وفي هذا الدرس قصة المؤذن الأول ألا وهو بلال بن رباح، وفيها كيف كانت حياته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، وكيف عاشر النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه وأحبه، وكيف كانت حياته بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها المؤمنون: عنوان هذه الخطبة: المؤذن الأول.
من هو المؤذن الأول؟
من هو أول من صدح بصوت الحق على منارة الحق في دنيا الحق؟
بلال بن رباح اسم يحبه المؤمنون وصوت تعشقه آذان الموحدين، ولا بد للمسلم أن يولد ميلادين اثنين وأن يعيش حياتين:
الميلاد الأول: يوم ولدته أمه.
الميلاد الثاني: يوم ولد في هذا الدين الجديد.
وبلال رضي الله عنه وأرضاه ولد ميلادين، وعاش حياتين، وصاحب عالمين، ولد مولى، وأستأسره الجبابرة وسلطوا عليه سياط الكبر والعنجهية، فكان مولىً لا حساب له ولا تأثير في الحياة، وأخذ إلى مكة مفصولاً ومعزولاً عن أهله وأمه، وعاش في مكة.
وفجأة صدع الرسول عليه الصلاة والسلام من على الصفا بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
وذهب صلى الله عليه وسلم إلى سادات مكة يدعوهم إلى لا إله إلا الله، فكفروا بلا إله إلا الله، واعترضوا على رسول الله وكذبوه، وافتروا عليه وآذوه، وشتموه، فأنزل الله عليه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].
معنى الآية: ما عليك من هؤلاء الكبار؛ فإنهم صغار عند الله، لا تعبأ بهم أبداً، ولا تعطهم شيئاً من وقتك ما دام هذا صنيعهم.
ولا تظن أن الإسلام سوف ينتصر على أكتاف المتكبرين المتجبرين، لكن اذهب إلى أناس يريدون وجه الله، من المساكين والفقراء والموالي، من الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.
وذهب صلى الله عليه وسلم يبحث عن أحبابه وأتباعه وجنده وتلاميذه، فوجدهم في أصناف من الناس، في عالم الفقر والزهد والضعف والمسكنة، ومنهم بلال.
ورأى بلال محمداً عليه الصلاة والسلام فأحبه، والسر الذي زرعه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام في القلوب هو الحب، فجر أنهار الحب في قلوب أصحابه حتى كان الواحد منهم يقدم صدره أمام صدر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقطع أمامه بالسيف إرباً إرباً، ويقول:
نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله!!!
حب أجراه في قلوبهم، فأحبه بلال حباً استولى على سمعه وبصره وقلبه، فأصبح يتحرك في حب الرسول صلى الله عليه وسلم، يأكل وشخص الرسول أمام عينه، ويشرب وشخص الرسول في سمعه وبصره، ولسان حال بلال يقول:
أحبك لا تسأل لمـاذالأنـني أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي |
أو كما قال الأول:
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أفسر ماذا والهوى لا يفسر |
فلما أحبه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وعرض عليه الدين، فأحب هذا الدين؛ لأنه يرفض الرق، والعبودية لغير الله، ولأنه ينبز الظلم ويحارب الظلمة.
فلما أحبه، وشهد أن لا إله إلا الله، اجتمع الجبابرة على بلال، وضربوه ليعود عن لا إله إلا الله، فأبى، سجنوه وعذبوه، فأبى، ربطوه بالحبال وجرجروه على صخور مكة السوداء في الظهيرة وجهاً لبطن ليعود، فكان يتلفظ بقوة: أحد..أحد.
من هو الواحد الأحد؟ إنه الذي أرسل هذا الرسول، وأنقذ الإنسان، والذي دعا قلبه ليؤمن بالواحد الأحد.
لطموه على وجهه فيرتفع صوته متأثراً ثائراً مجروحاً: أحدٌ.. أحد.
حب يجري في الدم لله ولرسوله، يسحبونه في الظهيرة جائعاً عارياً قد أثرت السياط في ظهره، تمزق لحمه على الصخور، وهو يقول: أحد.. أحد.
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]
إنها إرادة تكسر الحديد! وهذه هي المعجزة الكبرى التي أتى بها رسولنا عليه الصلاة والسلام، وهي تحويل الأعراب والموالي والفقراء والمساكين إلى جيش ضارب رهيب يفتح الدنيا بلا إله إلا الله.
يقول إقبال:
وأصبح عابدو الأصنام قدماً حماة البيت والركن اليماني |
يقول: إنك يا محمد! حولت عباد الأصنام إلى حماة للركن اليماني والحجر الأسود.
ولما أسلم بلال أمام هذا التعذيب الهائل مر به أبو بكر وهو يعذب، فقال أبو بكر: أشتريه منك يا أمية - أمية بن خلف المجرم- قال: خذه ولو بعشرة دنانير، قال أبو بكر: والله لو جعلت ثمنه مائة ألف دينار لاشتريته بذلك، فدفع القيمة وأخذه، فأنزل الله: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21] من هو الذي سوف يرضى؟
وهل أراد أبو بكر من بلال كلمة شكر؟
لا، بل أعتقه لوجه الله، وأتى به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام معذب الجسم ومنخور اللحم، السياط قد أثرت في مواضع من جسمه، فأخذه عليه الصلاة والسلام واحتضنه كما تحتضن الأم طفلها، وقبله ودعا له، وعينه مؤذنه الأول الذي أذن في فجر التاريخ، وهو أول مؤذن حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وكلما حانت الصلاة قام بلال يهتف: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر. فتنتفض أجسام المؤمنين من صوت بلال كما تنتفض الأجسام من التيار الكهربائي.
المؤذن كلما اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام وأصابه كرب، قال: {أرحنا بها يا
يجلس عليه الصلاة والسلام فيقول: أين بلال؟
كان يحبه، وهو الحب الذي سرى في جسم بلال وعوضه عن كل شيء، عن جاهه ونسبه وماله، فما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحبه فكفى.
وشهد أهل السنة أن بلالاً من أهل الجنة، وقد جعل الله له الذكر الحسن في الدنيا، فمسلمو اليابان والشام والجزيرة ومصر واليمن والمغرب، وكل مسلمي العالم يعرفون من هو بلال.
كلما توضأ صلى ركعتين.
كان خفيف الجسم ممشوق القامة، أسود اللون، لكنه أبيض المبادئ.
وكَّله عليه الصلاة والسلام أن يحرس الجيش في المعركة في غزوه من الغزوات، قال: من يوقظنا للصلاة؟
قال بلال: أنا يا رسول الله! فنام الجيش، وقام بلال يصلى طيلة الليل، فلما أقبل الفجر واقترب السحر حدث بلال نفسه، أن يضطجع قليلاً ليرتاح، فاضطجع فنام، وأتت صلاة الفجر والرسول عليه الصلاة والسلام نائم، والجيش نائم، وطلعت الشمس والأمة نائمة، وبعد طلوعها وارتفاعها كان أول من استيقظ عمر، فرأى هذه المأساة التي يراها لأول مرة، وهي أن الرسول المعصوم نام ولم يصل الصلاة والجيش معه، وهي حكمة من الله، ليكون قدوة للناس إذا ناموا، وأن تصيبه صلة من النوم ليكون عذراً لمن غلبه النوم.
يستيقظ عمر ويقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستحي أن يقول للمعلم الأول: قم للصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم لا يوقظ، والرواية في البخاري قال: فأخذ عمر يقول وهو بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام: الله أكبر.. الله أكبر.. ويعيد التكبير حتى استيقظ الرسول عليه الصلاة والسلام، ودعا حبيبه، ومؤذنة، وأجلسه أمامه، فقال: {يا رسول الله! أخذ بعيني الذي أخذ بعينك، فتبسم عليه الصلاة والسلام} فهو يقول: العذر واحد، أنت نمت وأنا نمت، والذي غلبك غلبني، والذي انتابك انتابني، فتبسم صلى الله عليه وسلم وأقره، وأدى الصلاة فأذن بلال بعد طلوع الشمس وصحت صلاتهم وقبلت.
هل في الإسلام حمراء وسوداء وبيضاء؟
هل هناك أسود أو أبيض أو أحمر؟
من هو الكريم عندنا في هذه الملة المشرفة؟
إنه المتقي، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
إننا لا نعترف بالألوان أو الأجناس أو البلدان، بل نعترف برجل يحمل لا إله إلا الله، هويته إياك نعبد وإياك نستعين، وغضب بلال وقال: والله لأرفعنك إلى خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع أمره فغضب النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم غضباً شديداً، لأنه يؤسس منذ عشرين سنة مبدأ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] فيأتي هذا بكلمة يهد هذا البناء وهذا الصرح الشامخ، لا يجوز هذا.
ويستدعي أبا ذر، قال أبو ذر رضي الله عنه: والله ما أدري هل رد علي النبي السلام أم لا من شدة الغضب، وقال: {أعيرته بأمه؟ إنك امرأ فيك جاهلية}.
إن هذه خطيئة في الإسلام لا أكبر منها، إنها هدم للكتاب والسنة، ولكن بلالاً يزداد مع الأيام رفعه لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يحبه.
يصلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم صلاة العيد، ويخطب الناس، ثم يتكئ على بلال ويذهب يخطب النساء، وهو متكئ على بلال، ويرى بلال أن السعادة البشرية قد حصلت له؛ لأن رسول البشرية ومعلم الإنسانية وضع رأسه في حجره.
أي كرم؟!
وأي تشريف؟!
وأي عطاء؟!
وأي تبجيل؟!!
ويفتح الرسول عليه الصلاة والسلام مكة في اليوم المشهود الذي حطمت فيه الأصنام، فلا معبود بحق إلا الله، فيدخل الرسول عليه الصلاة والسلام على ناقته، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين، أصبحت العقيدة جزءً من أجسامهم، أواضاً من جماجمهم التي على أكتافهم.
يدخل فيرى الأصنام فيطعنها برمحه فتتساقط وتتناثر، قال تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الاسراء:81] وتحين صلاة الظهر، ويجلس الناس أجمعون في صرح الكعبة المشرفة في الحرم، مؤمنهم ومشركهم، ويقول عليه الصلاة والسلام: أين بلال؟
فيقول: هاأنا يا رسول الله! قال: اصعد وأذن على سطح الكعبة.
أليس هذا دين الموالي؟!
أليس هذا انتصار للفقراء؟!
أليس هذا عدل للمساكين؟!
أليس هذا رفع لرءوس المستضعفين؟!
أليس هذا هو العدل بعينه؟!
أن يقوم المولى الأسود على الكعبة السوداء وهي بيت الله ليهتف بنداء الحق.
أين أبو جهل؟!
أين أبو لهب؟!
أين أبو طالب؟!
وصعد بلال واستوى على الكعبة لكي يخاطب الدنيا بشهادة الحق إلى يوم الدين، فلما أذن بكى الناس، ومن الذي يرى المشهد، ويرى الصورة ويسمع الصوت ويعيش التفاصيل ثم لا يبكي؟!!
هل قلوبهم من الحجارة؟!
هل سدت أسماعهم وأبصارهم حتى لا يروا؟!
إنه شيء عجيب يوم الفتح الأكبر.
الفاتح:رسول الله عليه الصلاة والسلام.
الدين: الإسلام.
المؤذن: بلال المولى الأسود.
أين يؤذن؟ على سطح الكعبة.
قال: الله أكبر، وكان صوته جميلاً يسبي القلوب يأخذ الأرواح ثم لا يتركها، يشدها ثم لا يرسلها.
أول من بكى الرسول عليه الصلاة والسلام، سالت دموعه حارة؛ لأنه تذكر المعاناة، وتذكر الصدمات الهائلة، وتذكر أيام الجوع والوجع والتعذيب، وأيام الإرهاب الفكري والمعنوي والجسدي، ثم يرى أنه قطع مرحلة هائلة وأنه انتصر، وأن مولاه وحبيبه أصبح مؤذناً، ويبكي الصحابة، ويشارك النساء والأطفال في البكاء، وهذا الصوت يتلجلج في هضاب مكة وأوديتها، يسبح كالتيار في الماء.
لا إله إلا الله.
يقول أحد المشركين وكان ما يزال على شركه: ما كنت أظن أن الحياة تطول بي حتى أرى هذا الغراب الأسود، ينعق على الكعبة.
قاتلك الله! أغراب هو؟!
بل هو إنسان العيون.
أذَّن، لكن اسمع ماذا حدث.
التفت إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام أمامه، التفت وإذا المحراب خالٍ من الإمام، التفت إلى بيت الرسول عليه الصلاة والسلام وليس فيه الأب! كيف يؤذن؟
كيف يستطيع أن يواصل بصوته؟
بأي عبارة يؤدي؟
أين بصره؟
أين سمعه؟
أين قلبه؟
أين كيانه؟
وقف على المنارة مع أذان الفجر، فقال: الله أكبر.. وتشجع وزاد وقال: الله أكبر.. وشجع نفسه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن أتت قاصمة الظهر، أتت المسكتة المبكية التي لا يستطيع بعدها أن يؤدي كلمة واحدة، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فبكى.. وبكت النساء معه في عقر البيوت في المدينة، مع أذان الفجر، وقامت المدينة تبكي كلها، الأطفال يبكون مع الفجر ماذا حدث؟
بكى المؤذن.
أشهد أن محمداً رسول الله ثم ولا كلمة، اختنق صوته وتلعثم، فمن يؤذن؟
نزل وهو ينحب في الدرج حتى وصل ورمى بجسمه في المسجد!!
أين الإمام؟
مات الإمام وبقى المؤذن.
أين الحب؟
ذهب الحب فلا حب حتى نلتقي، يوم تعيش هذه الأبصار والأسماع حياة أخرى تجمعها بمن تحب، وحضر الصحابة ليشاهدوا المنظر أمامهم، منظر المؤذن وهو ملقي على الأرض كالثوب.
أتاه أبو بكر الخليفة، قال: مالك؟
قال: والله! لا أؤذن لأحد بعد رسول الله، سبحان الله! وحمل إلى بيته:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا |
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا |
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا |
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الحديث والحب مع بلال، والذكر لـبلال، انتهى هذا الفصل، وأعفاه أبو بكر من الأذان تماماً، وتفتح الفتوح، ويذهب ليشارك بجسمه، وروحه، ودمه في إعلاء لا إله إلا الله، ويصل إلى الشام وهناك يجاهد، ويقاتل بسيفه، ويرفع علم التوحيد، ويعلم الناس، يجاهد وينتظر المنية لتلحقه بالإمام في جنة عدن عند مليك مقتدر، ولكن هناك مواقف مؤثرة توقف التاريخ، تجعل التاريخ منصتاً واقفاً أمامها.
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها |
يأخذها في ساعة ويعطيها في ساعة.
وأتى عمر ودخل بيت المقدس بثوبه الممزق المرقع، وهو في ثوبه وفي هيكله وفي جسمه يصف العدل، ويمثل الرحمة والصرامة، ويجتمع المؤمنون في فتح بيت المقدس، الصحابة وكبار الصحابة، وأهل العهد المكي، وبقية العشر، وأهل بدر وأهل بيعة العقبة، وكلهم احترق من داخله بموت الإمام.
وتحين صلاة الظهر مرة ثانية، فيقول عمر: أسألك بالله يا بلال
أن تؤذن لنا، قال: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: أسألك بالله أن تذكرنا الأيام الأولى في حياتنا، فلكل إنسان ذكريات، وذكريات الصحابة محمد عليه الصلاة والسلام، وحبهم وتاريخهم وتعاليمهم وفجرهم وليلهم ونهارهم محمد عليه الصلاة والسلام، يريد عمر أن يطوي أربعين أو ثلاثين سنة في جلسة واحدة، قال الصحابة: يا بلال اتق الله سألك أمير المؤمنين، فقام بلال يتحامل على جسمه، وقد أصبح شيخاً كبيراً، وارتفع صوته، فإذا بصوت عمر يسابقه بالبكاء أسرع من صوت بلال بالأذان، وتَنْهَدُّ أكتاف عمر، وقد أصبح كالطفل الرضيع يبكي، وبكى كبار الصحابة، وبكى الجيش الفاتح الذي مع عمر، الجيش.. والواحد منهم كالأسد الضرغام، لا ينهزم ولا يغلب، ولكن غلبوا في ساحة الحب، أصبحوا صرعى من البكاء، وتردد المسجد الأقصى بالبكاء، لماذا؟
لأن الأذان ذكرهم تاريخاً وذكريات تنهال على الإنسان من كل حدب وصوب.
فلا إله إلا الله ما أعظم الذكريات! ولا إله إلا الله ما أجل الحياة! وما أشرف الأوقات مع أولئك الذين رفعوا دين الله في الأرض والبحار والفلوات!
ما أعظمها من كلمات! وما أقوى العتاب!
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل |
أو كما قال المتنبي:
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ |
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون همُ |
هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا في المدينة!
واستيقظ بلال باكياً وسط الليل، وتوضأ وصلى ركعتين، وأسرج راحلته، أبعدها يتأخر؟!
دعوةٌ مقدمةٌ من الإمام الأعظم إلى المؤذن في الشام أن يزوره في المدينة.
والرسول عليه الصلاة والسلام حرم الله على الأرض أن تأكل جسده، كلما سلم عليه مسلم رد الله عليه روحه ليرد السلام، ركب الناقة وذهب، وطوى القفار وكأنها سويعات، سويعات قصيرة حتى يصل إلى المدينة.
جزى الله الطريق إليك خيراً وإن كنا تعبنا في الطريق |
فوصل قبل صلاة الفجر، لتكون ملحمة من البكاء أيضاً، فوجد الناس نياماً، وأتى إلى الروضة فسلم، وبكى ما شاء الله له أن يبكي، ووقف هناك في عالم الذكريات، والحياة، وعالم العبر، والدروس التي لا تنتهي أبداً.
وحان أذان الفجر وتأخر المؤذن -مؤذن المدينة تأخر ونام- حكمةً من الله وتحرج بلال، فدينه لا يسمح أن يذهب، وينام الناس، ويذهب وقت الأذان، فصعد المنارة وأذن، ولما أتى إلى محمد رسول الله خنقه البكاء، وقام الناس من المدينة، قام الصحابة كأنهم بعثوا من القبور يبكون مع بكاء بلال.
الله أكبر! كيف تتكرر المشاهد التي لا تنتهي والصور التي تحمل الأحاسيس والذكريات والمشاعر، وأتوا إليه، وأتى المؤذن وأذن من جديد ووقف بلال يعانقهم ويعانقونه، ويبكون ويبكي:
ولما تلاقينا تباكت قلوبنا فممسك دمع عند ذاك كساكبه |
ولكن بلالاً بعدها ودَّع الصحابة؛ لأنه أتى لمهمة خاصة، ولإجابة دعوة خاصة لحبيب خاص، فعاد وفي الشام أتته المنية، فأخذ ينشد وهو في سكرات الموت: [[غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه]].
ومن الذي لا يفرح كفرح بلال، وهو يتصور أنه بعد لحظة سوف يلقى محمداً عليه الصلاة والسلام، وأبا بكر وعمر وخيار الناس؟!
ولفظ أنفاسه، ومات قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28].
أولها:إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] فالقرشي الذي أعرض عن الرسالة في نار تلظى، والحبشي الذي آمن بالرسالة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والإسلام لا يعترف بالفروق التي تجعل للناس تمايزاً غير تمايز الدين.
الثاني: أن هذا الدين لا يأتي لأهل المناصب ولا لأهل الشارات والجاه والأموال، ولكن هو يبقى مكانه ليأتي إليه من يحبه ويعشقه لذاته هو، قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53] يقول أبو جهل: كيف يهتدي بلال وأنا سيد بني مخزوم وهو عبد حبشي؟
قال الله تعالى عنهم: لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11] ويقول الله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53] فالدين لمن أتى حباً لذات الدين وحمله بشرف وعزة وإباء وتضحية.
الثالث: معرفتة عليه الصلاة والسلام للفروق الفردية بين أصحابه، واستعداد الصحابة، ومواهبهم الشخصية، فقد أعطى الأذان بلالاً، لأنه يصلح أن يكون مؤذناً، ولأنه المؤذن الأول الناجح، والراية لـخالد في المعركة، والخلافة لـأبي بكر، وعلم القافية والأدب لـحسان، ومدرسة الفرائض وتوزيع المواريث لـزيد بن ثابت، والقضاء وهيئة الاستشارة والعدل، لـعلي بن أبي طالب، (قد علم كل أناس مشربهم) وهذه لا يستطيع لها إلا الرسول عليه الصلاة والسلام وحده، لأنه قرأ نفوس أصحابه ودرس مواهبهم واستعداداتهم وهذا أمر يفوت على كثير من المربين والمعلمين والدعاة.
الرابع: أن مبائدنا تبدأ من بلال، وأنها تعلن صريحة من فوق المنابر، فلا عندنا أسرار، ولا شيء نتكتم عليه، ولا شيء نغطيه؛ فمبادئنا واضحة، تعرض صافيةً نقيةً، كصفاء الماء ونقاء الصحراء وكعرض الأرض والسماء، فمبادئنا كما قال بعض الكتبة: جمعية كبرى، أفرادها كل خير في الأرض، مبادئها تعلن من فوق المنابر والمنائر، فليس عندنا أسرار ولا كواليس نضع فيها أخبارنا، أو نغطي فيها أسرارنا، بل نحن واضحون تماماً، وهذا درس يعيه من يعيه.
الخامس: أن من أراد أن يهدي الناس لا بد أن يزرع في قلوبهم الحب، فإذا زرع الحب في قلوبهم، فليشرق بهم مع هذا الدين وليغرب بهم، فهم أحبابه السامعون له، ومن تصور أنه سوف يهدي الناس بالعصا، وسوف يردهم بالضرب والركل والشتم، فقد أخطأ سواء السبيل، وقد خسر منهجه، وقد ضل سعيه، وقد أفلت الناس من يديه، يقول تعالى مخاطباً نبيه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] فالذي يستطيع أن يزرع الحب في قلوب الناس وفي أسماعهم وأبصارهم فقد نجح نجاحاً باهراً في جذبهم إلى الهداية، وهذا هو السر الأعظم في نجاح دعوته عليه الصلاة والسلام، وهو أنه جعل الناس كأبنائه بل أحب إليه من أبنائه، فأحبوه حباً تقطعت قلوبهم لحبه، وعاشوا بحبه الليل والنهار.
عباد الله: صلوا على الإمام، وترحموا على المؤذن، أسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة.
اللهم اعرض صلاتنا وسلامنا على محمد هذه الساعة المباركة، اللهم بلغه منا أشرف السلام وأزكى التحيات، وعلى آله وصحبه والتابعين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم إلى ما تحبه وترضاه.
اللهم اهدنا سبل السلام.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم اهد قلوبهم إلى الحق، اللهم فقههم في الكتاب والسنة، اللهم حبب إليهم العلماء والدعاة والصالحين، وبغض إليهم المردة والمرتدين والمنافقين والزنادقة.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك ولرفع رايتك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر