الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا لقاء متجدد من لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، وكنا أيها المباركون قد تكلمنا في اللقاء الماضي عن همزية شوقي (ولد الهدى).
وحررنا بعض أبياتها وعلقنا عليها، فمنها ما كان يتعلق بعالم الجن، ومنها ما كان يتعلق بمعجزة القرآن، وذكرنا حينها أننا سنتعرض لمجمل ما قاله شوقي من وصف نبينا صلى الله عليه وسلم الخلقية.
نكرر هنا بعض الأبيات التي قالها شوقي ؛ لأن هذه سنة متبعة في هذه اللقاءات، ثم نعرج إن شاء الله تعالى على الأبيات التي نريد التعليق عليها.
ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناءُ
الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنيا به بشراء
يا خير من جاء الوجود تحية من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا
بيت النبيين الذي لا يلتقي إلا الحنائف فيه والحنفاء
خلقت لبيتك وهو مخلوق لها إن العظائم كفؤها العظماء
يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء
يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء
بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء
تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء
زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء
فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء
وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء
وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء
أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء
والمصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء
واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنات عدن آلك السمحاء
وقبل أن أعلق على القصيدة أمهد بالتالي: كلنا نسمع عن كرم حاتم وشجاعة عمرو بن معد يكرب ، ونسمع عن ذكاء إياس ، وتعلم فنعلم من حيث الإجمال أن العرب كان فيها مشاهير في كل خلق، لكن لا يوجد فيها أحد بلغ الذروة في كل شيء، فمثلاً يقولون: إن أبا تمام -الشاعر العباسي المعروف، وكان ذكياً جداً- وقف بين يدي أحد الأمراء يمدحه، فقال في القصيدة وهو يمدح صاحبه:
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياسِ
فأحد حساد أبي تمام قال: إن الأمير -أي الممدوح- أعظم من أجلاف العرب الذين ذكرتهم، فقال أبو تمام يعتذر لنفسه:
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباسِ
فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراسِ
أي: أنني وإن شبهته بهؤلاء إلا أن ذلك من باب الطريقة القرآنية في أن الله شبه نوره بنور المشكاة، ونور الله أعظم من نور المشكاة، وهذا تصرف ذكي من أبي تمام ، لكن أنى لذلك الممدوح أن يصل إلى كرم حاتم أو ذكاء إياس .
والذي جعلنا نمهد لهذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم في الذروة في السخاء، والذروة في الكرم، والذروة في الشجاعة، والذروة في الجمال، والذروة في العفو، والذروة في العدل، فكل مكارم الأخلاق تنتهي إليه صلوات الله وسلامه عليه، وهنا نسجل لـشوقي قدرته على هذه النظرة في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم، فالذين سبقوا شوقي ممن مدحه صلى الله عليه وسلم لم يصلوا إلى أن يجمعوا كل الخصال وينبهوا عليها ويشيروا إليها في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم، إلا أن شوقي تنبه لذلك.
ففي الهجرة تبع سراقة بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي أخرج سراقة هو المال، وذلك لما علم أن قريشاً جعلت مائة ناقة لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم ويرده، فتبع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوم ذاك مشرك، فغاصت قوائم فرسه في الأرض، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقامت فرسه مرة مرتين، فآمن سراقة أن هذا الرجل صادق، ولم يؤمن به كنبي، لكن آمن أن هذا الرجل صادق فيما يقول، فقال له صلى الله عليه وسلم: (يا
و عمر رضي الله عنه في المدينة بعد الهجرة لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه دخل عليه عمر وليس في البيت شيء يرد الطرف، والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حصير قد أثر في جنبه، فقال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! أنت فيما أنت فيه و
وأما عمر فشخصية أخروية لا تعرف الدنيا ولا تنظر إليها، وثاني رجل في الإسلام بعد أبي بكر ليس رجلاً دنيوياً ترده بالدنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسرى وقيصر قال: لهم الدنيا ولنا الآخرة ، مع أن سواري كسرى اللذين بشر النبي صلى الله عليه وسلم بهما سراقة لم يصلا إلى سراقة إلا عن طريق عمر ؛ لأن مدن كسرى فتحت في عهد عمر ، ومع ذلك لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين لـعمر مسألة سواري كسرى ؛ لأن عمر شخصية أخروية، فانظر وأنت مطمئن إلى عظيم ما منّ الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الناس، وكيف كان عليه الصلاة والسلام يعطي كل نفس ما تحتاجه، ويتعامل معها من منظور فقهي وعلمي صلى الله عليه وسلم بواقع حاله وأصحابه.
وفي خبره صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال عليه الصلاة والسلام في مجمع من أصحابه، لما سأله عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان في علم الله وقدره أن عكاشة منهم، فقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، فقام رجل آخر -وحق له أن يقوم- فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم)، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: لست منهم، ولم يقل: أنت منهم؛ وقد علم بطريق الوحي أنه ليس منهم، لكنه اختار لفظاً يناسب الحال فقال: (سبقك بها
فهنا يأتي الرجل العاقل فيترجم هذه المواقف النبوية إلى أفعال، فعندما نتكلم مع الناس نراعي نفسياتهم، ونختار أعذب الألفاظ.
فذات مرة رأى الرجل أظنه أبا جعفر المنصور أن جميع أسنانه قد سقطت، فقام وجلاً خائفاً، وقال: ادعوا لي معبراً، فأتوه بمعبر، وهذا المعبر جيد في التعبير لكنه لا يحسن الوصف، ولا يحسن كيف يقدم الجواب، فقال: ستفقد جميع أهلك، أي: سيموت أبناؤك وبناتك والأسرة كاملة، فاغتاظ أبو جعفر وقال: ابحثوا عن معبر آخر، فجاءوا بمعبر آخر فقال: ماذا رأيت يا أمير المؤمنين! قال: رأيت أن جميع أسناني قد سقطت، قال: هذه بشرى لك يا أمير المؤمنين! فأنت آخر أهلك موتاً، أنت طويل العمر فالمعنى واحد، فمعنى أنه طويل العمر أن أهله سيموتون قبله، فما أراد الأول أن يقوله قاله الثاني، لكن قاله بصياغة تختلف عن الأول، فتعجب أبو جعفر من فصاحته وحسن أدبه وجمال لفظه.
فمن قدر له أن يقرأ سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويتبصر كيف كان عليه الصلاة والسلام ينتقي الألفاظ ويقولها لغيره سواء من أهل الكفر أو من أهل الإيمان، علم عظيم خصاله صلى الله عليه وسلم، وعلو دأبه في كل شأن عظيم صلوات الله وسلامه عليه.
ومقصودنا قبل أن ننتقل إلى بيت آخر من أبيات همزية شوقي أن نبين أنه يجب أن ننهل ونستقي من معين سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما هذه المدائح التي قيلت فيه بالنسبة لنا إلا طريق نعرج من خلال التعليق عليها إلى أن نصل إلى ما كان عليه الرحمة المهداة والنعمة المسداة صلوات الله وسلامه عليه من عظيم الخصال، وجليل المناقب.
يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء
نعلم جميعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الملك أول ما رآه: (اقرأ، قال: ما أنا بقارئ) أي: لا أجيد القراءة، فهذا الأمي عليه الصلاة والسلام الذي لا يجيد القراءة علم الله جل وعلا به الأمة كلها، وهذا معنى قول شوقي :
يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء
فهو صلى الله عليه وسلم أفضل معلم للبشرية، وفي دعوة أبيه إبراهيم: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129].
وإذا أردنا أن نتكلم عن العلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا باب مستفيض، لكني أذكر أحداثاً وأعلق عليها، ولعل في هذا طريقاً جيداً للوصول إلى الغاية.
قال عمر رضي الله عنه كما في حديث جبريل المشهور في صحيح مسلم : (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، ولا يعرفه منا أحد).
فلماذا قال عمر: (شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب ولا يعرفه منا أحد)؟
إن المجتمع النبوي في المدينة مجتمع صغير، فلا يوجد رجل في الحلقة لا يعرفه كل الناس؛ لأنه لو كان غريباً لا يعرفه الناس الجميع لا يعرفونه فمعناه أنه من الأعراب، فإذا كان من الأعراب الذين قدموا فسيظهر عليه أثر السفر، لكن الذي استوقف عمر هنا أن هذا الرجل رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، ومع ذلك ليس قادماً من الأعراب، وليس من أهل المدينة، فهذان الوصفان في العادة لا يجتمعان.
قال: (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه)، وقد قال العلماء: إن هذه من طرائق طلب العلم، فأخذ جبريل يسأل وهو يعلم الإجابة، قال: أخبرني عن الإيمان، أخبرني عن الإسلام، ويسأله عن أشراط الساعة، فهذه الأسئلة تسمى عند العلماء سؤالات جبريل.
ما معنى سؤالات جبريل؟ أحياناً يكون هناك عالم في المجلس وأنت تعرف الإجابة، لكنك تسأل حتى يستفيد الحاضرون، فجبريل عليه السلام يعرف ما هي أركان الإيمان، ويعلم ما هي أركان الإسلام، ويعلم ما هي أشراط الساعة، ولما قال: (أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)أي: علمي وعلمك سواء، لكنه أراد جبريل بهذه الطريقة أن يعلم الصحابة، والموقف في جملته لنا طلبة العلم طريق في قضية كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه.
فهذا مثل نضربه على واحد ممن ورثوا علم نبينا صلى الله عليه وسلم في قضية أنه يصبّر طلابه على العلم، ويقال لهم ما يمنيهم ويجعلهم يصونوا العلم، فبه تعلو منازل الدرجات، وإن كنا نجزم أنه لم يكن مقصود أبي حنيفة أن يكون أبا يوسف دنيوياً، ولم يكن أبو يوسف كذلك، لكنها في قضية مفهوم كلمة الطلب.
وكذلك مما يعين على أن يصل الإنسان إلى منزلة عليا في العلم أن يخدم الإنسان من هو أعلم منه، وقد قدر لـيحيى بن يحيى أن يصحب الليث بن سعد ، وكان الليث بن سعد يوماً على بغلته في المدينة فجاء يحيى بن يحيى والليث لا يعرفه وهو يومئذ غلام، فأخذ يسوق البغلة لليث ، فرق له الليث وأعجب بصنيعه هذا، وقال: يا غلام خدمك العلم، دعوة من عالم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قالها مضت الدنيا بقدر الله بـيحيى بن يحيى رحمه الله حتى عاد إلى الأندلس وأصبح إماماً ومفتياً بها، ويدخل على الخليفة والأمير متى شاء، فتحققت فيه دعوة الليث بن سعد رحمة الله تعالى عليهما، فصحبة العلماء تعطي نوعاً من البركة على الإنسان ينالها ويشعر من إقبال التوفيق ما يناله.
هذا ما تهيأ إيراده معلقين به على قول شوقي :
يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر