وهو يشكل صورة حية متكاملة للمجتمع المسلم حال تنزل القرآن، ويكشف عن التغيير العميق والنقلة الهائلة التي أحدثها القرآن الكريم في تلك الثلة المختارة، والتي يعتمل في نفسوها ما يعتمل في نفوس البشر غير أن الله تكرم عليها بعنايته، وسددها بكلماته، وزكاها بتربية نبيه، فكانت قمة سامقة على مدار التاريخ.
أيها الإخوة الأبرار: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
معنا في هذه الليلة حديث، اتفق الشيخان: البخاري ومسلم على إخراجه، وهو من أطول الأحاديث عند البخاري ومسلم، وهو حديث يبكي العين والقلب، ويفرح العين والقلب، هو حديث توبة، وحديث بشرى ومأساة، حديث ذنب، وانكسار العبد عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، هذا الحديث طويل، وفيه من الحكم ما يربو على مائة حكمة أو مائة فائدة.
وهو حديث كعب بن مالك يوم تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ويروي الحديث بنفسه، وهذا الحديث شرحه الحفاظ، وأعظم من شرحه ابن حجر رحمه الله.
غزوة تبوك -كما تعرفون- كانت من أواخر الغزوات في حياته صلى الله عليه وسلم، سمع أن الروم يريدون الإجهاز على الجزيرة العربية، فجهز عليه الصلاة والسلام جيشاً قوامه اثني عشر ألفاً، وقيل: عشرة آلاف، والأول الصحيح، ولما تهيأ الناس للغزوة، كانوا في شدة الحر، وقد طابت الثمار، ودنت الظلال، وعكف الناس على زروعهم وعلى ثمارهم، وهم في مجاعة لا يعلمها إلا الله عز وجل، حينها يمحص الله أهل الإيمان بإيمانهم، ويدحض أهل النفاق بنفاقهم.
والرسول عليه الصلاة والسلام، كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها؛ ليكتم خبره عن الناس، فكان إذا أراد مكة قال: كيف طريق غطفان في نجد، وكيف ماء غطفان، ليظهر للناس أنه يريد تجاه نجد وهو يريد مكة، ليعمي خبره على الناس، والحرب خدعة، إلا معركة تبوك، فأعلنها صلى الله عليه وسلم إعلاناً عاماً في الناس، ليتجهز الناس، ووقف عليه الصلاة والسلام بعد أن أعلن أنه متهيئ، وأنه يريد تبوك قام المنافقون يعتذرون.
يأتيه الجد بن قيس الذي طبع الله على قلبه بالنفاق، من أغنياء المدينة، يقول: يا رسول الله! ائذن لي ولا تفتني قال: ولِمَ؟ قال: أنا رجل إذا رأيت بنات بني الأصفر -أي: بنات الروم- أفتتن، فأنا لا أريد الخروج، فقال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49].فر من الموت وفي الموت وقع، فر من فتنة ظنية كذب فيها، ولكنه وقع في فتنة النار التي تلظى، وأتوا يعتذرون بالحيل، فعذرهم صلى الله عليه وسلم.
ووقف عليه الصلاة والسلام في يوم الجمعة وخطب خطبة ما سمع الناس بمثلها ألهب فيها الحماس، ورفع فيها الإخلاص، ودعا إلى التبرع وتجهيز هذه الغزوة، وكان الجيش ضخم لا يستطاع أن يجهز بمال قليل، فقال: (من يجهز الجيش وله الجنة؟ فتوقف الناس فأعاد، فتوقف الناس فأعاد، وتوقف الناس فأعاد، فقام
تلك المكارم لا قعبان من لـبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا |
وقال: (غفر الله لـ
يقول كعب: والله ما كنت أيسر منها في غزوة من الغزوات، ووالله ما كنت أريح نفساً من تلك الأيام، قال: ولم تفتني غزوة من الغزوات إلا غزوة بدر، فإنها فاتتني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتهيأ لها، وإنما خرج على عجالة، يريد مبادرة كفار مكة، وعذر من تخلف عليه الصلاة والسلام عن غزوة بدر، أما غزوة تبوك فلم يعذر أحداً عليه الصلاة والسلام؛ لأن الإعلان كان من قبل شهر، والخبر سرى في الجزيرة العربية، والجيش ما خفي أمره على الناس.
قال: شهدت بيعة العقبة، وهي في نفسي أرفع من غزوة بدر، ولو كانت بدر أذكر في الناس.
قال فخرج صلى الله عليه وسلم بالجيش: قال: وتلبثت قلت: أتهيأ اليوم، أتهيأ غداً، أتهيأ بعد غدٍ، حتى تفارط الغزو، وخرج الناس بجيشهم، فلما أصبحوا على مسيرة ثلاثة أيام؛ أردت أن أتهيأ ودخلت على زَوْجَتَّي -وكان له زوجتان- وقد فرشتا لي في العريشين، وهما في المزرعة، مزرعة متدلية الأغصان من الفواكه والرطب والظلال والماء البارد، والرسول صلى الله عليه وسلم في الصحراء.
ما حقنا أن تقروا عين ذي حسد بنا ولا أن تسروا كاشحاً فينا |
ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع |
وهل من الحب أن تترك خليلك في الرمضاء وأنت في الظلال الوارفة؟
قال: فوقفت حزيناً على الباب، ثم عدت لأتجهز، فتفارط الغزو ولم أتمكن من اللحاق بهم -حكمة الله وقدرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- فلم يذكرني صلى الله عليه وسلم حتى اقترب من تبوك.
ولما اقترب صلى الله عليه وسلم نزل هناك في تبوك، وأخذ يتفقد أصحابه، ولم يكن هناك ديوان -لم تكن الأسماء مسجلة- وإنما يعرف رسول صلى الله عليه وسلم وجوه الناس والمهاجرين والأنصار، ومن هم من طلبة العلم، ومن المجاهدين الأخيار والأبرار، الذين عرّفوا بأنفسهم في الصفوف الأولى؛ لأن بعض الناس يعرفه الناس بمناقبه في الإسلام، بصلاته بصيامه، بصدقه مع الله، أما بعض الناس لا يذكر لا في الدنيا ولا في الآخرة.
قالوا: كعب بن مالك، قال: ومن؟ قالوا: فلان وفلان وعدوا رجالاً، فجلس عليه الصلاة والسلام ساكتاً، وإذا برجل يقتلع خطاه من الصحراء، أعياه جمله، ضرب الجمل وحاول أن يمضي مع الجمل فما استطاع، فأخذ متاعه وجعله على كتفه، وأتى يقتلع أقدامه من الصحراء في حرارة الشمس التي يكافؤه الله بها بظلال الجنة.
فقال عليه الصلاة والسلام: {كن
دولتي جعبتي وكنزي يقيني فإذا ما وصلت فالكل ينسى |
لاطفوني هددتهم هددوني بالمنايا لا طفت حتى وحسى |
أركبوني نزلت أركب عزماً أنزلوني ركبت في الحق نفسا |
خرج إلى الربذة رضي الله عنه، وأقام يرعى الماعز، من أكبر صحابة النبي صلى الله عليه وسلم صدقاً وإخلاصاً وتضحية، حتى يقول الذهبي في بعض الآثار: إنه يحشر يوم القيامة مع عيسى بن مريم.
من أزهد الناس، كان يجلس في الصحراء ليسلم عليه دينه ولما رأى القصور بدأت في عصر التابعين تشمخر في المدينة، ورأى الحدائق، والأنهار كان يقوم بعصاه في المجامع العامة، ويقول: ما هذه الدنيا؟ نحن جئنا لإنقاذ الناس وإخراجهم من الظلام إلى النور، وهذه تعطلكم عن الآخرة، إن وراءنا عقبة كئودة يا عباد الله! ويصيح ولكن في أذن من؟
جاءت الدولة الأموية، ورأت فارس والروم، ورأت القصور والأرائك والطنافس والكنبات -كما حدث فينا الآن- فأكلوا وشربوا وتمتعوا، فضاع قيام الليل، وضاعت حلقات الذكر، والأمة إذا استرخت مع الرفاهية ومع النعمة، وأصبحت أمة ملاعق وصحون وبطون، تنسى الله عز وجل إلا من رحم الله.
فقام رجل بينه وبين كعب بعض الحزازات ليشهد.
وبعض الناس لا يدعى ولا يستشهد، لكن يدلي بشهادته قبل أن يستشهد، حتى إذا ذكر بعض الأخيار في بعض المجالس، ترى بعض الأعداء كما قال الله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] قال ابن تيمية: هادياً يهديه، وناصراً ينصره، فالهادي بصيرة، والنصر إما شيخ أو سلطان، والله يجعل للأولياء إما هدى بصيرة، وإما سلطان يدفع عنهم، وكفى بسلطان الله من سلطان.
فترى إذا ذكر بعض الأخيار وبعض الذين لهم قدم صدق، ينبري لهم من يتنقصهم في المجالس، ويتهكم بهم في نقاط الضعف التي لا يخلو منها البشر، وينسى حسناتهم التي كالجبال، قام الرجل فقال: يا رسول الله! ألهى كعب بن مالك نظره إلى برديه، واشتغاله في أهله.
وقام معاذ بن جبل الداعية الإمام، الذي يتقدم يوم القيامة قبل العلماء برتوة ويدخل الجنة، قائد العلماء إلى الجنة، قام يدافع عن الرجل، وإذا لم يدافع المؤمنون بعضهم عن بعض، يدافع عنهم ربهم: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ الحج:38] قال: يا رسول الله! والله ما علمت في كعب إلا خيراً، وأثنى عليه.
وانتهى صلى الله عليه وسلم من الغزوة. قال كعب يروي القصة والمأساة، مأساة وجرح في حياته لا ينساه، لكن ضمدته التوبة، وداواه بلسم السماح من الله عز وجل؛ فإذا رضي الله عز وجل فما عليك ممن غضب وممن شرق أو غرب:
فليت الذي بيني وبينك عامـر وبيني وبين العالمين خراب |
إذا صح منك الود فالكل هـين وكل الذي فوق التراب تراب |
رغم أنوف الناس إن غضبوا إذا رضي الله عليك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنت لا تطلب رضا الناس فإن عند ابن خزيمة وأصل الحديث عند أبي داود، يقول عليه الصلاة والسلام: {من أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس}.
ماذا يقول؟ يقول: كنت مريضاً فيكذب على الله! يقول: كنت مسافراً وهو موجود! يقول: انكسرت رجلي وهي ما انكسرت! يقول: أنا شيخ وهو شاب! يقول: أنا فقير وهو من أغنى أهل المدينة! قال: فحضرني بثي وحزني، والبث أشد الحزن، يقول يعقوب عليه السلام: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ يوسف:86] قال بعض العلماء -ينسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم-: لو علم يعقوب بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ البقرة:156] لقال هذه الكلمة وما قال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ يوسف:84] ولم يقل إنما أشكو بثي، وإنما قال: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ البقرة:156].
قال: وأخذت أستشير كل ذي رأي من أهلي.
يذهب إلى أعمامه فيقول: ماذا أقول؟ الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يقدم إلى المدينة، وسوف يسألني لماذا تأخرت؟ وبين يدي مَن؟ بين يدي ذي نقمات قوله القيل.
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقمات قوله القيل |
الذي يعلمه الله علم الغيب، يعلم الكذب من الصدق عليه الصلاة والسلام، قال: فأخذت قرابتي، بماذا أخرج به بين يديه صلى الله عليه وسلم.
يذهب إلى عمه فيستشيره، إلى أخيه إلى قرابته.
قال: فلما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة، دخل الموكب الكريم، والوجه الطلق، الذي أحيا الله به المدينة المنورة، فأصبحت لؤلؤة في جبين التاريخ، استفاقت على صباح جديد، ملأ آذانها أذان بلال.
المدينة التي كانت تئن بالأوثان والأصنام، استفاقت بلا إله إلا الله.
وكان إذا أقبل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسرع السير عليه الصلاة والسلام، وقال للناس: {إني متعجل، فمن شاء منكم أن يتعجل فمعي، ومن شاء أن يتأخر} يسمحهم لأنه القائد الأعلى، وأخذ يقول: {آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون} وسمعت المدينة، فخرجت بأطفالها وفلذات أكبادها، والجواري على أطراف السكك والطرقات، يستقبلون معلم الخير، الأب الحاني، المربي الكبير، الذي جعله الله رحمة لكل إنسان. حتى الكافر هو رحمة له، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء:107] (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ الأنفال:33] وقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ التوبة:128] وانطلقت الهتافات:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع |
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع |
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع |
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع |
وأخذ صلى الله عليه وسلم يستقبل الأطفال، وتسابق الحسن وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير إلى ناقته عليه الصلاة والسلام، فجعل أحدهم أمامه والاثنين خلفه، تركوا آباءهم، وأتوا إلى أبيهم الحقيقي المعلم الأكبر صلى الله عليه وسلم.
يقول كعب: فلما أفل إلى المدينة زاح عني الباطل، والحجج والحيل التي لا تنفع، أي: تلاشت، لم يبق إلا الصدق قال: فأجمعت صدقه.
يقول: قلت في نفسي لا يمكن أن أخرج إلا بكلمة صادقة، قال: فكان عليه الصلاة والسلام يبدأ بالمسجد، فيصلي فيه إذا دخل ضحى، قال فبدأ عليه الصلاة والسلام بالمسجد. ترك أهله ليستقبل بيت الله عز وجل، وليتفاءل بركعتين تقربه إلى الحق، وهو أقرب الناس إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فدخل عليه الصلاة والسلام، ونزل وخلع السلاح عنه، وصلى ركعتين، ودخل البواسل من جنود أبطال الإسلام، أهل الفتوح، الذين تركوا اسم الله مرفوعاً بسيوفهم:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم مناراً |
فصلى عليه الصلاة والسلام وأخذ الناس يسلمون عليه، والمنافقون الذين تخلفوا ما يقارب الثمانين منافقاً، لكن الثلاثة صادقون الذين خلفوا، جلس عليه الصلاة والسلام، هذا يسلم ويذهب قال كعب بن مالك: فتقدم المنافقون فاعتذروا، فعذرهم صلى الله عليه وسلم، فيقول هذا: أنا مرضت يا رسول الله، ويأتي الآخر ويقول: أصابني زكام وقت الغزوة، فيقول له: اذهب وذاك يفعل، وكلها كذب، حتى يقول الله عز وجل: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43].
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لماذا لم تصبر قليلاً؟ فقال الله: عفا الله عنك، حتى يطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم إذا سكت القارئ وقال: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة:43] علم النبي عتاب الله له، وعلم أن الله قد عفا عنه؛ لذا قدم العفو على العتاب حتى لا يخاف عليه الصلاة والسلام، لكن تلطَّف الله وروَّح عن رسوله صلى الله عليه وسلم عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة:43].
لكن أذن لهم صلى الله عليه وسلم، فهو معفو عنه، فلما أذن لهم خرجوا يتضاحكون، فأهل الباطل يفرحون بباطلهم، يكذبون ويفرحون، فيقولون لأسرهم وعشائرهم: ألا ترون إلى جدلنا وإلى قوة حجتنا، خرجنا من بين يديه، اعتذرنا بكذب وصدقنا.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم |
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم |
قال: يا كعب! أما ابتعت ظهرك؟ قال كعب: يا رسول الله! والله الذي لا إله إلا هو، لو جلست عند أحد من أهل الدنيا غيرك لاستطعت أن أخرج من بين يديه بحجة، إني شاعر وقد أوتيت جدلاً.
وكان كعب بن مالك من أفصح الناس على الإطلاق، بل هو من شعراء الدعوة المطاليق المناطيق المصاقيع.
قال: يا رسول الله! والله الذي لا إله إلا هو، لو جلست عند أحد من أهل الدنيا لاستطعت أن أخرج من بين يديه بحجة إني رجل شاعر وقد أوتيت جدلاً، لكن والله الذي لا إله إلا هو يا رسول الله! لقد علمت لو أني كذبتك الآن؛ ليوشكن الله عز وجل أن يغضبك، ثم يغضب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليَّ، وإن صدقت اليوم على شيء تجده عليَّ، إني أرجو من الله أن يرضيك عني.
والله يا رسول -اسمع العذر- ما كان لي من عذر، والله ما كنت أكثر مالاً وأكثر قوة مني حين تخلفت، فما لي من عذر. ثم أتى صاحبه الثاني والثالث فاعتذرا كعذره، فقال: قوموا.
قال: فلقيني بنو سلمة -أسرته وقبيلته- عند الباب فقالوا: ما لك ما استطعت أن تعتذر، والله ما رأينا أهون منك اليوم.
قال: فوالله ما زالوا بي حتى كدت أرجع فأكذب نفسي، وهؤلاء بعض الجلساء يوشون الإنسان ويحدثونه عن نفسه حتى ينسوه الله عز وجل.
قال: فثبتني الله عز وجل فما عدت، قلت: لا. قد صدقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرجو أن يرضيه الله عني، وأن يرضى الله عني، قلت: هل تخلف معي أحد من الناس كان عذره كعذري؟ قالوا: نعم. قلت: من؟ قالوا: هلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري.
قال: فذكروا لي رجلين من أهل بدر، وكلمة أهل بدر هي عند الزهري، قال ابن القيم رحمه الله: وهما لم يحضرا بدراً لكن أوردتها لأنها في الصحيحين، والصحيح أنهما لم يحضرا بدراً لكنهما من أفضل الناس، ذاك شيخ عابد كبير زاهد، وهذا شاب يتقطع حرارة لنصرة لا إله إلا الله.
قال: فذكرا لي رجلين صالحين لي بهما أسوة، وذلك مما يسلي في المصائب على الإنسان؛ أن يكون له شركاء، حتى يقول ابن القيم: إن مما يسهل المصائب رؤية المصائب في الدنيا، ففي كل واد بنو سعد. أي: ما من إنسان إلا دخلت على قلبه وعلى بيته مصيبة، في جسمه أو في عرضه أو في دينه أو في كل شيء.
سبب هذا المثل: (في كل واد بنو سعد): أن رجلاً من العرب من هوازن، ذهب يبحث عن جملٍ له، فكلما نزل وادياً قال: من القوم؟ قالوا: بنو سعد، فنزل في الوادي الآخر فقالوا: بنو سعد، والآخر قالوا: بنو سعد، قال: في كل وادٍ بنو سعد. فيقول ابن القيم: في كل واد بنو سعد من المصائب.
والخنساء يوم بكت صخراً بكته حتى خيف عليها الموت، فوعظتها عائشة رضي الله عنها، فقالت:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي |
وما يبكين مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي |
تقول: مما يسهل عليَّ المصيبة، أني أرى عجائز يبكين على أولادهن، ولكن لا يبكين مثل أخي، لكن التأسي لا بأس به.
قال: فذكرا لي رجلين لي بهما أسوة وقدوة، قال: فأقامنا صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله في أمرنا. ولم يبت فيهم صلى الله عليه وسلم، وبتَّ في الأولين، وأما هؤلاء أرجع أمرهم إلى الله من فوق سبع سماوات.
وكعب بن مالك بن زهير الشاعر هجا الرسول عليه الصلاة والسلام بثلاثة أبيات أو أربعة، فقال عليه الصلاة والسلام لقبائل العرب: {من وجد منكم
وفي الأخير نظم قصيدة، ودخل على أبي بكر في بيته قال: يا أبا بكر! ضاقت عليّ الدنيا بما رحبت، وأخرج أصابعه حتى أظفاره لم يقلمها، وأراه جوعه وهزاله ومرضه وضعفه، فماذا ترى؟ قال أبو بكر وكان رجلاً حصيفاً عاقلاً- أعندك أبيات؟ والعرب كانت تتوسل بالأبيات في العظماء. قال: نعم. قال: إذا صلى الرسول صلى الله عليه وسلم الفجر فألقها عليه، فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم الفجر، فتقدم كعب، فأتى بتلك القصيدة كأنها انتزعت من قلبه.
يقول:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبـول متيم إثرها لم يفد مكبول |
إلى أن يقول:
نُبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول |
انظر ما أحسن الكلام:
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلـة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل |
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولـم أذنب ولو كثرت في الأقاويل |
ثم وصف حالته في الصحراء يقول:
لقد أقوم مقاماً لو يقوم به يرى وأسمع ما لو يسمع الفيل |
لأن قلب الفيل مثل الحجر يقول: من خوفك وتهديدك لي والله لو كان الفيل مكاني لانهار الفيل فكيف بي أنا، حتى قال:
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقمات قيله القيل |
فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال قولاً انتهى الأمر، ويأتي كعب بن مالك، يسلم على أقاربه فلا يسلمون عليه ولا يكلمونه، وأصبح في عزلة، وفي الأخير قال: تسورت الحائط على ابن عمي أبي قتادة، أبو قتادة ابن عمه، فارس الإسلام، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الباب مغلق، لو طرق الباب لا يفتح أبو قتادة يقول: من؟ قال: كعب بن مالك، قال: لا. في الأخير اقتحم المنزل من على السور، قال: فلما تسورت عليه الدار دخلت عليه، وقلت: يا بن عمي! هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فما أجابني، قلت: أسألك بالله أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فما أجابني، قلت: أسألك بالله أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم.
حتى الجواب ضعيف، ولم يأتِ إلا في آخر لحظة، وليس جواباً شافياً، قال: فدمعت عيناي وتسورت الحائط وعدت.
قال: فأخذ الناس يشيرون إليَّ، فأتى وأعطاني رسالة، قال: وكنت قارئاً وكان وقليل من الصحابة من يقرأ، أمة أمية، لكن قلوبهم تقرأ؛ لأن بعض الناس يقرأ ويصدح، ولكن ليس له قلب، العين هي التي تقرأ والعين هي التي تتعلم، أما القلب فلا تعلم قال الله: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد:19] فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] فليست المسألة مسألة الثقافة، بعضهم معه سبع لغات ويدخل النار من سبعة أبواب.
يقول: كنت قارئاً ففتحت الرسالة فقرأتها، فإذا هي من ملك غسان -في الشام ملك من ملوك الدنيا، لم يجد فرصة يدخل بها إلا في هذه الأزمة- فقرأ الرسالة فإذا فيها: إلى كعب بن مالك من ملك غسان، إني سمعت أن صاحبك جفاك -قاطعك- ولم يجعلك الله بدار هوان- انظر ما أحسن ذاك، وسيرة ذاك، وخلق ذاك المنافق الكبير -فالحق بنا نواسك.
الحق بنا نسعدك ونعطك من المال وتتكلم معنا، وتزورنا ونزورك، أما هذا الحال فما يصلح، يدخل من نقاط الضعف، وكان كعب رجلاً مؤمناً بالله عز وجل ورسوله واليوم والآخر قال: قلت وهذه أيضاً من البلاء، قال: فتيممت بها التنور فسجرتها -أحرقها في التنور في النار- قال: وكنت أصلي مع المسلمين، وكنت أجلد القوم، أما الرجلان الآخران فانهارا من كثرة البكاء، يقوم أحدهم يصلي في المسجد، وعظامه تتخاذل لا يستطيع، فانهار في البيت.
هذه المسألة ليست بالسهلة، تصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعيش معه أو يعيش معك، ثم يقول: يا أيها الناس -في يوم الجمعة- لا تكلموا فلان ابن فلان ولا تسلموا عليه، ولا تزوروه ولا تبايعوه، ولا تشاروه، ولا تشاوروه، أي مصيبة كهذه المصيبة، الموت ولا هذا الأمر.
قال: كنت أخرج، وكنت أجلد القوم فأشد عليَّ ثيابي -كان شاباً ما يقارب 35 عاماً- قال: فأصلي مع الناس، فكنت آتي والرسول صلى الله عليه وسلم جالس، فأسلم عليه فوالله ما أدري أيسلم عليَّ أم لا، إما من كثرة الحزن، وإما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرد، أو يرد رداً خفياً.
قال: والله لا أدري هل يرد عليَّ السلام أم لا؟ قال: فكنت إذا أقبلت إلى صلاتي سارقني النظر عليه الصلاة والسلام. فإن كعب بن مالك يدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسارقه النظر، إذا كبر وأصبح في دعاء الاستفتاح نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر إليه ويعرف أنه كعب، قال: فإذا سلمت أقبل صلى الله عليه وسلم على نفسه ولا ينظر إلي، وهذا جفاء تتقطع له القلوب.
حتى كأني للحوادث صخرة بصفا المشقر كل يوم تقرع |
وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع |
قال: فأرسل إلينا أن اعتزلوا نساءكم، قال: فأرسلت أأطلق امرأتي أم لا؟ قال: لا. اعتزلها فقط ولا تطلقها.
قال: فذهبت امرأة هلال بن أمية -وكان شيخاً كبيراً قد عمي من كثرة البكاء- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! أتأذن لي أن أخدم هلال بن أمية -أي: أصنع له الطعام، أقرب له طعامه وشرابه- قال: نعم. ولكن لا يقربك.
يقول صلى الله عليه وسلم: لا يقربك، وهذا جزاء ونكال وتعزير، قالت: يا رسول الله! والله ما به من حراك، مازال يبكي من ذلك اليوم إلى اليوم، ليل نهار. لا ترقأ له دمعة، انهار تماماً.
ولذلك بعض المصائب تطم على الإنسان، حتى يبقى ليله ونهاره بكاء، يعقوب عليه السلام، وهو من الأنبياء الذي آتاهم الله العصمة وقوة القلوب، أصبح يبكي ليل نهار حتى ابيضت عيناه، يقولون: إن الملائكة كانت تبكي لبكائه، ويقولون: جبريل كان يزوره فيجلس معه يبكي، وكان يغطي يعقوب بيده على فمه ويقول: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ يوسف:18] وكلما سأله بعض جيرانه من الشامتين وهم يدرون بالقصة قال: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ يوسف:86].
ولذلك كان أبو بكر إذا صلى بالناس صلاة الفجر وقرأ سورة يوسف وبلغ قوله تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ يوسف:86] انهار من شدة البكاء، وبكت معه الصفوف. وثبت أن عمر رضي الله عنه، كان إذا قرأ سورة يوسف وبلغ قوله تعالى: (قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) [يوسف:92] بكى وبكى معه الناس.
فالمقصود: أن هلال بن أمية انهار من كثرة البكاء، قال: فاعتزلنا النساء، ومضت خمسون ليلة. خمسون كلها مرارة، لم يذوقوا المنام إلا قليلاً ولا الطعام والشراب إلا قليلاً، حياة متعبة، تغير الجو والطبيعة والأشجار والأنهار وكل شيء.
قال: فصليت صباح ذات يوم -وكان بيته في مزرعة بعيداً من المسجد، وربما لا يسمع الأذان- على سطح بيتي -لأنه لا يسمع الأذان- قال: فلما انتهيت من صلاة الفجر، جلست أسبح الله عز وجل، وأنا على الحالة التي ذكر الله عز وجل من حالتنا، حالة يرثى لها، حالة الأسى، واللوعة، والحزن -وإذا برجلين: رجل على فرس، ورجل أقبل راجلاً يسعى، قال: وأوفى الرجل الذي على رجليه على جبل سلع، وجبل سلع بين بني سلمة وبين المدينة.
ويقول أنس كما في الصحيحين: لما دخل الأعرابي يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستسقي الله عز وجل -وللفائدة-: إن الأعرابي دخل من باب القضاء والرسول صلى الله عليه وسلم في شدة حر المدينة وليس هناك من السحاب ولا الغمام في السماء شيء، وكانت المدينة تتوقد بلهيب الحرارة حتى الرمضاء تحترق يقول أنس: {فدخل الأعرابي فقطع خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر يفيض على الناس مما أتاه الله من الحكمة، وقال: يا رسول الله! -فالتفت صلى الله عليه وسلم نحو دار القضاء التي شراها ومباشرة لم يتلكأ، ولا فكر ولا تلعثم، رفع يديه: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، قال أنس: والذي نفسي بيده، ما في السماء من سحاب ولا قزع، فثارت سحابة كالترس، فأوفت على سلع قال: ثم انتشرت السماء، ثارت كالجبال في لحظة، قبل أن ينتهي صلى الله عليه وسلم من الخطبة، وهو ما كان يخطب إلا لحظات، قال: فثارت كالجبال ثم أرعدت وأبرقت وأزبدت، ثم أنزلت الغيث، قال: فأخذ سقف المسجد يخر على وجه النبي صلى الله عليه وسلم وجبينه الطاهر، وأخذ يتبسم إلى الجماهير، ويقول: أشهد أني رسول الله. إي والله، نشهد أنه رسول الله، في لحظات تأتي هذه الأمطار، يقول: سال الوادي. ويأتي ذاك الأعرابي أو غيره، وانظر نفس الكلام يقول: يا رسول الله! جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل، فادع الله، أن يكف عنا الغيث. لماذا؟ لأنه حبسهم في البيوت، فالغنم لا تخرج والإبل والبقر أصبحوا في حظر، السماء مدلهمة على الأرض في اشتباك، واستمر المطر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم من كثرة تململ الإنسان، أمس يشكو واليوم يشكو، ولكن الإنسان لا يدعو برفع الرحمة، إذا أنعم الله عليك برحمة؛ فلا تقل اللهم خفف علينا الغيث، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر قال أنس: والله ما أشار إلى ناحية إلا سكب الغيث نحوها، وخرجوا من المسجد مثل الجوبة
الشاهد: أن سلعاً هذا جبل في المدينة مرتفع، يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة} معناه: إذا كثر العمار واختلط الناس، وكانت اهتماماتهم بالدنيا، فاخرج من المدينة، فلما رأى أبو ذر البناء وصل إلى سلع خرج من المدينة إلى الصحراء.
ولذلك إذا سمعت بخبر طيب لا تتأخر، بل بشر المسلم وحث وأسرع واتصل، لا تمهله حتى تنتهي وقت البشرى، ثم تأتي مبشراً بعد انتهاء الأمر، واحرص على أن يكون لك شرف البشرى وأجر البشرى، ولذلك الملائكة بشرت إبراهيم، والله يقول: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ الصافات:101] والبشرى من أحسن ما يمكن.
في الصحيح أن أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما، كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكانا يطوفان بعض الليالي في المدينة يستمعان القائل، ويسألان عن أخبار الناس، ومرا بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا برجل توضأ ودخل المسجد يصلي، ثم رفع صوته بالقراءة، وكان صوته من أحسن الأصوات، وهذا هو ابن مسعود -يقول مسروق -أحد تلاميذه-: قرأ بنا ابن مسعود في صلاة المغرب في الكوفة سورة: قل هو الله أحد، فوالله ما سمعت بصنجٍ ولا نايٍ ولا وترٍ أعجب من صوته، فكان يقرأ- فرفع صوته بالقراءة، فدعا صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر يريد أن يريهما هذا التلميذ البار النجيب، الذي نبت في نبتة الإسلام، فوقفا على نافذة المسجد وأخذا ينظران وأخذت دموعهم على خدودهم من القرآن، ثم انتهى ابن مسعود ولا يدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يستمعون له، فرفع كفه، فقال عليه الصلاة والسلام: {سل تعطه، سل تعطه، سل تعط}.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {من أراد أن يأخذ القرآن غضاً طرياً فليقرأه على قراءة
قال عمر: فطالت عليَّ ليلتي يريد أن يصبح الصباح ليذهب إلى ابن مسعود ليبشره، وفي الصباح صلّى الفجر وذهب إلى ابن مسعود يبشره، قال: قد بشرني أبو بكر.
قال: والله لا أسابق أبا بكر، كلما أتى عمر يريد المركز الأول سبقه أبو بكر، حتى يقول ابن القيم تعليقاً على هذه القصة:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول |
يقول: أنت ضعيف الجسم وأبو بكر ضعيف، لكن دائماً هو الأول حتى يدخل الجنة من الأبواب الثمانية.
عمر رضي الله عنه، أراد أن يفعل في الإسلام فعلة عظيمة من أعظم الجود، فأتى إلى ماله وقسم الذهب والفضة، والغنم نصفين، والبقر نصفين، والإبل نصفين فقال: أما نصف فلي ولأهلي، وأما نصف ففي سبيل الله، ثم أخذ النصف، وتوقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: ما فعل فعلك من الناس أحد، فقال: يا رسول الله! هذا المال لك في سبيل الله، قال له صلى الله عليه وسلم: {أبقيت لأهلك شيئاً قال: نصف المال يا رسول الله! قال: لكن
إن تبتدر غاية يوماً لمكرمـةٍ تلق السوابق منا والمصلينا |
وفي السنن بسند جيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس مع الصحابة قال: {من زار منكم اليوم مريضاً؟ قال
فالمقصود: أن السبق بالبشرى هي أحسن ما يمكن أن يبشر بها المسلم، فاغتنم هذا الأجر وبشر به، فإذا سمعت ببشرى سارة لأحد: نجح ابنه، أتاه شيء يفرحه، أتاه ابن وهو غائب، فاغتنم هذا الأجر والمثوبة في إدخال السرور عليه، لكن بعض الناس بالعكس، إذا رأى مصيبة طار في جناح السرعة، اتصل بالتلفون: أبشرك مات ابنك في تمام الساعة الرابعة هذا اليوم، ورسب ابنك في ثمانية دروس، وأبشرك ابنتك الأخرى أخفقت في الامتحان. لكن لو أتت مبشرات لم يبشر، بعض الناس يدخل من هذه الجوانب، يحب الحوادث، نسأل الله العافية والستر.
يقول عثمان: [[ودت الزانية أن يزنوا الناس جميعاً]] وأهل الكوارث يريدون أن يقع الناس في الكوارث، ولذلك التلميذ إذا رسب في الامتحان يأتي يتبشر في قائمة الراسبين ويقول: عسى ابن فلان ابن جيراننا معي، حتى نتشارك في المصيبة، يريد أهل القرية أن يرسبوا جميعاً، أما إذا نجحوا يأتي على المصيبة مصيبة أخرى، مصيبة أنه رسب، ومصيبة أنهم نجحوا هم، فالمقصود: اغتنام البشرى.
ومن الأدب في الإسلام إذا بشرك أحد بشيء؛ أن تقدم له شيئاً بنسبة هذه البشرى، ليست بشرى ضئيلة ثم تكبر، لكن بنسبة هذا، قال: فكان السابق صاحب الصوت، وأتى صاحب الفرس فبشرني، وكان عليَّ ثوبان، والله ما لي غيرهما؛ قال: فخلعتهما وأخذت ثياباً من جيراني، حياة بدائية حياة فقر وعوز، وهو من أغنياء الصحابة، فما بالك بفقراء الصحابة؟ أهل الصفة كانوا لا يجدون إلا ما يواري أحدهم عورته، وهذا من الأغنياء عنده ثوبان، حتى يقول صلى الله عليه وسلم يقترح على الناس: {لو أن لأحدكم ثوب لجمعته وثوب لمهنته} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا من أدب الإسلام؛ أن تقدم شيئاً لمن بشرك بنجاح ابنك، أن تدعوه كذلك في البيت، أن تقدم له شيئاً بمناسبة هذه البشرى، أما ترك هذا الأمر فليس من المستحسن، لحديث كعب رضي الله عنه، قال: فاستعرت ثياباً من جيراني وشددت على نفسي ثم انطلقت إلى المسجد، أتى الآن يقابل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، كأن البشرى له عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم تلاميذه وطلابه، وهم حسنة من حسناته.
قال: فدخلت المسجد، فلما رآني صلى الله عليه وسلم استنار وجهه كأنه فلقة قمر، تهلل حتى تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: [[إذا سر بشيء استنار وجهه كأنه فلقة قمر]] تبرق أسارير وجهه صلى الله عليه وسلم، وهيئته الجسمية عجيبة، جسمه كالحرير الأبيض الناصع، يقول أنس: [[نظرت إلى القمر ليلة الرابع عشر وإلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، والله لوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل من القمر ليلة أربعة عشر]] وقيل لـأبي هريرة: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كالسيف؟ قال: لا. كالشمس. تقول عائشة وربما ذكرت قول أبي سويد حيث يقول وهو هذلي:
ومبرأ من كل غُبَّر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل |
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل |
قيامي والإله إليك حـق وترك الحق ما لا يستقيم |
وهل رجل له لب وعقل يراك تجي إليه ولا يقوم |
لا بأس بالقيام للإكرام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {قوموا إلى سيدكم} ولما قدم جعفر الطيار، قام له صلى الله عليه وسلم وقبله بين عينه، وقال: {ما أدري بأيهما أسر، بقدوم
وذهب يوم أحد بأكثر الأجر، حتى كلما ذكر أبو بكر يوم أحد قال: ذاك يوم ذهب بأجره طلحة بن عبيد الله حتى شل يوم أحد، ضرب حتى شلت يمينه وشل نصفه هذا، فهذا طلحة بن عبيد الله الذي قام وعانق كعب بن مالك قال: ثم جلست فقال صلى الله عليه وسلم: {أبشر يا
والرسول صلى الله عليه وسلم ربما قام في مجلسه لاستقبال الناس أحياناً، للفائدة: يقول عمرو بن العاص: لما أسلمت، قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عثمان بن شيبة بن طلحة الداري -من بني عبد الدار أهل مفاتيح الكعبة- وخالد بن الوليد وأناس، فقلت لأصحابي هؤلاء: إما تأخرتم عني أو تقدمت؛ لأن لي ذنوباً أريد أن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها -قدم مشركاً ولكن يريد الإسلام- قال: فلما رآني صلى الله عليه وسلم، هش في وجهي وبش وقام وعانقني. لماذا؟ لأن عمرو بن العاص ليس كغيره، أرطبون العرب، يقول عمر بن الخطاب: رمينا أرطبون الغرب بأرطبون العرب، داهية الإسلام، ومعناه: مكسب للدعوة، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس في مجلسه، مع أن هذا جاء بنعرة الجاهلية، ومروءة الجاهلية وشهامتها، ربما يرجع؛ لأن بعض الاستقبال من بعض الدعاة ربما ينفر المدعو، يأتيك يسألك بسؤال، فتقول: لست لك بفارغ، يأتي يبحث معك مشكلة الهداية، كيف أهتدي؟ فتقول: أنا مشغول، حاول تبحث عن غيري، هذا ليس بأسلوب.
قال: فعانقه وهش في وجهه وبش.
وإكمالاً للفائدة، قال: يا رسول الله! مد يدك أبايعك، فلما بسط صلى الله عليه وسلم يده، قبض عمرو بن العاص يده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالك يا
يقول: مادام أن الله تاب عليَّ، فمالي كله في سبيل الله. فقال عليه الصلاة والسلام: (ابق عليك بعض مالك فهو خير لك) وفيه دليل على أن المسلم لا يذهب ماله كله، بل يستبقي لورثته ولنفسه مالاً؛ لئلا يتكففوا الناس، وقد قال هذا صلى الله عليه وسلم لأكثر من واحد.
زار سعد بن أبي وقاص فارس الإسلام، مدمر إمبراطورية كسرى التي داسها تحت قدميه، حتى كان عليه الصلاة والسلام يقول: (هذا خالي فليرني كل خاله) أي: هل عندكم أخوال مثل سعد بن أبي وقاص، الأسد في براثنه؟ زاره صلى الله عليه وسلم، وسعد مريض قال: فما أحسست إلا برد أنامله صلى الله عليه وسلم على صدري فاستفقت، حتى يقول سعد بعد ثلاثين سنة: والله الذي لا إله إلا هو، إني لأجد برد أصابع النبي صلى الله عليه وسلم على كتفي من ذلك العهد. قال سعد: يا رسول الله! إن عندي مالاً ولا يرثني إلا كلالة، وذكر من نفسه ومن حاله، قال: أريد إنفاق مالي كله، قال: لا. قلت: يا رسول الله! فالنصف، قال: لا. قال: يا رسول الله! الثلث، قال صلى الله عليه وسلم: (الثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء؛ خير من أن تجعلهم عالة يتكففون الناس).
قال ابن عباس: [[وددت أن الناس غضوا في الوصية من الثلث إلى الربع]] ليبقى للورثة شيء، وليس في الإسلام حرج أن تبني بيتاً لورثتك، وأن تعمر عمارة لذريتك؛ فتموت فيدعون لك بالخير، وأنك ألجأتهم إلى بيت، ووسعت عليهم مما وسع الله عليك، أما من يذهب ماله ثم يموت، فإذا أطفاله وراءه عالة يتكففون الناس، هذا ليس من الإسلام! قال صلى الله عليه وسلم: (أبقِ عليك بعض مالك فهو خير لك) فأبقى له سهماً من خيبر.
يقول كعب: [[فوالله ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله عز وجل ما أبلاني بالصدق]] لأنه صدق مع الله، ولذلك لما كان الخطاب له وللتائبين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ التوبة:119] لأنه صدق فأنجاه الله عز وجل.
قال الإمام أحمد: ما وجدت كالصدق، الصدق لو وضع في جرح لبرأ، وقيل له لما دخل السجن: بم نجاك الله؟ أي: في فتنة خلق القرآن، محنة القول بخلق القرآن، التي كاد يذهب فيها أرواح الأمة، بل قتلوا فيها علماء كبار، مثل ابن نصر الذي دخل على أحد الأمراء فقال له: ألا تقول بخلق القرآن؟ قال: لا. قال: والله إما أن تقول بخلق القرآن أو لأقتلنك قال: والله ما نفسي عندي تساوي مثل هذه، ثم قطع زراً من جبته فرماه على الأمير، فقتله الأمير.
ودخل الإمام أحمد متحري السيف، وحاولوا بكل وسيلة في الدنيا قدموها، المناصب الإغراءات كلها وهو يرفض، يقول: ائتوني بشيء من كتاب الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأخير نجاه الله. قيل له: بم نجاك الله؟ قال: بالصدق؛ لأنه صدق مع الله عز وجل قال الله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ العنكبوت:69] فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ محمد:21] فلما صدق نجاه الله. قال كعب: وإني أسأل الله أن يثبتني فيما بقي، فو الله لا أعلم أني كذبت منذ أن تاب الله عليَّ.
والتحرز من الكذب من أعظم الأعمال، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود مرفوعاً: (لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) أي: من الصديقين الكبار قال الله: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً النساء:69].
والصديق فوق الشهيد (لا يزال الرجل يتحرى الكذب) أي: في كلماته، في مزحه، في سؤالاته؛ لأن بعض الناس يتجوز حتى في المزاح يكذب، وإذا سأله أهله كذب، نعوذ بالله، لكن المؤمن لا يزال يتحرى الصدق حتى يكتبه الله عز وجل صديقاً عنده.
(ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) نعوذ بالله من الكذب.
فأبلاه الله عز وجل بلاءً حسناً بالصدق، وتاب الله عز وجل عليه وأنزل الله عز وجل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التوبة:118] فتاب الله عليهم توبة عظيمة ما سُمع بمثلها، وهذا هو الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وهو حديثنا في هذه الليلة وفيه مسائل:
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها |
فواجب على المسلم إذا دخل على الناس مفرحات أن يشاركهم الفرحة والسرور، وواجب عليه إذا دخل عليهم الحزن أن يشاركهم حزنهم، وهذا من صفات المؤمنين الذين يريدون الله والدار الآخرة قال عليه الصلاة والسلام: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.
فالبشرى واردة في الخير، وأعظم ما يبشر به المؤمن بالاستقامة، ولابد من حث الناس على الاستقامة، لا تترك أمور التربية مسدولة مضيعة هكذا، تجد إنساناً يصلي في المسجد خمس صلوات في اليوم والليلة، لك أن تذهب إليه وتقول له: إني أحبك في الله، وأبشرك بالخير وبالسداد وبالتوفيق قال الله: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يونس:58].
فالمقصود: أن واجب المسلم ألا يترك الأمر هكذا، لا يدافع إلا عن أبيه أو أخيه، كل مؤمن واجب عليك أن تذب عنه إذا انتهكت حرماته، إلا أن يكون فاجراً -والعياذ بالله- مجاهراً بالفجور فاتركه.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام |
لكن إنسان فيه وفاء وإخلاص، وحسناته أكثر من سيئاته، وإلا لو ذهبنا في انتقاص الناس لذنوب الناس ما خلا أحد، يقول سعيد بن المسيب: [[ما يخلو فاضل ولا شريف ولا نقيب من الذنب والخطأ، لكن من الناس من يغفر]] تجعل سيئاته لحسناته، فهؤلاء الذين كثرت حسناتهم على سيئاتهم تجعل سيئاتهم لحسناتهم. لذلك يقول بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتبـاً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه |
والآخر يقول:
تريد مبرأً من غير عيب وهل عود يفوح بلا دخـان |
فالمقصود: أن الناس أهل ذنوب، والكامل من كثرت حسناته ومناقبه على سيئاته، فإذا وجد في مجلس أو منتدى أنه نيل من شخص، فواجب عليك أن تقوم وتقول: لا. لكن ليس بقوة وعنف، تقول: لا. ما علمت فيه إلا خيراً، وهو من أهل المسجد والجماعة، ومن أهل الصدق والصلاح، ومن أهل الخير، ومن الذين يريدون الله والدار الآخرة، حينها يقيض الله لك من يذب عن حرماتك.
1- صبر على الطاعات.
2- صبر عن المعاصي.
3- صبر على المصائب.
وأعظمها الصبر على الطاعات، والصبر جعله الله عز وجل من أركان الإمامة: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ السجدة:24] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ آل عمران:200] فالصبر الصبر، فلا علاج للعبد إلا بالصبر، ومن صبر جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل كربٍ فرجاً.
وهذه هي أركان الولاية، وهي من أعظم القضايا التي تحدث عنها شيخ الإسلام، مسألة الولاء والبراء، وهي على درجات، فلا يصح للمسلم أن يكون الناس عنده سواء، الفاجر والبار، والمصلي والتارك للصلاة، وبار الوالدين وعاق الوالدين، وواصل الرحم وقاطع الرحم، والله عز وجل ما جعلهم سواء، قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] في أي العقول، وفي أي الشرائع والأسس والقيم يكون هذا الصالح كالطالح؟!
إذا فعلت الأمة هكذا انهارت القيم، وضاعت التعاليم السماوية والشرعية، وأصبح صاحب الخير مضطهداً، إذا كان يجهد جهداً وليس له قيمة، وقيمة الفاجر أكبر منه، بل يبلغ في بعض الأماكن أن يقدم الفاجر على المؤمن لأسباب إضافية أو لمكانته ولثروته، فإذا أصبحت الأمة في هذا المستوى فقل عليها السلام.
تجد بعض الناس من أولياء الله، لكن لفقره وعوزه وقلة نصرته، وضعف مقدراته ينتهي، ليس عنده إلا التراب، ولا يقدر من احترام أحد، وهذا -بارك الله فيكم- من أعظم المصائب.
فلابد من أصل الولاء والبراء، ذكر الغزالي في الإحياء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: [[والذي لا إله إلا هو، لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله، ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة، ولا أكره أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]] نعوذ بالله من النار، القلب الذي لا يحب في الله ولا يبغض في الله قلب فاجر، حتى بعض الناس تحبهم من النظر إليهم والشافعي قد أسس في هذا أبيات، وهي أبيات تربوية للدعوة وللدعاة، يقول:
أحب الصالحين ولست منهـم لعلي أن أنال بهم شفاعة |
الشافعي يقول بأنه ليس من الصالحين، وإذا لم يكن الشافعي من الصالحين فمن نحن معهم؟
الشافعي الذي كان يقوم الليل في المسجد من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر ويبكي حتى يسقط مغشياً عليه، الشافعي الذي أثبت عنه أهل العلم، كأهل التراجم والذهبي في ترجمته: أنه قرأ القرآن في رمضان ستين مرة، في الليل وفي النهار مرة، بغض النظر عن سينية هذا، الشافعي الذي نسأل الله حبه يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفـاعة |
يقول: من حسناتي، والتي أرجو الله أن أتقدم بها، أني أحب الصالحين، ولو أني لم أكن منهم، لأني مذنب مقصر، لعلي أن أنال بهم شفاعة عند الله.
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة |
يقول كل عاصي في قلبي أكرهه؛ لأنه يعصي الله، يتعدى حدود الله وينتهك محارم الله، فلذلك يثور قلبي عليه، وهذا من الحسنات، فإن بعض الناس ولو كان مقصراً، لكن من توفيق الله له أنه يكره المعاصي، ويكره الفجرة، لكن بعض الناس يبلغ من عناده وفجوره وخبثه؛ أن يحب الفجرة والعصاة.
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة |
ثم يقول:
تعمدني بنصحك بانفراد وجنبني النصيحة في الجماعة |
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه |
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة |
يقول: إذا أردت أن تنصحني وأنا مذنب فخذني وحدي، وأَسِر إلي بالخطأ، لا تأتي يوم الجمعة وتقول: فلان ابن فلان، الذي يسكن في حارة كذا ورقم تلفونه كذا، فعل وفعل.
فهذه فضيحة وليست نصيحة، وهذه تنفر القلوب، ولذلك بعض الناس يتخذ أسلوباً في المجالس، يقول: يا فلان! الله يهدي أبناءك، إنهم فعلوا وفعلوا الواجب عليك أن تنصحهم، هذا فضحهم أمام الناس.
يقول الشافعي:
تعمدني بنصحك بانفراد وجنبني النصيحة في الجماعة |
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه |
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة |
ولذلك أرسلت هذه القصيدة للإمام أحمد بن حنبل وهو في السجن، قيل: في السجن وقيل في غيره، ويظهر أنه لم يكن في السجن، فكتب إليه الإمام أحمد:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة |
الشافعي من أُسرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشافعي ينتمي إلى جد الرسول صلى الله عليه وسلم الخامس أو السادس.
فيقول:
الشفاعة تأتي من بيتكم، لا تأتي من بيت آخر، هذا هو المقصود.
رسالة:
بعض الإخوة يذكر ويقول أني ذكرت كعب بن زهير في القصة لـكعب بن مالك، وأنا أوردت هذه القصة عمداً؛ لشدة قوله صلى الله عليه وسلم وتأثيره في الناس.
أحد الإخوة قبل أن نستكمل الفوائد يذكرنا وإياكم بفضل صيام يوم عاشوراء، وهو صوم اليوم العاشر من هذا الشهر، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على صيامه، والسنة صيام يوم قبله أو يوم بعده وسئل عنه صلى الله عليه وسلم، فقال: {إني لأحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية} فلما قدم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رأى اليهود يصومونه، قال: {لماذا تصومونه؟ قالوا: هذا يوم نجا الله فيه موسى عليه السلام، قال: نحن أولى بموسى منكم} فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه، وندب صلى الله عليه وسلم أن يصام يوماً قبله ويوماً بعده، وهو على ثلاثة أقوال:
1- إما أن تصوم اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر. يوماً قبله واليوم هو ويوماً بعده.
2- وإما أن تصوم يوم عاشوراء ويوماً قبله.
3- وإما أن تصوم يوم عاشوراء ويوماً بعده.
وهذا من أحسن ما يكون، ولكن بعض أهل العلم يقول: يجوز إفراده، لكن الأحسن والأولى والأفضل -ولو أنه يجوز إفراده- لمن عنده مشقة، أو امرأة حامل لا تستطيع الصوم صيام يوم قبله أو يوم بعده.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم |
وعادى محبيه بقول عداته فأصبح في ليل من الشك مظلمٍ |
ولذلك من قدم عرض الدنيا على الدين، سلب الله عليه الدنيا والآخرة، أحد العلماء من بني إسرائيل اسمه: بلعام بن باعوراء تناسب هذه القصة، أسلم وكان مع موسى عليه السلام، وحفَظَّه الله ما شاء من العلم، فقدمت له بعض الأعراض الدنيوية ليرتد عن بعض مبادئه الأصيلة الجليلة القويمة، فارتد فمسخه الله عز وجل، وأخزاه وأذله، ونزع بركة العلم ونور العلم منه، وقال فيه آيات تتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ الأعراف:175-176].
وابن تيمية دخل على أحد السلاطين في دمشق فقال له السلطان: يا ابن تيمية! يقول الناس: إنك تريد ملكنا، فضحك ابن تيمية بقوة وشجاعة وقال: والله ما ملكك وملك أجدادك وآبائك يساوي عندي فلساً.
مطلب ابن تيمية أكبر من هذا كله، وأكبر من الدنيا ومن ذهبها، رضا الله عز وجل، وجنة عرضها السماوات والأرض:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقــاً غريبـا |
فإني أعظمـــكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا |
هذا القاضي الجزائري.
وهذا واجب المؤمن حتى يقول ربعي بن عامر لما قال له رستم: أتريدون شيئاً من المال، فإنا كنا نعطيكم بعض الأموال فتعودون عنا من أطراف الجزيرة، فكأنها تأخرت عنكم النفقة هذا العام فأتيتم تطلبونا؟
قال: لا. إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
محمود بن سبكتكين، قائد سلجوقي كبير صائم مصلي، من أزهد وأعبد السلاطين، كان يملك ملكاً لا يملكه إلا القليل من ملوك الإسلام، كان في الشمال وكان له جيش جراراً، أتدرون كم جيشه؟
يقول بعض المؤرخين: وصل إلى مليون (ألف ألف).
ففي جيشه مليون شهم كـعنتر، وأمضى وفي خزانه ألف حاتم |
هذا محمود بن سبكتكين، قام عليه أحد العلماء يعظه في يوم مهرجان ويوم انتصار، فوعظه فبكى السلطان محمود حتى سقط على وجهه في الأرض، دخل بلاد الهند ففتحها، واجتاح ألف صنم، وكل صنم طوله كالسارية، منصوب كله ذهب، فأتى ملك الهند فقال: يا محمود بن سبكتكين! لا تقاتلنا ولا نقاتلك، خذ هذا الألف الصنم لك وعد عن ديارنا ونحن نعطيك الجزية في كل عام، قال محمود سبكتكين: تريد أن يدعوني الله يا بائع الأصنام، والله لأحرقنها ولأكسرنها، ليدعوني الله يوم القيامة يا مكسر الأصنام، فأتى على الأصنام فأحرقها وكسرها، فيقول محمد إقبال لأنه من جماعته، هذا باكستاني وذاك سلجوقي:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا |
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا |
محمود مثل إياز قاما كلاهما لك بالعبادة تائباً مستغفرا |
العبد والمولى على قدم التقى فارحم بوجهك عبد سوء في الثرى |
والمقصود: أن الدنيا هينة، وأن مطلب المسلم أعظم من ذلك.
فمن خالف أمره صلى الله عليه وسلم؛ أصابه الله عز وجل بالزيغ، وكل شيء من السنة لا يستهين به العبد، وأثر عن عبد الله بن رواحة أنه أقبل من السكة يريد دخول مسجده صلى الله عليه وسلم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأهل المسجد: يا أيها الناس! اجلسوا، فجلس في الشارع في الشمس، فخرج الصحابة فإذا هو جالس فقالوا له: مالك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اجلسوا وأخشى أن أكون مخاطباً، فما أردت أن أمشي فجلست، هذا هو الأمر وعبد الله بن رواحة كان من أصدق الناس رضي الله عنه وأرضاه، وهذا هو الامتثال العظيم، حتى ورد من الامتثال أمور عظيمة ذكرت عن ابن عمر أنه كان يطوف بناقته في مزدلفة، قالوا: مالك؟ أضيعت شيئاً؟ قال: [[لا والله، لكن رأيت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم تدور في هذا المكان، فأردت أن يوافق خفٌ خفاً]] رضي الله عنه وأرضاه.
صاحب الكبائر لا يهجر مثل صاحب الصغائر إنما يهجر أكثر، الكافر هجره عظيم وطويل، ومقاطعة تامة إلا أن ترى أنك تؤثر عليه، وبعض الناس بحجة أنه يؤثر على الناس، ولو كان شاباً بارداً؛ تراه يخالط أهل المعاصي، فإذا قلت له: مالك تصلي معنا وتحضر وتخالط هؤلاء؟ قال: أريد أن أُؤثر عليهم.
ولا يؤثر عليهم إلا من هو أكثر منهم عدداً وعدة وفكراً وعلماً، فينتبه الإنسان من مخالطة هؤلاء فهم أولاً: يهونون عليه شأن المعاصي، والأمر الثاني: أنه يغضب الله عز وجل، الأمر الثالث: أنه لم يعرف الولاء والبراء إلا أن يدعوهم.
وفي ختام هذه الجلسة: نتوجه إلى الله أن يتقبل عنا صالح الأعمال، ويتجاوز عنا وعنكم سيئها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر