فسأله سؤالاً، فما وجد ابن تيمية إلا ثوباً عليه، ولم يجد دراهم ولا خبزاً ولا شيئاً، فأخذ عمامته فقسمها نصفين وأعطى الفقير نصفها. ما هذه الأخلاق؟! إنها أخلاق الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر.
وورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: {من كسا مسلماً على عري كساه الله من حلي الجنة} والحديث يقبل التحسين، وفي حديث ابن عباس الصحيح: {يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا بن آدم! جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي؟ يا بن آدم! مرضت فلم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته وجدت ذلك عندي؟ يا بن آدم! استكسيتك فلم تكسني، قال: كيف أكسوك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان استكساك فما كسيته؟ أما علمت أنك لو كسيته وجدت ذلك عندي؟}.
من السنة إذا لبست ثوباً أن تقول: {اللهم إني أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر من صنع له، الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في الناس}.
اللباس من الله، والطعام من الله، والماء من الله وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53].
إذاً: لا بد أن يعرف هذا الذكر ليقال؛ لأن أهل السنة دائماً يعتنون بالأذكار {من قال هذا الدعاء ثم عمد إلى البالي من ثيابه فتصدق بها، ستره الله في هذا الثوب حياً وميتاً} فمن السنة إذا لبست جديداً فاعمد إلى بالي ثيابك فتصدق بها على الناس، ولا تقل: ليس في المجتمع من يحتاج، بل في المجتمع من يحتاج إلى مزق الثياب وكسر الخبز، وهل أنت طفت العالم، ورأيت المجتمع، واستقصيت الأحوال؟ إن الذي يجلس على الموائد الشهية، ويركب المراكب الوطية، ويسكن في الفلل البهية، يظن أن الناس بهذه العيشة المرضية، لا. والإنسان إذا بحث عن الفقراء فإنه سوف يجد الفقراء والمساكين.
وهذا الحديث في عمل اليوم والليلة، وهو بشواهده يقبل التحسين، والرسول عليه الصلاة والسلام رأى عمر بن الخطاب وعليه ثياب بيض فقال: {البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً} فلبس عمر جديداً، وعاش حميداً، ومات شهيداً، رضي الله عنه وأرضاه.
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسياً |
فمن استتر بستر الله من الطاعات والعبادات والأخلاق الجميلة، ستره الله في الدنيا والآخرة، ولو كان في قلة من الثياب، ومن تكشف أمره بالمعاصي والذنوب والخطايا لا يستره الله ولو لبس ما في الدنيا من ثياب ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26] فأحسن لباس -يا عباد الله- لباس التقوى، وإني أدعو نفسي وإياكم إلى التلبس بهذا اللباس.. بالأخلاق الجميلة.. بالتواضع.. بالصدق مع الله والإخلاص، لعل الله أن يلبسنا وإياكم التقوى في الدنيا والآخرة، فإن من ألبسه الله التقوى نجح في الدنيا والآخرة، ولا يخاف ظلماً ولا هضماً.
قال البخاري: وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة. قال
أما الذي يذهب إلى الخياط، فيقول: أسبله في الأرض، فهو الذي تعمد، وهو الذي أتى بهذا الخطأ وهذا الذنب، ولا يقل فيما بعد: الخياط هو الذي فعل كذا، وكثير من الناس إذا قيل له: ارفع إزارك، قال: حسبنا الله على الخياط. سبحان الله! هذا الخياط كيف تعرض للمسلمين دائماً في تطويل ثيابهم، وإذا قيل له: ربِّ لحيتك، قال: حسبنا الله على الحلاق. أصبح الخياط، والحلاق، والفران، والخباز، والغسال، المسئولين عن عقائد الناس، وعن عباداتهم وآدابهم، ومتى كانوا كذلك؟ إنما هم يفعلون ما يؤمرون، لا يعصون أبداً، فأنت إذا اتقيت الله عز وجل لا يصيبك لوم.
وعلى المسلم ألا يستنكف عن السنة، حتى إن بعضهم يقول: العصر لا يناسب أن نجعل ثيابنا فوق الكعب. نحن لا نقول: يرفعها كثيراً، لكن فوق الكعب، وسوف يجملك الله عز وجل ولو فوق الكعب، أما أن تسحبها سحباً فإنك لست مسئولاً عن كنس الشوارع ولا الأحياء، فقد تولاها غيرك، فأنت -بارك الله فيك- لباس التقوى هذا هو لباس عباد الله الصالحين، ولباس المصطفى عليه الصلاة والسلام.
عمر رضي الله عنه طعن وهو في سكرات الموت، وأتى شابٌ يجر إزاره، فقال له: [[يا بن أخي، ارفع إزارك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]] وفي بعض السير [[أتقى وأنقى وأبقى]] فهو أبقى للثوب، وأتقى لله، وأنقى للثوب من النجاسات، وهل تدلك الشريعة إلا على ما فيه خير لك في الدنيا والآخرة، وكلما علم الله أنك تريد التقيد بشرعه كلما زادك من الخير والفضل والحسن في الدنيا والآخرة، وهذه الشريعة لا يستنكف ولا يتكبر عليها.
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: {خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى المسجد، وثاب الناس فصلى ركعتين، فجلي عنها -أي: عن الشمس- ثم أقبل علينا وقال: إن الشمس والقمر آيتين من آيات الله، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى يكشفها} أي: يكشفها الله عز وجل.
وهذا الحديث له قصة: مات ابن الرسول عليه الصلاة والسلام إبراهيم، وعمره ما يقارب السنتين، فلما مات كان من قضاء الله وقدره أن يكسف بالشمس في ذلك اليوم، لا لموت ابنه، فلما كسفت الشمس في ذلك اليوم قام عليه الصلاة والسلام من مجلسه، يجر إزاره، وفي بعض الألفاظ سقطت عمامته في الأرض خائفاً أن الساعة قامت؛ لأنه أول مرة في حياته تكسف، وما كان يعرف صلى الله عليه وسلم أن هذا سوف يقع، فقام إلى المسجد وقام الناس وراءه، وتباكى النساء والأطفال، وثوب بالصلاة ودخل يصلي، والبكاء يقطع صوته صلى الله عليه وسلم، فقرأ سورة البقرة، وفي أثناء الصلاة تأخر قليلاً وتقدم قليلاً، فلما سلم قام فألقى خطبة عظيمة، لأنه سمع الناس يقولون: كسفت الشمس لموت إبراهيم فقال: {إن الشمس والقمر لا تكسفان لموت أحد ولا لحياته، إنما هما آية من آيات الله يخوف الله بهما عباده... قالوا: يا رسول الله! نراك تقدمت؟! قال عليه الصلاة والسلام: عرض علي عنقود من عناقيد الجنة، ولو أخذته لأكلته ما بقيت الدنيا، ثم رفع العنقود. قالوا: ورأيناك تأخرت؟! قال: رأيت
فهو صلى الله عليه وسلم لم يجر إزاره متعمداً، وإنما للخوف وللخشية نسي من نفسه صلى الله عليه وسلم، فارتخى الإزار فقام يزحف إلى المسجد ليصلي بالناس.
إذاً: فالرسول لم يجر الإزار متعمداً، وليس فيه دليل لمن جر ثوبه أو إزاره، بل هذا حدث على خلاف المراد والمقصود.
الجواب: اللباس -أولاً- من المصالح المرسلة، التي على الإنسان ألا يتكيف بكيفية محددة، فلم يكيفه الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يقول: يا أيها الناس! لا بد أن تلبسوا العمائم أو البنطلون، لا. إنما المقصود ألا يكون فيه محرماً أو ضيقاً أو شفافاً أو ما يكشف العورة، هذا هو المحذور، أما غير ذلك فلكل بلد، ولكل شعب، ولكل أمة لباس يتعارفون عليه، فنحن هنا في بلادنا لا نقول: هو لباس السنة وأما غيرنا فلا. فإن أهل العمائم مثل السودان وغيرهم، يقولون: نحن أقرب، وهم في العمائم أقرب، وغيرهم من أهل مصر ربما يدعون أموراً ويقولون: لباسنا أخف وأقرب متناولاً ومداولة في الأعمال، فنقول: لا. اللباس إذا كان حلالاً فما تعارف عليه الناس، ولم يخرج إلى حد الحرام فهو المطلوب، ولكلٍّ مروءة وعرف.
والعرف يدار عليه بعض أحكام الشريعة، فمن العرف أن تلبس لباس بلدك الذي تعيش فيه وهو من المروءة، فإن عندنا إذا نزل أحدنا إلى السوق وليس على رأسه شيء، فهو من خوارم المروءة، مع أنه جائز، لكنه خفة وطيش، وقلة مروءة، أو يأتي أحد في فنيلة وسروال ويدور في السوق، فنقول: مالك؟ قال: من تواضع لله رفعه ومن تكبر على الله وضعه. قلنا: ما شاء الله يا هذا الورع المظلم البارد، بل هذا من قلة العقل وقلة المروءة. فلا يلام أحدٌ بأحد، ومن يلبس عندنا لباس المغاربة ويقول: هو ليس محرماً. وهو أحد رجلين: أما واهم ويظن أن هذا هو السنة، أو رجل في عقله شيء.
إذاً إذا خلا اللباس من المحرم أو التشبه بالكفار قلنا بجوازه، أما إذا أتى أحد يتشبه بالكفار والخواجات، وبشيء ما أتى به الدين، قلنا كما في الحديث الصحيح: {من تشبه بقوم فهو منهم}.
إذاً فليس هناك لباس محدود، وأنت البس ما شئت، لكنك تراعي العرف العام للمجتمع وللبلد الذي تعيش فيه، البس في كل زمان ومكان وظرف ما يناسب زمانه وظرفه ومكانه.
الجواب: السائل صدق، أبو بكر من أقل الصحابة حديثاً، ألكثرة نومه؟ ألجلوسه في البيت؟ ألمطاردة التجارة والزراعة؟ لا. أبو بكر أقل الناس حديثاً؛ لأنه أقام الدولة الإسلامية بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولأنه اشتغل بضرب جماجم الكفار، ولأنه أسس منابر العدل، ووزع الجيوش، وأقام الأعلام، ورفع الرايات، واشتغل بأمور الأمة، فكفل اليتيم، وقام على الأرملة، وأشبع الجائع، وحكم، ونصر المظلوم، وأقام العدالة، فما تفرغ ليجلس للناس ويقول: حدثنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فـأبو هريرة أكثر منه حديثاً، وأبو بكر أعظم منه وأفضل منه في الإسلام وأجل، فليست المسألة مسألة حديث، لكن مسألة البلاء الحسن، والجهد والطاقة التي صرفها في سبيل الله.
الجواب: ألف ابن ناصر أحد علماء القرن السادس رسالة في صلاة التسابيح، ومن أهل العلم من صحح الحديث، ومنهم من حسنه، ومنهم من ضعفه، ومنهم من وضعه، والصحيح أن الحديث ضعيف ولا يعمل بهذه الصلاة، ولو أن بعض العلماء حسنوه وقبلوه، وهم مأجورون؛ لأنهم اعتقدوا حسن الحديث، والصحيح أن صلاة التسابيح لا تصح فلا تصلى، وفيما صح كفاية، وياليتنا نقوم بالضحى، والوتر، ومن استطاع قيام الليل؛ حتى نخرج إلى الأحاديث الموضوعة.
الجواب: ورد في السنن أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا خرج إلى المسجد: {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فاغفر لي ذنبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} هذا الحديث ضعيف، في سنده عطية بن سعيد العوفي، وهو ضعيف عند أهل العلم، فضعف به السند، والحديث في معناه يمكن أن يكون، لكن في الطريق عطية وابن تيمية ضعفه ثم شرحه، قال: إن كان بحق السائلين، فحق أوجبه الله على نفسه، لم يوجبه أحد من الناس، فإن للسائل حق أن يعافيه الله عز وجل، وللمذنب إذا استغفر أن يغفر الله له، وللتائب حق إذا تاب أن يتوب الله عليه، فهو حق أوجبه الله على نفسه ولم يوجبه أحد من الناس.
الجواب: هذا الحديث لا يصح، وهو من الآثار التي لا ترفع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والعجيب أن الناس يحفظون الأحاديث الموضوعة، وأما الأحاديث الصحيحة فبحفظ الله ورعايته لم يحفظوا إلا القليل، أحد الناس يقول: كما يقول صلى الله عليه وسلم، لما قيل له: ما أخرك يا رسول الله؟ قال: أصنع لكل حق طبق. حتى الكلام ليس من كلام العرب ولا العجم ولا الفرنسيين، (طبق وحق) فهذا ليس من لفظه صلى الله عليه وسلم.
وقد سمعت أحد الإخوان من المشايخ يقول: سمع في جلسة أن أحد القصاص يقص في مجلس، فقال: ذهب رجل منا -من عسير- إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هل من ام بر ام صيام في ام سفر؟ قال: {ليس من ام بر ام صيام في ام سفر يا صبي عسير}.
فاللفظة هذه ما أحسنها! ما دخلت الكتب ولا العقول، فمثل الأحاديث الموضوعة هذه تتجنب، وحديث: {ما أخذ بالحياء فهو حرام} لا يصح وليس مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم.
الجواب: هذا ما يفعله أحد، هذا فنيلة وليس بثوب، فإن بعض الفنايل تصل إلى الركب، أما أن يصل إلى الركبتين فهذا ليس بساتر، إنما الثوب عند العرب أن يكون ثوباً والفنيلة فنيلة وأما إلى نصف الساق فهو السنة، والأحسن والأولى أن يلبس إلى نصف الساق، لكن من رأى أن يلبس إلى فوق الكعب فليلبس إلى فوق الكعب إذا رأى ذلك.
فإن ابن مسعود شكا إلى عمر وقال: إن في ساقي حموشة، فأريد أن أنزل إزاري إلى تحت نصف الساق. فقال: افعل ذلك. فكان ينزله إلى فوق الكعب، لكن أما تحت الكعب فخطر ممنوع الاقتراب، وأما إلى الركبة فما سمعنا بهذا.
وفي الختام أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، وأن يتقبل منا صالح ما عملنا، وأن يتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر